192

والكيميون الذين يقولون كما يقول هؤلاء إن الإشعاع كاف لتفسير المادة وتراكيبها العضوية وغير العضوية مطالبون بمثل ما يطالب به أولئك البيولوجيون، فالإشعاع يملأ الفضاء.

فليركبوه كما حللوه، أو يرونا مكانا يتحول فيه الشعاع إلى ذرة وتتحول فيه الذرة إلى خلية، ولا يكونون بعد ذلك قد أبطلوا قولا من أقوال المؤمنين بالله؛ لأن عمل الصانع لا يثبت عمل المصادفة، بل يرده إلى صانع ألهمه وجعله في حكم الطبيعة التي تتخلق كما أراد. •••

ويعزز القول بأن إنكار الحقيقة الإلهية هو مسألة العالم لا مسألة العلم - أن كثيرا من العلماء الممتازين ينكرون هذا الإنكار ويؤمنون «بالعقل» في هذا الوجود، ويعتبرون تفسير الكون بالإرادة الإلهية أقرب تفسير إلى العقل وإلى الضمير، وبين هؤلاء أفذاذ من علماء الطبيعة وعلماء الرياضة أو من العلماء الذين جمعوا بين الطبيعة والرياضة واستقرت لهم في هذه العلوم مكانة أعلى وأثبت من مكانة المنكرين، وإذا جازت المفاضلة بين حقوق العلماء في بحث المسألة الإلهية فأرجح العلماء حقا في هذه المباحث هم علماء الطبيعة الفلكيون؛ لأن الفلكي يعتمد على بديهة العقل الرياضية، والطبيعي يعتمد على تجارب الحس الخارجية، والذي يجمع بينهما يجمع بين دلائل العقل والمشاهدة، ويبني حكمه على نظام السماوات ونظام هذه الأشياء التي نلابسها في حياتنا الأرضية، فهو يتلقى الفكرة الإلهية في أوسع نطاق.

وقد يرجح حق العالم الرياضي في هذه المباحث اعتبار آخر تبرزه لنا الكشوف الحديثة في مختلف العلوم الطبيعية، ونعني به أن الكون كله يوشك أن يتراءى لنا في نسيج من النسب الرياضية التي تسوغ قول الفلكيين الأقدمين: «إن الله يهندس» وإن الهندسة تترجم لنا حكمة الله في مخلوقاته العلوية والسفلية على السواء.

ومن أكبر هؤلاء العلماء سير أرثر إدنجتون

Eddington

الذي يقول: «إن تفسير الكون بالحركة الآلية أمر لا يسيغه العلم الحديث، وإن الكون أحرى أن يفسر بالنسب الرياضية في عقل عاقل، ولكن الإنسان هو سر الكون الأكبر، وهو الذي يدرك هذه النسب ويدرك ما بين عقله وعقل الكون من علاقة وثيقة، وإنه إذا جاز للحركة الآلية أن تخلق في المستقبل «إنسانا آليا» فليس مما يجوز في العقول أن تتخيل ذلك الإنسان سائلا عن الحقيقة أو مباليا بأسباب الحق والباطل، ولكن هذا الشوق إلى الحقيقة هو هو لب لباب الحياة وهو هو محور الوجود الإنساني منذ نجم من صلب هذه الطبيعة : هذا هو الذي يجعل الإنسان شيئا مغايرا كل المغايرة لما حوله من الظواهر الطبيعية ويجعله قوة روحانية، ومتى ارتفعت الصيحة من قلب الإنسان: فيم كل هذا؟ لم يكن جوابا صالحا لتلك الصيحة أن ننظر إلى هذه التجارب التي نتلقاها من حسنا ونقول: كل هذا هو ذرات وفوضى، وهو كرات نارية تحوم وتحوم حول القضاء المحتوم، كلا، بل الأحرى أن نفهم أن كل هذا وراءه روح يستوي الحق في محرابها، وتكمن فيها قوابل لتنمية الذات بمقدار ما فيها من النزوع إلى تلبية عناصر الخير والجمال.» •••

ومن كبار العلماء الفلكيين الطبيعيين الذين ينظرون إلى الحقيقة الإلهية هذه النظرة جينز

Jeans

صاحب المباحث المعدودة في الإشعاع والذرات الغازية، وهو ينبذ التفسير الآلي كما ينبذه إدنجتون، ويستدل بالنسب الرياضية على وجود الله؛ لأننا لم نستخرج هذه النسب من الكون بل استخرجناها من عقولنا، فلما عرفناها وطبقناها على ما حولنا عرفنا أنها كانت موجودة عاملة قبل أن نهتدي إليها ونترقى إلى مراقبة عملها في نواميس الكون ونواميس الحياة، فحق لنا أن نفهم أن هذه الحقائق الرياضية هي حقائق عقل إلهي أودعها أفكارنا كما أودعها هذه العوالم من حولنا. قال: «إن العقل لا يعد بعد طفيليا على عالم المادة كما بدا لبعضهم من قبل، بل نحن آخذون أن نراه ونرفع إليه التمجيد لأنه هو خالق عالم المادة والمهيمن عليه، وليس المقصود بالبداهة عقولنا الإنسانية، ولكنما المقصود هو العقل الذي نحسب من أفكاره تلك الذرات التي تنمي لنا العقول»، فالكون أحرى أن يسمى «فكرة عظيمة» لا آلة عظيمة، وإنه لأهول خطرا من الأفكار في رأس إنسان. •••

Shafi da ba'a sani ba