Ara'ar Dokta Shibli Shumayyil
آراء الدكتور شبلي شميل
Nau'ikan
فالشارع لم ينظر في الجنايات إلا إلى العقاب؛ فكأن الصعوبات التي تعترضه في نظامات الاجتماع صرفته عن تعرف طبائع العمران للبحث في الوسائل الواقية، إلى تعرف طبائع الجناة أنفسهم لتحديد العقوبة، وقد هداه العلم اليوم في ذلك كثيرا وخدعه أكثر؛ لأن الاعتماد في العلم على جهة واحدة مضر جدا، فنظر في الأمر نظرة علمية هي في مصلحة الجاني أكثر منها في مصلحة المجني عليه؛ إذ نظر إلى الجاني كنظره إلى المريض المستحق غالبا للشفقة والحنان بقطع النظر عن تأثير جنايته في الاجتماع، وهو نظر يوافق عليه العلم إذا كان الغرض منه توفير عضو من أعضاء المجتمع لنفع منه لهذا المجتمع، وإلا فالشفقة في الطب كما في الشرائع يجب أن تشمل الأهم وهو الجسم الاجتماعي نفسه، ولو كانت هذه الشفقة في الشرائع اليوم ترمي إلى إصلاح الجاني لحمدنا العمل، والحال ليس كذلك غالبا؛ لأن وسائل إصلاح الجاني لا يعتنى بها كثيرا في الشرائع حتى اليوم، وكل ما تفعله هذه الشرائع لمصلحة الاجتماع هي أن تحبس الجاني وتكف شره عن المجتمع إلى حين، وكثيرا ما يضيف الجاني إلى عيوبه وهو في السجن عيوبا أخرى يكتسبها من مخالطته لسائر الجناة المحبوسين معه في سجن واحد، فلا يخرج من السجن حتى يعود إلى جنايته بجسارة وتفنن لم يكونا له من قبل.
فتخفيف العقوبة على الجاني لم تفد الاجتماع بل ذكر بعضهم أن القتل كان يزيد كلما قل القصاص بالقتل، وليس في الأمر غرابة والدواء على ما تقدم، حتى ولا القتل نفسه يستطيع بالإرهاب أن يقلل القتل عسى أن يستطيع الجاني أن يستغفل نظام الاجتماع وينجو من عقاب مؤجل؛ ولذلك رأى بعضهم أن يشغل الجاني في سجنه حتى يدفع ثمن جنايته فيكتسب عملا نافعا ويعوض على المجني عليه، ويرهب لطول الإقامة حينئذ في السجن، وهو أقرب الآراء إلى العدل مهما قام عليه من الاعتراضات، ويلزم حينئذ أن لا يقبل عن شغله عوضا ولو كان ذا مال، ويشمل التعويض حوادث القتل التي كثيرا ما يذهب فيها التعويض المدني هدرا، فيفقد الإنسان عزيزا له ويفقد معيلا كذلك.
على أن الجاني نفسه مظلوم وظالمه نظام الاجتماع نفسه، سواء عن جهل لقلة انتشار العلم أو عن حاجة لقلة توافر العمل، أو عن مرض لتطرق ذلك إليه بالوراثة المكسوبة هي نفسها من الاجتماع، والشرائع التي تعاقبه كأنها تعاقب به جهلها في تطبيق نظاماتها على حاجة العمران، والتي كثيرا ما يكون الجاني العزوم فيها أنبل جدا من الذي يحرجونه ويسترون جناياتهم بالخبث، فما دامت تعاليم الاجتماع لا تتمشى على قواعد العلم الحديث، فتضع العمران في مقامه الطبيعي وتعتبره جسما حيا كسائر الأحياء وتطلق عليه نواميسها الطبيعية فمن المستحيل أن تهتدي إلى إحكام الروابط بينه، وما دامت نظاماته لا توفر له النفع المتبادل فيصعب جدا ضبطه، ولقد صدق القائل: «إن توافر أسباب الثروة في بلاد لمن أفضل أسباب تقليل الجنايات فيها.» فالناس في كل أمورهم دنيا وآخرة إنما هم يقتتلون على رغيف.
فصل في العلم والتعليم
إذا كانت هذه الآراء العلمية والاجتماعية لا تزال قليلة الشيوع بين الناس، فالسبب كما قلت في ما تقدم هو قلة انتشار العلم الطبيعي رغما عن ارتفاع شأنه كثيرا اليوم لدى خاصة العلماء وعامتهم، والذنب في ذلك على المدارس فأكثرها حتى اليوم لا يزال يعلمنا العلوم العقلية الأدبية كما كانت في عهد أرسطو وابن سينا والعلوم الحيوية كما كانت في عهد لينيوس وكوڨيه، وقل منها ما يعلم مذهب التحول بعد مائة سنة من اكتشافه وخمسين سنة من ثبوته، والغريب أنها اليوم تجري على قواعد هذا المذهب في تعليم العلوم الكيماوية والفلسفية الطبيعية، وقد تختلس شيئا منه تطلقه على علومها العقلية الأدبية من دون أن تدري أنها مدينة له بذلك، فإذا درت كما في العلوم الحيوية دفعها جمودها الذي هو من مميزاتها الأولى إلى النفرة منه والانزواء بين دفتي كتبها البالية، وهو وإن كان يعلم اليوم في بعض المعاهد العلمية الراقية في أوروبا ، ففكرة تعليمه في مدارسنا الشرقية على اختلاف نزعاتها لا تزال أبعد من عنقاء مغرب.
