Ara'ar Dokta Shibli Shumayyil
آراء الدكتور شبلي شميل
Nau'ikan
فإذا كان قد جاز في الماضي الوقوف بالعمران لتغلب الجمود على الأفكار كالاعتقاد بثبوت الأنواع، فاليوم وقد ثبت للعلم تحول كل شيء في الطبيعة من صامت وحي، صار هذا الوقوف به جناية كبرى؛ لئلا يعرضه ذلك لثورات مدمرة، أشد هولا من الثورة الفرنساوية نفسها التي هي بالحقيقة أكبر ثورة اجتماعية تاريخية نشأت عن شعور الإنسان بالضواغط، وليس العجب من شبوبها بل العجب من طول مدة اختمارها. ولكن هذا العجب يقل إذا عرفنا أن نظامات الاجتماع في الماضي كانت تجعل الشعوب تحت سلطان الحكام والرؤساء، يستبدون بهم ما شاءوا وشاءت أهواؤهم، فكانوا يشغلونهم بالحروب الطاحنة ليبقوهم في ليل من الجهل دامس، فلا يجدون متسعا من الوقت للرجوع إلى أنفسهم والتفكر بحالتهم التعسة؛ للنهوض منها حتى كانوا يظنونها طبيعية فيهم، وأما اليوم فصرف الإنسان عن نفسه بمثل ذلك لم يعد ممكنا، بل هو اليوم بشعور متزايد باحتياجاته الشديدة، فإن لم ينلها بالتدريج دفعته الضرورة إلى الثورة في طلبها، ولا يدفع هذه الثورة إلا تفهيم سائر طبقات الناس بالتدريج وجوب النظر في هذه الاحتياجات، فثورات العمال اليوم إذا لم ينظر فيها كل مرة بالتروي والحكمة يكون وقعها على الاجتماع شديدا للغاية؛ لأنها أعم من أن تنحصر في وطن أو قوم كالثورة الفرنساوية؛ لأن العمال في الدنيا اليوم متضامنون، فإعداد الأفكار لقبولها قمع لها وبلوغ إلى الحق من طرقه القويمة السليمة.
فهذه هي آرائي الاجتماعية بالاختصار وليس فيها شيء غريب عن العلم، ولا عن سير العمران نفسه الذي شهدناه في العصور ونشهده بأعيننا كل يوم، وهي وإن كانت متفرقة في كتاباتي لكنها واضحة جيدا لمن يقرؤها بتمعن؛ أقول ذلك لأني أخشى جدا حكم الناس علي بمجرد السماع فقط، كأن يقال عني أني غير مؤمن وأني اشتراكي مثلا، وهنا فليسمح لي القارئ أن أقول: إن غير المؤمنين كثيرون والاشتراكيين كذلك، ولكن شتان بين رأي خمير مبني على العلم ورأي فطير مبني على التقليد، وبين منصف حيث يجب الإنصاف ومتحامل في كل حال، بل يلزمه أن يقرأها ويتجرد فيها عن الهوى؛ لئلا تكون أحكامه أحكام تشيع تبعد به عن الصواب، عسى أن لا يتسرع الناس في الحكم على سواهم قبل أن يتدبروا ما ينم عليهم من كلامهم؛ لئلا ينصروا ضلالة ويمنعوا هداية وهم لا يريدون.
فصل في الجنايات والاجتماع
إن للاجتماع أمراضا كما للجسم الحي، وهي كأمراض الجسم الحي إما مستوطنة وتسمى جنايات وجرائم، وإما وافدة وتسمى قلاقل وثورات، وأسبابها كأسبابها إما متمة واصلة وهي في أحوال الأفراد الخاصة، وإما معدة مهيئة وهي في نظامات الاجتماع نفسه كما هو الحال في الجسم الحي، فالجنايات كالأمراض نفسها لا تقع إلا إذا توافر لها هذان العاملان: أحوال خاصة في الأفراد، واستعداد في جسم الاجتماع.
وسياسة الاجتماع كطبابة الجسم الحي: رادعة توجه إلى الجاني كما يداوي الطب المريض، ومانعة أو واقية تمنع أسباب الجناية لوقاية المجتمع منها قبل وقوعها، كما يمنع الطب المرض بمقاومة أسبابه بعلم حفظ الصحة المعروف بعلم الهيجين.
فساسة الاجتماع يقاومون الجنايات بالشرائع المسنونة، وهي كالطب الشافي للأمراض، ويحاولون منعها بالنظامات الموضوعة وهي كالطب المنعي الواقي من الأمراض، وكما أن طبابة الأجسام الشافية والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجسم الحي وطبائع الأمراض التي تفتك به ودرس الوسائل النافعة، كذلك سياسة الاجتماع الرادعة والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجناة ودرس الشرائع والنظامات الموافقة أيضا، وكما أن الطب البشري لم يقل كلمته الأخيرة في كل ذلك، كذلك الطب الاجتماعي لم يقل كلمته الأخيرة أيضا.
