الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

أحلام في الظهيرة

أحلام في الظهيرة

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

حين كان الزمان مثل الموسيقى الحالمة الهادئة، وكان الناس فيه أنغاما ساجية حالمة، ذلك الزمان الذي لم نره نحن وإنما هو بالنسبة إلينا روايات عن الآباء تلقفوها عن الأجداد فأصبحنا ولا نعرف عنه إلا مباهجه ومتعته، الجلسة الهادئة المليئة بالسعادة والضحك والهناء؛ فالأجيال جميعا تحب أن تنظر إلى أمس الغارب، وتكره الحاضر وما تشهده فيه من صراع، وتخشى المستقبل الذي تطل عليها بواكيره مكشرة الأنياب رهيبة السمات.

ذلك الزمان البعيد عنا هو أحب الأزمان إلينا لأننا لم نشهده، ولا نستطيع أن نعرف منه إلا ما حلا للأجداد أن يرووه لأبنائهم الذين هم آباؤنا، ونقله إلينا الآباء سعداء بما ينقلون مقارنين دائما بين الخير الذي كان يشيع في جوانبه، والشر الذي يفشو في الزمان الذي يعيشون فيه. وهكذا أصبح شأننا نحن أيضا. لا يختلف جيلنا الحاضر عن أجيالنا السابقة، فأصبحنا ساخطين تحن نفوسنا إلى هذه الملاوة من الزمن التي كنا فيها بلا مسئولية وبلا صراع، وكان آباؤنا يحملون عنا العبء جميعا ونحن نتصور - كما يتصور أبناؤنا اليوم - أن عليهم أن يحملوا العبء، وعلينا نحن أن نسعد وعليهم هم أن يحبونا، وعلينا نحن أن نحترمهم فقط ثم لا نصنع شيئا من بعد.

في ذلك الزمان البعيد بدأت أسرة وهدان تتكون، وكان رأس الأسرة طفلا بريئا في الملعب يلهو مع أترابه من الأطفال، لا فارق ثمة بين طفل وطفلة، ولا بين قادر بسط الله الرزق لأبيه، وبين معسر قدر الله سبحانه - لحكمة لا يعلمها إلا هو - الرزق على ذويه. في ذلك الزمان كان وهدان يحب نبوية ذلك الحب الطفل الطيب الذي لا يعني عند أي منهما إلا خفقة في القلب، وفرحة عند اللقاء، وشوقا عند التباعد.

وحين شب كلاهما عن الطفولة إلى الصبا القريب من الفتوة احتجبت نبوية ولم تصبح الحياة كلها لعبا عند وهدان، بل كان يحلو له أن يتشبه بالرجال، ويقف في الجرن، ويرقب النورج أو يركبه، أو يقف في الغيط يجمع القطن أو يرقب من يجمعونه. وما كان أبوه غنيا، ولم يكن أيضا معسرا، وإنما هي أربعة أفدنة تنأى بأبيه عن الأجراء لتضعه في مصاف الملاك.

ولكن الحقيقة مع ذلك تبقى كما هي أربعة فدادين.

كانت الشمس ساخطة على الأرض، تكويها بشواظ لاهب من النار، وكان النورج يدور وقد أوشك هو الآخر أن ينبجس العرق من خشبه أو من عجلاته الصلبة الحادة، وهي تمر في دائرة مفرغة على عيدان القمح في ملالة وضيق يجرها الثور الكبير وقد أوشك أن يتهاوى من شدة الحر. وكان وهدان يعتلي صهوة الدكة الخشبية التي يجلس إليها من يسوق الثور، وبيده سوط مفتول من لحاء أشجار التيل الذي يزرعونه حول حقول القطن ليرد عنها عادية الأتربة وعدوان الحيوان.

وكان يدري أن الجرن الذي يتلبس فيه ملابس الرجال ذوي الأعمال هو الطريق الطبيعي لمسير نبوية. وكانت هي أيضا تعلم ذلك؛ فكانت تظل في هذا اللهيب من الحر رائحة جائية تتظاهر بأنها تؤدي مطالب المنزل، وعلم الله، وأحسب أن وهدان أيضا كان يعلم، أنها لا تكثر من المرور إلا لتلتقي نظراتها بنظراته، وتطفو إلى شفاه كل منهما تلك الابتسامة الوادعة الحنون، التي يخفق لها القلب ذلك الخفق الدءوب الجديد المرتفع الوجيب المتخافت الصوت؛ حذر أن يطلع عليه من شهود اللقاء أحد.

