مقدمة
الباب الأول
1 - أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
2 - في الآفاق الفلسفية للتفسير
الباب الثاني
3 - حوار مع الفكر المتطرف
4 - التفكير العلمي
5 - قتل القديم بحثا
6 - أول التجديد
مقدمة
الباب الأول
1 - أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
2 - في الآفاق الفلسفية للتفسير
الباب الثاني
3 - حوار مع الفكر المتطرف
4 - التفكير العلمي
5 - قتل القديم بحثا
6 - أول التجديد
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
الشيخ المجدد أمين الخولي (مايو 1895-مارس 1966).
أول التجديد قتل القديم بحثا وفهما ودراسة.
أمين الخولي
مقدمة
سيرة شبه ذاتية
منذ مطلع النهضة العربية الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر ونحن ندرك جيدا أن التجديد يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر فينا. والمقصود بالتجديد البحث في بعث وتحديث وتنهيض وتنمية معاملات أصالتنا، أو بمصطلح أفضل وأكثر حيوية وحركية وتطورية نقول: تحديث معاملات خصوصيتنا الحضارية.
وعلى مدار القرن العشرين كان فرض التجديد يزداد وجوبا وإلحاحا؛ لمواجهة المستعمر ورياح التغريب العاتية، ثم لتوطيد وتدعيم الثورات القومية وحركات التحرر الوطني التي أينعت وازدهرت مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. إنها نفس الحقبة التي شهدت أخطر تحدياتنا الحضارية طرا، وأكثرها وبالا، غرس العدو الصهيوني في قلب الوطن العربي معززا ومدعما بتأييد الحضارة الغربية التي تملك عناصر القوة والتقدم والعلم والحداثة، ومدعما بنموذجها الحضاري ذاته، ليزداد فرض التجديد إلحاحا، لا سيما بعد أن حططنا السلاح وسلكنا طريق المفاوضات والمواجهة المباشرة. ثم يشهد العقد الأخير طوفان العولمة يندفع مهددا باكتساح كل الخصوصيات الحضارية، فيفقد العالم الإنساني ثراءه وتنوعه وتعدديته، ولا يبقى إلا النموذج الغربي الأمريكي. وفي مواجهة العولمة يغدو فرض التجديد أكثر وجوبا من كل ما سبق. هكذا فرض القرن العشرون قضية التجديد علينا، فرضا متواترا يزداد إلحاحا. وها هو ذا القرن ينصرف عنا ويودعنا ليكون مثمرا أن نلقي نظرات شمولية عامة لتقييم وسبر حصائله، وحصائل الأعلام الذين ساهموا في توجهاته الكبرى.
ومن منطلق الإحساس بخطورة قضية التجديد في حضارتنا لكي تتواصل فيها عوامل النماء ، والتقدم والازدهار، دون أن تتماوه حدودها وتتميع شخصيتها، دون أن تتحول إلى ظل باهت للآخر الغربي وتندثر خصوصياتها بحرائر العلم الأمريكي ونجومه الزاهية. من هذا المنطلق يتقدم الكتاب بمحاولة لتعيين الأبعاد الفلسفية العميقة، وأيضا تطويرها وتفعيلها عند واحد من رواد التجديد في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الشيخ أمين الخولي، فتتكشف أمامنا آفاق فلسفية رحيبة يمتد إليها إسهامه الفكري. •••
ومع هذا يبدو من الملائم طرح صورة عامة للإطار الخاص الذي تخلقت فيه سطور هذا الكتاب.
فقد كان لدي بطبيعة الحال تصوري لأمين الخولي، كإنسان فذ الشخصية، وكعالم لغوي لا يشق له غبار، وكأستاذ من جيل الرواد الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة، وكمفكر هو واحد من التجديديين العظام. وكنت طبعا قد قرأت له وعنه بعض الشيء، في إطار قراءاتي الغزيرة المتنوعة، وقد دربني عليها أبي الطبيب النطاسي - رحمه الله وأكرم مثواه بقدر ما ملك من كريم الشمائل - وعلمني كيف أقتنص رحيق الحياة وآفاق الثراء الباذخ من صفحات الكتب. ومنذ بواكير الصبا لا يمر علي يوم دون أن أفتح كتابا.
وأعترف بأنني لم أكن أتوقف إزاء قضية التجديد ومجدديه وضرورته الحضارية، وأبعاده الفلسفية وتشغيلها في منظومتنا الثقافية، لم أكن لأتوقف بإزاء هذا منذ البداية وحتى لقائي الحقيقي الواعد بأمين الخولي.
بداية، واصلت تفوقي الدراسي، وكنت من أوائل الثانوية العامة، وتحت تأثير الافتتان بعالم الثقافة والفكر والفلسفة التحقت بكلية الآداب العريقة التي تعتز كثيرا بأمين الخولي في الصف الأول من روادها، حين كان تاريخ النهضة العربية وقيم الحرية والاستقلال وتحديث العقل العربي، يسجل من قاعاتها الأثيرة ذات العطاء الجزل للأمة.
بيد أنني تخصصت في واحد من أحدث فروع الفلسفة: فلسفة العلم، التي تفلسف ظاهرة العلم الحديث فتبحث في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال، التفكير في الإبستمولوجيا؛ أي في نظرية للمعرفة العلمية، ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى، والعوامل الحضارية المختلفة. هكذا تتقدم فلسفة العلم بوصفها تقنينا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الغربية إيجابية وفاعلية واتقادا ؛ أي العلم الحديث.
وحين كنت - ولا أزال - أبذل قصارى العزم في تمثل فلسفة العلوم واستيعابها ونقلها للمكتبة العربية بأفضل ما أستطيعه، كنت أحسب في هذا - بما يحمله من مقولات للتحديث والعقلنة والتقدم المطرد - ردا لدين ماء النيل على شراييني وخلاياي، وتعبيرا كافيا عن التزامي إزاء الثقافة العربية، التي أراها دائما تمثيلا لوحدة حضارية واحدة أبقى من كل متغيرات السياسة وألاعيبها وترهاتها. هكذا انصرفت بمجامع نفسي وتفكيري إلى الفلسفة الغربية وميراث الحضارة الغربية وأصول العلم الغربي الحديث، وعوامل نشأته وتناميه وتقدمه المطرد في الحضارة الغربية. وكنت في حالة تصالح تام مع نموذجها الثقافي الذي بدا لي خيار التقدم المطروح وليحاكيه من شاء تقدما، خصوصا بعد أن انتهى الاستعمار واجتثت ثورة يوليو المباركة جذوره. وزاد من هذا التصالح أنني قضيت شطرا من طفولتي في أوروبا، وتفتحت عيناي على ظلالها الوارفة وتلقيت تعليما في مدارسها ورأيت قطوفها الدانية رؤية العين، وترددت عليها فيما بعد. زادني هذا انكبابا على إيجابيات الثقافة الغربية، فاستقطرت مني صدر الشباب، واندفاعته المتحمسة، عشر سنوات أو يزيد وأنا غارقة حتى الأذنين في الفكر الغربي، ولا ألتفت إلى واقعي، إلى الأنا، إلى الذات، إلى موطئ القدم الذي قدر له أن يواجه المحن تلو المحن. وكانت المحصلة أن أنشغل فقط بإشكاليات مطروحة في الفكر الغربي، وأعرف عن الحضارة الغربية ومسارها وأعلامها أضعاف أضعاف ما أعرفه عن الحضارة العربية، وأدرس من نصوصها كل ما أستطيعه بينما لا أتعامل مع نصوص التراث العربي إلا لماما، وبقدر ما يفيد كهوامش لفكرة أعالجها في التراث الغربي. من هنا خرجت كل أبحاثي وأعمالي، بل ومقالاتي حتى نهاية الثمانينات، وكل سطورها محصورة حصرا داخل أطر الفكر الغربي، ولا تكاد تتمايز عنه إلا في أنها مكتوبة باللغة العربية!
حتى كان مطلع التسعينيات والهيئة العامة للكتاب مضطلعة بإصدار مجموعة الأعمال الكاملة لأمين الخولي، ووجدتني متورطة في هذا، ولم ألق مفرا. انشغلت في عملية تجميع الأصول وإعدادها للنشر، ومراجعة مستنسخات الطباعة، وكتابة نبذة الغلاف، وما إليه. وكما هو معروف، مراجعة المستنسخات أسخف شيء، ولعلها الفصل الوحيد السخيف المضجر في تجربة التأليف التي تظل بكل المقاييس أروع التجارب الإنسانية طرا. لكن مراجعة المستنسخات هنا كانت بالنسبة لي فتحا مبينا. لقد قرأت بدقة - وبعيون أصبحت مدربة - كل أعمال أمين الخولي، وأذكر على وجه التحديد كتابيه «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد»، وأيضا مجموعة محاضرات مخطوطة غير منشورة، كانت في مكتبة أبي تحت عنوان «كتاب الخير»، وهي محاضرات في تاريخ فلسفة الأخلاق من الفكر الشرقي القديم حتى العصر الحديث، ألقاها أمين الخولي في أعقاب عودته من ألمانيا عام 1927. وفي هذه المحاضرات يدافع الخولي ببسالة عن نظرية التطور لتشارلز دارون، والفلسفة التطورية مع هربرت سبنسر وليزلي ستيفن وأمثالهما! وقد قدمت «كتاب الخير» إلى المجلس الأعلى للثقافة، لتنشره مطبعة دار الكتب لأول مرة عام 1996، في إطار أعمال الندوة التي أقامها المجلس «أمين الخولي: الأصالة والتجديد» في أبريل من ذلك العام. وخرج «كتاب الخير» مصحوبا بدراسة كتبتها كتقديم له، يتضمنها هذا الكتاب أيضا
الفصل الأول
بعد إضافة وتنقيح. «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد» و«كتاب الخير» فعلت بي فعلة أمين الخولي بتلامذته، ومن يقترب من الجذوة المضرمة في عقليته وفي أسلوبه لطرح الأفكار القادر على تثوير كل خلجة بعقل المتلقي، في خضم وابل من المنهجية والرصانة والدقة والعمق والاستنارة التي تفيض بها أعمال الخولي. وأنا أتتبع أمين الخولي في جولاته بأنحاء التراث وصولاته لتجديده، كنت أستجمع فرائد كنز مذخور من الأصول المنهجية للنظرة الحضارية التي لا تنفصل أبدا عن ذاتها وعن تراثها، ما دامت تراه قابلا للتجديد والتطوير. وأدركت كم كان بصري حسيرا.
وكانت تلك فاتحة لسلسلة من الزلازل والتوابع سوف تتصدع لها ثوابت في عقليتي وفي منظوري وأسلوبي للتفكير. لقد تزامن معها كارثة الخليج الكابية التي اهتزت لها الأركان وتبعها ما سمي بالنظام العالمي الجديد - إثر الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي - ليعني تنظيم العالم وفقا لقيم ومصالح أمريكا، ولماذا لا نقول؛ وأيضا مصالح إسرائيل؟! تدفق طوفان الحيرة من عيون ابني وطلابي، توالت تساؤلاتهم القلقة الموجعة ، وقد فجرتها أزمة الخليج التي اختلط فيها العدو بالصديق بالشقيق: ما القومية؟ ما العروبة؟ ما الوطن؟ من نحن؟ هل ستبقى هذه الأمة؟ هل انتهى عصر الاستعمار؟ أيهما أقسى: الاستعمار الأوروبي البائد أم الاستعمار الأمريكي الراهن المجلوب جلبا؟
وفي الإجابة على هذا لم أكن أملك إلا وقد اللهيب وحمم البركان بين ضلوعي، ما دمت أؤمن دائما بأن القومية العربية أشد حقيقية من الهواء الذي نتنفسه معا، ومن التاريخ الذي عشناه معا والكتاب الذي نقرؤه معا، وقيم الحياء الجميل، ولهفة الأمومة، ومنزلة الأخ الأكبر، والانتماء للأسرة، التي نحياها معا، والفيلم المصري الذي نشاهده معا، والأغنية التي نستمع إليها معا والشعر العربي الذي نردده معا ...
وكأن الله شاء أن يزداد الجرح القومي في النفس إيلاما، فأحصل في عام الطوفان وكوارث المعمعان عام 1991 على جائزتين من الطرفين المتناحرين، جائزة العلماء العرب الشبان من مؤسسة عبد الحميد شومان الفلسطيني في الأردن، وجائزة الإبداع الفكري بين الشباب العربي من الكويت. يتقاتل الطرفان، ويجتمعان على تقدير خاص لكتابي «مشكلة العلوم الإنسانية»، تأكيدا على أن البحث العلمي العربي كالإبداع الفكري العربي لن تقف في وجهه الحدود المصطنعة، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين وفي صلب الزمن العصيب، تجسيدا لثابت باق يعلو على كل الكوارث ومؤامرات الفرقة، ومصداقا لقول أستاذ الأجيال الدكتور زكي نجيب محمود: «العروبة ثقافة لا سياسة»، وهذه الأولى - الثقافة عند الله وعند الناس خير وأبقى.
تبدو المتغيرات والوقائع آنذاك وكأنها تريد أن تعصف بهذا الثابت الباقي، وتؤكد أن سؤال القومية والهوية وخيار التقدم الحضاري ليس محسوما كما كنت أتصور، ومن ثم بدا لي الموقف الفكري القاصر على ميراث التقدم الغربي، والمنبت الصلة بتعينات واقعنا ومشاكله التي تستلزم المعالجة ... ذاك الموقف ليس مجرد بصر حسير، بل هو جريمة في حق الوطن، وكانت أزمة نفسية وعقلية طاحنة.
مثلت الأصول المنهجية التي استقيتها من صحبتي لأمين الخولي طوق نجاة ومرشدا لتدارك ما فاتني. ورحت أستقبل بفعالية بالغة مؤثرات نفر من أساتذتي العظام ذوي الطرح الأبعد لإشكاليات التجديد في الفكر العربي الحديث، وقرناء لهم في أنحاء شتى من الوطن العربي، وأيضا مؤثرات نفر من تلامذتي النابهين من شباب الباحثين الجادين في أطروحات الفكر العربي الحديث ومناقشاتهم المستفيضة. هكذا تجمعت عوامل عديدة فشهدت التسعينيات منحنى حادا في طريقة تفكيري وأبعاد معالجاتي وطرحي لما أخرجته من أعمال.
وتظل فلسفة العلم دائما هي البوصلة الموجهة لعقليتي ومسار أبحاثي. ومن حسن الطالع أن تواكب مع هذا تطور ملحوظ في فلسفة العلم إبان العقود الأخيرة من القرن العشرين، يتلخص في أنها انتقلت من وضع مبتسر - استمر طويلا - يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته. انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم. وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج؛ أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم، ترتكز - كما أشرت - على الوعي بتاريخه. وباستيعاب هذا البعد الجديد سرعان ما علمتني فلسفة العلم أن تاريخ العلم - وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات - هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
من هنا سهل علي اتخاذ الخطوة الأولى للخروج من ذلك الموقف الحسير، بل بدت واجبا أكاديميا، وهي أن أمد نطاق معالجاتي المصمتة لظاهرة العلم الحديث الأوروبية إلى المرحلة الأسبق منها، والمفضية منطقيا وتاريخيا إليها؛ أي مرحلة تاريخ الرياضيات والعلوم عند العرب. فانكببت بعزم أكيد على نصوص من تراثنا متصلة بالحركة العلمية التي كانت قمة الازدهار والعطاء في عصرها الوسيط، واكتشفت - لأول مرة - في الحضارة الإسلامية عقلا مبدعا باذخ العطاء، وعالما هائجا مائجا يفيض زخما وثراء. ورحت أطرح السؤال: كيف وصل إلى طريق مسدود؟ وكيف يمكن مواصلة ما انقطع؟ فتعود معاملات أصالتنا قوة دافعة للتقدم والازدهار والسؤدد، وإزالة ما يعتريها من وهن أو تصلد. في هذا الإطار خرجت أعمالي في التسعينيات وقد أصبحت إيجابيات الحضارة الغربية أدوات لدفع تقدمنا الحضاري وليس مجرد تراتيل نرددها. والهم ينطلق من إشكاليات يطرحها واقعنا نحن الحضاري. وضمن هذا السياق خرجت الفصول التي تمثل كتابا عن الآفاق الفلسفية لفكر أمين الخولي التجديدي. •••
كانت السطور السابقة التي أفاضت واستفاضت - رغما عني - ضرورية لكي توضح أن قراءتي لأعمال أمين الخولي - التي كانت هي الأخرى رغما عني - لم تأت مجرد اطلاع وتلق لأفكار وأطروحات، وهل يستطاع التلقي السلبي لأفكار أمين الخولي؟ واتضح كيف كانت بدايات ثورة في تفكيري، ثورة منهجية تعني استملاك أدوات جديدة للبحث والنظر، فيخرج إنجاز مختلف يحمل أبعادا لم تكن مطروحة فيما سبق.
من هنا لم يقتصر هذا الكتاب على مجرد عرض لبعض الأبعاد والآفاق الفلسفية للتجديد التي حاولت تعيينها واستكشافها في فكر أمين الخولي، ويحملها الباب الأول من هذا الكتاب - بفصليه - تحت عنوان «منهاج»، بل كان لا بد من إردافه بالباب الثاني الذي يحمل آفاق محاولاتي لتطبيق بعض من فرائد هذا المنهاج، لتفعيلها وتطويرها، طبعا بمصاحبة أدوات منهجية ومعرفية أخرى، لم تكن مطروحة في زمان الخولي، في النصف الأول من القرن العشرين. ألم يطرح أمين الخولي معادلته الشهيرة: التلميذ = الأستاذ + الزمن؟!
في المحاولات التطبيقية المنصبة على الهم الراهن، بدا لي أن جنوحات وترديات الفكر السلفي المتطرف الذي بلغ حد الإرهاب راجعة إلى أنه يفتقد على وجه التحديد أسسا منهجية حرص أمين الخولي - بوصفه شيخا أصوليا - على إرسائها وترسيخها. وبتطوير وتعميم هذا كانت أول محاولات التطبيق المطروحة في الباب الثاني، الفصل الثالث، وهي مواجهة عامة أو حوار مع الفكر المتطرف.
ثم أعقبته بفصل تال، هو تطبيق لتأكيد أمين الخولي على أن الإسلام دين العقل والتفكير يدفع للنظر العلمي في الكون و«قادر على تحرير العقل والعلم أكمل حرية يمكن أن تتحقق» فيستوعب على الرحب والسعة ظاهرة العلم. لكن الإسلام «هدي وإرشاد» و«ليس البتة درسا في الفيزياء أو الكيمياء» و«لا يقصد إلى شيء في العلم الرياضي أو الطبيعي» بتعبيرات الخولي الذي رفض بشدة وبحسم التناحر والجدل السطحي بين مضامين النظريات العلمية وبين النصوص القرآنية، لافتا الأنظار إلى أن الأولى متغيرة متطورة، والثانية مطلقة ثابتة.
لقد كان الخولي في طليعة الرافضين لما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن، وأكد أن «إنكاره من كبريات قضايا المنهج الأدبي للتفسير» الذي أسسه ودعا إليه، كما سنرى. ومن أجل طرح تطبيق أشمل يوضح أن هذا هو قمة الاستنارة الدينية، أتى الفصل الرابع عن «التفكير العلمي والعلاقة بينه وبين الاستنارة الدينية».
إذن عقائد الإسلام موجهات للحضارة، بدلا من الخوض الظاهري العقيم في التفاصيل العلمية المتغيرة، فكيف السبيل إلى جعلها موجهات لتوطين ظاهرة العلم الحديث ذاتها في ثقافتنا مجددا، تأكيدا على أن الإسلام في كل عصر هو دين العقل والعلم؟ هذا هو أهم سؤال حاولت الإجابة عليه إجابة مستفيضة في كتابي «الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل»، وقد نال جائزة البحوث المستقبلية في الإنسانيات من جامعة القاهرة، ويتلخص مضمونه في الفصلين الأخيرين من الباب الثاني. والمسألة في جملتها تطبيق لأخطر وأهم المبادئ المنهجية التي طرحها أمين الخولي: «أول التجديد قتل القديم بحثا وفهما ودراسة.»
فقبل العمل على تجديد أصولنا الحضارية من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا مجددا، لا بد من محاولة الإجابة على السؤال: لماذا وصلت الحركة العربية العلمية الزاهرة في الماضي إلى طريق مسدود؟
ومنهاج الإجابة على هذا السؤال يقتضي «قتل القديم بحثا وفهما ودراسة»، كما حاولت أن أفعل في الفصل الخامس من هذا الكتاب عن «الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في الفكر العربي»، ثم أعقبه فصل سادس يتلمس طريق التجديد من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا المعاصرة.