فإذا كان الخوف على الدين هو الذي يمنع المدارس وخاصة المدارس العالية من تعليم مذهب التحول، فليعلموا أولا أن هذا المذهب اليوم ليس نظرا فلسفيا يحتمل الشك بل هو مذهب علمي ثابت أدلته محسوسة لا تقبل النقض، فمهما حاولوا طمسه فإنهم لا يفلحون، ولا بد من أن يحتل المدارس احتلالا دائما في زمن قريب، فليعلموه إذن، وليقفوا فيه عند حد العلم البسيط، كما فعلوا بأكثر المذاهب العلمية الكبرى التي حاربوها أولا بحجة الدين ثم عادوا إليها، ولم يجدوا حينئذ أدنى مشقة في تطبيقها على الدين أو تطبيق الدين عليها؛ نقول ذلك لأنا لا نريد أن يكون هذا الخوف اليوم سببا لحرمان التعليم من فوائد هذا المذهب الجمة لجميع فروعه العلمية والأدبية والتاريخية؛ إذ ما من مذهب حتى الآن ظهر بهذا الاتساع شاملا لجميع معارف الإنسان، ونخص بهذا القول مدارسنا عامة، فلعلها تجعله قاعدة تعليمها الثانوي ولا توصد أبوابها دون أرقى العلوم اليوم.
ويا ليت الجامعة المصرية تكون السابقة إلى ذلك فتجعله أساس تعليمها وهي لا تكون قد أتت بدعة، بل تكون قد حذت بذلك حذو جامعة باريس وجامعة ڨينا اليوم وأنشأت كذلك تعليما جديدا غير موجود في المدارس الشرقية، ذلك أفضل جدا من اقتصارها على المباحث التي تبحثها والتي يمكن لسواها أن يقوم مقامها فيها، بخلاف مباحث هذا المذهب فإن الإحاطة بها على أسلوب علمي لا تتيسر أينما كان، وهي لو فعلت لوجدت من علماء أوروبا اليوم من لو خطب في الموضوع لخلب العقول وملأها بمعلومات تقترن اللذة فيها بالفائدة، ولرأت من الجمهور كذلك إقبالا عظيما جدا على حضور دروسها؛ لأن العقول اليوم متعطشة جدا للعلم الصحيح، ولربت منا أيضا رجالا أكفاء يخلفونهم في تعليمهم باللغة العربية في وقت قريب، ولأدت فوق ذلك كله خدمة كبرى للبلاد تذكر لها فتشكر.
وحتى لا يكون هناك موانع وهمية من العواطف ينبغي أن نقف في تعليمها حينئذ عند حد العلم البسيط ؛ لأن المذهب ككل المذاهب العلمية الكبرى يمكن تجريده بالكلية عن الدين كما تقدم، أقول ذلك نصيحة خالصة لا غاية لي فيها سوى خدمة العلم وخدمة البلاد معها خدمة حقيقية تدفعها في العمران الراقي شوطا بعيدا، بل ألتمس ذلك من الجامعة التماسا لمصلحة الأمة الناهضة اليوم والطالبة مهيعا تسير فيه يكون أهدى لها وأطلق لحركاتها؛ لأنه لم يقم حتى اليوم أصح وأوسع من هذا المذهب؛ ولأني على يقين تام من أنه سيصبح المحور الذي تدور عليه جميع أعمال الإنسان ومعارفه، لا في المستقبل البعيد بل في القريب الأقرب ومن يعش يره.
نظرة في أحوالنا
إن المطلع على أحوالنا منذ أربعين سنة فقط يستعظم الخطى الواسعة التي خطوناها في سبيل الحياة، فقد كان الشرق الأقصى والأدنى في ذلك العهد في حالة سبات لا تفرق كثيرا عن الموت، ولقد نهض الشرق الأقصى نهضة أدهشت العالم بعد أن كان يظن أنه في غفوة لا يعقبها يقظة، فبلغت اليابان في هذه المدة القصيرة مبلغ أرقى الأمم اليوم في علومها، في صناعاتها، في تجارتها، في نظاماتها، في أحكامها، في تأهبها لدفع الطوارئ؛ فملكت ناصية القوتين الهائلتين الأدبية العلمية والوحشية الحربية.
Shafi da ba'a sani ba