كانت حياة وهدان منذ البواكير الأولى من سنوات عمره حياة جادة حازمة كلها عمل. وربما كانت سنوات الكتاب التي تتسم بعنف المعلم، وصعوبة العلم بالنسبة لوهدان هي أندى هذه السنوات وأخفها وطأة عليه لو كان من هؤلاء الذين يرون في العمل جهدا وشقاء، ولكنه كان من الذين يحبون أن يعملوا، ولا يقومون العمل إن كان ممتعا أو غير ممتع، وإنما هو عمل ولا بد أن يؤدى فهو يؤديه كما يتنفس الهواء ويطعم الطعام.

ولم يكن جلوسه على النورج في هذه السن الباكرة لعبا شأن رفاقه من الصبية؛ فما هي إلا أيام قليلة ركب فيها النورج لهوا ومراحا ثم سحب أبوه المكلف بإدارة النورج، ووجهه إلى أعمال أخرى وترك النورج بكل ما يتصل به من أعمال عهدة في ذمة وهدان؛ فهو الذي يجمع أكوام التبن والقمح، ويمد النورج بزاده الجديد من أعواد القمح ذات السنابل، حتى إذا مالت الشمس إلى منزلها من العصر توجه إلى كوم القمح رجلان أو ثلاثة أشداء ليذروا الأكوام، فينفصل القمح عن التبن بنفس الوسيلة التي يتبعها أجدادهم وأجداد أجدادهم، منذ عرف الإنسان القمح كوسيلة لصنع العيش.

ومرت الأيام، وأوشك موسم الحصاد أن ينتهي وبدأت المخاوف تساور الصبيين اللذين التقيا بشبابهما مع أنسام القمح؛ أن يصبح اللقاء بينهما غير ميسور.

وكانت الشمس في السماء حريقا وكان النورج يدور دورات كان وهدان في غير حاجة إليها، ولكنه يديره ليجد عند نفسه أو عند المارة عذرا ينتظر به مرور نبوية، حتى إذا مرت قفز من النورج قفزة سريعة ملهوفا يريد أن يظفر منها بوعد على اللقاء، ولكن مسمارا في النورج يمسك بجلبابه فإذا وهدان تحت النورج وإذا الأسلحة تبتر ذراعه اليسرى أو تكاد. وترى نبوية ما حل بحبها وتصرخ بأعلى صوت لها، فيدوي صراخها فيملأ أنحاء القرية، وتجري إلى وهدان الذي فقد وعيه فتبعده عن النورج، وتعمد إلى خمارها، وتسد به نوافير الدماء المندفعة من الذراع، وتحضن الفتى في لوعة، وتصرخ لا يعنيها أن يراها الناس. ويقبل الملأ من كل حدب، وينقلون وهدان إلى حلاق الصحة، وتلازمه نبوية لا تتركه، ويضطر أبواها اللذان جاءا مع الجموع أن يلازماها مدركين ما ينفطر به قلب الابنة.

وحين تطمئن الجموع على حياة وهدان ينصرف كل إلى شأنه إلا نبوية. ويقول الأب لزوجته وابنته: اذهبا أنتما فإني سأبقى.

ولا يدري أحد أو لعل كل محب يدري من أين استطاعت نبوية أن تأتي بكل هذه الشجاعة التي تجعلها تقول لأبيها في حسم قاطع لا يقبل المناقشة: أنا سأبقى يا أباه.

ويخشى الأب أن يجاوز النقاش ما بلغه من حسم فينفضح من حب الفتاة الطاهر ما ينبغي أن يظل في طي الكتمان ويقول في استسلام: ونبقى نحن أيضا.

ومع أنسام الفجر تنقطع آهات وهدان التي ظلت تدوي طوال الليل. وتوقظ نبوية التي لم تنم أباها وأمها من نومهما الجالس، ويتجه ثلاثتهم إلى بيتهم.

