McDougall
يثبتون العقل المجرد وينكرون على بعض البيولوجيين والفزيولوجيين دعواهم أن العقل من عمل الدماغ والأعصاب؛ لأن ظواهر الحياة غير ظواهر المادة، وظواهر العقل غير ظواهر الغريزة في الأحياء السفلى، ولم يقرر العلم قط ما ينفي أن الدماغ آلة العقل التي يعمل بها في الجسد، ولم يثبت العلم قط أنه مصدر العقل دون سواه.
فجماعة الشكل المركب أو جماعة «الجستالت» وسط بين فريق الآليين وفريق القصديين؛ لأنهم يثبتون للعقل وجودا لا يتوقف على الإحساس، ويتشعبون بعد ذلك شعبتين متقابلتين، فمن فهم أن العقل كنه مجرد قد يستقل عن الحواس كما يستقل عن الإحساس قال بالقصد وتأثيره في أعمال الإنسان، وقال فوق ذلك بالعقل المطلق وتأثيره في حركات الكون وعوارض الأجسام والنفوس، ومن فهم أن الفرق كله فرق بين تلقي المركبات وتلقي الأجزاء، وأن الفواعل الجسدية كافية لتفسير الإدراك العقلي على اختلاف مصادره، فهو ينكر محل العقل المجرد ويحسب في مسألة الخلق والخالق من زمرة الآليين والماديين. •••
ولم تخل القارة الأوروبية من مذاهب أخرى غير هذه المذاهب ظهرت في البلاد السلافية كالروسيا وبولونيا، أو في البلاد التيوتونية كالدنمرك والسويد والنرويج، أو في البلاد اللاتينية كإيطاليا وأسبانيا وبعض بلاد البلجيك، ولكنها على الأكثر بين مذاهب مادية بحتة تقف عند حد الإنكار ولا تتعداه، وبين نظرات خاصة في الديانة المسيحية تنضوي تارة إلى كنيسة من الكنائس المعروفة، أو تنفصل عن الكنائس جميعا وتكتفي من الديانة بالعقيدة الفردية دون شعائرها الاجتماعية.
فلا نحسبنا بحاجة في هذا السياق إلى تخصيص مذهب منها بالذكر غير مذهب واحد لا يدخل في الإنكار البحت ولا في التفسيرات الدينية البحتة، وهو مذهب «بنديتو كروشي» الإيطالي الذي يلقب بهيجل الحديث؛ لأنه يدين بالفكرة مثله ويخالفه في شرح أطوارها التي تتجلى بها في العالم.
وخلاصة مذهب كروشي - فيما نحن بصدده - أن الفكر هو الوجود المحقق الذي لا شك فيه، وأن الفكر الأبدي يتجلى في حلقات متوالية ينسخ بعضها بعضا وتتجه جميعا إلى مجاهدة الشر والغلبة عليه، وأن هذه الأضداد المتناسخة بعضها ضد لبعض، ولكنها ليست بضد «للوحدة» الكاملة التي تنطوي فيها جميع الأضداد، وأن الأديان طور من أطوار الفكر، ولكنها خطوة مترقية من خطوات الأساطير الأولى في تقدم الإنسانية إلى الفكر الصحيح، ولا محل للأديان في رأيه بعد ارتقاء الفلسفة وتجردها من بقايا الأساطير. قال في الفصل الأخير من كتابه أدب الحياة أو مسالك الحياة: «إن العصر الذي نعيش فيه يتهم بهدم الديانات التي أصابت فيها الحياة الإنسانية منطقها وآداب سلوكها ومواطن استقرارها وأمانها، إلا أنها تهمة لا ثبات لها؛ لأن عصرنا بهذا الذي صنعه قد صنع شيئا لا قبل له باجتنابه؛ إذ لم يكن هنالك بد من تساقط بعض الجوانب القيمة من البنية القديمة في خلال تعرية الديانات من جلابيب الأساطير، وفي هذه الجوانب أفكار نفيسة وفضائل لا يسهل تقويمها مما كان متصلا بالقضايا الأسطورية، ولكن عصرنا قد بادر إلى استخلاص هذه الأفكار والفضائل ووضعها في المكان اللائق بها بعد صقلها وتنظيفها وإثباتها في أركان صرح جديد هو أرسخ وأنبل وأوسع وأقوى من صرحها المهدوم، وإنه لفخر عظيم لجيلنا هذا أن يفلح في تأسيس ديانة إنسانية، وعقيدة مصفاة تبزغ من محض الفكر الصراح، ولكنه فكر تتجسم فيه الحياة أو يسخو بالجديد من الحياة.» •••
ومواضع الملاحظة على هذا المذهب هي:
أولا:
أن الإيمان بأن «الفكر» هو الحقيقة المطلقة عجيب جد العجب مع القول بأن المادة تقف في طريق الفكر وهي وجود «غير صحيح» وهو هو وحده الوجود الصحيح، فالذين يقولون: إن المادة متلبسة بالفكر مشتملة عليه يقولون شيئا مفهوما حين يتخيلون أن الفكر متوقف على أطوار المادة وإن كانت هذه الأطوار زعما غير مفهوم، أما الذين يعرفون للفكر حقيقة مطلقة فلا يقولون شيئا مفهوما حين يتخيلون أن الفكر يزداد أو يترقى من مغالبة «وجود» غير صحيح.
وثانيا:
Shafi da ba'a sani ba