فقلت: ولم لا؟ أما يكسب حمادة شيئا؟
ففزعت أمي لذلك السؤال ولامتني لوما شديدا في سخرية مرة وقالت: أهذا هو أملي فيك؟ لم لا تنظر إلى أبناء أعمامك وأخوالك؟ فهل فيهم من يشبه حمادة؟
ولم أفهم قولها فقلت لها: وماذا أعمل إذن؟
فقالت: تأخذ الشهادة العليا وتكون رجلا محترما.
وكنت عند ذلك في السنة الرابعة الثانوية، ففكرت في نفسي كم سنة يجب علي أن أبقى في المدارس حتى آخذ تلك الشهادة العليا، وبدت لي مرحلة طويلة شاقة لا طاقة لي بها، وانصرفت عنها ضائقا حائرا، وبدأت تستولي علي حالة من الفتور جعلتني أنصرف عن التفكير في المستقبل وعن كل رغبة في الاتجاه إلى غاية، وزادني ضيقا على ضيق أنني باعدت أصدقائي، وبدأت أحس أنهم جميعا ينظرون إلي من بعيد بنظرات فاحصة، ويتهامسون علي بهمسات خافتة، وصرت أرقبهم كذلك من بعيد وأنا معتزل عنهم وأترجم أقوالهم وإشاراتهم على أنها سخرية، وأنني أنا المقصود بها، وبدأت أتعمد مخالفة آرائهم إذا دارت مناقشة في أثناء الدرس، لا أقصد سوى أن أظهر مخالفتي لهم واستعلائي عليهم، وبعد بضعة أشهر من هذه العزلة الصارمة لم أطق وحدتي فاتجهت إلى خلق صداقات جديدة مع زملاء آخرين كنت من قبل لا أرضى أن أصاحبهم، فكنت أتعمد اختيار من هم مثلي أو أقل مني في مظهرهم، وبدأت أتزعم حركة التمرد في الفصل حتى أصبحت موضع الشكوى والعقوبة، وما زلت أتمادى في ذلك حتى أصبحت قبل آخر العام زعيم حركات الاضطراب في المدرسة، وكان يلذ لي أن أتحين كل فرصة لأظهر مقدرتي على إحداث الفوضى، ولست أدري مع هذا كله كيف نجحت في امتحان الثقافة العامة آخر العام، وزادت دهشتي عندما عرفت أني لم أكن من المتخلفين في النجاح، بل كدت أكون بين السابقين في المدرسة.
ولكن ذلك النجاح لم يعد إلى صدري الانشراح، بل سألت نفسي وما فائدة هذا؟ وإلى متى أستمر في هذه الدراسة الطويلة؟
وجاءت أيام العطلة فزادت حالي سوءا؛ لأني اتخذت بعض رفاق من أبناء الحارة وهم من صبيان العمال أو أبناء صغار التجار، وكانوا خليطا عجيبا من طباع مختلفة لا يجمع بينهم شيء سوى اللعب والمزاح الخشن والمشاجرات العنيفة.
وقد وجدت في صحبة هؤلاء الزملاء فرصا كثيرة للمصادمات كي أظهر امتيازي، وكانت جولاتي معهم تنتهي في كثير من الأحيان بمعركة أصيب فيها غيري أحيانا بجراح أو كدمات، كما كنت أعود منها إلى منزلي أحيانا بثياب ممزقة، وخدوش كثيرة، وكنت في أول الأمر أتسلل إلى غرفتي عند عودتي إلى البيت حتى لا أتعرض للوم أمي، ولكني بعد أن تعرضت للومها مرة بعد مرة صرت لا أرهب شيئا ولا أبالي لوما، وما أزال إلى الآن أشعر بالخجل كلما تذكرت كيف كنت أقف أمام أمي عند ذلك وأجادلها وأراجعها وأتحداها بغير تجمل.
وكان من بين صبيان الحارة اثنان استمرت صلتي بهما مدة طويلة فيما بعد؛ ولهذا أرى أنهما جديران بأن أذكرهما، وأولهما «حمادة الأصفر» الذي ذكرته لي أمي على سبيل اللوم عندما أفضيت إليها برغبتي في العمل.
كان حمادة فتى ضئيل الجسم أصفر اللون يعرفه صبيان الحارة جميعا بالمكر والخبث، ولكنهم مع هذا يعجبون بمهارته في اختراع الألاعيب وتدبير المكائد، وكان يمتاز بجرأة عظيمة في الكلام، وله أسلوب فكه ساخر لاذع، ولكنه لضعف جسمه لا يحب المصادمة، وكانت له مقدرة على التفنن في الصفير العالي بأن يضع إصبعيه في فمه وينفخ فيخرج أصواتا يتحكم فيها كما يشاء، فيقلد صوت القاطرة البخارية أو العصافير، أو يقطع الصفير في مقاطع تجعله يشبه النطق إذا أراد أن يدعونا من منازلنا بأسمائنا، وكان هو زعيم الصبيان في الحارة قبل أن أدخل في زمرتهم، فلما اتصلت بهم شعرت أنه غير مرتاح إلى وجودي معهم منذ أول يوم؛ لأنه وجدني غير مستعد لقبول زعامته.
Shafi da ba'a sani ba