الفصل الثاني

أي تحد تلبس وهدان منذ ذلك اليوم؟ كان يعرف نفسه طفلا لاهيا إذا دعاه الرفاق إلى اللهو. وكان يعرف نفسه أيضا يقبل على العمل مع أبيه كلما دعاه أبوه إلى ذلك العمل. ولم يكن يعرف في نفسه أن إقباله على العمل ما كان إلا ليستجلب إلى كيانه وجوانحه ذلك الشعور بأنه بلغ مبالغ الرجال، وأنه يستطيع أن يقوم بعملهم ويسير طريقهم ويختط في الحياة خطتهم، وأنه بذلك يستطيع أن يحدث نبوية وكأنه رجل، وأنه خف القطن مع أبيه، وأنه جمع مع الجامعين، وأنه في موسم الذرة يفرط ثمارها عن كوالحها، وأنه في موسم القمح يدرسه كما رأته. كان يحب أن يصنع هذا الصنيع، ولم يكن يدري أنه يحب ذلك جميعه لينشئ منه حديثا مع نبوية في أمسيات الصيف، وبمشهد من الحقول، ومن أشجار الكافور والعبل، ومع روائح الزروع، ومع أنسام العبق الإلهي تسري في خفايا الليل بكرا دائما كأنها لأول مرة تنطلق إلى أرجاء الحياة.

وحين أصابه هذا الذي أصابه وأصبح بذراع واحدة ظل طوال فترة علاجه يفكر: أيصبح عاجزا؟ أيثير الشفقة كلما وقعت عليه عين؟ أيكون في الحياة إنسانا ناقصا لا أمل من بعد في نبوية؟ ولكن ماذا بعد؟ إن تلك وحدها كارثة الكوارث أجمعين، ولكنها حصلت، وقعت، بترت ذراعه، أيصبح على الحياة عالة؟ أيفقد نبوية ويفقد كرامته في وقت معا؟ لترين مني الأيام ما لم تتوقعه مني حين كنت صحيحا، بل وما لا تتوقعه من صحيح آخر مهما تكن قوته وجبروته.

لأكونن أشد عنفا عليها مما عنفت به علي. فتى كان في أول عهده ينام في سريره ليعالج في ذلك الزمان البعيد كل البعد عن زماننا اليوم، والأيام تتطاول به والمرض جائح باتر والدواء بدائي يحبو ما يزال في ظلمات دوامس من الجهل والتأخر. ماذا يصنع الفتى إذا لم يتوعد الحياة ويهددها؟ وما البأس عليه وهو نائم والحياة كلها يقظة ودأب وعمل وكدح.

ولكن نبوية تعوده كل يوم، فما له إذن يقطع أن الأمل في الزواج بها قد انقطع؟! وما له يجعل فقدانها أمرا لا مفر منه، ولا شك فيه، ولا سبيل إليه! والعجيب العجيب أنه كان يكره زيارتها، وإن كان قلبه يرى في عيني أمه وأبيه علامات تعجب؛ فقد كان الفتيان والفتيات يزوجون في مثل هذه السن في هذه الأيام، فما لهذه الفتاة لا تقني حياءها وما لها تصر على زيارة فتى بترت ذراعه ويصلح لها عريسا؟! أتظن أنه ما دامت ذراعه قد بترت فهو لن يتزوج على أية حال؟ إنها مجرد ذراع أيتها الفتاة! وما تمنع الذراع المبتورة الفتى أن يتزوج، فما مجيئك هذا كل يوم في جرأة لا تكون إلا لزوجة كتب كتابها ودخلت أيضا؟! فما كان يجوز لمن يكتب كتابها ولم يدخل بها زوجها أن تذهب إلى بيته وحدها، بله الخطيبة، بله التي ليست بهذه ولا بتلك.

عجيب شأن نبوية في رأي الأب والأم معا.

أما وهدان فقد استقر به الرأي على واحدة من اثنتين؛ إما أنها تشفق عليه في هذه المحنة الطاحنة. وإما أنها تريد أن تحيي موات أمله حتى ينتهي العلاج ويخرج إلى الحياة مرة أخرى. وكلا السببين لم يستطع أن يجعل قلبه يكف عن الوجيف وجيفا كان يجعله يحزن كلما جاءت لزيارته، وقد كانت زيارتها يومية، عاليا دراكا يكاد يعلن عن نفسه للملأ الحاضرين بل والغيب أيضا.

