وكان الإقليم الذي اجتزناه في طريقنا إلى المعسكر صحراويا في أكثر جهاته، منه بقاع صفراء جرداء، ومنه بقاع مغطاة بالحسك العطري الجاف، أما الإقليم المصاقب للحدود فكان ذا مناظر متعددة متباينة، يكثر فيه النبات الأخضر الغض، ونزلنا عند سفوح سلسلة الجبال التي تحرس حدود إيران من جهة الشمال.
وبدأ تدريبنا العسكري بحمام بخاري وتطهير ملابسنا وقص شعرنا حتى أصبحت رءوسنا ولا فرق بينها وبين وجوهنا، وخطبة سياسية ألقيت علينا، ولقنا أن ليس بين البسمتشي والجنود الحمر من صلات إلا أن نقتلهم أو يقتلونا، وقيل لنا: إننا سندعى للطواف في أماكن خطرة، فرادى أو أزواجا، ليلا أو نهارا، وإننا في حاجة إلى كثير من اليقظة والفروسية وإتقان الرماية، وقضينا بعدئذ في التدريب عدة أسابيع، لم يدخر فيها أحد منا جهدا حتى أقلنا طموحا.
ولم نكد نبدأ العمل حتى انضممت إلى أسرة محرري حرس الحدود الأحمر، وهي صحيفة المعسكر، وكنا نحن أعضاء لجان الشباب أقلية بين الجنود ونهضنا بالتبعات الملقاة علينا على خير وجه، وكان النظام الدقيق الذي يسود المعسكر الحربي يسري فيه قدر كبير من الروح الديمقراطي، فلم نكن نتردد في أن ننقد في صحيفة المعسكر الأحوال السائدة فيه أو الضباط أنفسهم، وكثيرا ما كنا نذكرهم بأسمائهم.
وكان من بين أولئك الضباط رجل يدعى جالشكا أغضب الجنود بفظاظته وسوء خلقه، وكنت أنا أطيعه وأنفذ أوامره دون تردد أو تذمر؛ لأني وأنا محرر في الصحيفة أحببت أن أكون حرا فيما أوجهه له من نقد، وألا يكون هناك شك في أني أطيعه بوصفه ضابطا، وإن كنت أشعر أن من واجبي أن أوجه إليه سهام النقد بوصفي محررا في صحيفة المعسكر.
ومضت فترة من الوقت تظاهر فيها بأنه لا يعبأ بالمقالات القصيرة التي أخذت عليه فيها أنه يرفع صوته على الجنود، ويوجه إليهم ما لا يليق من الألفاظ، ويستبد بهم، ولكنه لم يلبث أن خضع واستسلم.
وجاءني يوما من الأيام وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، إني أريد أن أتحدث إليك.» وقال لي ونحن في طريقنا من الثكنات إلى الإصطبلات إنه لا يعرف قط سببا يحملني على اضطهاده، وسألني هل يليق بعضو في لجان الشباب أن يقوض دعائم سلطة قائد من قواد الجيش الأحمر؟
فأجبته وأنا معتد بنفسي اعتداد شاب في الثانية والعشرين من عمره: «إن الذي أهدف إليه يا رفيق جالشكا هو أن أدعم سلطتك لا أن أوهنها، فإن ظللت تعامل رجالك كأنهم أقذار لا قيمة لهم، فإنهم سيحتقرونك ولا يطيعونك إلا وهم كارهون، أما إن عاملتهم معاملة الآدميين والرفاق السوفيت، فإنهم سيطيعونك وهم راضون مغتبطون، وإذا جد الجد فإن هذه المعاملة قد تكون هي الفيصل بين النصر والهزيمة في ميدان القتال.»
وعقدنا اتفاقا فيما بيننا - بين الضابط والجندي البسيط - أخذ فيه على نفسه أن يهذب خلقه، ووعدته أنا ألا أتعرض له في حرس الحدود الأحمر، وأغرب ما في هذه القصة أن القائد جالشكا لم يف بوعده فحسب، بل أصبح فوق ذلك من أحب الضباط إلى الجنود في هذه الحملة، وكان هذا في نظره غريبا كل الغرابة، فقد كان إذا تولى القيادة تمنى الجنود أن يسيروا تحت لوائه، وإذا سار بنا إلى معركة محفوفة بالخطر عجبنا من شجاعته تحت وابل الرصاص.
ولما تم تدريبنا أرسلنا إلى مطاردة المهربين والبسمتشي في جنح الظلام؛ ولم نكن نعجز عن الحصول على معلومات سرية من عيون مأجورين عن الحركات الدائرة على جانبي الحدود، فقد كان الناس يتلقفون نتفا من المعلومات في المقاهي الفارسية والأفغانية عن البضائع الواردة أو الصادرة، وعن الحملات التي تدبر للإغارة على القرى السوفيتية، وكان الوسطاء ينقلون هذه المعلومات القليلة إلى قيادة الجيش الأحمر.
وكثيرا ما كانت الحملة تخفق في الالتحام بالطريدة بعد البحث الطويل، وكان الطرفان يتبادلان الطلقات أحيانا، ولكن وقعت مرة واحدة على الأقل في أثناء خدمتي ملحمة عجيبة تحمل فيها الطرفان بعض الخسائر، وأقول ملحمة عجيبة؛ لأنها دارت في ليلة مطيرة حالكة الظلام، كان فيها كل من الطرفين يقاتل عدوا لا يراه.
Shafi da ba'a sani ba