وبعد، فإن بعض فصول هذا الكتاب - باستثناء الأول والثالث - أوراق ألقيت في مؤتمرات وندوات ثقافية، وجميعها قبعت فرادى حبيسة الأدراج. أما خروجها معا في إطار متكامل ومتحاور الأطراف يشكل متن هذا الكتاب، فالفضل كل الفضل في ذلك يعود إلى المفكر المستنير رجب البنا، الذي يقود بثقة واقتدار دفة دار المعارف لتظل دائما هرما من أهرامات مصر الشامخة.
لقد تفضل سيادته بخبرته المكينة في الإنجاز الفكري وفي صناعة الكتاب على السواء، وأشار علي بفكرة هذا الكتاب، وبث في نفسي الحماس لإعداده وإنجازه، حتى خرج في صورة أعتز بها حقا، وتحملني مزيدا من الامتنان لسيادته.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير الثقافة العربية.
منيل الروضة في ديسمبر 1999.
د. يمنى طريف أمين الخولي
أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة
وعضو لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة
الباب الأول
منهاج
الفصل الأول
أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
(1) توطئة
إذ شهد شهر مايو (1995) مرور مائة عام على ميلاد أمين الخولي، يتبدى أمامنا قرن من تاريخ الحضارة العربية، لنذكر كيف كان الربع الثاني منه - في أعقاب ثورة 1919 المصرية - مرحلة توهج للثقافة العربية، وتوثب طامح للعقل فيها.
الوطأة الوبيلة للاستعمار، التخلف الضارب في الأعماق، البون الشاسع بيننا وبين العالم الصناعي المتقدم والمتسيد ... كان هذا قوة دفع هائلة لمفكرينا ومثقفينا في بحثهم الدءوب عن الخروج من هذا الوضع المأزوم واللحاق بركاب العصر، إثبات الذات فيه ونشدان الهوية، والمساهمة بنصيب في آفاق التقدم المتسارع.
انطلقت جهودهم في جملتها من الثبات البنيوي في حضارتنا - النص الديني والتراث - نحو استشراف روح العصر وقيم الحداثة التي تبلورت في تجربة الحضارة الأوروبية. كانت انطلاقة ساهمت في ترسيمها خطوط متفاوتة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أعمق جذور الأصالة إلى أبعد آفاق المعاصرة، خطوط سلفية وإصلاحية وتحديثية وعلمية وعلمانية توفيقية وليبرالية واشتراكية، تحاورت جميعها في أجواء متفتحة مواتية، نجدها الآن! أكثر مواءمة لقيم العقلانية النقدية، وأشد نزوعا لغاية «التجديد» التي يناط بها تحديث وجودنا الحضاري بتميزه، ومن ثم التنهيض المرجو والتنمية. (2) شيخ التجديد
في هذا المناخ الموار كان الدور الريادي الذي لعبه الشيخ أمين الخولي، بتمكنه الأستاذي من التراث ونصوصه - من أصوليات حضارتنا - لينذر جهوده لقضايا التجديد. فكان بحق شيخ الأصوليين في التجديد، وشيخ المجددين في الأصولية؛
1
إيمانا منه بالماضي كركيزة، والحاضر كحياة متوثبة، وبالحوار الدائم بينهما ليتفاعلا ويتلاقحا فيثمرا المستقبل المأمول.
رفع شعاره الشهير والسديد: أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة، «أما إذا مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضي وغفلة عنه، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم، فذلكم - وقيتم شره - تبديد لا تجديد.»
2
هكذا كان الخولي يبث «أصول» التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه: التجديد في اللغة ونحوها، في البلاغة وجمالياتها، في الأدب ونقده، في تفسير القرآن، وفي الفكر الديني ... وحتى حين تعرض لترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطا تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس (90-179ه / 708-795م)، حتى في هذا أعطى الخولي درسا تجديديا في أصول تحرير التراجم
3
و«ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم.»
4
لذلك قيل عن الخولي - بحق - أنه في كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان التقليد الذي يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح أفكاره، وسما في نظر طلابه، ودأب على سموه في كل يوم في النفوس والعقول معا.»
5
لقد تأتت إسهامات الخولي - جهوده الأصولية التجديدية في مجالات تجعلها بنية حضارتنا في موقع ثقافي محوري، فضلا عن ارتكازها على الثابت البنيوي فيها - النص الديني/القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد في هذه المجالات - عند الخولي - إلا طريق واحد هو النظر العلمي الذي لا يستقيم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر الخولي بأن هذا الفهم ليس سهلا لمن لا يتذوقون العربية،
6
ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.
وفي خضم الخطوط التجديدية العديدة، المتوازية والمتحاورة، التي خطها الخولي سوف نتوقف في بحثنا هذا عند الخط الذي يتماس مع أخطر ما في حضارتنا، والأعمق في عقولنا ونفوسنا وضمائرنا، ألا وهو خط وخطة الخولي في تجديد الفكر الديني، لنخلص إلى أنه ليس حقا وواجبا فحسب ، بل هو الآن طوق النجاة لنا من الضياع الحضاري والانسحاق الثقافي وتشويه الهوية. (3) الأستاذ الإمام يشق الطريق
إذن يستوقفنا من ميراث أمين الخولي مقولة تجديد الفكر الديني في تفاعلها مع مقتضيات الواقع العربي الحديث.
لا بد إذن من العود بها إلى أصولها، فلم يكن الخولي بتجديده للفكر الديني إلا سائرا في طريق سبق أن ترسمت معالمه وتشكلت تضاريسه في خريطة الفكر العربي الحديث، وبفعل جهود دءوبة لرواد أسبق، يتقدمهم بجدارة الشيخ محمد عبده (1849-1905) الأستاذ الإمام، إمام المجددين، وقائد جيش الهجوم على التقليد، والذي هوى بمعوله على معاقل المرض الخبيث «مرض الجمود على الموجود»،
7
وكان سلاحه الماضي في كفاحه التجديدي هو «تآخي الدين والعقل في الإسلام.»
8
فالإسلام دين العقل يعمل دائما على استثارته ويدعو إلى استعماله. يقول الأستاذ الإمام: «لو أردت سرد جميع الآيات التي تدعو إلى النظر في آيات الكون، لأتيت بأكثر من ثلث القرآن، بل من نصفه.»
9
والقرآن في هذا «يقصد تحريكا» للعبرة، وتذكيرا بالنعمة وحفزا للفكرة، لا تقريرا لقواعد الطبيعة، ولا إلزاما باعتقاد خاص في الخليفة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل.»
10
من هنا كان الأصل الأول من أصول الإسلام عند محمد عبده هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، والأصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض بينهما، وكان محمد عبده بهذا يعلن حقوق الفكر الحر، مؤكدا أنه واجب على الموجود العاقل.
والنتيجة الطبيعية المنطقية لهذا أن ينتقل محمد عبده إلى تأكيد ضرورة التجديد، ورفض الجمود والتقليد. فالدين عنده شعور فطري، لكن فطرية الشعور الديني لا تمنع الدين من أن يتطور بترقي الإنسانية، حتى بلغ كماله في الدين الإسلامي. وها هنا تظل الضرورة الحيوية هي «ضرورة تجديد بناء عقائدنا تجديدا موصولا كي تلائم تغيرات الموجودات»،
11
وهذا التجديد يجعل الدين مسايرا لحركة العلم المطردة التغير والتقدم، ويجعل العلاقة بين الدين وبين الحياة سائرة قدما، وتبرأ من اهتراء أصابها ردحا من الزمن.
كان محمد عبده يقول إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم يرد لها ذكر في كتب الفقه القديمة، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ إن هذا لا يستطاع، إنه جمود وموات يجعل العوام ينصرفون عن دينهم الذي لا يجاري وقائع حياتهم.
12
أجل! يجب أن نسير في وجودنا الحاضر مهتدين بتجارب السلف، لكن ليس من واجبنا أن نقبل جميع ما يؤثر عنهم من تقاليد دون فحص أو تمحيص، بل ينبغي أن نستعمل فيه تفكيرنا، فإذا وجدناها صحيحة - ومعنى هذا أنها موافقة للعقل - قبلناها، وإلا رفضناها «هذا البحث الحر، وهذه الحاسة الناقدة فيما يرى محمد عبده، هي ما يميز الحيوان الناطق عن سائر الحيوان»
13
الذي لا يعرف تغيرا ولا تقدما.
وهذا الموقف من تراث السلف هو ما تبلور عند أمين الخولي في قولته الشهيرة: هم رجال ونحن رجال، لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
وإذا كان أمين الخولي يؤثم المقلد الرافض للتجديد، فإن الأمر قد سبق أن بلغ بمحمد عبده حد اعتبار المقلد كافرا؛ لأنه مردد وليس مستيقنا من الأصول، وأسهب عبده في التعبير عن ضيقه من التقليد والجمود على القديم، وراح في تعداد مفاسد هذا الجمود ونتائجه - أو بتعبيره - جناياته على اللغة والنظام والاجتماع والشريعة وأهلها، وعلى العقيدة، وفي نظم التعليم. وبعد أن هوى بمعوله على معاقل الجمود جميعها في هذه المواقع وسواها، راح يستدل ويؤكد أنه علة تزول لأنه مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام،
14
فالإسلام كما يقول الأستاذ الإمام: «أنحى على التقليد وحمل عليه حملته، لم يردها عنه القدر، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس، واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك، ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم، وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها.»
15
لقد أكد الإسلام أن الإنسان لم يخلق ليقاد، بل ليهتدي، وصرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان.
16
هكذا، على أساس من إيقاظ الإسلام للعقل وإبطاله التقليد، انطلقت دعوة التجديد الديني من رحاب الأستاذ الإمام محمد عبده، وتحولت إلى قوة تثويرية نابضة بفعل صحبته الحميمة للمناضل الرائد السيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897).
إنها قوة شقت طريق التيار الإصلاحي، المنطلق من المقدمة التي رأيناها مع عبده، ومفادها أن الجمود على القديم هو العلة المباشرة لتخلفنا وخروجنا من مسار التاريخ، فضلا عن دورة التقدم. وكان هذا هو الطريق الذي سار فيه أمين الخولي إلى غايته، حتى إن التجديد عنده ليس إلا حماية المجتمع من العوامل المفسدة لأمره - عوامل الجمود والتخلف. (4) على خريطة الفكر العربي الحديث
وكما لاحظنا تجديد الفكر الديني يستدعي بالضرورة قضية الموقف من التراث، والتي هي في تقاطعها مع قضية الموقف من الغرب، هيكل الشغل الشاغل للفكر العربي الحديث، حتى يمكن القول إنها هي التي ترسم حدود خريطته. إنها مشكلة الأصالة والمعاصرة الشهيرة، أو بتعبير آخر هي مشكلة التراث والتجديد.
والتيار الإصلاحي الذي شقه محمد عبده - كما رأينا - قد تمثل هذه القضية - الموقف من التراث - تماما. أما أمين الخولي فإن تجديده الأصولي ذروة من ذرى هذا التمثيل، ونحن نتمسك بأن الموضع السليم لأمين الخولي في منظومة الفكر العربي، أو على خريطته، إنما هو في امتداد هذا التيار الإصلاحي.
والآن أصبح الفكر العربي الحديث حقلا خصيبا للدراسة، وميدانا فسيحا للبحث والتنظير. خرجت تنظيرات عديدة لموقع أمين الخولي فيه
17
ولعل أدعاها للنقاش رؤية د. طيب تيزيني؛ لأنه مفكر بارع وتنظيراته للفكر العربي الحديث ذات شأن، ليندهش المرء من إصراره على وضع أمين الخولي في إطار ما أسماه: النزعة التحييدية للتراث في فرعها الوثائقي، التي بزعم الدفاع عن حرمة العلم ترى الحقيقة التاريخية الكاملة مجسدة في الوثيقة بعيدا عن ممارسة التفسير والتقويم التاريخي والتراثي لها،
18
مما يعني نفي النظرة التاريخية والأيديولوجية للتراث؛ أي نفي النظر إليه في إطار عصره ومقتضيات واقعه الحضاري، ومن خلال المشكلات والآفاق المعاصرة للتقدم والتخلف، وبالتالي من خلال ضبط طرحنا للتراث بضوابط اللحظة المعاصرة في واقعنا، بكل ما تنطوي عليه من مضامين اجتماعية واقتصادية وقومية وأخلاقية
19 - أينفي الخولي كل هذا؟! رغم اعتراف تيزيني بأن الخولي يشير إلى أفكار مسيسة للتراث، أصر على أن أمين الخولي يرى من الخير تأجيل الانتفاع بالتراث إلى ما بعد اقتفاء أصوله جميعا. والخولي لهذا تحييدي وثائقي!
لقد اعتمد تيزيني على ندوة ببيروت تحت عنوان «التراث: كيف نعمل على إحيائه»،
20
اشترك فيها الخولي. يقول تيزيني: «تهيمن على المنتدبين فكرة توثيق التراث بشكل يدعو إلى الاعتقاد بأن هؤلاء يرون مهمة الباحث في التراث العربي تكمن في إحيائه عن طريق جمعه وتحقيقه وإخراجه للناس. وإذا كانت هناك إشارات متعلقة بالأبعاد القومية فهي سريعة وضحلة وتنظر إلى التراث باعتباره تركة، والسؤال: كيف نتملكها جيدا؟»
21
وعلى أساس هذه الندوة كان حكمه بأن الخولي يندرج في إطار النزعة التحييدية للتراث - الوثائقية. وهنا نجد خطأ تيزيني في أخذ الجزء على أنه الكل، والمرحلة على أنها الغاية. لا شك أن الخولي - كأستاذ وكأصولي - يهتم كثيرا بتوثيق وتحقيق التراث وإخراجه، ولكن ليس كموقف نهائي وإطار منظومي له، بل فقط كخطوة ضرورية من أجل التجديد والتثوير وسد مقتضيات العصر، وما لا يبعد كثيرا عن هدف تيزيني نفسه.
فكيف يزعم أن الخولي - وهو المجدد الأعظم - ينفي النظرة التاريخية للتراث (وينفي معها
الفصل الثالث
من هذا الكتاب)، ومجرد مصطلح الجدة لا يتأتى إلا في سياقها. فالجدة تعني التمايز عن القديم واختلاف الحاضر عن الماضي. وماذا تكون النظرة التاريخية سوى الإدراك الواعي لهذا التمايز والاختلاف، كشرط ضروري للتجديد.
كلا، ليس التوثيق الأكاديمي للتراث هو البطاقة النهائية للخولي - كما رأى طيب تيزيني - فهذا التوثيق في إطار قتل القديم بحثا وفهما ودراسة، فقط كمعبر إلى التجديد الأصولي والتنهيض على الإجمال من أجل الخدمة المخلصة الجادة والعميقة لذلك التيار الإصلاحي الذي عبده عبده، والذي في سويدائه موقع أمين الخولي على خريطة الفكر العربي المعاصر. (5) مزيد من التواصل
خطوط التواصل بين محمد عبده وأمين الخولي أكثر مما يمكن نفيه، أو حتى اللجاج فيه، وإن كانت جميعها تصب في التيار الإصلاحي ومنحاه التجديدي.
أولا، كلاهما انشغل بقضية إصلاح الأزهر ورسالته في القرن العشرين. ومن الأعمال المتميزة لأمين الخولي بحثه «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، إذ كانت وزارة علي ماهر قد أعلنت عام 1936 عن مسابقة في عدة مواضيع، منها هذا الموضوع. وكان أمين الخولي قد انتهى من بحثه هذا قبل الإعلان عن المسابقة، ولأنه اختير عضوا في لجنة التحكيم فلم يتقدم ببحثه، وأهداه إلى الأزهر بعد صدور الحكم.
نشر الأزهر طبعة أولى لهذا البحث، ونفذت فورا، وتوالت طبعاته فيما بعد، والجدير بالذكر أن الخولي بدأه بالدهشة والتهكم من أن تشغلنا رسالة الأزهر في القرن العشرين الميلادي وليس في القرن الرابع عشر الهجري.
المهم أن نلاحظ كيف أن كلا من الأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ المجدد أمين الخولي قد انشغل بقضية إصلاح الأزهر الشريف ورسالته في القرن العشرين، كلاهما أبلى فيها، وأيضا كلاهما دخل في صدام عات مع شيوخه المتعنتين الذين دأبوا فيما مضى على معارضة أي إصلاح؛ فرفضوا دعوى الخولي الحارة في الربط بين الدين والحياة. وفي النهاية أخفق كلاهما ولم يحقق أهدافه، فعلق آماله في إصلاح التعليم على الجامعة المصرية.
ولكن محمد عبده كانت الجامعة بالنسبة له أملا وحلما - حلما انهار - فقد استطاع إقناع صديقه المنشاوي باشا «فأبدى استعداده لإقامة الجامعة على نفقته بأراضيه بقرية بسوس قرب القناطر الخيرية، لكن وفاة المنشاوي باشا عصفت بالفكرة، ثم لحق به محمد عبده»
22
ولم يريا ميلاد الجامعة عام 1908. أما بالنسبة للخولي، كانت الجامعة واقعا ماثلا، بل هي واقعه الأول، حلبة كفاحه وساحة نضاله الذي أتى بكثير من الثمار المرجوة. وكان يؤكد دائما أن تدريسه في كلية الآداب بالجامعة المصرية - جامعة القاهرة الآن - هو مهمته الكبرى، وأن صناعته لعقول الطلاب إنجازه الأعظم، وانتشر تلاميذ له في مواقع شتى من حياتنا الأكاديمية والثقافية، فزادوها ثراء بما تعلموه واكتسبوه من روح الأستاذ المعلم أمين الخولي «شيخ الأمناء»، الجماعة التي ضمت هؤلاء التلاميذ بريادته.
لم يدرس الخولي في الأزهر - بل في مدرسة القضاء الشرعي - لكن درس فيه. نذكر من هذا أول ما يدرس من الفلسفة رسميا في العهد الجديد للأزهر، إنه محاضراته غير المنشورة «كناش في الفلسفة وتاريخها» سنة 1934، فأهداها «إلى روح الأستاذ الإمام».
23
للخولي ثلاث مجموعات من المحاضرات في الفلسفة غير منشورة، فثمة «كناش» و«كتاب الخير» و«تاريخ الملل والنحل» تبدو لنا ذات أهمية ريادية لعهدها المبكر. ولا نعلم لماذا لم ينشرها؟ بصفة عامة لم يكن نشر الكتب يغري الخولي كثيرا. همه الأكبر - كما ذكرنا - في صناعة التلاميذ، وكان يسميهم «أبناءه من العقل» في مقابل «أبنائه من الصلب» وهم بنوه الطبيعيون.
من ناحية أخرى، نلاحظ - مثلا - أن محمد عبده قد أشار إلى «اقتباس الإصلاح الديني في أوروبة من الإسلام»
24
فتطورت هذه الفكرة عند الخولي إلى بحثه «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» والذي ألقاه في مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس، المنعقد بمدينة بروكسل من 16-20 سبتمبر 1935.
25
كما رفض محمد عبده البلاغة التي أفسدتها الفلسفة، ورام إصلاحا فيها يسير بها نحو النمط الذي يربي الذوق ويرقي الوجدان.
26
ويمكن القول إن هذا هو الأساس الأولي الذي تنامى وتصاعد باسقا في شكل دروس الخولي في البلاغة، أو فن القول بتعبيره، ويراها اللغويون أثمن ما خلفه الخولي.
ونعود إلى موضوعنا الأساسي: تجديد الفكر الديني؛ لنجد مدرسة الأفغاني/عبده في ريادتها للتيار الإصلاحي، قد شقت تيارا عميقا وممتدا في الفكر العربي الحديث والمعاصر، يرتاد الخطوط الباحثة عن عقلنة الإسلام وتحديثه. ولكن - كما أشار المنظر البارع للفكر العربي حسين مروة: «على الرغم من أهمية مدرسة الأفغاني/عبده في تصديح جدار التصديق المطلق للتراث، فإنها لم تضع منهجا يغير من المناهج التقليدية الشائعة تغييرا عميقا. وذلك لارتباطها بالأسس الأيدلوجية نفسها التي قامت عليها تلك المناهج التقليدية. ثم نضجت هذه المدرسة بفعل التحولات المتصاعدة لحركة التحرر الوطني وتطور مستوى المعارف والمناهج لدى الباحثين العرب.»