وشفي وهدان، وخرج للحياة، ورضي عن نفسه وهو يجعل من أحلام المرض وهذائه حقا واقعا وقوع حياة، جادا جدية من لا يهذي ولا يعرف إلى الهذاء سبيلا.

هو في الغيط منذ الصباح الباكر وهو لا يعود إلى البيت إلا بعد أن تغيب الشمس وتوغل في المغيب. وتأتي إليه نبوية في الغيط وعلى ملأ من الذين يعملون فيه وتجالسه، في أول يوم ذهب فيه إلى العمل. وحرص أن يجعل الحديث بعيدا عن مواطن القلب، وحرص على ألا يتخاضع لها في الكلام وإنما شكرها؛ لأنها جاءت تهنئه بسلامة الخروج. وشغل نفسه بالذين يعزقون الأرض لا ينصرف عنهم ولا يميل إليها بكلمة، وإن كانت نفسه جميعا باقية بجانبها لا تستطيع عنها منصرفا، ولا تطيق منها فكاكا.

وابتسمت نبوية بتلك الشفافية التي عرفها الريف في قلوب فتيانه وبنياته؛ فمع أنها كانت ترى وجه وهدان وهو منصرف عنها إلى فئوس العاملين إلا أنها كانت واثقة أن نفسه جميعا بقلبها وجوانحها بجانبها. انتظرت مليا ثم قالت في شبه همس وفي صوت أغن: فتك بعافية يا وهدان.

وقال دون أن ينظر إليها: مع السلامة.

وصحبت نفسه وجوانحه وانصرفت، وقال هامسا لما بقي منه: ما تزال تحاول تشجيعي على مصيبتي.

وفي اليوم التالي جاءت نبوية، ولم يطق وهدان صبرا، أمسك يدها وانتفض جسمه انتفاضة لم يعرفها في حياته قط وابتعد بها عن الجميع: مجيئك بالأمس يرى فيه العاملون فتاة تهنئ ابن قريتها بالعودة إلى العمل. أما مجيئك اليوم فغير مقبول. عودي إلى البيت. - وكيف أراك؟ - سأجيئ أنا إليك. - أين ومتى؟ - أيوافق أبوك على مجيئك؟ - لم أسأله. - أتظنين أنه يوافق؟! - إذا اتصل الأمر بي وبك فأنا لا أفكر.

أحس بالكلمة كأنها رصاصة أصابت منه كل المقاتل، ونظر إلى ذراعه المبتورة وأبقى عينيه عليها لتخفيا دمعات تبادرت، فهمس وقال بصوت لا يكاد يسمع ولكن في نبرته أمر وحسم: عودي إلى بيتك.

وفي غير تردد قالت وهي تولي عنه: أمرك هو الأمر الوحيد الذي لا أناقشه، فتك بعافية.

وتزداد الدموع وبلا من عينيه، أما عافية الجسم فقد أنالها. أما عافية الروح فهيهات!

وظل وهدان يذهب إلى الغيط كل يوم، ومرت شهور. وكان أبوه يظن أول الأمر نزوة جريح فقد ذراعه ولا يريد أن يصاحب الفتية فيما يضطربون فيه. حتى إذا تتابعت الشهور وأوشكت أن تكتمل عاما أصبح الأب في غناء عن الذهاب إلى الحقل. وراح يقضي نهاره في جلسته الحبيبة عند عبد الحميد أبو ديدة الخياط الذي لا تمنعه صنعته عن الحديث، ولا عن سماع من يقرأ الجريدة له.

وكانت نبوية في كل يوم تذهب إلى حيث ترى وهدان وتطمئن عليه وتنصرف لا تقترب منه، ولكن لا تمضي أو تكون واثقة أنه رآها.

إذن فالأمر ليس إشفاقا، ولا هو بتشجيع.

جاءت من بعيد ورآها فراح يجري إليها بكل قوته وهي قوة عاتية. وما كان في حاجة إلى الجري فقد كان مناها أن يقبل إليها ولو إقبالة وانية هينة. وإنها لمنتظرة وإن استغرق خطوه إليها عاما وأعواما. - ماذا تريدين يا نبوية؟

ودون أن تفكر لحظة: أريد أن أتزوجك.

