في الحرب لا يستوي المجاهدون في ميدان القتال والقاعدون في بيوتهم، بل إن بين الطائفتين بونا شاسعا لا يمكن إزالته بزيادة المعلومات عنها أو بشدة العطف على من يكتوون بنارها؛ لأن هذا الفرق مستقر في الأعصاب لا في العقول.
ومن أجل ذلك أصبح الشيوعيون الذين تورطوا بأنفسهم في فظائع النظام الجماعي رجالا يعرفون بسيماهم، فقد تحملنا نحن الأعباء الثقال وقاسينا الأهوال، وامتزنا من غيرنا بصمتنا وبتجنبنا كل مناقشة عن «جبهة الفلاحين»، نعم إننا كنا نتحدث عن هذا إذا خلا بعضنا إلى بعض، كما فعلت أنا وسريزها بعد عودتنا من رحلتنا، ولكننا كان يبدو لنا أن حديثنا لمن لم يكابدوا الأمر بأنفسهم لا يجدي نفعا؛ ذلك أننا لم يكن بيننا وبين هؤلاء الأحداث ألفاظ مشتركة مشتقة من تجاربنا الماضية نتفاهم بها فيما بيننا.
ولست أشير بطبيعة الحال إلى أرشينوف ومن على شاكلته، فهؤلاء هم الجلادون ورجال الشرطة في ظل كل نظام سياسي، ولكني أشير إلى الشيوعيين الذين لم يفقدهم استهتارهم بما يحدث من حولهم كل حواسهم، ومهما حاولنا إقناع أنفسنا بأن ما يرتكب في هذه الأيام من فظائع هو الثمن الذي نشتري به سعادة آلاف من الناس في الغد، فإننا لم نجد لهذا القول معنى، وتعذر علينا أن نجد ما يبرر الإرهاب السائد في الأقاليم الزراعية.
ولما اجتمعت لجنة الحزب المركزية في شهر يناير من عام 1933م نشر ستالين في طول البلاد وعرضها أن نظام المزارع الجماعية تم بنجاح، وأن «هذا العهد قد قضى على التسول والفقر في القرى، وأن عشرات الملايين من الفلاحين الفقراء ارتفعوا إلى درجة كبيرة من الطمأنينة ... لقد كان الفلاحون في العهد القديم يعملون لخير النبلاء وكبار الزراع والمضاربين وكانوا يعملون ويجوعون ليثرى غيرهم، أما في عهد الزراعة الجماعية فإن الفلاحين يعملون لأنفسهم ولمزارعهم الجماعية.»
وجاء في وصف الصحف لهذا الاجتماع أن المكان دوت فيه عاصفة من التصفيق، وصاح المندوبون: «ليحيى الأب والمعلم الحكيم الرفيق ستالين!»
وقرأت هذا الوصف فجال بخاطري منظر بدجردنوى وأهلها المعذبين، وأرشينوف يضرب الفلاحين ، والمرأة المخبولة تشعل النار في بيتها، والخلائق ذوي الثياب الممزقة يحشرون في الأفنية الخلفية لينفوا من بلادهم. وكنت أدرك كما يدرك كل من في أوكرانيا أن قحطا لا يقل فظاعة عن القحط الذي قاسيته منذ عشر سنين أو أكثر كان في هذا الوقت الذي يخطب فيه ستالين يجتاح أرض «المزارع الجماعية الكاملة» و«الحياة السعيدة الراضية».
كلا! إن ألفاظ ستالين لم تكن لتهدئ نفوسنا الثائرة، ولم يكن ثمة شيء يعيد إلينا إيماننا، أو على الأقل يحول بيننا وبين القنوط إلا أن نحول أبصارنا عن القرية، ونفكر في غيرها من أجزاء الصورة التي صورها لنا الزعيم، إلى الجهود الصناعية مثلا أو إلى «مراجل الثورة التي تغلي في البلاد الرأسمالية».
وقال لي سريزها: «إنك لتعلم يا رفيق فكتور أندريفتش أني قرأت مرارا كثيرة خطب ستالين في الاجتماعات العامة للجنة المركزية التي تعقد في شهر يناير من كل عام، وإن ما يقوله عن القرى ليقشعر منه بدني: الآن تتمتع القرى «بحريتها» ... وقد محي الفقر من القرى. وهو يقول هذا بعد الذي رأيناه فيها أنا وأنت رأي العين!» - «لكن انظر إلى الجهود الصناعية يا سريزها؛ تر لها قصة أخرى، فكم من مناجم فتحت، ومصانع ومصاهر وسدود ومحطات كهربائية شيدت! إن الإنسان ليسر حين يشعر بأننا نخطو إلى الأمام بخطى سريعة جبارة، وأنا لن نصبح بعد اليوم أمة استعمارية متأخرة، إن المهندسين الأكفاء في أمريكا نفسها يبيعون التفاح وأربطة الأحذية في شوارع المدن، أما هنا فإني أنا وأنت نجد في الدرس؛ لأن بلادنا في حاجة إلى أكثر مما عندها من المهندسين، فهناك التعطل، وهنا نقص في الأيدي العاملة.» - «فليكن هذا ما يكون يا فكتور أندريفتش، ولكني لن أنسى قط فظائع بدجردنوي ...» - «وأنا أيضا لن أنساها يا سريزها.»
وأخذ خطباء الحزب يذيعون خطبة ستالين في خلايا الحزب وفي مجتمعات المراكز، وكانوا يقولون: إن الثمن الذي تؤديه البلاد ثمن غال بلا شك، ولكن انظروا إلى المشروعات الجديدة وإلى السرعة التي تنمو بها، انظروا إلى مجنى تستروي ودنيبروستروي ، ومصنع ستالين للجرارات، وإلى المصاهر المتحدة، وإلى عشرات المصانع الأخرى، وبينا نرى العالم الخارجي الرأسمالي لا ينجو من أزمة إلا ليتورط في أزمة نرى العالم السوفيتي يسير إلى الأمام بخطى ثابتة، وإن حلت به أزمات فهي أزمات نمو لا أزمات انحلال.
وكانت التعزية الكبرى التي تعزي بها الروسيا نفسها عن جهودها المضنية هي أنها سوف تحطم الرأسمالية، وتقضي على ما تستمتع به من «ثبات قصير الأجل». لقد كانت الدولة توزع ما لدينا من أطعمة مطردة النقص بالبطاقات، أما في القرى فقد عم القحط وغصت السجون والمعازل ومعسكرات الاعتقال «بأعداء الشعب»، وكان لا بد من تطهير البلاد من آلاف من رجال الفكر - من مهندسين وموظفين بل وشيوعيين مشهورين - لأنهم يعطلون الإنتاج، ولأنهم «عمال للحكومات الأجنبية»، ولكن الطبقة العاملة في جميع الدول توشك أن تثور! كما قال ستالين، و«نجاح مشروع السنوات الخمس يحشد كل القوى الثائرة لطبقات العمال في جميع بلاد العالم».
Shafi da ba'a sani ba