وكيف يكون الموقف يا ترى عند نهاية هذا القرن العشرين؟
لا نراه مؤديا بنا إلى رجعة عن هذا الطريق، بل نراه - علميا كما نراه دينيا - يمعن بنا في هذه الوجهة التي لمحناها على كثب يوم ختمنا هذا الكتاب عن الحقيقة الإلهية في طبعته الأولى، ولعل طبعاته المتوالية أن تكون في تقدير قرائه معالم متوالية لهذا الطريق المحدود إلى أن يشاء الله.
عباس محمود العقاد
أصل العقيدة
ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات.
فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام، ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس؛ لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام، ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر وطورا بعد طور، وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
Shafi da ba'a sani ba