ومادت به الأرض بما حوت وصاح: أنا بذراع واحدة يا نبوية.

وصاحت هي أيضا به: وهل هذه جديدة علي؟!

وفي تعجب حزين: ألم ينقطع حبك لي حين انقطع ذراعي؟

وأجابته في قوة حاسمة: ومن قال لك إني كنت أحب ذراعك؟

ويطأطئ رأسه: لم أصبح إنسانا كاملا.

ويعلو صوتها وهي تقول: ومن قال لك إن الإنسان ذراع أو ساق؟ إن الإنسان قلب وحنان ورجولة وإصرار. أحببتك بعد أن فقدت ذراعك أضعاف أضعاف ما كنت أحبك من قبل، وأحببتك حين أمرتني ألا أجئ إليك في الغيط أضعاف أضعاف ما أحببتك بعد أن فقدت ذراعك. وهدان، إذا لم تتزوجني فلن أتزوج طول عمري.

وتزوجا.

الفصل الثالث

عجيب شأن الأيام والسنين؛ فالأيام تمر بطيئة متثاقلة كأنما يدفعها القدر إلى المضي رغم أنفها، بينما تمضي السنوات مسرعة تلهب الزمان بسياطها، وتندفع كالسيل الجارف فإذا الطفل فتى، وإذا الفتى شاب، وإذا الشاب كهل وإذا الكهل شيخ. وإذا نظروا إلى أمسهم وجدوه قريبا منهم يكادون لو مدوا أيديهم أن يمسكوا به أو هكذا يخيل إليهم على الأقل؛ فهم يعلمون أن أمسهم الذي ولى بعيد عنهم بعدهم عن بدء الخليقة، ولكنه في أذهانهم وفي وجدانهم كأنه ما مضى. وقد يتجسم الخيال في نفوسهم ويوشكون أن يصدقوه فما هي إلا نظرة في مرآة أو قومة متثاقلة يعوقها الكبر حتى يدركوا ما على أكتافهم من سنوات، وتتبين لهم الحقيقة أوضح ما يكون الوضوح. إن السنين قد مرت، ولم يكن مرورها بوهدان وزوجته عبثا؛ فقد أنجبا سباعي وخليل وفاطمة وعابدة.

وكان وهدان طوال هذه السنوات خير فلاح في القرية، وربما كان خير فلاح في المنطقة، فاستطاع أن يشتري أربعين فدانا كاملة؛ فقد كان حريصا أن يشتري في كل عام أرضا بما يفيض من ماله فلا ينكسر عنده مال إلى عام قادم، مرتئيا أن مستقبله ومستقبل أولاده جميعا هو هذه الأرض، ولكن عشرة أفدنة من هذه الأربعين لها قصة أنت بالغها.

ومع كل هذه الأرض التي اشتراها لم يعرف أحد عنه بخلا، ولا هو قصر في الإنفاق على بنيه، ولا هو كان شحيحا مع زوجه؛ فما طلبت منه مطلبا إلا كانت إجابة هذا المطلب هي أول شيء يسارع إليه. لم ينس أنها قبلته بذراع واحدة على غير غنى؛ فما كان أبوه يملك غير أربعة أفدنة استطاع أن يصل بها إلى خمسة قبل موته، وبالجهد الذي بذله وهدان فما كان أبوه ذا همة، وما كان يعنيه أن تزيد أرضه بقدر ما كان يعنيه أن يجلس إلى عبد الحميد أبو ديدة الخياط.