غير أنا إذا قابلنا بين الطبين نجد أن الطب البشري تقدم أكثر جدا مما تقدم الطب الاجتماعي، فشفاء الأمراض صار أسهل مما كان في الماضي وصارت طبائعها معروفة أكثر كذلك، وإذا كانت صناعة الطب لم تتقدم كل التقدم المرغوب في شفاء الأمراض حتى الساعة، لكنها تقدمت كثيرا في علم الوقاية منها، فإن علم حفظ الصحة يكاد يكون قد ألم بكليات نواميس الأمراض وكيفية تولدها ووسائل منعها، وقد تمكن من حصر كثير منها وفي بعض البلدان تمكن من منعها أصالة؛ لأن الطب البشري سار مع العلم سيرا حثيثا وجنبا لجنب، وإذا كان لم يتمكن من منعها بتاتا فليس من نقص في علمه، بل من صعوبات أخرى تعترضه متأتية من نظامات الاجتماع نفسها، فالأمراض الوافدة التي كانت تنقض في الماضي على أوروبا وتفتك بمئات الألوف من سكانها في زمن قصير؛ كوافدات الطاعون والجدري الأسود والهواء الأصفر والحمى التيفوئيدية نفسها حتى خانوق الأطفال المعروف بالدفتيريا، قد قلت اليوم جدا وزالت منها في بعض الأماكن طبيعتها الوافدة، فإذا كانت أكثر المدن الكبرى في هذه الجهات بلغت الغاية في النظافة بعد أن كانت مجمعا للقاذورات، وصار السكان فيها أكثر اعتناء من قبل بنظافة مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم وملابسهم وأجسادهم، فالفضل في ذلك للطب الذي عرف كيف يستفيد حالا من العلم، وسوف تخف الأمراض جدا وتقل ويلاتها كلما اصطلحت نظامات الاجتماع، ومكنت الطب من العمل بقواعد علم الصحة كما هي معروفة له اليوم.
بخلاف الطب الاجتماعي فإنه لم يتقدم على نسبة تقدم العلم اليوم، فهو لم يتعرف طبائع الاجتماع وطبائع الجناة جيدا، وشرائعه الشافية ونظاماته الواقية لا تزال قاصرة جدا عن المرغوب، وما ذلك إلا لأن نظره في طبيعة الاجتماع لم يتغير كثيرا عما كان في الماضي، ولم يتيسر له حتى اليوم تطبيق نظاماته وشرائعه على النواميس الطبيعية التي اكتشفها له العلم، والحق يقال: إن هذا التطبيق محفوف بالمصاعب لأسباب كثيرة ناشئة عن غلبة تعاليمه الدينية والأدبية في شرائعه ونظاماته، وتأثيرها في طبائع أفراد المجتمع أنفسهم، فإذا كان الطب قد استفاد كل الفائدة من العلم الطبيعي؛ فلأن موضوعهما واحد، فلم يكن يمكن فصل أحدهما عن الآخر بخلاف سياسة الاجتماع، فهي حتى الآن لا تزال للأسباب المتقدمة باقية في واد والعلم الطبيعي يسير في واد آخر.
ولا يستفاد من ذلك أن الاجتماع لم يستفد من حركة العلم اليوم في سياساته فإن إنكار ذلك مجازفة، فأمراضه الوافدة قلت جدا، فقلت حروبه وانكسرت حدة ثوراته وخفت وطأة قلاقله، ولا شك أن الجرائم والجنايات قد قلت كذلك عما كانت في الماضي البعيد، كل ذلك لسهولة مراسه اليوم أكثر من قبل لاصطلاحه نوعا بفضل ما انتشر عليه من ظل العلم الحديث.
غير أن القلاقل إذا كانت قد خفت وطأتها فهي لم تقل اليوم بل زادت واستوطنت كذلك كقلاقل العمال، وإذا كانت الجنايات قد قلت عما كانت في القديم فهي لم تقل قلة مطلقة، بل ربما زادت كذلك بالنسبة إلى ما كانت عليه في الماضي القريب لزيادة انتشار العلم وزيادة الشعور بالحاجة معه مع بقاء أسبابها؛ لأن الطب الاجتماعي لم ينظر كثيرا في هذه الأسباب وإذا نظر فلم يهتد كثيرا إلى الوسائل الواقية منها أو أنه لم يحسن تطبيقها عليها، وأسبابها إنما هي في نظامات الاجتماع نفسها التي لا تزال حتى الآن بعيدة جدا عن توفير التضامن له بتوفير العمل وتوفير المنفعة المتبادلة.
Shafi da ba'a sani ba