ثم سار تبع نحو مكة، ومعه اليهوديان، وهما الحبران، وقد دان بدينهما، وآمن بالنبي ﵇، وبما انزل في التوراة، فلما قدم إلى مكة آمن بالله وبمحمد ﷺ، وامر بنصب مطابخه في الشعب الذي يقال له شعب عبد الله بن عامر، فبذلك سمي هذا الشعب المطابخ. وكانت خيله في موضع فسمي بجياد الخيل، تُبَع أجيادين. وكان سلاحه في موضع قيقعان فسمي قيقعان بقعقة السلاح، فأقام بمكة اياما ينحر كل يوم خمسمائة بدنة لا يرزأ هو ولا احد من عسكره شيئا منها، يردها الناس فيأخذون منها حاجتهم، ثم تقع الطير فتأكل، ثم السبع إذا مست، لا يصد عنها شيء من الاشياء انسان ولا طائر ولا سبع - على ذلك كل يوم - ثم كسا البيت كسوة كاملة بالبرود اليمانية والعصب والحبر، وكان تبع اول من كسا الكعبة كسوة كاملة. ثم رأى في المنام ان يكسوها، فكساها الانطاع. ثم رأى ان يكسوها فكساها الويل - ثياب حبرة من عصب. وانما كان تكسى الخصاف وهي كالبواري من خوص النخيل. ونحر عندها ستة الاف جزوز، واطعم جميع من ورده من العرب من اهل مكة. وطاف، وجعل على بابه مصراعين من ذهب وقفلا من ذهب وميزانا من ذهب، ولم يكن له باب يعلق عليه قبل ذلك. وقال تبع في ذلك، وفي مسيره قصيدة طويلة منها الابيات التالية:
كنا جبادنا من ظفار ... فرمينا بها مغارا بعيدا
التبع المليك على الناس ... ورثت الجدود ثم الجدودا
وكسوت البيت الذي حرم الله ... مُلاء مقصبا وبرودا
ثم طفنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لبابه اقليدا
ونحرنا تسعين الفا من البدن ... ترى الناس حولهن ركودا
ونحرنا بالشعب ستة الاف ... ترى الناس حولهن وفودا
وامرنا لا نقرب البيت منه ... لحم ميت ولا دما مقصودا
ثم سرنا نوّم قصد سهيلا ... ورفعنا لواءنا المعقودا
بعد ان دوّخت معدا جنودي ... فغدت لي معد صغرا عبيدا
قال: وكانت التبابعة إذا عاودت من غزوهم ان يذبحوا وينصبوا المطابخ بأجبال مكة، ويتعمدون بذلك اجتماع الناس من كل فج، فيطعمون الطعام هناك، وكان ذلك فعل التبابعة. وفعل ذلك ايضا حجر من بني معاوية الاكرمين من كندة، وفي ذلك يقول عبد المطلب بن هاشم يلاعب ولده العباس في ارجوزة له:
ظني بعباس إذا هو كبر
ان يطعم اللحم نشيلا وقدر
ويكسر البيت ملاء وازز
كأن عبد كلال أو حجر
قال فحدثنا زيد بن ابي الورقاء، عن ابي لهيعة، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال النبي) ص (:لا تسبوا تُبَّعا فأنه قد اسلم.
وباسناد عن ابي هريرة قال: نهى النبي) ص (عن سب يبع الاسعد الحميري، وقال: هو اول من كسا البيت. وعن ابي المنذر، عن ابيه، عن مجالد بن سعيد قال: رأيت بمكة رجلا عليه السيف محلى بذهب، فقلت: ما دعاك إلى ما أرى؟ قال: اخبرك، اني كنت مع عامل اليمن، فأتاه آت قال: أدلك على كنز. فكنت الرسول معه، فحفرنا في الارض حتى وصلنا إلى باب ففتحناه، فاذا هو بيت مملط بالذهب، واذا لوح مكتوب فيه: هذا قبر تبع الاسعد، مات على الحنيفية، يشهد ان لا اله الا الله. فأخذنا ما كان من ذهب، واتيته به إلى العامل، فأمر لي بمائة مثقال، ثم لم يمكث الا قليلا حتى اتاه آت آخر، فقال: ادلك على مثله، فبعثني فأحتفرنا بيتا مثل الاول مملط بالذهب، واذا لوح مكتوب فيه: هذا قبر لميس اخت تبع، ماتت على الحنيفية، تشهد ان لا اله الا الله، فنزعنا ما كان من ذهب، واتينا به إلى العامل، فأمر لي بمائة مثقال، فحليت بها سيفي هذا.
ومما شهر من قول تبع الاسعد قوله في وقائعه ومسيرة قصيدة اختصرنا منها قوله شعرا:
أرقت وما ذاك الا طرب ... وهل يطرب النازح المغترب
وبيت بالشرق لي بيعة ... ثياب الحرير وكنز الذهب
فسرت اليهم بجيش لهام ... كثير الزهاء شديد اللجب
بأبناء قحطان من حمير ... بهاليل شم صميم العرب
فدانت معد لنا عنوة ... فكلهم مولع بالتعب
1 / 82