عبد العزيز عتيق (3) مطران وأثره في شعري
بقلم صاحب الديوان
لو لم أهد من أهديت إليها هذه المجموعة الأولى المستقلة من شعري لما قل سروري بإهدائي إياها إلى أستاذي الجليل خليل مطران، فقد عرفت محبة هذا الرجل الإنساني وأستاذيته منذ ثلاثين سنة؛ إذ تعهدني صغيرا فبقيت أهتدي بهديه، وكان أول ناقد لأدبي وأنا لم أتجاوز بعد الثانية عشرة من عمري. ولي أن أقول عن تأثيره على شعري ما قاله المازني عن أدب شكري: فلولا مطران لغلب على ظني أني ما كنت أعرف إلا بعد زمن مديد معنى الشخصية الأدبية ومعنى الطلاقة الفنية ووحدة القصيد والروح العالمية في الأدب وأثر الثقافة في صقل المواهب الشعرية . ومع هذا التأثير العميق في نفسي شبت روح الثورة والاستقلال فتحملت مسؤولية خواطري وتعابيري، وبهذا الروح لم أغير كلمة من هذا الشعر الذي له في نفسي قداسة الصبا وذكرياته وإن صرحت الآن في هذه الطبعة ببعض الأسماء وببعض المناسبات، وبهذه العقيدة ربطتني بأستاذي هذا العمر الطويل رابطة مقدسة من المحبة المتبادلة والتجاوب الشامل لم ينل منها كر السنين مثقال ذرة، فكانت وما زالت مضرب المثل في عالم الأدب والصداقة.
وليس هذا هو كل شعري في سنة 1910، فقد كنت مكثرا - إذا جاز هذا التعبير - منذ حداثتي، وإنما هو مختارات منه، وقد سبقته مختارات نشرت في الجزئين الأول والثاني من كتابي (قطرة من يراع في الأدب والاجتماع). فأما الجزء الأول من ذلك الكتاب فمعظم شعره من نظم الطفولة وسني ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة وأقله في الخامسة عشرة، وأغلبه تقليدي النزعة وإن تكن فيه على قلتها حسنات أصيلة. وأما الجزء الثاني ففيه من شعري ما نظمته في السادسة عشرة والسابعة عشرة متأثرا جد التأثر بتعاليم مطران، وهو بدء نضوجي الشعري. وكان مأمولا طبع ديواني الأول كاملا طبعة فنية فيما بعد، ولكني نكبت نكبة عاطفية قاسية غيرت مجرى حياتي فغادرت مصر إلى إستانبول ثم إلى إنجلترا في أوائل سنة 1912 ولبثت مغتربا عن وطني أكثر من عشر سنين نظمت فيها الكثير من الشعر كعادتي ما بين أصيل ومترجم، إلى جانب آثاري الأدبية الأخرى وفي مقدمتها ترجمة كتاب الأستاذ نكلسون في أدب اللغة العربية، وقد تركت ترجمته في مصر مع أوراقي الأدبية الكثيرة. وعدت إلى وطني في أواخر سنة 1922 وحقيبتي مثقلة بآثار أدبية شتى وبرسائل لها أهميتها مع كثيرين من أكابر الرجال وفي مقدمتهم المرحوم محمد فريد بك، فإذا بالجمرك يتشبث بالاحتفاظ بهذه الأوراق وقتيا لفحصها، وقد كان سيف الأحكام العرفية مصلتا فوق الرقاب، وإذا بهذه الأوراق لا تعود رغم ما بذل من المساعي لإرجاعها، وإذا بها قد أبيدت كما أبيدت مأثوراتي التي تركتها في مصر. وما أحسب أديبا جنى عليه الاغتراب والحرب بأكثر مما جنيا علي، وقد ترك كل هذا في نفسي أثرا أليما جدا، ولولا تشجيع أستاذي العزيز مطران وأخي الحبيب حسن الجداوي لزهدت في نشر أي جديد من شعري، فضلا عن جمع ما تيسر جمعه من شتيته القديم، دع عنك إعادة طبع شيء من ذلك القديم ... وأين هذا وقيمته من جيد شعري المفقود ومترجماتي وتصانيفي في أكثر من عشر سنين؟ ومن لي الآن - في كهولتي ومتاعبي - بعواطف الصبا والشباب وبتلك الأحلام الذهبية وبتلك الموسيقية الثائرة التي تلاشت أصداؤها في المحيط؟
ومهما يكن من شيء ففي هذا الديوان الصغير ذكريات عزيزة عندي عاطفيا وأدبيا: فأما الأولى فملموحة في ثناياه، وأما الثانية فترجع إلى ما فيه من التجاوب مع أدب أستاذي مطران خاصة. فطلاقة التعبير وحرية التأمل والاتجاهات الفكرية الجديدة؛ كل هذه تتمثل في معظم مقطوعات الديوان وقصائده، ومنها تدرجت إلى مذهب تحرير النظم كما أومن بتحرير النثر، متأثرا بأدب الجاحظ قديما وبأدب مطران نفسه حديثا وقد تجلى أبدع التجلي في (المجلة المصرية) التي حررها ببراعة أدبية منقطعة النظير.
