Amin Rihani
أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
Nau'ikan
سمعت الصوت أولا، ثم رأيت أمامي فجأة شيخا جليلا في جبة سوداء وعمة بيضاء، يتوكأ على عصاه، ويسلم سلاما لا تكلف فيه ولا غرابة، ثم قال: «إني عالم بما في نفسك، ومدرك ما يضيق منك دونه. أنت الآن ثمل ولا يرجى من الثمل البيان شكرا ومنة ولا ينتظر، ولكن فضلك الأكبر - ولا نبخسك في الإخلاص حقك - أنك هاجرت بلادك ولم تهجر قومك، وكنت في بيئة لا ذكر فيها لغير الحاضر تذكر أبدا ماضيا مجيدا، ماضي الأمم العربية؛ فتقتبس منه نورا تضيء به شيئا من ظلمات الشرق الحاضرة.
سمعنا صوتك يا ريحاني، وشممنا في مشاعلك رائحة زيت طيبة، ولكننا سمعنا أيضا صوت الأمة المصرية اليوم، وتضوع في أرجائنا من مكارمها نفحات زكيات طيبات. حياك المصريون ورحبوا بك وأثنوا عليك، بل صاغوا لك من معدن القلوب شعرا جميلا، وأنت ما عندك مما يصاغ شكرا ومنة.
كشفنا الحجاب وبحثنا في زوايا النفس، فوجدنا فيها آثار شعور بليغة تكاد من شدة الفرح، وعجز الإفصاح والبيان تتحول كلوما، وتسيل دما، والعجز في واحات الحبور أشد المآسي.
رثينا لك يا ريحاني، وشفقنا عليك، وقلنا: إن بعض ما أنت فيه إنما هو منا، بل نحن المسئولون، وعلينا حق النجدة.
إن المصريين يا ريحاني لأكثر الناس فضلا، وأكبر الناس خلقا، وأجزل الناس كرما، وألطف الناس ذوقا، وأرحب الناس صدرا، وأصفى الناس حبا وودادا. هذا كله تعرفه أنت ويعرفه الناس، ولكنك لا تعلم أن في مصر اليوم ثلاثة جاءوا يحيون المصريين، بل جاءوا يقرئون مصر سلام من لا تهزهم من الفضائل كلها اليوم إلا واحدة؛ الوحدة القومية. وقد شاهدناها في أجمل المظاهر في مصر، شاهدناها في مظهر نود مثيله في كل بلاد عربية.
لذلك جئنا نحيي عنك مصر، نحن الثلاثة أصحابك وأصحابها، فنحن وإن تنوعت المسافات والهيوليات بيننا مقيمون في نور الوحدة والتوحيد، ذلك النور القدسي الذي يشع حقا وعلما، وشعرا وحرية، وفنا وسلاما. ونحن اليوم مقيمون في مصر، نحن الثلاثة، وأنا أصغرهم وأحقرهم، أغتفر لك جهلك، أنا المعري أبو العلاء، ورفيقاي اللذان لا تراهما: أمريكا ربة الحرية، ولبنان رب العبقرية؛ فسر في سبيلك طالبا العلم، ناشدا مجد الأجداد، راغبا بتجديد حياة العرب والعربية، وكن هادئ البال، مطمئن الفؤاد؛ فقد أولتك مصر فضلا جزيلا جميلا، ونحن نسديها عنك شكرا جزيلا جميلا، وإن وجودنا فيها ليشفع بعجز فيك.»
الآن وقد أنهينا الكلام على حفلات التكريم، وحضر معنا القارئ من أول حفلة أقيمت إلى آخر حفلة ختمت بها مجالس الحفاوة والإكرام.
وقد شهد قارئنا مشاهد الأدب، وسمع نغمات الأشعار، وما زال يصحبنا حتى جمعتنا محطة القاهرة في وداع فيلسوفنا العظيم، وهكذا أخذ مطالعنا الكريم يتنسم ريح أخبار الشاخص العزيز حتى وافتنا كلمة شكره لمصر والمصريين.
وكأننا بالقارئ وقد تاقت نفسه لرؤية المناظر المختلفة، والمشاهد الجميلة، وإنا آخذون بيده حتى نصل به إلى طلبته، فنمر به برحلتنا على «مدينة بيروت» آخذين معه بالتجوال بين ربوعها، والتمتع بحسن مناظرها، وبديع روائها، ثم نعرج بقارئنا اللبيب على «وادي الفريكة» مسقط رأس فيلسوفنا الكبير.
وهناك نشاهد معا ما أودعت يد الطبيعة من أودية غناء، وأشجار لفاء، وجبال تناطح السماء، ولا نزال على قدم التجوال والحل والترحال، حتى يتم تطوافنا لربوع لبنان، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يجذبنا تيار السياحة، فتقذف بنا أمواجه إلى ساحل مدينة «نيويورك»، فنجتمع بنبغاء السوريين وعلماء العالم الجديد - الذين علا صيت فيلسوفنا بينهم، ورفع علم شهرته على نواديهم - فنجول هناك جولة هائم ببديع المناظر، ونصعد نحن وإياه إلى أعلى بناء هناك، فنشرف على الأسواق والسكنات، ونتأمل هناك بحر العمران الزاخر والعالم المتكاثر، ثم نسرع إلى «جسر بروكلن»، فنشاهد ما صنعت يد العلم الحديث، وما أوجدت قرائح الرجال، ولا يدور بخلدنا أن نغادر هذه المدينة إلا بعد أن نشاهد محاكمة الثعلب على خروجه من دينه، وإنكاره كتاب شريعته، ورميه إياه بالتحريف والتبديل أمام المجلس الأعلى في عاصمة «المملكة الحيوانية»، ونشهد والقارئ تنفيذ الإعدام في هذا المقدام.
Shafi da ba'a sani ba