وهناك ذهب إلى عمه الدكتور خليل. - أهكذا تكون النهاية؛ موت في حظيرة بهائم؟ في أقذر مكان في القرية، بل ربما في العالم. - إنه مجرد جسد ارتمى في القذارة، وعند الموت تستوي الأمكنة. - وربما كانت روحه قد صعدت وهي تحمل من القذارة أكثر مما ارتمى عليه جسده. - هذا ليس شأنك. - أنا ابنه. - ولكنه أصبح إلى من لا ينفع عنده مال ولا بنون.
وأكمل صلاح: إلا من أتى الله بقلب سليم، أو كان قلبه سليما. - ومن هذا الذي يستطيع أن يطلع على القلوب؟ - الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون. - فهذا شأنه اتركه له. - يا ليتني أستطيع. - أنت قمت بواجبك بعد وفاته. - ليس بعد. - ماذا بقى عليك؟ - هناك إنسان سيقتل. - إنه قاتل، هذا حق المجتمع. - وحقي، ألست ولي الدم؟ - وماذا تريد أن تفعل؟ - رفعت الدعوى المدنية. - أتريد عوضا عن أبيك؟ - أريد الحق أن يأخذ مجراه. - لا أفهم شيئا. - لكل شيء وقته. - بلغني ما فعلته في البلد. - لم يبق أحد أرد حقه إلا سعادتك. - أنا ليس لي حق. - سنعرف الآن. - كم بقي لك من أرض؟ - أربعون فدانا. - لا بأس. - ستصبح الآن عشرين تقريبا. - لماذا؟ - أرضك وأرض جدتي. - أرضي أنا؟ - نعم. - ما لها؟ - لا بد أن أردها إليك. - لماذا وهل بعتها قسرا أنا الآخر؟ - لو لم يكن أبي على ما كان عليه ما بعت أرضك. - أكذب لو قلت لك إن هذا كان تفكيري. - بل تريد أن تبقي في ملكي أرضا ليست من حقي. - كان أبوك لا يتأخر عن دفع الإيجار، وكنت أستطيع أن أبقي الأرض تحت إشرافه لو أردت ذلك ولكنني بعت الأرض بمحض اختياري والثمن كان مناسبا لهذه الفترة. - عمي أنت تعرف العبء الذي أحس به على ضميري. - وواجبي أن أخففه عنك، ولكن أتريد أن تخفف من عبئك لأحمل أنا عبئا أشد؟ أغشك؟ أغش ابني؟ أي ضمير يقبل هذا؟ - هل أنت واثق؟ - كل الثقة. - فأرض ستي إذن. - هي الأخرى باعتها مختارة. - لقد رأيت ستي وهي تعيش معك. كانت الحسرة تملأ نفسها إلى يوم وفاتها؛ لأنها تركت البلد وبيتها. لا، لولا أبي وما فعله ما تركت ستي البلد أبدا. - وافرض، ولكنها باعت الأرض باختيارها. - أهذا اختيار؟ إنه الإرغام ذاته، على كل حال أنا قررت أن أتنازل عن أرض ستي لعمتي عابدة وعمتي فاطمة. - وأنا قبلت عنهما هذا وقبلت هذا لك؛ فإن من واجبك أن تكرم عماتك، وفعلا كلتاهما تحتاج إلى ما يعينها على الحياة، وأنا أعمل ما في طاقتي وأحب لك أن تكون بجانبي في رعايتهما. - إذن. - عندي توكيل منهما. - وهذا عقد بيع خالص الثمن لهما وقعه أو لا توقعه فهو على كل حال من صورة واحدة، وكلف سعادتك واحدا من وكلاء المحامين ليبدأ في إجراءات التسجيل. - لا أحب أن أمدحك، ولكن لا بد أن أقول لك إني فخور بك. - أرجو أن أشعر بنصف هذا الشعور نحو نفسي. - والآن ماذا ستعمل في الزواج؟ - تأجل طبعا. - كيف؟ - عديلة من نفسها قالت لا بد أن ننتظر سنة على الأقل وأبوها أيد هذا الرأي بحرارة. - وأنت ما رأيك؟ - لو لم يقولا هذا ما كنت تزوجت الآن على أي حال. - نعم، ولكن سنة كثير. - والله أعلم! ربما أكثر. - كيف؟ - أتريدني أنا أن أتزوج وأفرح وأنجب أطفالا، وهناك روح إنسان متهم في قتل أبي يتردد الأمر فيها بين البقاء والإزهاق؟ - وأنت ماذا بيدك؟ - لا أعرف، ولكنني لا أتصور أن أتزوج والقضية منظورة. - صلاح، أتكون كرهت عديلة؟ - بل يزداد حبي لها كل يوم عن اليوم الذي فات. - عجيبة! - يا عمي حتى يتزوج الإنسان، وأقول الإنسان، لا بد أن يكون مرتاح الضمير. - يا بني، ضمير الإنسان لا يشغله إلا ما يصنعه الإنسان نفسه. - أو ما يصنعه أبوه. - وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. - وهذا طائري يا عمي. - أعانك الله على نفسك يا ابني. - ادع لي. - لم تقل لي فيم انتويت أن تعمل. - عرض علي عميد الحقوق أن أتقدم لأشغل وظيفة المعيد الخالية بالكلية فطلبت أن يمهلني للعام القادم. - لماذا؟ - لي غرض في هذا. - ألا تقوله لي؟ - ستعرفه في حينه. - والنيابة؟ - هي أيضا لم أتقدم لها. - إذن فماذا تنوي؟ - طلبت قيدي في المحاماة. - ومتى ستحلف اليمين؟ - أظن بعد شهر تقريبا. - وأين تريد أن تتمرن؟ - لم أفكر بعد. - أتحب أن تتمرن في مكتب الدكتور عبد الوهاب؟ - وكله ابن حسن عن أبيه، وليس معقولا أن أتمرن في مكتب يترافع عن قاتل أبي. - إذن أكلم الأستاذ عاطف البهنسي. - عظيم. - الآن، أي مكتب يتمنى أن تتمرن عنده، أنت جيد جدا يا أستاذ، وهل أنت قليل؟ وعاطف من أعز أصدقائي. - وهو كذلك.
الفصل الحادي والعشرون
انعقدت دائرة الجنايات ونظرت في قضية حسن عبد الحميد، وتحدد يوم المرافعة، وتكلم وكيل النيابة، ولم يكن محتاجا لإسهاب؛ فالقاتل معترف والجريمة تمت مع سبق الإصرار والترصد فهو يطالب بأقصى العقوبة.