27
ولا شك أن أمين الخولي من الذين قاموا بدور كبير في ذلك التطوير للمناهج ومستوى المعارف، والذي نجم عنه صور ذات ثراء وفعالية لم تطف بخلد المؤسسين الأفغاني وعبده، وتعمر الآن ميدان الفكر العربي المعاصر. (6) التجديد حياة وتطورا وارتقاء
وكانت جهود الخولي في منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطا بدا لنا مفتاحا يفض مغاليق، مما يلقي ضوءا كثيفا على أهمية ميراث الخولي.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضاري الحي كان مهيمنا على فكر الخولي، حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعا في كتاباته وأحاديثه؛
28
لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الديني معه مقولة «التطور» ذاتها؛ ليكون طبيعيا متأصلا سائرا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاء.
والواقع أن بحثنا هذا في تجديد الفكر الديني عند الخولي، قد انطلق أصلا من تلكم النقطة شديدة الأهمية والتميز في ميراثه، ألا وهي تشغيله الحذر البارع لمقولة التطور والانتخاب الطبيعي ... النشوء والارتقاء والبقاء للأصلح.
نظرية التطور - كما هو معروف - مجرد نظرية بيولوجية؛ أي محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي - حتى بلوغها الشكل الراهن. وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوي ثغرات ومواطن قصور جمة،
29
كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز كارل بوبر
K. Popper (1902-1994)، فإنها - بتعبير بوبر نفسه - برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز،
30
وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلا عن خصوبتها في مجالات أخرى عديدة، تتجاوز كثيرا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولي لا سواه.
بادئ ذي بدء نرى أمين الخولي في صدر شبابه يوفد إماما للمفوضية المصرية في روما ثم في برلين. وفور عودته من ألمانيا عام 1927 انتدب للتدريس في الأزهر، فيلقي على طلاب كلية أصول الدين محاضرات في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها الفلسفة الأدبية.
31
وما أن يأتي للعصر الحديث حتى يحلو له أن يقدم فلسفته الخلقية بأسرها من مدخل، أو في إطار شامل هو نظرية التطور وفلسفة النشوء والارتقاء. وهل يمكن اختزال الفلسفة الحديثة للأخلاق بسائر اتجاهاتها وفروعها فقط في التيار التطوري؟ ما لم ينطو هذا على وجهة نظر حادة للمحاضر نحو تحبيذ وتأييد هذا التيار. وبلغ حيود الخولي في هذا الاتجاه حدا غير مقبول، حين يحشر توماس هل جرين
Th. H. Green (+ 1882) في زمرة فلاسفة الأخلاق التطوريين! في حين أن جرين من تيار مقابل تماما للتيار العلمي التطوري، ألا وهو «المثالية المحدثة»، ليمثل جرين انتقاله من ألمانيا إلى العالم الأنجلو سكسوني في إنجلترا،
32
ويبرر الخولي هذا بتأويل متعسف يصعب قبوله وهو أن فلاسفة التطور - المتفق عليهم - يبحثون في نشوء المثل الخلقية وارتقائها - كما هو معروف - عبر الماضي، أما «توماس هل جرين» فيبحث عن هذا من زاوية الغاية، أو المستقبل!
33
على أية حال يقدم الخولي لطلابه عرضا جيدا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون
Ch. Darwin (+ 1822)، مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك
J. Lamarck (+ 1829)، و ألفرد والاس
A. Wallace (+ 1913). وببيانه المحكم البديع، يوضح الخولي كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء - وعلى رأسها الإنسان - لم تظهر هكذا منذ خلقت، بل هي دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقي بعمل ناموس الانتخاب الطبيعي - بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولي من رد النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها.
ويبين الخولي أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، خصوصا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»،
34
ومع ابن سينا (+ 428ه)، وابن طفيل (+ 518ه)، والقزويني (+ 682ه)، وابن خلدون (+ 818ه).
وهنا يتوقف الخولي لتبيان أن نظرية التطور الحديثة في صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسا في الفيزياء والكيمياء والأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمي ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في أوروبا وأمريكا، فهذا - كما يؤكد الخولي - لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص في التوراة.
يصر أمين الخولي إصرارا على أن النزاع مع التطورية من فعل الإسرائيليات لا سواها. وقبل أن نتوغل أكثر عبر أبعاد وآفاق التطور في التجديد عند أمين الخولي، لا بد وأن نتوقف هنيهة بإزاء هذا النزاع الشهير بين نظرية التطور وبين فريق من رجال الدين. والحق أنه ليس هينا أن يدافع شيخ أصولي - كأمين الخولي - عن التطورية الداروينية، بعد كل ما كان من تفاصيل هذا النزاع. وقد يرد إلى الأذهان هجوم السلفيين المعهود فقط، أو أن هذا قصرا على ثقافتنا، وليس هذا صحيحا. فقد أشار الخولي إلى أن التطور لا يزال يلقى مقاومة عنيفة من بعض التيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أقوى معاقل الروح العلمية، واستمرت بعد زمان الخولي.
وكاتبة هذه السطور حين دخلت متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك عام 1996 تلمست بوضوح الجهد المنهجي المبسط الجميل في إقناع جمهرة الزائرين بنظرية التطور عن طريق كل الوسائل العينية والبطاقات التفسيرية. أما في متحف التاريخ الطبيعي في شيكاغو، فقد رأت قاعة مخصصة للنزاع الذي لا يزال دائرا بين الكنيسة وبين نظرية التطور. وثمة إقرار لأستاذ في جامعة نبراسكا بأنه في كل محاضرة ثمة طالب واحد على الأقل يناقشه في أن نظرية التطور تعارض الدين، وهي لهذا مرفوضة. ولا يفوت معرض شيكاغو إبراز أن العلاقة بين العلم والدين ليست موضوعا لمواعظ يوم الأحد (راجع
الفصل الرابع
من هذا الكتاب) ولا هي موضوع للمعالجات الصحفية السريعة.
فهل هذا الذي لوحظ في شيكاغو يعني أن النزاع مع التطور ليس كما يؤكد الخولي من فعل الإسرائيليات، استنادا إلى آيات في التوراة، وأنه لا بد أن يمتد أيضا إلى العقيدة المسيحية من حيث هي كذلك؟ لا سيما وأن هذا هو ما يومئ به النزاع الضاري بين دارون والتطورية وبين فريق من رجال الدين المسيحي.
إنها ملحمة مشهودة ومشهورة، ولن يجدي الخوض في تفاصيلها العقيمة. ومن أجل فصل القول ربما كان مثمرا أكثر أن نحتكم إلى شخصية لها ثقلها في الجانبين الديني والعلمي، وقد يبدو العثور على مثل هذه الشخصية مستحيلا أو عسيرا؛ لكن يتقدم جون بولكين هورن
J. Polkinghorne (1930) وهو شخصية فريدة حقا. فقد تبوأ منزلة عالية كعالم في فيزياء الجسيمات الأولية. وكان أستاذا للفيزياء الرياضية في جامعة كمبردج العريقة فيما بين عامي 1968 و1979. وفي عام 1974 اختير عضوا في الجمعية الملكية للعلوم التي تضم جهابذة علماء الفيزياء، لكنه ترسم عام 1982 قسيسا في الكنيسة الإنجيلية «البروتستانتية»، فأصبحت أعماله تدور حول استكشاف المقولات الكبرى في هذين القطبين - ويكاد يجري العرف على أنهما متنافران أو على الأقل متباينان - أي العلم الفيزيائي أولا، ثم الرؤى الدينية المستنيرة ثانيا. وأهم أعماله «لعبة الجسيم الذري 1979» و«عالم الكوانتم 1984» و«العلم والعقيدة المسيحية 1994».
ويبدو كتابه «ما وراء العلم: السياق الإنساني الأرحب 1996» أروع أعماله، ومن أجمل إصدارات العقد الأخير من القرن العشرين في هذا المجال. في كتابه «ما وراء العلم» يوضح بولكين هورن - العالم القس - كيف أن العاصفة القوية التي هبت من كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز دارون، جاءت من فكرة التطور القائلة إن التغيرات الصغيرة البطيئة المتراكمة خلال عملية الانتخاب الطبيعي طويلة المدى هي السبيل الذي يصل به الكائن الحي إلى الشكل الضروري للبقاء في بيئته، بغير حاجة إلى القوة الربانية العليا، إلى حكمة الله وقدرته؛ لكي تفسر ما أحرزته الكائنات الحية من استعدادات وقدرات، فالمسألة كلها تجري على ظهر الأرض في إطار المحاولة والخطأ والتغير والانتخاب.
بالقطع - كما يؤكد بولكين هورن - لم يعد ممكنا التفكير في التنوع الرائع للحياة بوصفه خلقا فجائيا، أو تنفيذا نهائيا لتصميم إلهي مسبق، ومع هذا لا توجد إطلاقا حجة تنكر أي غرض أو قصد إلهي من هذا التطور الحيوي الذي تتوالى مراحله عبر مسار التاريخ، هذا على الرغم من أن كثيرين من علماء الحياة يميلون إلى هذا الإنكار، ويؤكدون بلا أسانيد كافية أن العملية التي اكتشفها دارون عمياء تتم بلا وعي أو قصد أو رؤية للمستقبل، قائلين إنه إذا كان ثمة صانع للساعة الحيوية، فهو صانع أعمى بلا هدف.
بيد أن المسألة أعمق من هذا وذاك، كما يوضح بولكين هورن. فأولا بعض من رجال الدين رحبوا بالنظرية التطورية، ورأوها متفقة مع الفهم الصحيح للدين، وأكثر من نظرية الخلق المكتمل المناقضة لها. وفي واقعة أغفلها التاريخ بشأن تقويم كشف دارون، وردود أفعال رجال الدين إزاءها، نجد رجل دين إنجيليا بروتستانتيا هو تشارلز كنجزلي
Ch. Kingsley
يرحب بأفكار التطور تأييدا وتحبيذا للبروتستانتية ذاتها بوصفها تقدمية، في مقابل الإظلامية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية خصوصا في العصور الوسطى. وكما يقول كنجزلي، تصور العلماء أن التطور الحيوي يعني التخلص نهائيا من الألوهية ومن تدخلها في الطبيعة، وأن المسألة أصبحت اختيارا حاسما بين بديلين، الأول هو مجال مطلق للمصادفة والأحداث العمياء، والثاني هو الرب الحي القدير الذي يمارس عمله المحايث في الكون. بيد أن الله - كما يؤكد كنجزلي ومعه جمهرة من رجال الدين المستنيرين - الله لم يخلق عالما جاهزا مكتملا، لقد خلق شيئا أكثر حذقا وبراعة، وأكثر إثباتا لذاته تعالى، عالما خاضعا دائما للتطور. وعلى نفس هذا المنوال سار رجل دين آخر معاصر لتشارلز كنجزلي هو أبري مور
A. Moore
الذي أوضح أن الخلق الفجائي قد حل محله مفهوم الخلق المستمر. ولا تزال هذه الفكرة تلعب دورا هاما في التأملات الدينية حول الكون التطوري، وتجد تعبيرات شتى خصوصا في كتابات تيار دو شاردان
(1881-1955) وأيضا آرثر بيكوك
A. Peacocke
في كتابه «الخلق وعالم العلم 1979».
35
وفي طريق مشابه إلى حد كبير يسير أمين الخولي، كما سوف نرى في الصفحات المقبلة.
هكذا نجد رجال الدين المستنيرين وجدوا في التطور خلقا مستمرا أكثر إثباتا للذات الإلهية. وفكرة الخلق المستمر ترددت بين جمع من كبار فلاسفة الإسلام في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، خصوصا ابن رشد. لكن الذي يهمنا رجال الدين المستنيرين في الغرب المسيحي الذي دخل في صراع مع دارون، بل وفي إنجلترا ذاتها التي كانت حلبة ذلك الصراع من حيث كانت موطن دارون. رجال الدين المستنيرون في إنجلترا رحبوا بالتطورية، وعملوا على تشغيلها في صلب رؤاهم الدينية. إذن لم يأت أمين الخولي فعلا إذن حين رحب بالتطورية وحاول أن يجعلها بعدا، بل محورا من محاور دعواه التجديدية.
وبالعود إلى محاضرات أمين الخولي، نجده بعد أن عرض الأصول التاريخية لنظرية التطور وفحواها مع دارون - مدافعا عن هذا وذاك - ينتقل الخولي إلى فلسفة النشوء والتطور العامة، وهي تطبيق هذا الناموس الحيوي على المظاهر الأخرى للوجود الإنساني، فحتى المعنويات العقلية كلها تتطور من أصل بسيط وتتنافس والبقاء للأصلح. هكذا تكون التطورية في الفلسفة الخلقية، فيقدم الخولي عرضا بارعا لمذاهبها، أولا بتوسع مع الرائد هربرت سبنسر
H. Spencer (+ 1903). وثمة مراسلات بينه وبين محمد عبده، ثم مع ليسلي ستيفن
L. Stephen (+ 1904)، وصمويل ألكسندر
S. Alexander (+ 1938) حتى يصل إلى حيوده غير المقبول مع توماس هل جرين.
وكان كل هذا في محاضرات الخولي موضوعا للعرض والنقد والتقويم، حتى احتل التطور ما يقرب من نصف محاضراته في تاريخ الأخلاق.
وفي هذا السياق عني الخولي بتأكيد أن ناموس التطور الحيوي لا يقل ثبوتا في المعنويات لذلك عم تطبيقه وسيطر على نظام البحث في سائر المجالات. و«صار كل باحث يتصدى لدرس شيء من ذلك إنما يتقدم إليه مسلما بعمل ناموس النشوء فيه، فيما مضى وفيما هو آت، ولم يعد الباحثون يقبلون القول بظهور كائن كامل الوجود دفعة واحدة، فكرة كان أو لغة أو فنا أو حضارة.»
36
إذن يعمل هذا الناموس في عالم الأفكار ذاتها، يقول الخولي: «إن ظهور الفكرة الجيدة يشبه في تطور الحي ظهور صفات جديدة في نوع من الأحياء تخالف الصفات القديمة، وقوة يقين أصحاب الفكرة الجديدة بصحتها وصلاحيتها تقابل درجة قوة الصفات الجديدة في الحي على البقاء، وأن صلاح البيئة الاجتماعية لحياة الفكرة الجديدة ومعاكستها لحياة الفكرة القديمة، تقابل حال البيئة الطبيعية بالنسبة لصفات الكائن الحي الجديدة، وأن قوة اقتناع أصحاب الفكرة الجديدة بها وترسيخهم لها في أذهان الناس تشبه قوة الحي على إفناء منافسه وإبادته، واقتناع الناس رويدا بالفكرة الجديدة وانسلاخهم من الفكرة القديمة يشبه موت الأفراد الضعاف في التناحر المادي، وأن تأصل الفكرة وثباتها في نفوس مقتنعيها يشبه تأصل صفات الحي الجديدة في نسله ورسوخها في البيئة.»
37
ويضرب الخولي مثلا لهذا بفكرة تحرم تدريس العلوم الرياضية والطبيعية الحديثة في الأزهر تبناها كبار الشيوخ من ذوي السلطان، وفكرة تدعو إلى تدريسها تبنتها قلة نابهة غير ذات سلطان يتقدمهم الأستاذ الإمام. بدا أن الكفة الأولى هي الراجحة، لكن ناموس البقاء للأصلح حكم في النهاية لصالح الكفة الثانية، بكل هذا التشابه للانتخاب الطبيعي في الأحياء، وفي المعنويات نجد «حياة الأديان والإصلاح كلها، وكفاح الرسل عليهم الصلاة والسلام والقادة المصلحين على سنن طبيعية ثابتة
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك
38 (سورة الإسراء، آية: 76-77).»
هكذا كان مدخل الخولي إلى تجديد الفكر الديني على أسس حيوية نازعة إلى التطور والارتقاء مؤكدا أن «في الدين فكرة صريحة عن التجديد تبين ناموسا كونيا، وتنسبه إلى سنن اجتماعية مطردة لا تتبدل»
39
هي سنة التطور. (7) طريق التجديد التطوري
في مرحلة لاحقة على هذه المحاضرات يعترف الخولي بأن النفس منه قد ملكها شعور الحياة بالحاجة الماسة الملحة إلى «تجديد تطوري» يفهم به الإسلام الذي يقرر لنفسه الخلود والبقاء، فهما حيا يتخلص من كل ما يعرض هذا البقاء للخطر ويعوق الخلود.
لذلك أهدى الخولي كتابه الرائد «المجددون في الإسلام» الذي يحمل رسالة التطور والتجديد في الفكر الديني إلى: الذين يدينون بعالمية الإسلام وخلوده، فالكتاب - كما ينص الإهداء - بحث في وسائل هذه العالمية وذلك الخلود. وبناء على ما سبق نتفهم بسهولة أن هذه الوسائل ترابض في فكرة «التطور» التي يقول عنها الخولي في هذا السياق: «تلك الفكرة بمجملها وعامة معناها لا تلزم العقيدة الإسلامية بشيء خاص، ولا تكلفها قليلا أو كثيرا من شطط، إذ لا تمس فيها كليات ولا جزئيات، تزيد عليها أو تنقص منها، في الوقت الذي يكون فيه تقرير فكرة التجديد المدانية لمعنى التطور إنما هو قبول لأصل حيوي، لا يهون إنكاره، ولا من الخير المماراة فيه، إذ إنه واقع لا يجمد ومشاهد لا يطمس، ذلك هو مبدأ التطور في الحياة»،
40
والذي هو - كما لا بد وأن تعرفوا - الأصل التجريبي لفهم سير الحياة على اختلافها.
41
هكذا انطلق أمين الخولي مؤكدا أن التجديد تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد الحق. والتجديد بهذا انطلاق مع الحياة ووفاء بجديد حاجتها، وما كان أصل الاجتهاد في الدين إلا تقديرا للحاجة الماسة والضرورة القاضية بحدوث تغيير يوجبه التطور. وكشف عن حاجة النصوص إلى توسيع يمدها بحيوية، تجعلها أصلح للبقاء الذي نودي به لها، بهذا نجد التجديد لا يكون مع منطق الحياة والواقع إلا تطورا.
42
الدين في حاجة دائمة للتجديد والتطور بفعل المتغيرات العاتية والأمواج العالية، والعوامل القومية التي تصطخب حوله؛ لهذا كان الاجتهاد والتجديد أصلا ثابتا في العقيدة. (8) براعة النزال في ساحة التطور
ها هنا يتبدى بجلاء تفتح واستنارة الشيخ الخولي، وقدرته على سحب البساط من تحت أقدام الخصوم. فقد كان التطور مقولة رفعت لواءها المدرسة العلمية العلمانية المناوئة لكل الخطوط السلفية والأصولية والدينية؛ إن لم نقل ولعناصر الأصالة ذاتها، مدرسة سلامة موسى (1887-1958) وشبلي شميل وإسماعيل مظهر. وبينما تكرس سلفيون لشن حرب شعواء على «نظرية التطور»، بل ويقف في مقدمة المهاجمين جمال الدين الأفغاني نفسه، ها هو ذا أمين الخولي يستفيد منها ويسخرها لخدمة الفكر الديني وضرورة التجديد فيه.
هذا بغير أن يتوانى عن واجبه في كبح جماح أولئك العلمانيين التطوريين وكف غلوائهم حين يجورون على الحق والحقيقة.
فقد أخرج إسماعيل مظهر عام 1924 كتابه «ملقي السبيل» حيث حاول أن يؤلف بين الدين ونظرية التطور، وينفي عنها مفهوم الدهرية
43
أو الإلحاد. لكن الخولي يتصدى بضراوة للرد على مظهر حين صب وابل اتهامه على الشخصية المصرية وتحقيره للعقلية العربية وتسفيه ميراثها العلمي في مقال نشره مظهر في عدد فبراير 1926 من مجلة المقتطف - كان الخولي آنذاك في برلين إماما للبعثة الدبلوماسية المصرية في ألمانيا، كما ذكرنا - مع هذا أرسل على الفور إلى «المقتطف» مقالا يرد فيه سهام مظهر إلى صدره، ويدحض اتهاماته للعقلية العربية بأسانيد تاريخية وبراهين معرفية، خاتما مقاله بقوله: «آمل أن يتقبل الكاتب الفاضل ما قدمت بروح الحب للحقيقة وطلبها حيث كانت.»
