ولم تمض سوى بضعة أسابيع على وجودي مع الزمرة حتى وجدت الجميع يقاطعونني ويباعدونني، فاعتزلتهم ولمت نفسي لوما شديدا على انحداري إلى مصاحبتهم، واقتصرت على الخروج وحدي إلى الحقول القريبة لأتنزه وأكتب بعض خواطري، ولكن الزمرة لم تدعني وحدي في سلام، بل أخذ أفرادها يتعرضون لي في ذهابي وإيابي، ويقذفون بعض ألفاظ التعريض نحوي من بعيد، فكنت أتجاهل أمرهم لأظهر مقدار هوانهم عندي.
وكان من بينهم ولد من أبناء التجار اسمه «حمادة البارودي» وهو قزم قصير ذو رأسين، ولكن لسانه كان طويلا فصيحا، وله مقدرة كبيرة على السخرية اللاذعة، فكان كلما رآني قذفني بألفاظه الساخرة، المضحكة، وما يزال كذلك حتى أغيب عن بصره وأنا أسمع ضحكاته وضحكات أصحابه فأتقد غيظا، ولما رأت الزمرة أني لا أعيرهم التفاتا زادوا جرأة علي، وأخذوا يسيرون ورائي ليطيلوا مدة اضطهادهم إياي، وكانوا يرسلون أمامهم حمادة البارودي ليكون طليعة، ويسيرون من خلفه صفا يصفقون ويضحكون، وحمادة الأصفر يصفر لهم صفيرا مختلف النغمات والنبرات، ولما زاد غيظي من ذلك عزمت على أن أواجههم في موقعة حاسمة، فما كادت الزمرة تسير من خلفي كعادتها ذات يوم، وما كاد حمادة البارودي يسير في طليعتها ويصيح بأول كلمة ساخرة، حتى عدت أدراجي حانقا وخاطبت القزم قائلا: أتقصدني بما تقول؟
فارتد حمادة البارودي إلى الوراء صامتا ونظر إلى ورائه، ولكني لم أدع له فرصة لكلمة أخرى، وأمسكت ذراعه فهززتها في عنف قائلا: أتريد أن تكون عدوي؟
فلما رأى أن أصحابه لا يسرعون لنجدته أجاب قائلا: أنا مصالحك!
ثم انحاز إلى جنب ووقف ينظر ماذا أفعل، واندفعت مسرعا نحو الجماعة المنتظرة.
وقصدت عامدا إلى زعيمهم حمادة الأصفر فلم أخاطبه بكلمة، بل لكمته في صدغه لكمة شديدة جعلته يترنح ويضع يده على وجهه صارخا، فعاجلته بلكمة أخرى سقط منها على الأرض يصرخ ويبكي ويشتمني، فجذبته من يده حتى أوقفته أمامي كأنه طفل مذنب، وأخذت أشتمه وأهدده، وفي لحظة قصيرة انقلب أفراد الزمرة من عداوة متحمسة إلى صداقة متحمسة، وأخذوا يصفقون لي، وجاء حمادة البارودي يشارك في الملهاة الجديدة، فأخذ يصيح بطريقته الساخرة المضحكة: ما لك يا حمادة يا أصفر! حرام عليك يا سيد. تاب والله العظيم! جدع يا سيد. هيه يا حمادة!
وكان الجميع يضحكون ويصفقون، وكان خذلان حمادة الأصفر حاسما، فعزل نفسه عن زعامته من ذلك اليوم وتركني زعيما للزمرة وحدي، ولم يظهر بعد ذلك بيننا عدة أسابيع، ثم عاد إلينا خاضعا مسالما.
وأما الصبي الثاني فهو «مصطفى عجوة»، وكان هو المهرج المضحك بعد اعتزال حمادة الأصفر. كان ولدا ضخم الجسم، له وجه غليظ أحمر قاتم، وفيه آثار من الجدري تبدو من بعيد كأنها زرقاء، وتعلو وجهه دائما لمعة كأنه مدهون بزيت، وكان له صوت مجوف غليظ، وينطق بألفاظه في بطء فيثير الضحكات عند كل كلمة، وكان يجمع بين السذاجة التي تقرب من البلاهة وبين الميل إلى الدس والنميمة، وله مقدرة عظيمة على اختراع الأكاذيب التي يسعى بها بين رفاقه، فإذا عرف زملاؤه حقيقة أكاذيبه لم يخجل ولم ينكر، بل ينطق ببعض ألفاظه البلهاء ثم يضحك ضحكة طويلة، ويتحمل ما يوجه إليه من الشتائم، وكان يغيظني كثيرا ببلادته وخبثه، ولكني لم أجد عليه سبيلا لأنه لم يحاول مرة من المرات أن يتحدى أو يقاوم عندما كنت أقتص منه على أكاذيبه.
وهو يتيم الأبوين، يقيم مع جدته العجوز ويعولها بما يكتسب من عمله في محلج السيد أحمد جلال تاجر الأقطان، الذي كان من قبل من سكان الحارة، وهو دائما يباهي بأن السيد أحمد يعرف جدته عندما كان يقيم في حارتنا، كما يباهي بأنه يأخذ ستة جنيهات مرتبا شهريا.
وقد حدث في يوم من الأيام أن ذهبنا إلى مولد سيدي «عطية أبو الريش»، وأخذنا نلعب الكرة في ساحة قريبة من مكان المولد، واجتمع من حولنا عدد كبير من النظارة، وقد أحسنت في اللعب في ذلك اليوم، وكنت اللاعب الأوسط في الهجوم، فأخذ النظارة يهتفون باسمي حتى داخلني زهو كبير، وجاءت فترة الراحة بين دوري اللعب فذهبت لأشرب كوبا من الخروب، ومررت في طريقي بحلقة كانت تحيط بمصطفى عجوة وتضحك منه، وسمعت صوته الأجوف ينطق باسمي في عبارة تهكم انفجرت على أثرها ضحكة عالية، فشعرت بحنق شديد عقب الزهو الذي امتلأت به في أثناء اللعب، واندفعت نحو مصطفى عجوة بغير تفكير فأهويت على وجهه السمين بكل قوتي بصفعة رنت عاليا، ثم أتبعت ذلك ببضع شتائم شديدة.
Shafi da ba'a sani ba