Amin Khuli
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Nau'ikan
ومع هذا يبدو من الملائم طرح صورة عامة للإطار الخاص الذي تخلقت فيه سطور هذا الكتاب.
فقد كان لدي بطبيعة الحال تصوري لأمين الخولي، كإنسان فذ الشخصية، وكعالم لغوي لا يشق له غبار، وكأستاذ من جيل الرواد الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة، وكمفكر هو واحد من التجديديين العظام. وكنت طبعا قد قرأت له وعنه بعض الشيء، في إطار قراءاتي الغزيرة المتنوعة، وقد دربني عليها أبي الطبيب النطاسي - رحمه الله وأكرم مثواه بقدر ما ملك من كريم الشمائل - وعلمني كيف أقتنص رحيق الحياة وآفاق الثراء الباذخ من صفحات الكتب. ومنذ بواكير الصبا لا يمر علي يوم دون أن أفتح كتابا.
وأعترف بأنني لم أكن أتوقف إزاء قضية التجديد ومجدديه وضرورته الحضارية، وأبعاده الفلسفية وتشغيلها في منظومتنا الثقافية، لم أكن لأتوقف بإزاء هذا منذ البداية وحتى لقائي الحقيقي الواعد بأمين الخولي.
بداية، واصلت تفوقي الدراسي، وكنت من أوائل الثانوية العامة، وتحت تأثير الافتتان بعالم الثقافة والفكر والفلسفة التحقت بكلية الآداب العريقة التي تعتز كثيرا بأمين الخولي في الصف الأول من روادها، حين كان تاريخ النهضة العربية وقيم الحرية والاستقلال وتحديث العقل العربي، يسجل من قاعاتها الأثيرة ذات العطاء الجزل للأمة.
بيد أنني تخصصت في واحد من أحدث فروع الفلسفة: فلسفة العلم، التي تفلسف ظاهرة العلم الحديث فتبحث في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال، التفكير في الإبستمولوجيا؛ أي في نظرية للمعرفة العلمية، ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى، والعوامل الحضارية المختلفة. هكذا تتقدم فلسفة العلم بوصفها تقنينا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الغربية إيجابية وفاعلية واتقادا ؛ أي العلم الحديث.
وحين كنت - ولا أزال - أبذل قصارى العزم في تمثل فلسفة العلوم واستيعابها ونقلها للمكتبة العربية بأفضل ما أستطيعه، كنت أحسب في هذا - بما يحمله من مقولات للتحديث والعقلنة والتقدم المطرد - ردا لدين ماء النيل على شراييني وخلاياي، وتعبيرا كافيا عن التزامي إزاء الثقافة العربية، التي أراها دائما تمثيلا لوحدة حضارية واحدة أبقى من كل متغيرات السياسة وألاعيبها وترهاتها. هكذا انصرفت بمجامع نفسي وتفكيري إلى الفلسفة الغربية وميراث الحضارة الغربية وأصول العلم الغربي الحديث، وعوامل نشأته وتناميه وتقدمه المطرد في الحضارة الغربية. وكنت في حالة تصالح تام مع نموذجها الثقافي الذي بدا لي خيار التقدم المطروح وليحاكيه من شاء تقدما، خصوصا بعد أن انتهى الاستعمار واجتثت ثورة يوليو المباركة جذوره. وزاد من هذا التصالح أنني قضيت شطرا من طفولتي في أوروبا، وتفتحت عيناي على ظلالها الوارفة وتلقيت تعليما في مدارسها ورأيت قطوفها الدانية رؤية العين، وترددت عليها فيما بعد. زادني هذا انكبابا على إيجابيات الثقافة الغربية، فاستقطرت مني صدر الشباب، واندفاعته المتحمسة، عشر سنوات أو يزيد وأنا غارقة حتى الأذنين في الفكر الغربي، ولا ألتفت إلى واقعي، إلى الأنا، إلى الذات، إلى موطئ القدم الذي قدر له أن يواجه المحن تلو المحن. وكانت المحصلة أن أنشغل فقط بإشكاليات مطروحة في الفكر الغربي، وأعرف عن الحضارة الغربية ومسارها وأعلامها أضعاف أضعاف ما أعرفه عن الحضارة العربية، وأدرس من نصوصها كل ما أستطيعه بينما لا أتعامل مع نصوص التراث العربي إلا لماما، وبقدر ما يفيد كهوامش لفكرة أعالجها في التراث الغربي. من هنا خرجت كل أبحاثي وأعمالي، بل ومقالاتي حتى نهاية الثمانينات، وكل سطورها محصورة حصرا داخل أطر الفكر الغربي، ولا تكاد تتمايز عنه إلا في أنها مكتوبة باللغة العربية!