44
في هذا الإطار وبذلك التشغيل الحذر الفعال لمقولة التطور، كان الخولي يسير على الحبل المشدود، ويقدم واحدة من أخصب مواطن العطاء في إسهاماته، وأكثرها تميزا حتى يمكن اعتبارها علامة فارقة له عن موقف جمهرة الشيوخ.
فقد كاد التطور أن يكون لافتة مميزة، قصرا على تلك المدرسة العلمية العلمانية التي أرادت أن تحتكر لها كل الخطوط، حتى إن أقطابها يلقبون القرن التاسع عشر - على كثرة إنجازاته - «بعصر ظهور نظرية التطور، التي أخذت منذ منتصفه تملك على العقول مسالك التفكير، وتصبغ النظريات والأحلام والترسيمات العمرانية بصبغتها.»
45
والحق أن هذه النظرية حين تطبيقها عمرانيا أو اجتماعيا نجدها تملك قوة جذب وقوة دفع في خدمة كل تواق للتقدم، راغب حقا في الإصلاح، لكنهما قوتان تتبوءران في قول الخولي: «ناموس التناحر على البقاء يعني الجهاد والنضال في سبيل الحياة، والفوز للفرد الممتاز على غيره.»
46
قوة الجذب في أنها تجعل طريقه مفعما بالأمل الحي الماثل في أن ينصلح حال الإنسان، بحيث يرتقي إلى منزلة أعلى ومباينة جدا، أسماها نيتشه منزلة السوبرمان، أو الإنسان الفائق، تماما مثلما ارتقى في الماضي عن حيوانات أدنى، أو أشكال بدائية للحياة. أما قوة الدفع، ففيما تحمله هذه النظرية من حث للإنسان على النضال والكفاح من أجل الترقي والصعود، بل ومن أجل مجرد البقاء. خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن نظرية دارون في تفسيرها لحدوث التغيرات العضوية وظهور وانقراض أنواع من الحياة، لا تجعل دور الكائن الحي سلبيا كمجرد متلق لمؤثرات البيئة مثلما تذهب نظرية لامارك في التطور، بل تؤكد الداروينية على سلسلة لا تنتهي من حلقات الكفاح من أجل الحياة والبقاء، تتنافس جميع الكائنات الحية في الحصول على الغذاء والماء والمأوى، الأقوى والأسرع والأصلب هو الذي يظفر، أما الضعيف فيهلك. الأنواع القوية القادرة على الفتك بمنافسيها، القادرة على التكيف مع البيئة تبقى وتحكم بالفناء على الأنواع الضعيفة، الأقل تكيفا مع البيئة.
47
على هذا النحو يتم الانتخاب الطبيعي بحيث يكون للكائن الحي ولإمكانياته الدور الأعظم في قصة التطور، والبقاء دائما للأصلح. إن التطور والارتقاء والتقدم واقع متحقق وإمكانية مفتوحة دوما لمن يملك العزم على خوض غمار الحياة.
هكذا تمثل نظرية التطور استقطابا لتينك القوتين: الجذب والدفع، لتخاطب بسهولة تشوفات الراغبين في الإصلاح، وتمثل في هذا الصدد أداة فعالة - أو كما أشار بوبر برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز - فتستطيع المدرسة العلمية العلمانية أن تفرض ذاتها على الواقع الثقافي وهي حاملة لواءها.
ولعل الخط الفاصل الذي جعل الشيوخ - بل وجمهرة المعنيين بالسلف - ترفضها بشدة وتحاربها بشراسة يائسة، تتمثل في أن النظرية قد تستغني عن فعل الخلق المستقل وتنقض الأيام الستة التي تم فيها. فقصة الحياة تشكلت عبر ملايين من السنوات، وليس يصعب استئصال تلك الزوائد الضارة، فعن أي يوم يتحدثون؟! يوم مقداره ألف عام مما تعدون. أم أكثر أم أقل؟ فضلا عن أن «أسلوب عمل الانتخاب الطبيعي يمكن من حيث المبدأ أن يظهر بمظهر أفعال الخالق وأغراضه.»
48
وكما أشار الخولي؛ قرر لامارك أن الله هو الذي خلق الأصل وجعل فيه هذه القابلية للتطور. وقال دارون إن وجودها يستبعد المصادفة العمياء ويستلزم قوة عجيبة مدبرة، وأكد توماس هكسلي
T. Huxley (+ 1895) استحالة نقض الألوهية بمقتضى هذا المذهب.
49
بصفة عامة، لم يأل الخولي جهدا في استئصال تلك الزوائد الضارة.
ثم يقول: «القرآن يقرر في إجمال تام خلق الناس من تراب، أو طين، وخلقهم أطوارا دون أن يذكر في ذلك تفصيلا، فإن كنا ولا بد ملتمسين التفصيل فخير لنا وأعقل أن نلتمسه من سنن علمية تثبت إطرادها وسريانها فيما مضى وفيما هو أت، فتفصيلها لإجمال القرآن أكرم وأهدى من التصور السطحي الساذج الذي يجعل الخلق جبلا للتراب بالماء وتسوية جسم كعرائس الأطفال، تدخله الروح من رجليه، وما إلى ذلك من تفاهة تضيع ما في هذا الكون من روعة وعظمة.»
50
أما عن الخلق المستقل لكل نوع من الأحياء في ستة أيام وراحة الخالق في اليوم السابع، فتفاصيل مذكورة فقط في سفر التكوين من التوراة، ولم يرد لها ذكر في القرآن. لذا يخلص الخولي إلى أن النزاع المفتعل بين الإسلام ونظرية التطور لا يأتي إلا من دجل الإسرائيليات المدخولة.
هكذا ينصرف الخولي عن الخوض في مسائل خلافية لا تجدي فتيلا، ليستقطر - ببراعة - إمكانيات نظرية التطور التي تجعل من غير الممكن ولا المجدي إغفالها في أية ثقافة معاصرة، فضلا عن أن تكون تحديثية تجديدية. (9) التطور في اللغة أيضا ... وقبلا
وما دام التطور متجذرا في فكر الخولي وتجديده، كان من الطبيعي أن يتوغل في تناوله التجديدي لقضايا اللغة العربية ونحوها وبلاغتها،
51
والتي لا تنفصل طبعا عن تجديد الفكر الإسلامي. وهما دائما قطبان متعامدان، اللغة وسيلة إثبات وجودنا، والدين وسيلة تقويم هذا الوجود واتخاذ هدف له. كما أن تجديد الفقه مقدمة لتجديد النحو؛ لأن أصول النحو قائمة على الفقه عند القدماء.
52
أما البلاغة فهي فن القول وجماله، وعلم التفريق بين الجيد والرديء منه، ودراسة البلاغة لإعجاز القرآن دراسة للون خاص معياري من القول الجيد.
على أية حال، كان الدرس اللغوي هم الخولي الأساسي، والحلبة الأولى لنضاله من أجل الاجتهاد والتجديد وتأثيم التقليد، مستندا على أصل عريق هو إجماع النحاة القدامى على ذم التقليد. وحتى في عصور الانحطاط أغلق الفقهاء باب الاجتهاد، ولم يفعل النحاة مثلهم
53
ورأوا الاجتهاد قائما في كل آن ومكان، وإلا عجزنا عن ضبط وتفهم ما نقوله.
وفي هذا نجد سنة النشوء والارتقاء قائمة في اللغات أيضا، والتفسير التطوري للغة مفتاح من مفاتيحها، فالبيئة الطبيعية المادية التي تعيش فيها اللغة، والظروف النفسية والعقلية لمتكلميها، وأنماط الحياة التي يحيونها وتوارثها بين الأجيال ... كل هذا وغيره من عوامل يصعب حصرها، يؤثر في تطور اللغة، بل ويمكن القول إن ثمة صراعا بين اللغات نفسها، كما بين الأفراد والجماعات.
54
لكن هل البقاء هنا أيضا للأصلح؟ لم يبين الخولي، فقد عني فقط بإبراز أهمية فكرة التطور في اللغة من حيث هي لغة، حتى جاهر بأمله في أن ينتفع من درسه هذا المعنيون بالدراسات اللغوية غير العربية.
لا بد من التسليم بأن التطور سنة طبيعية خضعت لها العربية في كل شيء، أصواتها وحروفها وكلمها وجملها وأسلوبها وبيانها ... فلم تظهر العربية - كما يقول الخولي - خلقا سويا مستقلا، بل تغيرت وتحولت، إن لم نقل - عن رأيهم - تطورت - بمعنى التطور عندنا اليوم. ولم يكن هذا التغير في زمن قصير، بل في زمن هو تاريخ ترقي البشرية وتكملها إلى أن تهيأت للرسالة الختامية الموحدة للإنسانية؛ أي من آدم إلى بعث محمد عليه السلام، وهذا التغيير غير طليق ولا متحرر، بل مقيد في كل حال.
55
الخولي في هذا ينفي سائر التفسيرات الغيبية اللاهوتية اللاعقلانية، التي تزعم أن العربية - دونا عن سائر لغات العالمين - هبطت فجأة من السماء بالغة الكمال، لتظل هكذا إلى قيام الساعة، وأيضا إلى ما بعدها. فأكد الخولي أن اللغة العربية خضعت لسائر ما خضعت له اللغات البشرية، نافيا أي أصل إلهي لها. وفي هذا يستند إلى الآية الكريمة:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم آية 4). فليست العربية فقط، بل ثمة لغات أخرى نزل بها كلام الله ووحيه. وجد الخولي في رفض ودحض كل الدعاوى الانفعالية العاطفية التي تزعم «فضل العربية ... وكمال العربية ... وانتهاء العربية إلى ما لا شيء بعده!»
56
أمثال هذه الدعاوى الهوجاء هي التي تقذف بنا خارج دورة الزمان وصيرورة التقدم، من حيث تبتر أصول التطور والارتقاء. (10) أسانيد تأصيلية
ونعود إلى الفكر الديني وتجديده على أسس تطورية، لنجد الخولي قد وصل في هذا إلى حد تعداد الأسانيد التي تدعمه، أو بتعبيره تحديد «أسس التطور في الإسلام».
57
وأولا:
امتداد دعوة الإسلام أفقيا إلى الناس جميعا، ورأسيا مع توالي الأزمنة والأجيال. وهذا الاتساع الزماني المكاني يجعل مواجهة الإسلام للتغيرات لا مفر منها، فالبيئات المتغيرة لها حاجات متغيرة ومتطورة، والإسلام قادر دائما على سد حاجات كل عصر وكل أمة.
من هنا كان الاجتهاد أساس الحياة الإسلامية لمواجهة التغيرات، حتى قيل إن علم أصول الفقه ما هو إلا تدريب على الاجتهاد. واحترم الإسلام المحاولات الإنسانية لاستنباط حلول لمشكلاتهم العارضة، وكان لكل مجتهد نصيب. والاعتراف بحق الإنسان في تفسير وتدبير حياته، فقرر الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
أن الناس أعلم بشئون دنياهم. وللتدبير الإسلامي توجهات عامة تهدف لخير الإنسان وصلاحه، وتتيح اختلافا بين الأئمة؛ رحمة بالأمة، وليس حسما لتفاصيل جزئية لتتكبل كل إمكانيات التغير والتطور.
وثانيا:
بينما تخوض العقائد البدائية والأديان الأخرى في تفصيليات غيبية وتوصيفات جزئية لقصة الخلق ووقائع حيوات الرسل، كانت أقوى الأسس التي تهيئ الإسلام للتطور المحتوم هي اقتصاد دعوته في الغيبيات واكتفاؤه بالإجمال العام فيما يجب الإيمان به، كالله والملائكة واليوم الآخر. هذا الوضوح واليسر في العقيدة لا يدع فرصة للصدام بينها وبين ما يستطيع الإنسان اكتشافه من قوانين الطبيعة، مما يجعل الإسلام أكثر من سواه مسايرة للتجديد والتطوير. ولم يذكر الإسلام في كتابه الكريم شيئا عن نشأة الحياة على سطح الأرض وأطوار الإنسان (وهذا العنصر محوري لبحثنا هذا ما دام ينطلق من تشغيل الخولي لخطوط نظرية التطور البيولوجية). وأخيرا عدم تورط الإسلام في تفاصيل تاريخ الأمم والرسل، فلا يعنى القرآن بتحديد مكان وزمان الحادث، اكتفاء بالدلالة العامة والدرس الحضاري المستفاد.
هذه الأسس تجعل الإسلام مسايرا لنظرية التطور، وللتطور ذاته في الحياة وفي العلوم، فلا مناوأة لقانون الوجود. يقول الخولي: «إذا ما شعر الإسلام أنه يستطيع أن يمضي مع أصحاب التاريخ دون تأزم، كما مضى مع أصحاب طبقات الأرض دون أزمة، وكما مضى مع أصحاب العلم الطبيعي دون ارتباك، فإنه ليستطيع أن يتقدم على تطور الحياة منطلقا مطمئنا.»
58
ولا يبقى إلا أن يكون في المجتمع من يضمن مسايرة الفكرة للحياة ووقايتها من عوادي الجمود. وبهذا يظل الإسلام دائما كما كان في عهده الذهبي: قوة دافعة للتقدم، ورسالة الحياة والعالمية والخلود.
وأردف الخولي هذا بوقفة مع مجددي القرون الهجرية الأربعة الأوائل - فكرا وعملا - وهم: عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، وابن سريج، وأبو سهل الصعلوكي، وأبو الحسن الأشعري، والباقلاني، لإبراز مواطن تجديدهم وأهميتها وفاعليتها، هادفا إلى «استخلاص ما في أقوال أولئك الأخيار وأفعالهم، مما تفيد منه الحياة فتتجدد وتتطور وتبرأ من آفات آراء وأضرار أفعال.»
على أن الخولي - وهو الشيخ الأصولي - لم يكتف بهذا التنظير في تأصيل التطور، وأردفه بالاستناد إلى الحديث الشريف: عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح .
يمضي الخولي في هذا التأصيل دفعا لمظنة المحافظين، فيستهل كتابه «المجددون في الإسلام» بأنه على أساس تحقيق مخطوطتين في دار الكتب المصرية، هما كتابا «التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة» للإمام جلال الدين السيوطي (متوفى 911ه)، و«بغية المقتدين ومنحة المجددين» للمراغي الجرجاوي في القرن الثالث عشر الهجري، وهما ليسا من عهود الثوثب والإشراق، بل من أجواء مسرفة في الانغلاق، ومع هذا ظلت فكرة التجديد قوية الحضور؛ لأنها أصل من أصول الدين، حتى إنه لا يجوز في عرف السيوطي خلو العصر من مجتهد، واستعاذ بالله من صيرورة الأمر إلى هذا الحد.
للسيوطي كتاب مفقود هو «الفوائد الجمة في من يجدد الدين لهذه الأمة» فضلا عن أنه نظم شعرا أسماه «تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين»، ويلاحظ الخولي أن الكثرة المطلقة منهم «رجال أنجبتهم وآوتهم وعلمتهم مصر، ذات الفضل العتيد على المدنية منذ عرفها بنو آدم.»
59
وقد بلغ الأمر بالسلف حد اعتبار المجددين بمثابة الأنبياء في عصرهم. وإذا كان الأقدمون تحدثوا مثل هذا الحديث عن التجديد، كيف إذن يعد بدعة، حين يضيء طريق المستقبل واتجاه التطور فيه؟
ونلامس في أحاديث الأقدمين وأفعالهم أن التجديد تغير وانتقال من حال إلى حال، تأثرا بعوامل مادية ومعنوية تتعرض لها الأحياء، ونتفق جميعا على هذا. ولكن حين يكون التجديد متلاقحا ومعضدا بمثل تشغيل الخولي الحذر البارع لمقولة التطور، فإن التجديد في هذه الحالة - التجديد التطوري ينفصل تماما عن تصور قديم له يحصره في مجرد إحياء ما اندثر، أو إعادة قديم كان، فالتجديد - كما يقول الخولي هو: «اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن، سواء أكان الاهتداء إلى هذا الجديد بطريق الأخذ من قديم كان موجودا، أم بطريق الاجتهاد في استخراج هذا الجديد بعد أن لم يكن.»
60 (11) مثالية شاملة، لا مذهبية
وإذا سخرت نظرية التطور إلى كل هذا الحد في صلب الديمومة الزمانية للإسلام، فلن يعني هذا البتة أن أمين الخولي مناد بمذهب جديد هو - مثلا - التطورية الإسلامية، أو أن هذا امتداد ما للدعاوى الزائفة بأسلمة النظريات العلمية والمذاهب الغربية الكبرى. كلا، فالأمر - كما ذكرت - مجرد تشغيل حذر بارع لمقولة مجدية من العبث تجاهلها أو إنكارها.
في كل حال يظل ديدن الإسلام - بتعبير الخولي - هو «مثالية لا مذهبية»، مثالية تتقبل كل إصلاح اجتماعي دون ضغط، فليس الإسلام هو الذي يزيد المذاهب مذهبا والآراء رأيا، بل الإسلام مثالية تقابل الواقعية. بهذه المثالية «يفتح باب الخلود والبقاء الأبدي للدعوة الإسلامية، إذ تستطيع مع هذه المثالية أن تساير التطور وتجاري التقدم، وتتلقى كل جديد صحيح مدروس، لا تبرم به، ولا تعارضه بفهم سابق، يمثل مرحلة من مراحل الماضي التي غادرتها الدنيا، وتقدمت عنها الحياة، وتلك هي المثالية المقابلة للواقعية.»
61
لقد أكد الخولي على أنه لا مذهبية في القرآن أبدا. وكرس لهذه القضية كتابه «في أموالهم» ليدحض القول برأسمالية الإسلام وباشتراكيته على السواء، فهذا «محاولات تلفيقية يجل عنها الإسلام، وتكلفات مغتصبة يأبى أن يشد إليها الإسلام، على حين هو يقدم من الشعور الإنساني والأصل الاجتماعي ما يدع للإنسانية حرية الفكر وحرية الممارسة وحرية التجربة.»
62
التطور أفق مثالي للإسلام، وليس مذهبا جديدا يوضع بجوار مذهب هربرت سبنسر مثلا. ومن منطلق المثالية بآفاقها الرحيبة مقابل المذهبية بحدودها التعصبية التي ينبغي طرحها عن رحاب الإسلام، يتبدى أمامنا التطور كمجرد أفق شامل للتجديد الديني، فيصادر الخولي على أن كل شيء يتغير مع الزمن في صورته ومفهومه العقلي ووقعه على النفس، وفي التعبير عنه والتمثل له. والقرآن يقرر أنه بالتغير يعامل المتغير، فيجب على المفكر الديني أن يقدر كل هذا، فيغير عرضه وتعبيراته واستدلالاته.
ويعترض الخولي على قول لشيخ الأزهر - منشور بجريدة الأهرام في 27 رمضان 1384 - يقصر فيه التطور على أحكام العبادات، وينأى به عن الأصول والعقائد. فيؤكد الخولي أن التغير والتطور سنة شاملة في الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفي هاتين الأخيرتين شريعة الإسلام هي انتخاب ما نراه أيسر عملا وأصلح للبقاء.
لقد كان التغير أمرا واقعا في الحياة الاعتقادية لعصر الإسلام الذهبي إبان القرون الهجرية الأربعة الأوائل، حيث تتكشف اختلافات، بل صراعات جمة حول العقيدة. ومن العقائد ما بلغ الاختلاف حولها حد سفك الدماء، كالذات والصفات وخلق القرآن. بالطبع ليس مثل هذا التغيير ولا موضوعاته هو المنشود أو حتى المطروح، لكنه بيان لإمكانية الاختلاف، وبالتالي قابلية التطوير والتجديد، فينتهي الخولي إلى أن «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره.»
63
هكذا كان التجديد الديني مع الخولي جذريا حقا، حتى بلغ أصول العقائد ذاتها، وهذا ما يسمى في المصطلح الفلسفي التجديد في علم الكلام، أو علم التوحيد في التسمية التي يفضلها محمد عبده. وقد كان علم الكلام دائما هو الفلسفة الإسلامية الحقة والتعبير العقلي الأصيل عن الروح الإسلامية، وفيه لا سواه نجد ما يمكن أن نسميه الأيديولوجيا الإسلامية.
