168

وليس من محض المصادفات فيما نعتقد أن تبدأ هذه النزعة الفلسفية في البلاد الإنجليزية التي يقال عنها إن وظيفة الملك فيها وظيفة اسمية، وإن حامل التاج هناك لا يتعرض لسياسة حكومته إلا بمقدار ما يدعوه رعاياه.

وليس من محض المصادفات كذلك أن يكون البادئ بها هو جون ستيوارت مل صاحب المراجع المعتمدة في مباحث الحكومة النيابية ومباحث الحرية والدستور، وصاحب الوظيفة التي تخلى عنها في شركة الهند الشرقية، حين آلت إدارتها إلى سيطرة الحكومة البريطانية.

وقد ولد جون ستيوارت مل في أوائل القرن التاسع عشر 1806-1873 واقترنت حياته كلها بأنشط الأطوار في الرقابة البرلمانية وحركات التوسع في حقوق الانتخاب، فنظر في حكومة الكون وعينه لا تتحول عن حكومة الأرض وعلاقة المحكومين فيها بالحاكمين.

ولم يكن جون ستيوارت مل من الفلاسفة الإلهيين ولا من المعنيين كثيرا بما وراء الطبيعة أو حقائق الأديان، وقد أنكر أبوه جميع عقائده الدينية في أخريات حياته ولم يكن في مبدأ حياته من ذوي التدين والاعتقاد، فلا جرم ينظر ابنه إلى إله الكون ومدبر العالم فلا يستكبر عليه قيود المادة والنواميس.

وإنما عرفت فلسفة مل في الدين من رسائله الثلاث التي كتبها عن «الديانة» ولم ينشرها في حياته، ولكنه أودعها صفوة آرائه في هذا الموضوع، ولعله قد أودعها كلمته الأخيرة فيه.

فالرسالة الأولى عنوانها الطبيعة، وخلاصتها أن «سلوك الطبيعة» ليس بالسلوك الذي يجتذبه الإنسان في طلب الكمال، وأن الإنسان خليق أن يروضها ويقودها لا أن يتخذها قدوة له في آدابه ومعاملاته، ومن ثم لا يرى أنها من خلق إله رحيم قادر على كل شيء؛ لأنها قد أفعمت بالقسوة والألم والعذاب، وقلما يظفر الإنسان منها بخير أو بركة غير ما يحصله هو بالسعي الحثيث والجهد الشديد.

والرسالة الثانية عنوانها فائدة الديانة، وخلاصتها أن الديانات قد أفادت قديما في تعليم الإنسان مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وكانت هي المرجع الوحيد الذي كان يرجع إليه في التفرقة بين الحسن والقبيح والمباح والمحظور، ولكنها قيدت عقله بأحكامها وفروضها فأعجزته عن التفكير في مضامينها والتخلص من عيوبها، وعنده أن العقائد الإنسانية كافية في تهذيب الناس وقيادتهم بعد زوال العقائد التي تقوم على ما وراء الطبيعة، لولا مزية لهذه العقائد لا توجد في العقائد الإنسانية، وهي تعزية النفس برحمة الله ودوام الحياة في العالم الآخر، ولا مانع عقلا ولا علما في رأي مل أن يصح وعد الديانات بالحياة بعد الموت.

والرسالة الثالثة عن «الربوبية» وفيها يعترف الفيلسوف بنظام الكون ولا يستريح إلى تفسير ظواهر الحياة بمذهب النشوء والارتقاء، إلا أنه يعود فيقول: إن هذا النظام لا يثبت وجود الإله القادر على كل شيء، ولا يلزم منه أن مدبر الكون إله مطلق القوة والكمال؛ لأن الدنيا على ما فيها من النظام لا تخلو من الآفات والشرور التي لا يرتضيها إله وهو قادر على تبديلها، فالله موجود مريد لخير المخلوقات وسعادتها ولكنه محدود القدرة والإرادة، منصرف العناية إلى أمور كثيرة غير أمور الناس ودائب على تذليل المادة والقوة وتطويعها لما يرتضيه. •••

كانت هذه الآراء مقدمة لظهور القول بالإلهية المقيدة في العصر الحديث، وكانت في آراء جون ستيوارت مل نواة أخرى لظهور هذا المذهب على اختلاف شروحه؛ لأنه كان يقول بالكيمياء العقلية ويعني بها أن امتزاج الأفكار تنشأ عنه أطوار فكرية جديدة لم تكن بينة في الأفكار المتعددة قبل امتزاجها، كأنها العناصر المادية التي يمتزج بعضها ببعض فتنبثق منها مادة جديدة لم تكن بينة في عناصرها الأولى - وأشهر الأمثلة على ذلك تولد الماء من الهيدروجين والأكسجين، وكلاهما مخالف للماء في خصائصه ومزاياه.

وشاعت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صيغ القول بالنشوء والارتقاء، ثم شاعت على أثره فلسفة النسبية التي قررها أينشتين وقرر فيها أن الفضاء رباعي الأبعاد وأن البعد الرابع هو الزمان، فلا يتأتى قياس حركة من الحركات بالطول والعرض والعمق وحدها دون أن نضيف إليها الزمان وهو البعد الرابع المتمم لهذه الأبعاد.

Shafi da ba'a sani ba