ذاك أن القبيلة عبدت أسلافها، وظلت القبائل متفرقة في عبادة الأسلاف حتى غلبت قبيلة على سائر القبائل في أمة واحدة، فوجب أن يسود رب القبيلة الغالبة سائر الأرباب، وتنحدر الأرباب المرجوحة إلى مكان دون المكان الأول، وعمل دون العمل الأعظم المنسوب إلى رب الأرباب، فإذا كان العمل الأعظم هو الخلق فالأرباب التي تتولى ما دونه لا تتسامى إلى مرتبة الإله الخلاق المستأثر بأشرف الصفات وأوحد الأعمال، ثم تنطوي الأمم في الدولة أو الإمبراطورية فيقترب الناس من عبادة إنسانية عامة ، ومن تخصيص الإله الأكبر بما هو أعظم وأشرف من صفات الخلق والتقدير.
وفي الدولة تستفيض العلوم الفلكية والحسابية وتحتل الشمس مكانها المنفرد بين ظواهر الطبيعة جمعاء، فالجد القديم إذن هو الشمس في عليائها وأبناؤه قبس على الأرض من روحها أو من قضائها، وتلتقي الديانة الشمسية بالديانة السلفية من هذا الطريق.
وإذا بقيت في الأمة فرق قوية لا تفنى كل الفناء في الديانة التي يدين بها الملك الأكبر - فهي تحتفظ باستقلال كيانها في عناوين آلهتها المترادفة لا في حقيقة الإله وعنصره الأصيل، فالشمس مثلا هي أوزيريس وخيرا ورع وآمون وآتون، ولكنما اختلفت الأسماء لاختلاف الكهانات والأقاليم.
ومما لا منازعة فيه بين الثقات من علماء المقابلة أن أوزيريس جد قديم في مصر الوسطى، وأن قصته قصة إنسان عاش عيشة الآدميين في زمن من الأزمان، ومما لا منازعة فيه أيضا أن أوزيريس اسم من أسماء الشمس في مغربها أو في جهة المغرب التي اعتقدوا دهرا طويلا أنها هي عالم الأموات، ومما لا منازعة فيه مع هذا وذاك أن اسم أوزيريس أطلق بعد ذلك على الشمس في جميع الأحوال، فكان هذا التدرج نموذجا للسلم الذي تترقى عليه الديانات.
فأوزيريس أول ميت خالد بروحه معبود في قبيلة من جملة قبائل البلاد، ثم تمتزج القبائل فتعبده الأمة كلها أو تميزه بالعبادة على سائر الأرباب، ثم تبرز ديانة الشمس بما ينبغي لها من العلو والتفرد في أفق العبادات، فيتدرج أوزيريس في التلبس بالشمس حتى تنسى أشكاله الأولى فيعود هو والشمس مرادفين لذات واحدة: فهو «أولا» روح إنسان محتفظ بسلطانه بعد الموت ممثل في صورة المومياء للدلالة على الموت والخلود، ثم هو الشمس في حالة الغروب لأنه انتقل من الأرض إلى عالم الأموات، ثم هو الشمس في جميع أحوالها مع تقادم الزمان.
وتستفيد الديانات هنا من عقيدة الروح العريقة أنها جعلت للشمس روحا أو معنى غير محسوس، ينتقل منها إلى البشر المعبودين فيستحقون العبادة لأنهم كائنات علوية لا لأنهم رجال عظماء أو مجرد أسلاف مذكورين بالتجلة والتقديس، وما من أحد في مصر واليونان كان ينكر أن الإسكندر ابن فيليب بالوراثة الجسدية، ولكنهم مع هذا لم يروا شيئا من التناقض في انتمائه إلى عطارد حين زعمت أمه أن عطارد نفخ فيها من روحه وهي تحمل هذا الجنين، ولا رأوا شيئا من التناقض في انتمائه مرة أخرى إلى آمون حين زعم كهان سيوة القديمة أنه ابن آمون.
ولنا أن نقول: إن ديانة الشمس كانت هي القنطرة الكبرى بين عدوة التعديد وعدوة التوحيد، وإنها وافقت اتحاد الأمم في نطاق الدول الجامعة فانتشرت حيث انتشرت الدول الجامعة من أقدم العصور؛ لأنها انتشرت في مصر وبابل وفارس والهند واليابان، وكانت رموزا للقوة الكونية العظمى بعد أن كانت مبدأ الأمر جرما محسوسا يعبد لذاته، وتضاف إليه الروح حينا لأنه معبود حي، ولا حياة بغير روح.
ولا تزال بداءة التوحيد من طريق تأليه الشمس مسألة تخمين لا مسألة يقين، فالحضارات القديمة في الدول قد عمت الأقطار الشرقية بين مصر وبابل وفارس والهند منذ ثمانية آلاف سنة أو تزيد، كلها قد عبدت الشمس وميزتها بالعبادة في دور من الأدوار، فأيها هي الأمة السابقة إلى التوحيد؟ أهي فارس أم الهند أم بابل أم آشور أم مصر أم اليابان في مجاهل القدم قبل اتصالها بالحضارة الآسيوية؟ ليس الجواب على هذا كما أسلفنا مسألة يقين بل مسألة تخمين. وأغلب الظنون المدعمة بالقرائن المعقولة أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة. فالمؤرخ هيرودوت القديم يقول: إن الإغريق تعلموا أمور الدين من المصريين، والسير إليوت سميث - وهو مرجع موثوق به في تاريخ مصر - يقول: إن شعائر الهند القديمة في الجنائز نسخة محكية من كتاب الموتى، وتفرق الديانات معقول في الدول الأخرى ولكنه غير معقول في قطر يجري فيه نيل واحد ويتحد وجهاه قبل خمسة آلاف سنة على أقل تقدير. •••
وجملة القول: إن أطوار العقيدة الإلهية تشعبت بين الناس فلم تطرد على مراحل متشابهة في جميع الأمم ولا في جميع الأزمان.
ولكننا إذا أحطنا بوجهتها العظمى وجدنا أن عقيدة الأرواح لم تفارق أطوارها الأولى، وأن عبادة الأسلاف امتزجت بعقيدة الأرواح، ثم اتسعت نظرة الإنسان إلى دنياه حتى التمس لها علة في السماء فكانت الشمس هي أكبر ما رآه وتوجه إليه بالعبادة، ثم أصبحت الشمس رمزا للخالق حين تجاوزها الإنسان بنظره إلى ما هو أعظم منها وأعلى، فهي القنطرة الأخيرة بين العدوتين: عدوة التعديد وعدوة التوحيد.
Shafi da ba'a sani ba