64
فلئن كان أشهر ما اشتهر به الخولي هو ما سنتوقف عنده في الفصل التالي؛ أي تجديده في تفسير القرآن بمدرسته في التفسير الأدبي موضوعا موضوعا، لا سورة سورة، أو آية آية، وعلى أساس من وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية؛
65
فالمرجو أن يكون قد اتضح الآن لماذا بدا لنا أن أخطر ما في تراث الخولي، وما يستحق أن نتوقف عنده فعلا، هو هذا التجديد في الفكر الديني، والذي جعله التطور الشامل جذريا إلى أقصى الحدود، إلى أصول العقائد، إلى علم الكلام.
وذلك هو ما يلح علينا الواقع الراهن لكي نستنه في خطوطه التأصيلية التي تحققت مع الخولي. (12) التجديد: أن نكون أو لا نكون
فلم يكن ما سلف عرضا تاريخيا مصمتا لجهود الخولي التجديدية، فقط كما تحققت في إطار عصرها، بل من أجل الانتهاء إلى المتغيرات الأخيرة على مشارف القرن الحادي والعشرين، إذ تجعلنا أشد احتياجا لاستلهام روح التجديد التطوري في الفكر الديني، والتي ناضل من أجلها الشيخ الخولي.
ذلك أن أصالتنا - أو بمصطلح أفضل خصوصيتنا الحضارية - إنما يتمركز في سويدائها الدين، وكثيرا ما أشار الخولي إلى قوة البعد الديني في الشخصية المصرية، ولا يستبعد وحيا إلهيا هبط على قدماء المصريين.
66
وعلى مدار القرون الماضية احتل الإسلام المخزون النفسي للجماهير والنسيج الشعوري والإطار القيمي، بعد أن شكل دائرة خفاقة استوعبت الدوائر الحضارية الأسبق. على الإجمال الخطوط الإسلامية هي صلب شخصيتنا الحضارية وقسماتها.
لذا فإن البحث في تجديد الفكر الديني بمثابة البحث عن طوق النجاة من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في خضم ما نعانيه الآن من طوفان الانفلاقات الذي لا يتنازعنا فحسب، بل ويتنازع دعائم وجودنا على خريطة العالم. وبعد أن ماهت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلا موقف هامشي هو موقف التنازلات تلو التنازلات، التي أصبحت تلامس ثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفهام، والعروبة موضع التشكيك، والإسلام كرديف للرجعية.
ولا غرو أن يعقب هذا انتهاب الأرض وعلو الصهيونية، واهتزاز قيم الحرية والعدل، وانحسار العقلانية وهبوط الوعي، وتراجع المشروع القومي، وشيوع التعصب وذيوع التطرف. وفتية تنتابهم هيستريا الفرار المخبول للماضي، أو نوبات علاقة إجرامية بالحاضر مضمخة بالإرهاب والدماء.
ثم العجز عن الخروج من التبعية للغرب، وهو لا يكتفي بميراثه الإمبريالي والصهيوني الطويل الوبيل مع حضارتنا، بل يعقب هذا - أخيرا - بما سمي «الحرب الثقافية». وقد ظهر هذا المفهوم في أعقاب حرب الخليج، وكان اعتماده صراحة في مقال و.س. لنيد «الدفاع عن الحضارة الغربية» بمجلة السياسة الخارجية الأمريكية، ثم في مقال صمويل هنتنجتون - الأستاذ بجامعة هارفارد - «الصدام بين الحضارات» بمجلة «الشئون الخارجية» الواسعة الانتشار. وخلاصة مقال هنتنجتون - الذي حاز شهرة واسعة - أنه بعد انتهاء الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، ستكون الخطوط الفاصلة بين الحضارات هي خطوط القتال في المستقبل، بين الغرب وبين الحضارات غير الغربية الست، وأولها الحضارة الإسلامية. ويخلص هنتنجتون إلى دعوة الغرب كي يتصدى لهذا الخطر الزاحف من الشرق الإسلامي إلى الغرب والشمال.
67
إنها مواجهة ثقافية صريحة، تستنفرنا لبعث الحياة والنماء والتطور ... التجديد في عصب ثقافتنا ومعامل خصوصيتنا الحضارية: الفكر الديني، لا سيما بعد أن نخلص من كل هذا إلى ما نشهده الآن من ضياع القدس نهائيا من بين أيدينا.
ويصعب اعتبار هذه الأوضاع المتأزمة - أو المحنة الراهنة - أمرا عارضا، حين نجد كتاب السيوطي المذكور «التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة» يقوم على أن المحن تحدث على رءوس القرون، فتقتضي التجديد جبرا لما حصل من الوهن بالمحن، ويعدون هذه المحن على رءوس المائين، فيذكرون الحجاج ومحنة خلق القرآن وخروج القرامطة وأفاعيل الحاكم بأمر الله، واستيلاء الفرنج على بلدان شامية من بينها بيت المقدس.
وحين تكون المحنة دهماء من قبيل استيلاء الفرنج على بيت المقدس، فإن أمين الخولي يفضل مجددا في أصول العقائد - وهو متكلم على مجدد في الفروع والعبادات - هو فقيه. إن التجديد قد يكون دوريا مع التغيرات الدورية، وقد يكون جذريا مع المحن التي تحدث عند رءوس المائين، وقد رام الخولي هذا التجديد الجذري المستجيب لاحتياجات الواقع، فيقول: «إن ذلك التجديد الجذري في رءوس القرون هو العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأمة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية.»
68
وتحتاجه الأمة الآن على ضوء التداعيات الراهنة أكثر من احتياجها إياه في أية مرحلة أخرى، أو على رأس أية مائة سابقة - هجرية أو ميلادية. إن الحاجة تلح الآن إلى إعادة قراءة أصولنا الدينية قراءة تاريخانية علمية تجديدية تطويرية، لا أن ننفصل عنها وننكر لها إمعانا في التبعية والاستسلام.
لقد بات من الضروري السير في الطريق الذي عبده الرائد الشيخ أمين الخولي للتجديد والتطور في الفكر الديني، استنقاذا للوعي القومي وللشخصية الحضارية، بل ولوجودنا الحضاري ذاته لا سيما بعد أن تصاعد مد العولمة مهددا باكتساح كل الخصوصيات الحضارية والتنوع الثقافي فلا يبقى إلا النمط الأمريكي.
الفصل الثاني
في الآفاق الفلسفية للتفسير
أمين الخولي هيرمنيوطيقيا
1
طبيعي أن يكون موضوعنا العمود الفقري لجهود أمين الخولي؛ أي الأصالة في تقاطعها مع التجديد. والواقع أن هذا هو الهيكل والإطار لمجمل إشكاليات الفكر العربي الحديث، وشغله الشاغل، كما هو معروف. فكان من الضروري أن يتمثل في عقلية لها ثقل ومضاء عقلية أمين الخولي.
وسؤالنا الآن عن التفسير، هل يقبع في محور الأصالة الرأسي، أم في محور التجديد الأفقي؟ والحق أنه يرابض في صلب التقاطع بينهما.
وما نريد الآن أن نلقي عليه الضوء هو أن نظرية أمين الخولي في التفسير، لا سيما من حيث ارتباطها بأفق المفسر، إنما ترابض في صلب الهم الفلسفي المعاصر، شرقا وغربا. مما يلقي ضوءا كثيفا على أهمية وثراء وخصوبة وحيوية، يتفجر بها فكر أمين الخولي وميراثه، وأكثر من كل ما يمكن أن يتبدى للنظرة العابرة. •••
لكن لا بد قبلا من الاتفاق على أن التفسير - أي الجهد المتجدد دوما لتفهم النص القرآني - إنما هو منطلق أولي للجهود الفكرية التأصيلية التي تعمل من أجل تنهيض واقعنا الحضاري في تعينه وفي خصوصيته؛ لأن القرآن الكريم هو نقطة الإحالة المرجعية الثابتة التي تمثل مبتدأ حضارتنا ومرتكزها، ومنطلق وعينا بالهوية كأمة متميزة بأنها إسلامية.
إن الوحي القرآني فعل توحيد فذ، مثل نقطة تحول متفردة، ولم يكن استمرارا لأي مسار كان قبله، نثريا أو شعريا، إنه كما قال طه حسين - الأستاذ العميد - ليس شعرا ولا نثرا بل قرآنا. ولعل ظهور القرآن في سيرورة الحضارة العربية «يماثل ظهور الفلسفة في سيرورة الحضارة الغربية، منعطف جذري وتغيير حاسم من حيث الرؤية التي أتى بها والمنهاج الذي استنه.»
2
صحيح أن هذه المنطقة تتميز بسعة الموروث الثقافي قبل الوحي بزمان سحيق. وأمامنا في مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية اللتان لا يمكن إغفالهما، إذ لا تزالا ماثلتين في شعور الجماهير، من الفرعونية: شم النسيم، السبوع، ذكرى الأربعين، الحانوتي أو الحنوطي رغم اندثار التحنيط، الفول المدمس ... إلخ. أما القبطية فيكفي أن الفلاح المصري حتى الآن يعمل ويعيش في تقويمها، وينظم وقائع حياته وفقا للشهور القبطية المطابقة لمناخ مصر ولبيئتها الزراعية. وشبيه بوضع مصر أقطار إسلامية أخرى لها موروث حضاري ماثل قبل الوحي القرآني. كل هذا صحيح، ولكن أو لم يمثل القرآن الكريم، أو الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرة حضارية استوعبت كل هذا لتمثل مرحلة جديدة، نقطة بدء جديدة، مشكلة كل المسار التاريخي اللاحق؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، وما أدراك ما لغوية الحدث القرآني؟ إنها هي - قبل كل شيء - التي تجعل من مشكلة الخصوصية أو الأصالة واقعا شاغلا لنا دونا عن أية أمة أخرى؛ لأننا نحن الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس، وكما تثبت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبا أو وعاء يملأ بالفكر مثلما تملأ السلة بالفاكهة، بل إن اللغة هي ذاتها نسيج التفكير وخامة من خامات الوعي.
وقد مارس جلال الحدث القرآني نوعا غريبا - لعله غير مسبوق - من فقدان الذاكرة التاريخية، ترسخ بلغوية الحدث، وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج حضارتها.
وقد كان الإسلام باستراتيجية حضارية وسياسية معجزة ورائعة، يعد نفسه امتدادا وتطويرا وتنقيحا للديانات السماوية السابقة، وبالتحديد اليهودية والمسيحية؛ لذلك فإنه بخلاف الديانات السماوية السابقة، نجد أن كل ما تبقى في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما قبل الوحي والنص القرآني؛ إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وكل ما يتوجب نقضه ونفيه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار، وإرم ذات العماد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. ولما تنامت مؤخرا البحوث التاريخية والأركيولوجية والأنثروبولجية وتجلت ذخائر أصول القوميات، كان تيار الوعي سواء احتوى هذا أم لا، قد استقر تماما في إطار النص القرآني. فكيف إذن لا نشير إليه قائلين: من هنا نبدأ؟
وقد كان النص القرآني بالتالي هو المركز الذي نشأت حوله دوائر علوم تراثنا؛ لذلك كان نصا أو وحيا تحول إلى حضارة، وهذا أميز ما يميزنا كأمة، لقد خرج تراثنا من الكتاب المبين/القرآن الكريم، كانت أولا الانبثاقة الجبارة الفريدة لعلوم اللغة، التي أسفرت عن جهاز اشتقاقي ونحوي وصرفي لا مثيل له في لغات العالمين؛ لأن القرآن نص، ظاهرة لغوية، ثم البلاغة لتكشف عن إعجازه، يتبعهما الفقه ليستنبط الأحكام قياسا عليه، وعلم الكلام من أجل عقلنة القرآن ليتطور إلى الفلسفة، مما جعلنا حضارة تدور حول مركزها الثابت: القرآن الكريم. وقد أشار المفكر الإسلامي المجدد حسن حنفي إلى أن هذا هو الفارق المحوري والجدلي بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية التي أصبحت طردية بلا مركز ؛ لأن الكتاب فيها قد خرج من التراث ولم يخرج التراث من الكتاب.
3
لم تكتب الأناجيل إلا بعد اكتمال الدعوة المسيحية، فكانت لاحقة على العقيدة وتعبيرا عنها، ليست سابقة عليها أو مصدرا لها. ثم كان ظهور علم النقد التاريخي للكتب المقدسة في القرن السابع عشر مع سبينوزا وريتشارد سيمون وجان أوستريك، ليتناول تحريفا وتبديلا وتغييرا وقع في الكتب المقدسة، على كل هذا يقول حسن حنفي:
أهم ما يميزنا كأمة، سواء إذا كنا مجتمعا حاليا أو حضارة سابقة هو أننا قد تلقينا «وحيا» يمتاز على الأقل بخصائص ثلاث، أولا: أنه آخر مرحلة من تطور الوحي في التاريخ ابتداء من آدم حتى محمد، وبذلك يكون لدينا الوحي مكتملا في صورته النهائية، يمكن أخذه كأصل للشرائع دون انتظار تغيير أو تبديل أو نسخ. ثانيا: أنه محفوظ كتابة بين دفتي القرآن، وبذلك أمن خطورة التحريف التي انتابت الكتب المقدسة الأخرى من إنجيل وتوراة عند بني إسرائيل. ثالثا: أن القرآن ككتاب مقدس لم ينزل دفعة واحدة، بل نزل منجما كما يقول علماء التنزيل؛ أي إنه ليس وحيا معطى، ولكنه وحي منادى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم، تأتي كل آية كحل لموقف، ثم تجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عاما وتصبح القرآن. فأهم ما يميزنا عن الأمم والحضارات الأخرى هو هذا القرآن.
4
ونلاحظ أن هذا الاقتباس يلفت أنظارنا إلى أن الوحي منادى به، لم ينزل دفعة واحدة، بل منجما، هو تواتر من حلول لمشكلات واجهت الفرد والجماعة، وذلك قريب مما أسماه شيخنا أمين الخولي: «وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية»،
5
وكان أساسا قامت عليه مدرسته في التفسير الأدبي للقرآن، التي نطرق الآن أبوابها، خصوصا من حيث هي نقض للتفسير الحرفي الثبوتي الجامد، الذي لا يؤذن بتطوير أو تجديد، ولن يومئ إلى تنهيض أو تنمية.
ننتهي من هذا إلى محورية قضية تفسير القرآن في أطروحاتنا الحضارية الهادفة إلى تأصيل توجهات الحداثة، وتحديث معاملات الأصالة، أو باختصار الهادفة إلى التجديد، وأن اتجاه أمين الخولي الرائد بمدرسته في التفسير من الخطوط المحورية في هذا المضمار. •••
وإذا كان أمين الخولي ينعت اتجاهه بأنه تفسير «أدبي» للقرآن، فإن الخولي بدوره كان في طليعة روادنا الذين تعرضوا لصلة علم النفس بالبلاغة والأدب.
6
وقد توقف عند الإعجاز النفسي لبلاغة القرآن الكريم، بمعنى أثره العظيم على النفس الإنسانية ووقعه عليها وفعله فيها،
7
بطلاوته وعذوبته في مبناه وفي معناه، وفي جرسه وإيقاعه. وعن طريق الاستعانة بأمهات عيون التراث، يبين الخولي الأثر النفسي لأساليب القرآن الكريم البلاغية، خصوصا التكرار.
يرى الخولي الإعجاز النفسي للقرآن متروكا للإحساس الفني والذوق الأدبي؛ لأنه - كما انتهى السكاكي - يدرك ولا يوصف أو يعلل. والأمر كله رجوع إلى مصدر الحياة الفنية في الإنسان باعتبارها من أرقى ملكاته.
8
لكنه - أي الإعجاز النفسي للقرآن الكريم - يستتبع التفسير النفسي للقرآن، والذي يمكن أن يساهم فيه علم النفس بما يملكه من فروض ونظريات. إن التفسير النفسي للقرآن الكريم يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولي بالنفس الإنسانية.
والتفسير النفسي يعني أن القرآن الكريم فن أدبي معجز، من حيث هو هدى وبيان ديني، يقوم على سياسة النفوس البشرية وترويض الوجدان. الفن هو نجوى الوجدان، والدين حديث الاعتقاد وخطاب القلوب، وصلته بالنفس أوضح من أن تفسر.
هكذا عن طريق البعد النفسي يبلور الخولي نقطة التلاقي بين الدين وبين الأدب، ليخرج بدعواه للتفسير الأدبي للقرآن الكريم، موضوعا موضوعا، لا سورة سورة، أو آية آية. وقد أشرت في البحث السابق إلى أن هذا هو أشهر ما اشتهر به الخولي.
إن ترتيب القرآن في المصحف الشريف ترك وحدة الموضوع، ولم يلزمها مطلقا. وترك أيضا الترتيب الزمني لظهور الآيات، فتتداخل الآيات المكية مع الآيات المدنية. وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة ومقامات مختلفة. لكل هذا يكون الطريق إلى المعايشة الأعمق للقرآن ومضامينه هو تناوله موضوعا موضوعا.
على أن هذا التناول مصبوغ بصبغة العصر الذي يتم فيه.
إن النص القرآني - كما صدرنا الحديث - مركز حضارتنا وثقافتنا، ثابت بنيوي، لكن تبيان أغراضه ومعانيه ومراميه يكون في ضوء التفسير. لقد أشار الخولي إلى العلاقة بين التفسير والتأويل، على أساس أن الأول أعم من الثاني. وقد استعمل القرآن الكريم كلمة «التأويل»، ثم ذهب الأصوليون إلى اصطلاح خاص لها، حتى شاع استعمالها مع المتكلمين، باعتبارها لونا خاصا من التفسير، والتفسير دائما له صور متعددة «وقد تنوعت ألوانه وتعددت بتعدد ثقافات المتصدين له.»
9
وهكذا إذا كانت ثقافتنا تتميز بتمركزها حول محور ثابت هو النص الديني، فإن التفسير يحمل دماء الحياة والتجديد والتطور دائما مع كل عصر، سيما وأن التفسير علم - كما أشار الأقدمون - ما نضج وما احترق، مقابل النحو وعلم أصول الدين الذي نضج واحترق، وعلم الفقه والحديث الذي نضج وما احترق، أما التفسير فهو نهر دافق يتدفق بتدفق الحضارة والحياة نفسها، والنهر لا يكون فجا أو ناضجا، النهر لا يحترق أبدا. •••
بكل هذه الحيوية والتدفق والتجدد المستمر الذي اتسم به التفسير مع أمين الخولي، نتوقف عند واحد من أهم تيارات الفكر الفلسفي المعاصر، وهو المعروف باسم الهيرومنيوطيقا. وهذا المصطلح
Hermeneutics
له معنيان أو مدلولان، أحدهما قديم متوارث، والآخر حديث معاصر. لئن كان كلاهما يتمثل في الخولي، فإن ما يهمنا هو تحقق المدلول المعاصر في شخصيته التفسيرية، فضلا عن مسيس احتياجنا الحضاري لذلك المدلول المعاصر.
الهيرمنيوطيقا في أصوله القديمة هو علم تأويل الكتب أو النصوص المقدسة. ومع تطوره التاريخي اكتسب مرونة واتساعا، حتى أصبح أخيرا وبفضل الفلسفة الألمانية، واحدا من أهم تيارات الفلسفة في الربع الأخير من القرن العشرين.
الهيرمنيوطيقا كتيار فلسفي معاصر ينطوي على موقفين متقابلين، أحدهما يتبع فيلهلم دلتاي
W. Dilthey (1833-1911) ويرى التأويل أو الفهم
Verstehen
منهاجا للعلوم الاجتماعية والتاريخية. أما الموقف الثاني فيتبع مارتن هيدجر
M. Heidegger (1889-1976) ويرى التأويل «حدثا أنطولوجيا» أي حدثا وجوديا. التفاعل بين النص وبين المفسر/المئول إطار ضروري لتفهم الموضوع المطروح، إنه جزء من تاريخ ذلك النص، كما أن طرح قواعد ومعايير لتفهم ما يقوله النص إنما هو موقف تاريخي ووجودي للمئول/المفسر.
10
وسوف نسير الآن عبر الخط الهيدجري لنجد الهيرمنيوطيقا نظرية عن الخبرة الواقعية الحية بالنص. إنه علم قراءة وفهم النصوص على إطلاقها، سواء دينية أو تراثية أو فلسفية أو قانونية. ويكتسب أهمية خاصة في النصوص التراثية؛ لأن القراءة الهيرومنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معا، الماضي والحاضر في علاقة جديدة تبادلية وتكاملية، إنها حوار مستمر مع النص يجعله مفتوحا دائما لفهم جديد وتأويل جديد. هكذا تغدو النصوص معاصرة دائما، معاصرة لكل من يقرؤها مجددا. «النص لا يقول الحقيقة، بل يفتح علاقة مع الحقيقة»،
11
أو قل علاقات كل قارئ، كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته. النص مادة خام، قالب يتسع لمضامين عديدة، ويكتسب مضمونا محددا حين يتحدث المفسر القارئ نيابة عنه، يتحدث بلغته، لغة الحاضر، ودون مشاركة الحاضر يتجمد النص وتتخلخل علاقته بالواقع. إن التأويل والتفسير يملؤه بالمضمون طبقا لما أسماه الفقهاء في تراثنا: (المقاصد العامة).