وقد كان والدي برغم تربيته الأزهرية عصري الروح في كثير من تصرفاته، وكان السلاملك بداره الكبيرة في سراي القبة (من ضواحي القاهرة) بمثابة صالون أدبي في كل خميس، فكان يجتمع لديه الكثيرون من أهل الفضل والأدب والمنزلة الاجتماعية، وبينهم أشهر رجال الصحافة والأدب والشعر في مصر حينئذ، وكان واسطة عقدهم أستاذي خليل مطران. وهكذا تعلقت بحب هذا الرجل النبيل منذ طفولتي، وأتاح لي إصدار والدي لجريدة (الظاهر) اليومية و(الإمام) الأسبوعية فرصا شتى للاتصال بأعلام الأدب حتى أشربت حب الصحافة والأدب منذ صغري، فجرى قلمي بأول كتابة أدبية صحفية في سنة 1905 على أثر حصولي على شهادة الدراسة الابتدائية وقد كان لها ما كان من الشأن في ذلك الوقت، وكأنما كانت بمثابة شهادة أدبية لي أيضا! فلا عجب إذا عنيت في سنة 1908 بإصدار مجلة قصصية هي (حدائق الظاهر) وبإصدار كتابي الأدبي الأول (قطرة من يراع في الأدب والاجتماع)، وإن لم يتجل نضوجي الأدبي قبل سنة 1909، وهو نضوج نسبي على أي حال لا يقاس بجانبه نضوج الشباب في هذا الجيل الحاضر. ولولا افتتاني بمطران لكان الأرجح أن لا تثور روحي الأدبية تلك الثورة في محاولتي أن أقتفي خطواته السريعة، ولولا مطران لما اجتذبت عناية كل من شوقي وحافظ بي. ومطران هو الذي فرح بديواني الأول هذا على صغره أكثر من فرحي، وكان واسطة التحية الكريمة من حافظ لهذا الشعر. وقد أحببت في حافظ وطنياته وحماسياته الفياضة بأصدق الشعور، فسحرتني بساطتها وصدقها واعتبرتها منسجمة مع العناصر الشعرية العالية في أدب أستاذي مطران الذي رأيت فيه مثلي الأعلى ... وهكذا بقي هذا الثالوث مؤثرا في نفسي زمنا، ثم انفرد بالتأثير مطران، وإن كان هذا لا ينفي تأثري في صباي كذلك بشخصيتين بارزتين: الأولى شخصية أحمد محرم الذي أعده في شعره الوطني والاجتماعي أسمى منزلة من حافظ في جميع عناصر الشاعرية، ولكن له نفسية النجم البعيد المتواري لا يلمح تألقه وقوته إلا أهل البصر المديد، والأخرى شخصية مصطفى صادق الرافعي الذي لمحت فيه آيات الذكاء والشاعرية، ولكن يكاد ذكاؤه يفسد عليه عاطفته، فأحببت إلى الآن ذلك الذكاء المتوقد وقد بلغ ما كان ينتظر له بلوغه من الإبداع الأدبي والشهرة الفائقة.
فهذا الديوان في حسناته من ثمار مطران الأولى وفي عيوبه من آثار سني المبكرة، ولا أحب لدي من نشر تهنئته التي تفيض بالغبطة الأبوية وبفرحة المعلم بتلميذه، فهي منه وإليه:
ديوانك الأول فتح له
ما بعده في عالم الشعر
أبرع ما كان بإطلاقه
Shafi da ba'a sani ba