وطلب صلاح أن يترافع بوصفه مدعيا بالحق المدني فسمح له وبدأ المرافعة. - بسم الله الرحمن الرحيم، أقولها يا حضرات المستشارين لا افتتاحا للمرافعة فحسب؛ وإنما لأتأمل مع المحكمة الموقرة لماذا اختار سبحانه الرحمة الرحيمة من بين أسمائه الحسنى جميعا ليجعل منها فاتحة فاتحة الكتاب. أليس هذا لأن صفة الرحمة الرحيمة هي أحب الصفات إلى الذات العلية؟ وقد جعل الله الإنسان سيد المخلوقات؛ لأنه قبل أن يحمل الأمانة التي عرضها سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فنصبه سبحانه سيد خلقه أجمعين، فإنسان بلا رحمة ليس إنسانا جديرا أن يحمل الأمانة، والأمانة يا حضرات المستشارين هي الاختيار الذي منحه الله للإنسان حين هداه النجدين، وحرم سائر مخلوقاته من حق الاختيار هذا؛ فالحيوان لا يستطيع أن يكون إلا حيوانا، والملائكة لا تستطيع أن تكون إلا ملائكة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون إنسانا أو حيوانا أو ملاكا، وبهذا الاختيار يصبح الإنسان إما شرا من الحيوان لأنه اختار، أو خيرا من الملائكة لأنه اختار، وكلاهما لا يملك الاختيار، ونحن في عصر يا حضرات المستشارين فرض على مصر أن يكون أبناؤها مسحوقين، وحينما يسحق الناس يسود الجبروت ويفشو الظلم، ويصبح النفاق هو الزعيم الأول؛ فنحن ننافق السلطات، وننافق من ينافقون السلطات، وننافق الغش، وننافق الخداع، وننافق الرشوة، وننافق التدليس، وننافق السرقة، وننافق القتل، وننافق الاعتداء على الأعراض والأموال والكرامات وعزة الآدمي. حضرات المستشارين إننا ننافق النفاق ذاته، وأبناء جيلي نشئوا في هذه الفترة القاتمة السواد. وقد تبينا أمرنا بعد أن ادلهم الخطب، واشتدي أزمة تنفرجي، قد أوشك ليلك بالبلج. هكذا قال الشاعر وهو ينظر إلى قوله سبحانه:
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا
والعسر هنا واحد؛ لأنه معرف بأل واليسر مطلق؛ لأنه محرر من التعريف بحكمة الإله الأعظم، ولهذا قال المفسرون: لا يغلب عسر واحد يسرين أبدا، فلا عجب يا حضرات المستشارين أن يبدأ جيلنا نحن أن يصنع اليسر بيده مؤيدا بروح من بارئ النفوس وملهمها فجورها وتقواها. وقد آن لنا أن نتبع تقوانا بعد أن أوغل عصرنا في فجوره، وخلق من المعاصي ما لم تعرفه البشرية.
إن هذا المتهم الماثل أمامكم لم يقتل أبي، وإنما قتل أبي نفسه، وإن هذا المتهم حين أطلق الرصاص على أبي كان في حالة دفاع شرعي عن الكرامة التي هي أغلى من النفس.
أما أن أبي قتل نفسه فبما صنع من فظائع في حق البشرية، وبما قتل من أنفس، وبما قهر من رجولة الرجال، وبما أذل من كرامات الإنسان، وأي شيء أقسى على نفس الرجل من أن يكون ذليلا أمام زوجته وابنه وابنته، ولا يملك لظالمه دفعا، ولا لكرامته صونا؟ وإذا قالت النيابة إن المتهم هو أيضا قتل طلبت إلى الزميل ممثل النيابة أن يرجع إلى قول الله سبحانه:
أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . وقد كان أبي - وأشهد في هذه الساحة المقدسة - مفسدا في الأرض فحق عليه عقاب. وإذا قيل إن العقاب من حق المجتمع، ومن حق الله وحده، انتقلت إلى موقف المتهم مرتئيا أنه فعل فعله في حالة دفاع شرعي عن الكرامة التي هي أقدس عند الفلاح الأصيل من النفس. تصوروا يا حضرات المستشارين حال هذا المتهم أن يبيع أرضا لا يريد بيعها، ما نظرته إلى نفسه والنظرات من حوله احتقار أو إشفاق، وكلتا النظرتين أشد على الحر وقعا من كل رصاص العالم؟ فإذا قيل فما باله انتظر هذه السنوات فإن الجواب حاضر من قريب: لقد ذاق هو الذل مقهورا بالجبروت، ولم يرد لأبنائه أن يذوقوا الذل مقهورين بالحاجة؛ فلو أنه صنع صنيعه يوم أرغم على ترك أرضه لترك أطفاله صغارا يتكففون الناس، ويمدون أيديهم في طلب الجدوى فانتظر تزيده السنوات شعورا بالمهانة والذلة حتى استوى أبناؤه رجالا، ودافع عن كرامته التي امتهنت طوال هذه السنين.
Shafi da ba'a sani ba