هكذا يظل النص ظاهرة حية باستمرار. إن النص - أي نص - تنتهي مهمة تصنيفه، أو تنتهي مهمة الكاتب بخروج النص. أما القراءة، التأويل والتفسير فمهمة مستمرة، إمكانية مفتوحة دوما لفهم جديد، لتفسير أو تأويل جديد.
هكذا تحولت ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدة، وبنفس القدر يفيدها. وتصب فيه نظريات المعرفة والوجود والقيمة على السواء، وإن كان أوثق اتصالا بنظرية المعرفة. ولكن لعلنا لاحظنا أن أمين الخولي يركز أيضا على اتصال علم النفس بالذات بالتفسير وتأويل النصوص الأدبية، وعلى رأسها جميعا القرآن الكريم.
لقد أتى أقوى السائرين في الخط الهيدجري، وهو هانز جيورج جادامر
H. G. Gadamer
بكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج»
Wahrheit Und Methode (1960)، فتستوي الهيرمنيوطيقا منهاجا فعالا، قيل إنه يوازي في خطورته وأهميته المنهاج العلمي التجريبي. فهذا الأخير لتناول الواقع الفيزيقي والحيوي، أما الهيرمنيوطيقا فمنهاج لتناول النصوص، وهي واقع إنساني لا يقل عينية وتجسدا وأهمية وصعوبة مراس، إن لم يزد.
12
وبفضل هذه الصبغة المنهجية الطاغية أصبحت الهيرمنيوطيقا علما له مدارسه، واتجاها واسعا مارس سيطرة كبيرة على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في العقدين الأخيرين.
إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص، أو ما يتمثل في فلسفة المناهج المعاصرة من إلغاء للتباعد بين الذات والموضوع الذي وقعت في إساره الفلسفة الحديثة. وبالتالي فهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة. ويبقى النص معينا لا ينضب أبدا وإمكانية متجددة دوما.
هكذا تتجلى الهيرومنيوطيقا كمنهاج ذي قدرة متفردة على بث الحياة مجددا ودائما في النص، من حيث يلقي تلك التبعة والمسئولية على عملية القراءة والتأويل والتفسير، هو في كلمة واحدة: انصهار النص والقارئ معا. النص مادة خام، القارئ يشكلها ويعيد تشكيلها في عصره تبعا للأفق الثقافي المعطى.
القراءة والتفسير مهمة مستمرة، والتأويل إمكانية مفتوحة ومتجددة دائما. •••
بهذا، وبعد أن رأينا الخطوط العامة للتفسير عند أمين الخولي ومدرسته الأدبية، يتضح تماما كيف كان الخولي هيرمنيوطيقيا كبيرا، ويكفي أن نستشهد بالفقرة التالية من مناهج تجديده. يقول الخولي:
إن الشخص الذي يفسر نصا، يلون هذا النص - لا سيما النص الأدبي - بتفسيره له وفهمه إياه، إذ إن المتفهم لعبارة هو الذي يحدد بشخصيته المستوى الفكري لها، وهو الذي يعين الأفق العقلي، الذي يمتد إليه معناها ومرماها. يفعل ذلك كله وفق مستواه الفكري وعلى سعة أفقه العقلي؛ لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته، ولا تمكنه مجاوزته أبدا، فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره ويمتد إليه عقله. وبمقدار هذا يحتكم في النص ويحدد بيانه، ولا يستخرج منه إلا قدر طاقته الفكرية واستطاعته العقلية. وما أكثر ما يكون ذلك واضحا حين تسعف اللغة عليه، وتتسع له ثرواتها، من التجوزات والتأولات، فتمتد هذه المحاولة المفسرة بما لديها من ذلك، وإن المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير.
13
وأخيرا نشير في الختام إلى أن أزمة الثقافة الإسلامية والحضارة العربية حدثت حين عجزت عن التأويل، وتوقفت عن التفسير المتجدد، ودخلت في ليل الشروح والتعليقات والمتون والهوامش والحواشي. فكان تجديد التفسير شرطا لتجديد الفكر العربي الإسلامي وازدهاره، وكما قيل بحق هذا هو الهدف الذي يسعى إليه المفكرون الإسلاميون منذ فجر النهضة حتى اليوم.
14
ونحسب أن أمين الخولي قد أصاب الكثير من سويداء هذا الهدف.
الباب الثاني
محاولات للتطبيق
الفصل الثالث
حوار مع الفكر المتطرف
يبدو أول وأهم تطبيق مباشر لمنهجيات أمين الخولي - كشيخ أصولي - هو وضعها في مواجهة مع الفكر الأصولي المتطرف، الثبوتي الجامد المتحجر. إنهم يتمسكون بحديث الفرقة الناجية من النار - الذي شكك في صحته، وفي جواز الاستدلال به ابن حزم الأندلسي وآخرون - تمسكوا به ليلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرفض شكلا تمخض عن ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي نتأت بارزة في السنوات الماضية لتضمخ واقعنا بالدماء والإرهاب وترويع الآمنين باسم الإسلام!
لقد أمكن تحجيمها إلى حد كبير في مصر، بفضل ما تملكه من قوى الاستنارة العقلية والقدرة على التلقي السديد لرسالة الدين، والدين فيما يقال اختراع مصري، نشأ أول مرة على ضفاف النيل، لكن الجماعات المتطرفة ما زالت تمارس فعلها في أنحاء شتى من العالم العربي، والعالم الإسلامي، فيتحول الدين على أيديهم إلى قوة معوقة للتقدم والتطور، مثلما كان قوة لسفك دماء الأهلين في أعماق مصر الغالية. ولله في خلقه شئون!
واللافت حقا أن مكمن الخلاف بينهم وبين أمين الخولي هو عينه العلة التي جعلت الدين يتشوه على أيديهم هكذا. فبينما كان البعد المحوري في منظومة الخولي العقلية هو قدرة الفكر الديني على التجدد والتطور، لينساب تيارا دافقا في مسار التاريخ، قادرا على استيعاب ومواجهة متغيراته، نجد الفكر المتطرف يقف في مواجهة يائسة بائسة مع التاريخ والتاريخانية.
إن التاريخ هو حجر العثرة الذي يتصاعد منه مستصغر الشرر ليضرم مستعظم النيران. فإذا كان الله تعالى قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية؛ فذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفا عن عالم الحيوان والنبات والجماد، الذي لا يعرف صنع المتغيرات ولا تراكماتها. التاريخ هو فاعلية الإنسان هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزمان ويصنع له حسابا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتقدم واختلاف الأمس عن اليوم.
ومهما كانت نوايا الجماعات المتطرفة، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإن الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي العقيم مع الواقع لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بداية، إذا كان الواقع مأزوم، فكلنا يجب أن نعمل على تجاوز الأزمة، بآفاق فكر نهضوي - لا يمتنع أن يكون دينيا - وبمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع، كلاهما يسير على معامل التغيرات في مسار التاريخ، بحثا عن الأفضل والأجدى.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضا وأصلا، انطلاقا من رفض التاريخانية، فيطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، بالتحديد بين الإسلام وبين الفتاوى لابن تيمية، وتلخيصها في (الفريضة الغائبة)، نيل الأوطار وفتح القدير لتلميذه الشوكاني، وكتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، والمحلى لابن حزم، المغني لابن قدامة. حتى المصطلحات الأربعة: الحاكمية والألوهية الربانية والوحدانية للمودودي ... وصولا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب. معظمها أعمال قيمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته التي تختلف عن متطلبات وتحديات عصرنا. كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة، لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحن لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال إمامنا شيخ الأصوليين في التجديد وفي مراعاة تاريخية الوضع الإنساني، كما قال أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
ينفعنا الآن أبو المنهج التجريبي فرنسيس بيكون (1561-1626) فقبل أن يعرض للمنهج يبدأ بالتحذير من أربعة أنواع من الأخطاء، أو الضلالات المتربصة بالعقل البشري لتحول بينه وبين سلامة الاستدلال المنهجي، أسماها بيكون «الأوثان الأربعة». النوع الرابع «أوثان المسرح» النابعة من الافتنان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين، وكما ينبهر متفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور (أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومتطلباته) ينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال!
كذلك تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية، التي كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروفنا وواقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة أمريكا ومجلس الأمن، وأن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أضحت الآن أثرا بعد عين.
من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية ونواتج الجهد البشري في مرحلة تاريخية معينة، من ناحية أخرى فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيث المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيليات الأنماط السلوكية. تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرم النقاب، متصاغرين متخاذلين في التحدي الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف - أخيرا - الكواركات، ولا يكتفي أبدا. أي النقابين الانشغال به الآن عند الله وعند عباده خير وأبقى! فالمطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه تضر الإسلام قبل سواه؛ لأنها تفرض فيه تحجرا عند مرحلة تاريخية أسبق، تحجرا زائفا لا يوجد إلا في عقولهم. فالدين رسالة، مسئولية أبت أن تحملها السموات والأرض وحملها الإنسان، إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
بهذا المفهوم المتحجر للدين يصرون على أن التراث حاضر اليوم وفاعل، استمرارا للماضي في الحاضر، والزمان يسجل لحظات كمية لا كيفية فيها. هذه رومانتيكية صريحة (الرومانتيكية عادة تضرج في الدماء لأسباب مختلفة) رومانتيكية اللياذ بالعوالم الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي المشترك، رومانتيكية العجز عن الفكر الخلاق والفعل الإيجابي، رومانتيكية التضاد مع العقلانية. من هنا كانت ضد التنوير، بل هي الإظلام بعينه؛ الإظلام هو تغييب الواقع. وبهذا يشحذون سلاح الخصم، فلن يعود الدين - كما يقول أعداؤه - أفيونا للشعوب لأنه مخدر لها بأفكار أخروية فحسب، بل أيضا لأنه اغتصاب للواقع وتغييب للآن، إلغاء للزمان ونفي فكرة التقدم، مخالفين صحيح السنة، حيث اعتبر الرسول عودة ساكن الحضر إلى البداوة والعيش مع الأعراب (ارتداد على العقبين) كبيرة من الكبائر صاحبها كالمرتد. كيف ولماذا ينفون التقدم الحضاري؟
بل إنهم يفعلون بالتقدم ما هو أكثر من النفي، إذ يعكسونه، يجعلونه قهقريا بالعود إلى الوراء، مستندين إلى فهم تعسفي أو تحجري للحديث الشريف: «خير القرون قرني ...» ملغين مفهوم المثل الأعلى، ومنكرين أن الحضارة مسار تراكمي. إنهم يفضلون القرون الأربعة الأولى. وكلما سرنا قدما مع التاريخ سرنا مع انهيار تدريجي متوال لتلك الذروة التقدمية، ليكون عصرنا أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آت درجة أدنى، ما لم يحدث التقدم القهقري بالرجوع إلى الوراء واللحاق المستحيل بعصر ولى وفات.
من هنا كانت «الماضوية» محورهم. إنهم يعتبرون اللحظة الماضية منطلق الحلول للحاضر والمستقبل، فيكون الماضي هو الفاعل الوحيد، المبتدأ والخبر. مرة أخرى يضرون الإسلام قبل سواه؛ لأن الماضوية التي ترفض الحاضر والمستقبل تقف في مربع واحد مع الأسطورية التي تعلو على التاريخ، ولا تعترف بالزمان أو بأبعاد المكان. أهذا ما ينشدون؟ ألهذا يغمضون العيون ويصمون الآذان عن كل متغيرات؟
في كل حال ينبثق فكر الجماعات المتطرفة عن كراهية الواقع، ونفور من الحاضر، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانتيكي المشبوب بالماضي، فتلوذ بعوالمه المنفصلة، متوهمة إحياء الدين في الواقع وإحياء الواقع في الدين، وهي في حقيقة الأمر تدمر الطرفين معا، تدمر الواقع حين تنفيه أو تتصور إمكانية نفيه بكل زخمه وإنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفر إلى واقع انتهى منذ قرون. وتدمر الدين حين تنفي عنه الحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وأن يؤدي مهامه حين تختلف الأزمنة والأمكنة.
هكذا تنتهي منظومتهم إلى تدمير - أو على الأقل - استلاب الحياة والفاعلية من الدين والواقع على السواء، وهذه محصلة طبيعية، ما داموا ينطلقون من التسليم باغتراب الواقع عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منته، لا مخرج منه إلا بالنفي، نفي الواقع، بمعنى السلب أو اللا أو التكفير والهجرة، ونفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورا من أي حاضر، ولله في خلقه شئون!
والآن، ما العمل؟ كيف نخرج من ذينك الطرفين الدين/التراث، والواقع/الأزمة، ليس بما يدمر أحدهما أو كليهما، بل بالمركب الحضاري المنشود القادر على الاستيعاب والتجاوز؟
ليست الإجابة في تجفيف الينابيع، كما يرى دعاة سوق شيمون بيريز الشرق أوسطية التي يزعمون أنها ستأتينا بالمن والسلوى. الينابيع غير قابلة للتجفيف ولا التهميش، فنحن الأمة الوحيدة في العالم التي تتحدث نفس لغة نصوصها السماوية والمقدسة، واللغة ليست وعاء بل هي نسيج التفكير والوعي. الدين غريب ومغترب عن أوروبا، والحضارة الغربية أتاها من حضارة أخرى، من المشرق. الدين هو صلب خصوصيتنا وعماد هويتنا القومية ومكنون مخزوننا النفسي، بناؤنا القيمي، فحوى الأعراف ... باختصار لب أيديولوجيتنا، ولا حل لمشاكلنا بدون تغذية منابع الفكر الديني بكل ما نملك من زاد، لتتدفق فيها كل ما في شراييننا من دماء الحياة والبحث والتفكير والإنجاز، لنكون أقدر من أسلافنا في التعامل مع الثوابت: الكتاب والسنة، تعاملا اجتهاديا فتيا دافقا متجددا. بهذا فقط نملك واقعنا، ونعيش عصرنا بأن نجتهد ونبدع مثلهم وأكثر، لكي نسد حاجات عصرنا، مثلما سدوا هم حاجات عصرهم، فيكون التواصل الحقيقي معهم، واستمرارية تاريخنا صعوديا لا دائريا.
الفصل الرابع
التفكير العلمي
والعلاقة بينه وبين الاستنارة الدينية
1
مهما تمخضت مسالك العلماء في النهاية - أو في تطبيقاتها - عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة وتحويل مجاري الأنهار، اخضرار الصحاري، ومقاومة الأمراض، ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية، تتابع أجيال الحاسوب، ثورة الهندسة الوراثية واستنساخ الكائنات الحية، مهما تحققت إنجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، فسيظل المغزى الأعظم لمسلك العلماء أنه بلورة مستصفاة وتجسيد متعين لتعقيل السير نحو الهدف، لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة بالواقع والوقائع، والتي تعرف باسم التفكير العلمي.
وكل لحظة تشهد بتصديق مستديم على أن التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه. إنه السبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع ومشكلاته.
لذلك نلاحظ أن التفكير الرياضي ينعت أساسا بأنه تفكير منطقي، أما التفكير العلمي بألف ولام التعريف، فهو أسلوب التفكير المتعين والمتجسد في العلوم التجريبية؛ أي العلوم الإخبارية التي هي منظومة متوالية من الأبحاث الممنهجة، تنتج وتعيد إنتاج وتصوب وتنقح وتدقق وتعمم ... المعرفة التي تضطلع بالوصف والتفسير والتنبؤ ثم السيطرة على ظواهر العالم الواقعي المعاش والمشترك بين الذوات أجمعين. هذا العالم الواقعي المعاش هو المعامل الأولي للحضارة، ولمجرد حضور الإنسان في هذا الكون، لكن تتوالى في إثره سائر الأبعاد والخصوصيات والعموميات والآفاق الحضارية.
العلوم الإخبارية التي تضطلع بهذا العالم الأولي الفيزيقي عديدة، فيزيوكيماوية وحيوية وإنسانية، فروعها شتى ومناهجها أو أساليبها التجريبية التخصصية تعد بالعشرات، ثم يأتي التصور الفلسفي العام لصلب التفكير العلمي ليقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى متغيرات الممارسات العلمية، ليعطينا الأساس العام أو خلاصة التفكير العلمي وفحواه، فيما يعرف بالعقلانية التجريبية. •••
التفكير العلمي هو العقلانية التجريبية، هو - كما ذكرنا - تجسيد لطريقة التفكير المثمرة السديدة الملتزمة، للعقل حين يرسم سبلا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع - بما تنبئ به التجربة - لتتعدل الفروض أو تقبل أو تلغى وفقا له ... أسلوب التفكير العلمي التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلاف لذلك الخطأ، يعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد. وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدا، حتى ليكاد يكون البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم.
كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدا، بل يزداد حمية ونشاطا في سعيه الدءوب المتخطي دوما لحاضره، مغيرا إياه.
فليس العلم بناء مشيدا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة تغير مستمر إلى الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
في خضم هذه الحركية التقدمية تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ. إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، الاضطلاع بها هو أسلوب التفكير العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي التفكير العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير المثمر السديد الملتزم - كما ذكرنا - بالواقع والوقائع، لتعقيل السير نحو الهدف. فضلا عن أن التفكير العلمي يعني الالتزام بقيم منشودة في التعامل مع الواقع المتعين، قيم من قبيل التخطيط والتفكير الممنهج والإبداع والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء لمحك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا نجد البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دوما للنظرية أو المحاولة الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى والاقتراب المستمر مما هو أفضل. وهذا يعني الاحتمالية والنسباوية والراهنية المؤقتة لأية خطوة تتم أو إنجاز يحرز.
لكل هذا كان التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان في التعامل مع الواقع، على المستويين العلمي والعملي. لكن لنضع خطا بل خطوطا تحت لفظة «الواقع».
فلئن امتلك أسلوب التفكير العلمي كل هذه الفعاليات، فلا ننسى أبدا أنه في كل مستوياته - أي العلمية والعملية - ينصب على العالم الواقعي أو الكون الفيزيقاني. وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا العالم الواقعي أو هذا المستوى من الوجود هو الأولي المعاش المشترك بين الذوات، فإنه بالتأكيد ليس المستوى الأوحد لوجود الإنسان، بل يتميز الإنسان عن أي موجود آخر بتعدد مستويات الوجود التي تتراوح بينها أبعاد تجربته الوجودية الفريدة الثرية. وبخلاف العالم الواقعي الفيزيقي ثمة العالم الممكن والمرجو، عالم ما ينبغي أن يكون، عالم العاطفة والوجدان، عالم القيم والمثل، عالم الفن الاستطيقي، العالم الميتافيزيقي، العالم الأيديولوجي، وأخيرا عالم الغيب.
إذن فليس في العالم الواقعي الفيزيقي وحده يحيا الإنسان، وبالتالي ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، بل بتآزر سائر أبعاد تجربته الحضارية العلم والدين والفلسفة والقيم والفن والأيديولوجيا ... الحضارة الراشدة الناضجة تعني تفتح وتفاعل وتآزر سائر هذه الأبعاد، ما دامت جميعها تهدف إثراء الإنسان ووجودا أكثر اكتمالا وأكثر إشباعا. ولا شك أن الصراع بين جانبين أو أكثر من جوانب الحضارة يعني قصورا وأزمة يجب العمل على تجاوزها. بعبارة مباشرة، نتفق جميعا على الاحتياج الحضاري للعلم والدين معا، وليس مجديا البتة التضحية بأيها على مذبح الآخر.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنه مثلما تبدت لنا فعاليات التفكير العلمي، فقد تبدت أيضا سماته التي تتبلور في الاختبارية والقابلية للتكذيب والنسباوية والاحتمالية. ومن الواضح أنها تتناقض تماما مع سمات التفكير الديني التي تتبلور في التسليم والتصديق والمطلقية واليقين.
