وتفصيل ذلك أن رجلا ملتحيا من التركمان، على رأسه قبعة عالية من الفراء، أرشد قواتنا في تلك الليلة إلى مكان قال مستندا إلى ما وصله من الأنباء: إن في وسعنا أن نقطع فيه الطريق على قافلة من المهربين، وسرنا على خيولنا سيرا وئيدا نحو ساعة من الزمان في جو مطير زمهرير، وكنا نقف من حين إلى حين ننصت لعلنا نسمع صوتا، حتى استطعنا في آخر الأمر أن نتتبع أثر العدو، فأرسلنا الصواريخ في السماء لتنير لنا ما حولنا برهة وجيزة، ثم أمرنا تارسوف - رئيس كتيبة القسم السياسي وقائد هذه الحملة - أن ننتشر ونبدأ الهجوم.
وظللت بعض الوقت أطلق الرصاص على غير هدف في اتجاه الأصوات التي أمامي، ثم لم أشعر إلا وأنا أكاد أسقط على رجل من التركمان اقترب مني حتى استطعت أن أرى عينيه في الظلام، ورأيته يصوب بندقيته نحوي، ولكنني استطعت أن أسبقه إلى إطلاق الرصاص عليه، وسقط الرجل عن جواده، ولكن يبدو أنه لم يصب إلا بجرح غير قاتل؛ لأنه حاول أن يطلق الرصاص علي مرة ثانية، فقفزت عن ظهر جوادي، وانتزعت البندقية من يده، وأمرته أن يقف.
ورأيت أمامي رجلا متقدما في السن، عريض اللحية، يداه مرفوعتان فوق رأسه، والدم يسيل على خده، ونطق ببضع كلمات بلسان قومه، ثم بكى، وأيقنت أنه يتوسل إلي أن أبقي على حياته، فانتزعت خنجره من جرابه، وأرسلته إلى أحد الضباط.
وانتهت المعركة قبل شروق الشمس، وفر كثيرون من المهربين بلا ريب، ولكن عددا كبيرا منهم جيء بهم إلى معسكرنا، ومعهم كثير من الجمال المثقلة بالأحمال، وقبل أن تغرب شمس اليوم كانت كتيبة من الرماة قد أعدمت كل واحد من الأسرى التركمان رميا بالرصاص؛ عملا بأوامر كبار الضباط.
ثم عينت بعدئذ أنا وكوتيا وبعض الجنود في أحد المراكز الأمامية على بعد بضعة أميال من المعسكر، وسر الذين كانوا يحتلون هذه النقطة قبلنا حين جئنا إليهم؛ لأن مجيئنا يعفيهم من العمل فيها، وكان أحدهم قرويا من كيف لا يحزنه إلا أنه سيضطر إلى التخلي عن حصانه، وهو جواد جميل نبيل كان يدعوه لورد كيرزن لأسباب لم تتضح لي في يوم من الأيام، ولم يسلمه لي إلا بعد أن أخذ علي المواثيق بأن أحسن معاملته، فلما عاهدته على ذلك قال لي مؤكدا: «أحسن معاملته، وسيكون كيرزن أخا لك، فهو أنبل شعورا من معظم الناس.»
وكان المركز الأمامي الذي نحتله عند مخرج ممر ضيق بين التلال، وحدث في الأسابيع التي تلت ذلك الوقت ما جعلني أحمد لمواطني أن أورثني لورد كيرزن، فقد وجدت أن الجواد ليس شديد الإحساس لأقل مس مني فحسب، بل إنه في رأيي يحس بأفكاري نفسها، وكان أشد ما يطمئنني أن أشعر بأني أمتطي صهوته وأنا قائم بنوبتي في الحراسة منفردا في أثناء الليل بعيدا عن رفاقي؛ ذلك أن كل صوت نسمعه سواء كان من حصاة ساقطة أو من حفيف أوراق الشجر، أو عواء ابن آوى جائع ، كان يكفي لتنبيه كيرزن وراكبه.
وكان النظام المتبع أن كل جندي يقبض على مهرب ينال ثلث قيمة البضائع التي تضبط معه، ولم يسعدني الحظ بشيء من هذا، ولكن كثيرين من الجنود كانوا يعودون من حراسة الحدود إلى قراهم بعد أداء خدمتهم وهم أغنياء كما يفهم من لفظ الغنى في بلاد السوفيت.
وإن أنس لا أنس ما حييت منظر زياما الشاب اليهودي الأسمر النحيل، ولم يكن زياما نفسه أو أي إنسان غيره يعرف أية حيلة منطقية بيروقراطية جاءت بهذا الفتى إلى كتيبة الفرسان وأرسلته إلى الحدود الإيرانية، فقد بدأ حياة الفروسية لا يعوقه إلا عائق واحد، وهو خوفه الشديد من الخيل، وكان بعض رفاق هذا الشاب المسكين يسخرون منه، ولكن معظمنا كانوا يشفقون عليه، وحاولنا أن نعلمه ركوب الخيل والقبض على أعنتها، فكان يخيل إلينا أحيانا أنه سيموت من شدة الخوف، ولكن زياما لم يكد يتغلب على خوفه حتى أدهشنا ببراعته في الفروسية وبجرأته ورباطة جأشه، فكان يقضي الليالي مقتفيا آثار المهربين، وهدته غريزته القوية النادرة في ليلة من الليالي إلى القبض على مهرب مثقل بالبضائع، فنال بذلك ثروة طائلة مكافأة له على هذا العمل. وكثيرا ما أنجاني لورد كيرزن من الهلاك بفضل قوائمه الثابتة القوية كما كان أيضا سبب ختام حياتي العسكرية.
فقد كنت في إحدى الليالي أطوف بأرض شجراء بعيدة عن مركزي، ومعي أحد الجنود، وقد انقضى من الليل معظمه، وسمعنا أصواتا من بعيد، فصحت بأصحابها الذين لا نراهم وأمرتهم بالوقوف، واندفعت أنا ورفيقي نحو مصدر الصوت، فزلت قدم كيرزن وألقاني على الأرض من فوق عنقه.
هذا كل ما عرفته عن نفسي في ذلك الوقت، وناداني رفيقي من بعيد ولكنه لم يتلق منى جوابا، وعثر على جوادي ولكنه لم يعثر على أي أثر لي، ثم عاد إلى المعسكر بعد أن قضى بعض الوقت يبحث عني من غير جدوى، وأرسلت سرية للبحث عني فعثرت علي بعد بضع ساعات في منقع من الماء مرضوضا فاقد الإحساس.
Shafi da ba'a sani ba