ولقائل أن يقول في هذا الصدد: ولماذا يحوجنا الله إلى البراهين لإثبات وجوده؟ لماذا لا يتجلى للعيان فيعرفه كل إنسان؟!
ونقول نحن: إننا لا ندري، ولكننا إذا طلبنا أن تتجلى الحقيقة الإلهية لكل مخلوق، وأن تتساوى العقول جميعا في استكناه جميع الحقائق بغير خفاء، عدنا إلى المخلوقات المتشابهة في الكمال بغير اختلاف قط وبغير حدود في المعرفة والخليقة، وليس تخيلنا لذلك العالم المطلوب بأيسر من تخيلنا للعالم المشهود كما عهدناه، فإن العالم الذي يوجد فيه الإيمان وجودا آليا أقل حكمة من العالم الذي يجاهد فيه الضمير جهاده للوصول إلى الإيمان.
البراهين القرآنية
لم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في كتاب من كتب الأديان المنزلة كما تكررت في القرآن الكريم.
فليس في التوراة ولا في الإنجيل أكثر من إشارات عارضة إلى الملحدين الذين ينكرون وجود الله.
لأن أنبياء التوراة كانوا يخاطبون أناسا يؤمنون بإله إسرائيل ولا يشكون في وجوده، فلم يكن همهم أن يقنعوا أحدا من المرتابين أو المنكرين، وإنما كان همهم تحذير القوم من غضبه وتخويفهم من عاقبة الإيمان بغيره، وتذكيرهم بوعده ووعيده كلما نسوا هذا أو ذاك، في هجرتهم بين الغرباء الذين يعبدون إلها غير «ياهواه» إله إسرائيل دون غيرهم من الشعوب!
نعم دون غيرهم من الشعوب؛ لأن أبناء إسرائيل كانوا يحسبونه لهم ولا يحبون أن يشركهم فيه غيرهم، فلا هم يشركون معه غيره من الآلهة ولا هو يشرك معهم غيرهم من الشعوب، وهكذا كانوا يفهمون التأليه في تاريخهم القديم، قبل خلوص الإيمان بالتوحيد من شوائب الشرك والتعديد.
فعباد «ياهواه» لم يكونوا ينكرون وجوده ولا ينكرون وجود غيره، وإنما كان هو إلههم المفضل على غيره من الآلهة، كما كانوا هم الشعب المفضل على الشعوب.
فالأرباب الأخرى عندهم موجودة كما يوجد إلههم «ياهواه»، ولكنها لا تستحق منهم العبادة لأنها أرباب الغرباء والأعداء، وكل عبادة لها فهي من قبيل الخيانة العظمى وليست من قبيل الكفر كما فهمه الناس بعد ذلك، وغاية ما في الأمر أن طاعة الآلهة الغريبة هي كخدمة الملك الغريب، نوع من العصيان والخيانة.
لهذا لم يشغل أنبياء التوراة السابقون بإثبات وجود «ياهواه» أو بإثبات وجود الأرباب على الإجمال، وإنما كان شغلهم الأكبر أن يتجنبوا غيرة «ياهواه» وغضبه، وأن يدفعوا عن الشعب نقمته وعقابه، ولم يكن له عقاب أشد وأقسى من عقابه لأبناء إسرائيل كلما انحرفوا إلى عبادة إله آخر، من آلهة مصر أو بابل أو كنعان.
Shafi da ba'a sani ba