إذن تنتهي الآن إلى اختلاف طبيعة التفكير العلمي عن طبيعة التفكير الديني، مع التسليم باحتياج الحضارة الإنسانية إلى كلا الأفقين: الدين والعلم.
على هذا الأساس نناقش قضية علاقة التفكير العلمي بالاستنارة الدينية. ولن نخوض الآن في محاولات لتعريف وتحديد مفهوم الاستنارة الدينية، وقد أعطانا أمين الخولي تمثيلا عينيا لها، ونكتفي بالاتفاق على الأساس العام للاستنارة في كل صورها، الذي يعني النظر بعين الاعتبار للعقل الإنساني ولقدراته وإمكانياته المتوالية دوما، وبالتالي الانفتاح على متغيرات الواقع، والقدرة على الاستماع للرأي الآخر. هذا في مقابل الدوجماطيقية - أي التطرف - التزام الطرف الأقصى الواحد والوحيد وإنكار كل ما عداه، والانغلاق على قطعيات متصلبة عمياء، أو على ظاهر النصوص الدينية.
لا شك أن النص هو محور الارتكاز في كل أفق ديني، سواء أكان منغلقا أو مستنيرا. لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه، ليتجدد مع كل جديد ويغدو ملائما لكل العصور، ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقا. وكما لاحظنا في الفصل السابق حين اضطلع أمين الخولي بهذه الأطروحة لامس حدود الهيرومنيوطيقا. إذن تفرض الهيرومنيوطيقا نفسها علينا الآن مجددا. الهيرومنيوطيقا في أصوله القديمة - كما ذكرنا - هي علم تأويل الكتب المقدسة، لكنه قفز قفزة هائلة عبر المناهج المعاصرة، وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الحية بالنص. لقد أصبحت علم فهم وقراءة النصوص على إطلاقها، لكن تظل تكتسب أهمية خاصة في النصوص الدينية والتراثية؛ لأن القراءة الهيرومنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معا، الماضي والحاضر في علاقة متجددة هي موقف أنطولوجي (أي وجودي) للقارئ المفسر، كما أنها جزء من تاريخ النص.
2
ثمة حوار مستمر مع النص يجعله مفتوحا دائما لفهم جديد وتأويل جديد، وبالتالي تغدو النصوص معاصرة دوما، لكل من يقرؤها مجددا فهي لا تقول الحقيقة، بل تفتح علاقة أو علاقات مع الحقيقة.
3
كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته، فيتحدث النص بلغة الحاضر دائما، حاضر كل قارئ له، ولا يفقد النص علاقته بالواقع الحي أبدا.
لقد نضجت الهيرومنيوطيقا وترعرعت بفضل آباء اللاهوت الليبرالي في القرن التاسع عشر، نذكر منهم الرائد البروتستانتي العظيم فردريش شلايرماخر
F. Schleirmacher (1768-1834) الذي أكد - كما عبر عن ذلك تلميذه المعاصر باول تيليش
(1886-1965)، أكد شلايرماخر أن الدين ليس سرا ملغزا، وليس ثمة لغة قدسية وضعت بين دفتي كتاب، ولا شأن للعقل بها، بل إن «اللغة الدينية لغة عادية تتغير تبعا للقوى التي تعبر عنها»
4 ... حتى ظهر عام 1960 كتاب «هانز جيورج جادامر» الخطير، وهو «الحقيقة والمنهج» لتستوي الهيرومنيوطيقا علما له مدارسه واتجاها واسعا مارس سيطرة طاغية على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في العقدين الأخيرين
5 ... إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص مهما تقادم به الزمن، بل ينبعث النص حيا في أفق كل متلق له، فيبقى معينا لا ينضب أبدا وإمكانية متجددة دوما.
إن الهيرومنيوطيقا التي نشأت أصلا في أعطاف اللاهوت، وترعرعت في أفياء البروتستانتية تكاد تكون تمثيلا منهجيا للاستنارة الدينية ، ولقدرة الدين، الذي يرتكز دائما على النص، قدرته على الانبثاق مجددا مع كل طلعة شمس، وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به، مهما تعمقت متغيرات حضارية أخرى، على رأسها العلم. مما يعضد موقف الاستنارة الدينية، ويطرحها كهدف متاح ذي طريق ممنهج أو مرسوم. وإذا نظرنا نظرة عميقة تعود إلى الأصول، وأخذنا في الاعتبار أن النص الديني في حضارتنا العربية يمثل الأساس المكين للمنطلقات القيمية والتوجهات الحضارية، أمكنا عن طريق القراءة المتجددة للنص أن نعمل على تجذير وتوطين ظاهرة العلم الحديث في أصوليات حضارتنا. وسنعالج هذه القضية فيما بعد، في الفصل الأخير. •••
ونعود الآن إلى السؤال الملح، فمع التسليم بالاختلاف بين التفكير العلمي والتفكير الديني، وبالاحتياج لكليهما، أولا: ما هي علاقة الاستنارة الدينية بالتفكير العلمي؟ وثانيا: كيف يمكنها الاستفادة من أبعاده؟
الإجابة على هذا في أن الموقف الديني المستنير موقف حضاري راشد، يدرك خاصية الاستقلال والتميز التي يتسم بها العلم والبحث العلمي والتفكير العلمي. فقد ترسمت شرائع العلم ونواميسه، وتعقدت آلياته وشق طريقه المظفر كفعالية إنسانية مستقلة، بمعنى أنها تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها وفاعلية عوامل تقدمها المطرد، في طريقها ذي المعالم الواضحة.
المعالم الواضحة تعني إحكام المشروع العلمي فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، ترسم للمشروع العلمي تخوما واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فتمثل متصلا صاعدا، يواصل صعوده أو تقدمه باستمرار، غده أفضل من يومه مثلما كان يومه أفضل من أمسه، فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية.
6
إن استقلالية البحث العلمي هي أخص خصائصه، حتى إن معيار العلم، وهو معيار القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب يفرق بين ما هو علمي وما هو غير علمي، يرسم حدودا صارمة حول العلم وقضاياه، فكل ما لا يقبل الاختبار التجريبي والتكذيب لا يعد علما؛ أي لا يحمل مضمونا معرفيا وقدرة تفسيرية عن العالم التجريبي، وهي حدود لن يتخطاها ما لا يحمل هذه الوظيفة المحددة للعلم الطبيعي؛ أي لا تتخطاها قضايا الدين والميتافيزيقا والفلسفة والفن والمشاريع الأيديولوجية والأخلاق المعيارية، بعضها أهم وأعلى من العلم وأكثر فعالية، لكنها ليست علما
Science ، فهي غير قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، وليس مطلوبا منها أن تقبله؛ لأنها تقوم بوظائف أخرى، وليس بوظيفة العلم التي تتجسد عينيا في السيطرة على الظاهرة الطبيعية. معيار التكذيب شهادة الصلاحية للقيام بهذه الوظيفة، إنه معيار العلوم الطبيعية، وفي نفس الوقت الخاصة المنطقية المميزة إياها. إلى كل هذا الحد تفرض المعرفة العلمية الطبيعية استقلالها.
موقف الاستنارة الدينية هو الذي يعترف بهذه الاستقلالية، ويدرك أنه لم يعد مجديا ولا مقبولا ولا حتى معقولا أية ملاحقة للعلم أو مصادرة أو تهميش له، أو محاولة لفرض الوصاية عليه. فندع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ما للعلم للعلم، وما للدين للدين. وينفسح المسرح الحضاري للعلم والدين معا.
هذا الواقع المنشود ليس حلما طوباويا، بل شهده التاريخ في بعض من أينع مراحله، فلئن شهدت بدايات العلم الحديث طغيان الكنيسة ومعاركها الدامية معه، لا سيما في القرن السادس عشر، وشهد القرن التاسع عشر اكتمال تصور العلم للكون كآلة ميكانيكية مغلقة تسير بفعل العلل المادية والقوانين الحتمية، مؤكدا أنه لا إله ولا نفس ولا روح؛ أي شهد ذلك القرن طغيان العلم على الدين وجوره على إيمان العلماء. نقول لئن حدث هذا وذاك، فبينهما نجد القرن السابع عشر، حيث أحرز نجاح العلم الطبيعي خطى جوهرية بلغت الذروة في إنجلترا التي اكتمل فيها نسق الفيزياء الكلاسيكية على يد إسحق نيوتن ومواطنيه، حتى يلقب مؤرخو العلم القرن السابع عشر بعصر تفجر العبقرية الإنجليزية.
7
وليس غريبا أن نجاح حركة الإصلاح الديني واكتمال تحقق البروتستانتية كان أيضا في إنجلترا آنذاك. وعوامل نجاح الحركتين - الفيزياء الكلاسيكية والإصلاح الديني البروتستانتي - تشترك في الثورة على السلطة الدينية المتصلبة، وليس على الدين نفسه، بل من أجل الدين. وكما أشار مؤرخ الأفكار «فرانكلين باومر»، اعتقد «فرنسيس بيكون» مع جهابذة الجمعية الملكية - التي تضم أساطين العلوم الطبيعية - أنهم يدرسون توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تكشف قدرة الله التي تتجسم في خلائقه. غير أن هذا الاعتقاد لم يحل دون قيام «بيكون» بحماية العلم من تدخل اللاهوت.
8
هذا هو المطلوب دائما.
أما عن كيف تستفيد الاستنارة الدينية من أبعاد التفكير العلمي، فالاستفادة تكمن في تحقيق هذا الهدف؛ أي الاعتراف باستقلال العلم.
لقد انجلت طبيعة التفكير العلمي الحقة إثر انهيار الآلة الميكانيكية الكلاسيكية المغلقة كتصور للكون، وذلك باقتحام عالم الذرة والإشعاع على مشارف القرن العشرين وانبثاقة النظرية النسبية، وميكانيكا الكوانتم، هذه الطبيعة التي تبدت لنا آنفا في قابلية العلم الدائمة للتكذيب والاحتمالية والنسباوية والتغير والتقدم المطرد، حتى قيل إن العلم «شيء حي» بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة، هو نسق متتالي التوالد والتنامي والتغير. فالقابلية للتكذيب تعني أن العلم يحمل في صلب طبيعته إمكانية التصويب والتقدم المستمر، حتى أن منطق العلم منطق تصحيح ذاتي؛ لذلك ينتهي «جاستون باشلار» (1884-1962) - شيخ فلاسفة العلم في فرنسا - إلى أن العلم يتنكر دائما لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه. فالعلم لا يخرج من الجهل؛ لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق.
9
وهذا التصحيح المستمر هو الذي يكفل التقدم المستمر، حتى كانت التقدمية هي صلب طبيعة العلم التي تجعله شيئا حيا وليس البتة بناء متكاملا. إن الوجود المتعين صنيعة الله، والعلم المتنامي صنيعة الإنسان. الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعلم متغير، الوجود باق والعلم نام، الوجود حتم والعلم حرية، الوجود مفعول فيه والعلم فاعلية، الوجود كينونة والعلم صيرورة.
10
إن أدركت الاستنارة الدينية هذا الواقع المتقد المتغير المتميز للعلم، أمكنها استيعاب العلم كفاعلية إنسانية متنامية ومستقلة، وأدركت عبثية التوقف عند هذه النظرية أو تلك، وتطابقها أو تناقضها مع هذه الإشارة أو تلك في النصوص المقدسة. فبدلا من النزاع الضاري والعقيم الذي خاضته الكنيسة لتناقض بعض نظريات العلم الحديثة مع ظاهر النصوص الدينية، نجد كثيرين اليوم يستنفدون جهدا أشد عقما للتوقف عند تشابه بعض النظريات مع ظاهر النصوص الدينية.
11
كلا الاتجاهين عقيم، الاتجاه المثمر هو المستنير الذي يدرك استقلالية العلم ويعترف بها، ويعرف أن طريق العلم يختلف عن طريق الدين، وكل الطرق في تشعبها وتوازيها وتكاملها، تؤدي إلى حضارة إنسانية ثرة. •••
وأخيرا لنا أن نطالب التفكير العلمي بمثل هذه الاستنارة، وأن يعترف هو الآخر باستقلالية وحرمة المجال الديني، ويدرك حدود وقصورات التفكير العلمي، ولا يتهور في نفي ما يتجاوزها.
ويحضرنا في هذا الصدد فيلسوف العلم المتمكن «بول فييرآبند» (1924-1994) الذي تساءل بدهشة: هل العلم الغربي المجيد مطية للعقم والخواء والإجداب ونفي ما عداه من جوانب حضارية أخرى؟ إن حرمنا الإنسان منها أصابه تصحر وجفاف لا يطاق.
واستغل فييرآبند تمكنه من ظاهرة العلم وفلسفته وتاريخه، ليؤكد أن العلم ليس كل شيء وليس معرفة فائقة تقهر كل ما عداها، بل هو تقليد ضمن تقاليد حضارية أخرية، أهمها الدين، وثمة أيضا الأعراف وحكمة الشعوب وثقافات العالم الثالث. وأكد فييرآبند أن المجتمع الحر حقا لا يقوم على نظرية جزئية هي النظرة العلمية فقط، أو على عقلانية واحدة هي العقلانية العلمية، بل يقوم المجتمع الحر على تعددية التقاليد، وسيادة روح التعاون بينها، وأيضا التعاون بين الأمم جميعا، وليس سيادة الغرب فقط.
12
لأن الإنسان في حاجة إلى العلم وإلى الدين، فهو في حاجة لاعتراف كليهما بالآخر، والاستقلالية والاحترام المتبادل بينهما، تلك هي الاستنارة الدينية والعلمية على السواء.
الفصل الخامس
قتل القديم بحثا
الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي
1
علم الطبيعة دائما ذو موقع استراتيجي، موضوعه هو مجمل حلبة عالم العلم التي تصب فيها شتى فروع العلم، فيتربع العلم الفيزيوكيماوي على صدر نسق العلم الحديث، كجسده وجذعه وإنجازه الأعظم، بغض النظر عن تقاناته التي شقت أجواز الفضاء - حقيقة لا مجازا.
وفلسفة الطبيعة هي السلف المباشر للعلم الفيزويوكيماوي الحديث، وأي تفهم لأصوله في العصور القديمة والوسيطة، يستدعي تفهما للأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في إطار الحضارة المعنية ومجمل بنيتها المعرفية.
2
وبالنسبة للتراث العربي، فقد أتى في جملته - ككل وكفروع - كنتيجة لمعلول محدد هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها نزول الوحي وظهور الإسلام في المجتمع البدوي القبلي.
وقد كان علم الكلام هو أول دائرة معرفية ترسمت حول الوحي، إنه نبتة أصيلة نشأ قبل عصر الترجمة - قبل التأثر بالفلسفة اليونانية - كأول محاولة لتجاوز النص الديني وإعمال العقل البشري في تفهمه وإثبات مضامينه، فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه - كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق - الفلسفة الإسلامية الشاملة حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
ومن ثم فعلى الرغم من أن منظور عصرنا يبدي سلبيات جمة في علم الكلام، تفرضها المهام المنوطة به في إطار الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، فإنه تبقى إيجابية علم الكلام العظمى في أنه تشكل للعقل العربي الصميم. والحق أنه لم يكن إلا ممارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي، اتخذت شكل البحث في العقائد لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية.
3
لقد كان بمثابة الفلسفة الإسلامية الخاصة التي شقت الطريق ومهدته للفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
فلئن كان كل من الكلام والفلسفة طريقا مستقلا نسبيا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما. لقد استفاد علم الكلام كثيرا في مراحله المتأخرة من أتون التفلسف العقلاني، من المنطق، فكان ينمو ويتطور، ينضج ... ينضج، فنضج حتى احترق - كما يقول الأقدمون،
4
وتنبعث من رماده عنقاء الفلسفة. «ومن القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن أصبحت موضوعات علم الكلام هي نفسها موضوعات الفلسفة»،
5
ولا شك أن المعتزلة لهم دور خاص في توجيه الفكر الكلامي الإسلامي إلى طريق يؤدي في النهاية إلى التفلسف الذي عاش طور الحضانة تحت جناحهم - بتعبير حسين مروة، وقد أسهب ابن خلدون - على الرغم من أشعريته - في إيضاح هذه القضية والمجرى الذي شقه المعتزلة بين الكلام والفلسفة.
فلم تكن الفلسفة إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، لتمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها. وكانت الفلسفة أكثر اتصالا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي الصريح - إن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به - فتميزت عن الكلام بأنها أولا انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري لا من القضايا المثارة في المجتمع النص بصورة مباشرة، وثانيا لم تتخذ من عقائد الدين مسلمة أو قاعدة مباشرة للبحث.
6 •••
خلاصة ما سبق أن نتوقف عند الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي، كما تشكلت على أيدي المتكلمين، ثم نتتبع نمو الأصول على أيدي الفلاسفة لنصل إليها مع أولئك الطبائعيين الذين نتفق على أنهم العلماء العرب القدامى. •••
وعلى خلاف الظن الشائع احتلت الطبيعيات في علم الكلام مكانا فسيحا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا، حتى شهدت مع المتكلمين زخما وثراء.
وكما أشار دي بور، غلب النظر في الطبيعة على المعتزلة الأولين، حتى أن أبا عمرو الجاحظ (+ 255ه) وهو من رواد النزعة الطبيعية في علم الكلام الاعتزالي، ومن المعالم البارزة في تاريخ الثقافة العربية لم يفته التأكيد على أن العالم الحق يجب أن يضم إلى دراسة الكلام دراسة العالم الطبيعي، وكان هو نفسه يصف دائما أفاعيل الطبيعة.
7
فالطبيعيات هي العالم، أو كما قال الجويني إمام الحرمين: «هي كل موجود سوى الله تعالى»
8
وملكوته وملائكته، هي عالم الشهادة، بتعبير معاصر هي الكون الفيزيقي، وبتعبير المتكلمين هي اللطائف.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام، إما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات. بهذا الأخير يمكن تصنيف الموضوعات إلى ستة، هي: التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة ثم اللطائف أي الطبيعيات. الإلهيات (= العقليات) تشمل التوحيد والقدر، والسمعيات (= النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة.
9
أما اللطائف؛ أي الطبيعيات، فموضوعها الجسم والحركة والمادة في الزمان والمكان؛ أي العالم الفيزيقي عالم العلم الطبيعي. وقد كانت الطبيعيات لطائف - كما أوضح عابد الجابري - لأنها «دقيق الكلام» الذي هو مجال العقل وحده، مقابل «جليل الكلام» أي العقائد التي يفزع فيها إلى كتاب الله.
على هذا الأساس انشغل المتكلمون الرواد - كما أشرنا - باللطائف، فكانت بداية اشتباك العقل الإسلامي بالعالم الفيزيقي ، وبداية التفكير في الطبيعة، إنه بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني المهيمن، مما يسهم في تفسير زخم الدفع العلمي الذي جعل الحضارة الإسلامية تنفسح للحركة العلمية وتحمل لواءها طوال العصور الوسطى. وهذا يوضح ولماذا كانت العلوم عند العرب تتدفق في إطار الأيديولوجيا السائدة وتحت رعاية ومباركة السلطة الحاكمة، وليس ضدها بالمواجهة والصراع الدامي معها كما كان الحال بالنسبة للعلم الحديث في أوروبا.
وسوف يفسر لنا أيضا لماذا كان العلم العربي معلولا ومفعولا وليس علة فاعلة في تشكيل البنية المعرفية الإسلامية، ولماذا استنفد ذلك الدفع ذاته، وبلغت الحركة العلمية الثرية الدافقة طريقا مسدودا، ولم يقدر له التواصل والنماء في العصر الحديث، بل أسلم الحصيلة والراية إلى أوروبا لتقوم بهذا الدور.
فقد انحل العالم الطبيعي على أيدي المتكلمين إلى جواهر وأعراض مأخوذة من المذهب الذري القديم،
10
وأصبحت الجواهر والأعراض هي الأنطولوجيا الكلامية أو أساس تصورهم للطبيعة،
11
فعن طريقهما أثبت المتكلمون هدفهم، وهو أن العالم متغير، لتوالي الأعراض عليه، وبالتالي حادث؛ أي مخلوق لله.
دليل الحدوث، أي كون العالم الحادث المخلوق دليلا على وجود الله وقدرته وعلمه الشاملين وحكمته وحياته، ذلك ما سلم به المتكلمون، بل المسلمون جميعا، فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما ورائه. «إنما سمي «العلم» علما لأنه إمارة منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك «العالم» بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى،
12
كلمة «عالم» مشتقة أصلا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العلام أي الحناء لما يترك من أثر باللون. والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به. ومن هذا العلم، لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق، وعلم الجيش «الراية»، وسمي الجبل علما لذلك، ومنه علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل. وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم».