حتى كان مطلع التسعينيات والهيئة العامة للكتاب مضطلعة بإصدار مجموعة الأعمال الكاملة لأمين الخولي، ووجدتني متورطة في هذا، ولم ألق مفرا. انشغلت في عملية تجميع الأصول وإعدادها للنشر، ومراجعة مستنسخات الطباعة، وكتابة نبذة الغلاف، وما إليه. وكما هو معروف، مراجعة المستنسخات أسخف شيء، ولعلها الفصل الوحيد السخيف المضجر في تجربة التأليف التي تظل بكل المقاييس أروع التجارب الإنسانية طرا. لكن مراجعة المستنسخات هنا كانت بالنسبة لي فتحا مبينا. لقد قرأت بدقة - وبعيون أصبحت مدربة - كل أعمال أمين الخولي، وأذكر على وجه التحديد كتابيه «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد»، وأيضا مجموعة محاضرات مخطوطة غير منشورة، كانت في مكتبة أبي تحت عنوان «كتاب الخير»، وهي محاضرات في تاريخ فلسفة الأخلاق من الفكر الشرقي القديم حتى العصر الحديث، ألقاها أمين الخولي في أعقاب عودته من ألمانيا عام 1927. وفي هذه المحاضرات يدافع الخولي ببسالة عن نظرية التطور لتشارلز دارون، والفلسفة التطورية مع هربرت سبنسر وليزلي ستيفن وأمثالهما! وقد قدمت «كتاب الخير» إلى المجلس الأعلى للثقافة، لتنشره مطبعة دار الكتب لأول مرة عام 1996، في إطار أعمال الندوة التي أقامها المجلس «أمين الخولي: الأصالة والتجديد» في أبريل من ذلك العام. وخرج «كتاب الخير» مصحوبا بدراسة كتبتها كتقديم له، يتضمنها هذا الكتاب أيضا
الفصل الأول
بعد إضافة وتنقيح. «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد» و«كتاب الخير» فعلت بي فعلة أمين الخولي بتلامذته، ومن يقترب من الجذوة المضرمة في عقليته وفي أسلوبه لطرح الأفكار القادر على تثوير كل خلجة بعقل المتلقي، في خضم وابل من المنهجية والرصانة والدقة والعمق والاستنارة التي تفيض بها أعمال الخولي. وأنا أتتبع أمين الخولي في جولاته بأنحاء التراث وصولاته لتجديده، كنت أستجمع فرائد كنز مذخور من الأصول المنهجية للنظرة الحضارية التي لا تنفصل أبدا عن ذاتها وعن تراثها، ما دامت تراه قابلا للتجديد والتطوير. وأدركت كم كان بصري حسيرا.
وكانت تلك فاتحة لسلسلة من الزلازل والتوابع سوف تتصدع لها ثوابت في عقليتي وفي منظوري وأسلوبي للتفكير. لقد تزامن معها كارثة الخليج الكابية التي اهتزت لها الأركان وتبعها ما سمي بالنظام العالمي الجديد - إثر الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي - ليعني تنظيم العالم وفقا لقيم ومصالح أمريكا، ولماذا لا نقول؛ وأيضا مصالح إسرائيل؟! تدفق طوفان الحيرة من عيون ابني وطلابي، توالت تساؤلاتهم القلقة الموجعة ، وقد فجرتها أزمة الخليج التي اختلط فيها العدو بالصديق بالشقيق: ما القومية؟ ما العروبة؟ ما الوطن؟ من نحن؟ هل ستبقى هذه الأمة؟ هل انتهى عصر الاستعمار؟ أيهما أقسى: الاستعمار الأوروبي البائد أم الاستعمار الأمريكي الراهن المجلوب جلبا؟
Shafi da ba'a sani ba