13
لم ترد لفظة «العالم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدا، وردت فقط في صيغة الجمع: العالمين - ربما على سبيل التأكيد - ثلاثا وسبعين مرة. هذا غير «العالمين» - بكسر اللام - من العلم بالشيء التي وردت ثلاث مرات.»
14
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين، أو العالم أو الطبيعة، والتي اتخذت مبدئيا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث، هذا العالم، وهذا ما يتبلور في دليل الحدوث. وبصرف النظر عن عبقرية اللغة التي تطابق بين العلم والعالم وتجعلهما من نفس المصدر نجد دليل الحدوث هو في جوهره قياس الغائب على الشاهد، وهو شكل من أشكال الاستدلال العلمي الإمبيريقي، إنه ينطلق من المحسوس إلى المعقول، فتمتد له خطوط في صلب التيار العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني، الذي جعل البحث في الطبيعة يغلب على المتكلمين الأوائل. لكن دليل الحدوث ذاته بتوغله في الدوائر المغلقة كان من العوامل التي أدت إلى انفصال علم الكلام عن البحث في الطبيعة - بعد انتهاء عصور الازدهار، وإجهاض الفكر العلمي البازغ وإسقاطه من الحساب وسيادة الفكر الديني وحده.
الدوائر المغلقة لدليل الحدوث تتمثل في أن الطبيعيات ليست إلا سلما للعقائد، خادمة للإلهيات وليس للإنسان، في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعة، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها. الطبيعيات ليست مطلوبة في حد ذاتها للتفهم والتفسير - كإشكالية إبستمولوجية - المطلوب فقط استخدامها كوجود أنطولوجي حدوثه يدلل على وجود الله.
ظل دليل الحدوث دائما إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مما جعل الإلهيات هي النهاية والغاية، مثلما كانت قبلا هي البداية والمنطلق، وزخم الدفع في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس. •••
وإذا تتبعنا مسار التراث العربي في تطوره إلى الفلسفة أو الحكمة، وجدنا الطبيعة ومباحثها عند الفلاسفة أكثر وضوحا وتميزا منها عند المتكلمين. فقد سلموا جميعا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات.
ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم، أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولا. إنها أصبحت عنوانا للبحث وموضوعا محوريا للحديث.
ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعا - من أولهم لآخرهم - بأن العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي».
15
وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تماما عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم لجئوا إلى الفيض
16
والصدور كبديل «الفارابي وابن سينا»،
17
ثم رفض ابن رشد هذا البديل وأسرف في تبيان أن العالم قديم ومخلوق، في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيا من حيث هي المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة - فيض - قديمة.
18
في كل هذه التوترات المتتالية، ظلت الطبيعة قابعة دائما في قلب الأنطولوجيا المتجهة أولا وأخيرا نحو المتجه الإلهي، نحو الثيولوجيا؛ أي إنه لا فرق جوهري بينها وبين الطبيعيات الكلامية. •••
وأخيرا، بل أولا يبقى أولئك الذين يتحملون المسئولية المباشرة للتراث العلمي العربي، المعروفون باسم الطبائعيين، وكأن ثمة مصادرة على إبقائهم خارج دائرة الفلسفة التي كانت آنذاك تحوي كل الإسهام العقلي ذي الاعتبار.
فضلا عن أن المتكلمين عدوهم زنادقة ملحدين، ولئن كانت أفكارهم الفلسفية غير مترابطة وغير نسقية، ربما لاهتمامهم أكثر بالوقائع التجريبية، وهم أنفسهم نادرا ما واتتهم الجرأة على أن يعتبروا أنفسهم فلاسفة، فإن المسائل الفلسفية فرضت نفسها عليهم، بحيث إن إسهامهم الفلسفي جزء تكميلي لتاريخ العلم ولتاريخ الفلسفة.
19
فضلا عن تمركز دورهم في تشكيل الطبيعيات الإسلامية وتأصيلها فلسفيا.
في وقت مبكر - منذ القرن الثاني - وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مريدة، والكواكب قوى حية علوية تمارس تأثيرها، الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها. ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم - وهو الذي يتصدر باكورة الاهتمام الإسلامي التواق بالطبيعة - هو الذي أدى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية، فلا ننسى دور علوم الأوائل وما حملته من تيارات غنوصية وهرمسية.
أما في القرن الرابع الهجري، حين بدأ هؤلاء الطبيعيون في التميز كفئة، أو كدائرة من الدوائر التي ارتسمت حول الوحي، في هذا القرن آمن بحيوية الطبيعة والتنجيم الطبيب العالم أبو بكر الرازي، وكان إيمانه بالغ الحماس. لقبه المتكلمون بالملحد الكبير الخارج عن الروح الإسلامية، والحق أنه «تبنى موقف الحرانيين تبنيا كاملا.»
20
وهم مدرسة ظهرت في حران، انتهت إلى تجسيم الله، ودخلت في إطار الصابئة. وتحمل أقوى تأكيد بحياة الأجرام السماوية، وتصرفها في شئون الطبيعة والحياة والبشر، وتغلغلت في التراث الإسلامي. تأثر بها الكندي وإخوان الصفا - كما بدا فيما سبق - وابن سينا، وينسب إليهما عابد الجابري ما حملته الفلسفة المشرقية من عناصر هرمسية وغنوصية أدت إلى انتقال البيان إلى العرفان.
ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل لتلك الفلسفة الحرانية، أنكر مثلهم المعجزات والنبوة لأن الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي، عن طريق تطهير النفس ومفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي، والصورة أو النفس، والزمان، والمكان، والحركة وكلها لا متناهية، وكل لا متناه قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. ابن الرازي يسخر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النسبي لمنجزات العلوم الطبيعية في عصره عموما وعلى يديه خصوصا، مكنه من توجيه نظرية الفيض توجيها ماديا أكثر.
بصفة عامة، ابتعد هؤلاء العلماء عن طريق المتكلمين، وتلمسوا طريق الفلاسفة. تولوا عن فيثاغورث والفيض، وساروا مع الأرسطية عموما وبصفة غير ملزمة، وعلى الرغم من أن اهتمامهم كان بالوقائع المادية وما ينجم عنها من آثار، وعنايتهم فقط بدراسة الطبيعة وظواهرها المادية، فإنهم جميعا «جاوزوا الطبيعة والعقل والنفس في أبحاثهم، وارتقوا إلى ذات الله فجعلوه العلة الأولى أو الصانع الحكيم الذي تتجلى حكمته، ويتمثل إحسانه في مخلوقاته»
21
نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني - مثلا - مبحثا هندسيا خالصا بأنك إذا تحققت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم في أقصى المحسوس منه ... «ثم ترتقي بواسطة التدريب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»
22
ولعل ابن الهيثم المعاصر للبيروني في ذلك القرن الباذخ العطاء - الرابع الهجري - خير من يمثل موقف العلوم الطبيعية، لنلقاه يرفض طريق المتكلمين، ويبرهن على أن دليل حدوث العالم عندهم فاسد. فالعالم قديم أزلي أبدي، لكنه يخضع للخلق المستمر، تماما كما رأى ابن رشد. ولابن الهيثم «مقالة في إبانة غلط من قضى أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل.» وأيضا ينقسم العلم معه انقساما ثلاثيا إلى رياضي وطبيعي وإلهي. وعن فضل علم الهندسة «فإن به وبالمنطلق يوصل إلى علم الأمور الطبيعية، التي هي الحكمة، ومبادئها وعللها وأسبابها، وإلى علم الأمور الإلهية، ويوقف بذلك على حكمة الله تعالى ذكره، في هيئة السماء والأرض وما بينهما فلزم بذلك الباري الإله تعالى، حكيما قادرا خبيرا.»
23
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي، حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يعق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأن بحوثهم العلمية - كما أشار برتراند رسل - اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلا عن الأنساق العلمية؛ أي إنهم كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي.
24
كانت الطبيعة بؤرة من بؤر اهتمام المتكلمين، ووضعها الفلاسفة قبل الإلهيات، ثم ظهر الطبائعيون المتكرسون لها، ولكنها كانت في كل حال متجهة نحو الألوهية، مما جعلها قابعة في نظرية الوجود، وبعيدة عن نظرية المعرفة التي هي مجال التنامي والصيرورة والفعالية الإنسانية. لهذا لم يقدر لها تواصل تاريخي؛ ولهذا أيضا لم يعن الطبائعيون بصياغة أنساق علمية، واقتصرت جهودهم العلمية والإمبيريقية الجادة على صياغة القوانين الجزئية. ولكن - كما هو معروف - كانت هذه الجهود مقدمات ضرورية لنسق العلم الحديث، بحكم التواصل التاريخي لحركية العلم.
وأخيرا، تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر الوسيط، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة، إلى آخر المدى. وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينة، أيضا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي. وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية. قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلا متعينا للقدرة الإلهية. مما يوضح أن العرب أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، لكن كل هذا في إطار تصوراتهم وثوابتهم الحضارية.
وكان التراث العربي الإسلامي تيارا مستقلا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين: المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركب جدلي أشمل. لم يكن محض انتقاء بينهما، أو توفيق لهما مع الشريعة، كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي، عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي، وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.
وأخيرا نرجو لهذا العرض المقتضب أن يكون قد أبان عن مواطن القوة التي خلقت التراث العلمي العربي الزاخر، مثلما أبان عن مواطن الضعف التي تبرر لماذا كان عرضة للتوقف والانحسار بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية.
الفصل السادس
أول التجديد
من منظور فلسفة العلوم الطبيعيات في علم الكلام الجديد
1
نتفق في لقائنا هذا على الهوية الإسلامية، والإطار الإسلامي كمنقذ لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في طوفان ما نعانيه من تخلف وعوز وتراجع وتمزق وتبعية، شريطة أن يكون إطارا قادرا على التلاؤم مع روح العصر المتأزم بإشكالياته الخاصة، والناهض في وجه تحدياته المستجدة. من هذه الفكرة المبدئية البسيطة ينطلق المشروع التركيبي الضخم لإقامة علم الكلام الجديد.
والأطروحة التي أتقدم بها الآن تهدف إلى انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام الجديد المعاصر لعصر أميز ما يميزه أنه جعل الطبيعة والسيطرة عليها واستغلالها وتسخيرها الحلبة الأولى لمعركة التفوق بين الحضارات. وكان من الضروري جعل فلسفة العلوم المدخل لهذا باعتبارها التمثيل العيني والرسمي، وأيضا الوحيد للتفكير المعاصر في الطبيعة، إن رمنا قهرا لتحدياتنا وتقدما نريد من علم الكلام الجديد أن يكون الإطار الأيديولوجي له.
ومجرد البحث في علم الكلام الجديد يعني ضمنا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، استيعابه لأنه التراث الذي يمثل المخزون النفسي والنسيج الشعوري والبناء القيمي، ثم نتجاوزه لأنه نتج عن ظروف تاريخية انتهت وتخلقت ظروف مباينة تماما. إن جدلية الاستيعاب/التجاوز هي القادرة على شق طريق علم الكلام الجديد.
في هذا الطريق السائر قدما لن تكون علاقة حاضر علم الكلام بماضيه علاقة اتصال سلبي تجعل الماضي فاعلا، والحاضر مفعولا فيه، والأقدمون أوصياء علينا في الإجابة على تساؤلات لم يطرحها عصرهم، ولعلها لم تدر بخلدهم. وهي أيضا ليست علاقة انفصال بائن تجعل الحاضر منبت الجذور وكأنه ناشئ عن فراغ. إنها جدلية الانفصال/الاتصال المنبثقة عن جدلية الاستيعاب/التجاوز، ليمثلا الأداة الفعالة في يد علم الكلام الجديد. وتتحول هذه الأداة إلى سلاح ماض قادر على الحسم والإنجاز، إذ يبلغ علم الكلام مركبهما الشامل الذي يعني وضع «القطيعة المعرفية»، وهي تعني أن تنفض اليد تماما من مرحلة انتهت، ومن مسلماتها ومصادرها ومناهجها، ونحط الرحال على مرحلة جديدة بمسلمات ومصادرات ومناهج ملائمة لها.
2
من هنا - من الانتقال الجذري إلى مرحلة أو دورة جديدة، نخلص إلى أن القطيعة المعرفية مناظرة لوظيفة علم الكلام الجديد التي أسماها «د. حسن حنفي» الانتقال من التنوير إلى التثوير أو من العقيدة إلى الثورة، خصوصا إذا أخذنا الدلالة السيمانطيقية للفظ الثورة في أصوله اللغوية الإنجليزية، لا العربية، حيث تعود ثورة إلى ثار بمعنى هاج وماج. أما في الإنجليزية فتعني
Revolutionary
ثوري جذري ودوار، ثورة
Revolution ، وأيضا دورة كدورة الجرم السماوي في مداره، نجد مصطلح الثورة لا يجعل الرفض هياجا انفعاليا ومفاجئا، بل هو تقدم مكثف شديد الفعالية، انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها، لانتهاء المرحلة السابقة واستنفاد مقتضياتها.
3
وهذا هو المنشود من علم الكلام الجديد.
إذن نخلص إلى وضعية لهذا العلم مسلحة بالقطيعة المعرفية. على أن القطيعة المعرفية الآتية عبر الطريق الجدلي من المفاهيم الأساسية في فلسفة العلوم المعاصرة. فهكذا ابتدعها «باشلار» ليبلور الوضع التقدمي بعد ثورة العلم العظمي في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم والفيزياء الذرية التي قوضت عالم نيوتن الميكانيكي، ومسلمات الفيزياء الكلاسيكية، وانطلقت بمفاهيم ومناهج مناقضة تماما لتتضاعف معدلات التقدم العلمي في متوالية. من هنا تمثل القطيعة المعرفية أداتنا للربط، بل والتفاعل بين طبيعيات علم الكلام وفلسفة العلوم.
وتجد القطيعة المعرفية لعلم الكلام الجديد بيانها وإعلانها في أن الهدف من العلم القديم، والغاية التي يجتهد كي يصلها هي إثبات العقيدة. وقد حسمت هذه القضية، وانتهى زمان أو على الأقل خطر اللجاج فيها من قبل العقائد المخالفة، وأصبح الوضع معكوسا في مرحلتنا الحضارية، فالعقيدة المثبتة هي نقطة البدء التي يسلم بها ويسير على أساسها علم الكلام الجديد. وبعد أن كان الإنسان والعالم المخلوق فيه مقدمة لإثبات وجود الله الواحد أصبح الله الأحد والعالم الخالق إياه مقدمة مثبتة نجاهد كي ننتهي منها إلى إثبات حضور الإنسان المسلم في تيار التاريخ. على هذا الأساس يتحدد موضوع الطبيعة في علم الكلام الجديد.
بداية، الدليل - أي دليل - هو معرفة أي إبستمولوجيا. ولكن لأن دليل الحدوث أهم الأدلة على وجود الله، والحادث هو الجسم الطبيعي فقد احتلت الطبيعيات مكانا فسيحا في علم الكلام القديم، بوصفها صلب نظرية الوجود.
4
وفي مرحلة اكتمال العلم في القرنين السابع والسادس الهجريين بلغت نظرية الوجود نصف العلم، وتضم مباحث المبادئ العامة والجواهر والأعراض، لا سيما الأخيرين، فهما بنية الوجود والقطاع الأعظم من نظرية الوجود الحاوي للطبيعيات إثباتا لوجود بارئها الأحد.
5
هكذا رسم المتجه الإلهي طريقا سائرا من المعرفة إلى الطبيعيات إلى الإلهيات، أو من الإبستمولوجيا إلى الأنطولوجيا إلى الثيولوجيا، فتقوقعت الطبيعيات في قلب الأنطولوجيا - نظرية الوجود - وانقطعت الصلة أو كادت بينها وبين الإبستمولوجيا - نظرية المعرفة - التي تكرست للاستدلال على العقائد وإثباتها.
وها هنا في أنطولوجية الطبيعيات الكلامية تكمن المهمة التي توجب القطيعة المعرفية، فثمة خطر يتمثل في أن الطبيعيات المعاصرة؛ أي النظريات الفيزيائية ذات دلالة أنطولوجية أي وجودية، أو منصبة على الوجود، فالتحقق الواقعي للفرض والإنصات لوقائع الوجود هو ما يميز العلم التجريبي الحديث. فهل سندخل في لجاج حول التقارب والتلاقي الأنطولوجي بين الجانبين. إن هذا يجعلنا ننشغل بالمحتوى المعرفي والمضمون الإخباري للنظريات، في حين أن المحتوى في نسق العلم يمثل المتغير الخاضع دوما للاختبار والتكذيب والتصويب، ومن ثم التقدم العلمي المتتالي، مما يجعل العلم بناء صميما طبيعته الصيرورة والتغير، والبقاء فقط للمناهج القوية المثمرة الولود لكل ما يترى من تغير وتقدم. إن البقاء للجهاز الإبستمولوجي - أي المعرفي - الذي هو موضوع فلسفة العلوم.
فلنستوعب من تراثنا كيف يبزغ التفكير الطبيعي العلمي من ثنايا الفكر والإطار الديني،
6
ثم نتجاوزه محدثين القطيعة المعرفية للطبيعيات القديمة كي نتمكن من نقل المبحث برمته من الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا، لتغدو الطبيعيات موضوعا لجهاد العقل العلمي الضاري والنبيل في طريق التقدم المستمر. فبهذا تضطلع بدورها في إثبات حضور الإنسان المسلم.
ولكن نظرية علم الكلام الجديد أو جهازه الإبستمولوجي هو في جوهرة تخطيط أيديولوجي. فهل سننقل الطبيعة من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا. إن التفكير العلمي الطبيعي له جهازه الإبستمولوجي الخاص به والمطروح في فلسفة العلوم؛ والمطلوب أن نبحث عن حلقة الوصل بينه وبين نظرية علم الكلام الجديد لينضبط وضع الطبيعيات في منظومته.
ويمكن أن نجد هذا في منطوق تعريف حسن حنفي للعلم تعريفا فينومينولوجيا بوصفه دراسة بنائية فلسفية للإنسان من حيث هو إنسان، وتحليل أبعاده ووصف وجوده، فما يحدث في العالم الخارجي لا يمكن فهمه ومعرفته إلا من خلال الإنسان.
وهنا هنا نجد حلقة الوصل والمدخل المفضي إلى أحدث التطورات في فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها. فقد انهار المنهج الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة ثم تعميمها في فرض واختباره. ولا حاجة إلى الإنسان المبدع الخلاق، وأصبح المنهج المعاصر هو المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يهبط من الفرض إلى وقائع التجريب، فلن يبدأ البحث العلمي إلا بفرض يبدعه العالم الموهوب، يتلوه فرض آخر أنجح وهكذا في متوالية التقدم. فليس العلم اكتشافا لحقائق مطلقة، بل محض سلسلة من فروض ناجحة.
كما يقول «هيزينبرج» النظريات الفيزيائية المتوالية حلقات في سلسلة الحوار بين الإنسان والطبيعة. وإذا كان عالم نيوتن آلة ميكانيكية تسير في مسارها المحتوم وفقا لقوانينها المطرودة بفعل عللها الداخلية في مكان وزمان مطلقين بإزاء أي مراقب في أي وضع كان، لتختفي فعالية الذات الإنسانية، بل ووجودها، تحقيقا لموضوعية موهومة، فإن عالم النسبية ليس هكذا البتة، ولا بد من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة. ولا تتأتى الملاحظة أصلا في عالم الكوانتم (الكمومية ) بغير فرض يبدعه العقل ويستنبط منه وقائع الملاحظة. وهكذا أدرك العلم المعاصر أنه نشاط إنساني بحت، وأصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب الواقع الإنساني بحدوده المعرفية، من خلال الإنسان. إن العلماء - كما أشار نيلز بور - ليسوا فقط المراقبين أو المشاهدين، بل هم أيضا الممثلون والمخرجون والمؤلفون لملحمة العلم،
7
فحق قول مارجوليس إن العلوم الفيزيائية محض مغامرة إنسانية.
8
فهل يستطيع علم الكلام الجديد أن يفسح لنا الحلبة ويلقي في روعنا العزائم والجسارة لخوض أمثال هذه المغامرات؟
Shafi da ba'a sani ba