ولم يحاول وهدان وهو يجمع هذه الأرض أن يكون جشعا يهتبل الفرص ويشتري ممن تلم بهم الضوائق أو تعترض حياتهم الكوارث. ولم ينس أهل «الصالحة» قريتهم أن سليمان النواوي الذي يملك ستة أفدنة من أجود أراضي القرية، جمعها من تجارة القطن التي كان بارعا فيها كل البراعة، ضارب يوما في البورصة فإذا هو مدين دينا كبيرا وإن كان لا يستغرق الأرض. وقصد عبد الحميد أبو ديدة إلى وهدان وأوعز إليه أن يشتري أرض سليمان في هذه الفرصة ويفوز بها، وإذا بوهدان ينتفض عن إنسان يعف أن يكون أخوه فريسته: أترضى لي هذا يا عم عبد الحميد؟ - وماذا فيها يا وهدان يا بني؟ هو معذور، ولا بد أن يسدد الدين، وجميع أصدقائه في التجارة مضروبون معه، ولا طريق له إلا بيع الأرض فلماذا لا تشتريها أنت؟ - قسما بأهل بيتي جميعا لو كان سليمان هذا يهوديا لا أعرفه ولا يعرفني ولا نحن أبناء بلدة واحدة ما فعلتها، فكيف وهو ابن قريتنا نشأنا نراه ويرانا وتتزاور زوجته وزوجتي ويلعب أطفالي مع أطفاله؟ صل على النبي يا عم عبد الحميد. - عليه الصلاة والسلام يا وهدان، يا ابني، ولكن أليس هذا الذي تذكره سببا أن ننقذه من أزمته. - أيكون ما تشير به إنقاذا أم إجهازا عليه؟ - على الأقل ستكون أنت رحيما معه في الشراء، وتدفع له ثمن الأرض دون أن تخسف بها سابع أرض، كما يعرض عليه حمدان أبو إسماعيل. - ولا هذا. - إذن فقد أضعت الرجل وأنت تحاول أن تنقذه. - وما كنت لأفعل هذا أيضا. - فماذا أنت فاعل؟ - قم معي وسترى.

وحين استقر بهم المجلس عند سليمان قال سليمان دون ريث من التفكير: الحمد لله أنك جئت يا وهدان. - تحت أمرك يا سليمان. - والله لا يشتري الأرض إلا أنت. لقد خسف حمدان ثمنها إلى العشر وأنا مضطر للبيع، ولكنني رفضت أن أبيعها له من شدة غيظي منه. أما أنت فأبيعك إياها بالثمن الذي عرضه وأكون سعيدا. - صل على النبي يا أبو داود. - عليه الصلاة والسلام، أتريد أن تنزل بها عن ذلك أيضا؟ - صل على النبي «أمال»، خذ هذه الفلوس. - ما هذه؟ ألا نتفق الأول؟ - ولا نتفق ولا يحزنون. خذ، وصل على النبي. - بكم تريد الفدان؟ - لا أريده مطلقا، لا أريده حتى ولو بعته لي بلا ثمن . - فما هذه الفلوس؟ - دينك، اذهب فسدده. - ماذا تقصد يا وهدان؟ - ماذا جرى يا سليمان؟ أكلاب مسعورة نحن حتى نتشمم الضوائق تحيط بناسنا فنجعل منها فرصا لنا؟ لا يا سليمان، لا عشنا إن كنا نفعل ذلك. سدد دينك والتجارة يوم في العالي ويوم في الواطي، وإن خانك السوق مرة فمصيره أن يكرمك في المرة القادمة. - أما سبحان الله! ولكننا لسنا أصدقاء. - معارف، وأولاد بلد واحدة، ووشنا في وش بعضنا البعض العمر كله. وأنا كنت سأشتري بضعة أفدنة هذا العام بهذا المال الفائض عندي، فماذا يجري إذا أجلنا الشراء إلى العام القادم.

وصاح سليمان من الفرحة وكأنه يرى سحرا لا يصنعه أحد من أبناء الأرض: أهذا معقول؟ - غير هذا هو الذي لا يعقل. توكل على الله. سلام عليكم. - انتظر أكتب لك ورقة. - ولا ورقة ولا يحزنون. - لا، هذا ليس من حقك. - إنه مالي وأنا حر فيه. - أطال الله عمرك ولكنه ليس مالك. إنه مال أولادك وأنت أمين عليه. - لا مسئولية علي أمام أولادي. لقد ورثت عن جدهم خمسة أفدنة، ولو كنت بعتها لكان هذا من حقي، ولكني لم أبعها وزدت عليها. - اسمع من غير كثرة كلام. تأخذ الورقة أو تأخذ الفلوس؟ - هات الورقة.

وهكذا لم يكن وهدان في شرائه للأرض مسعورا ولا كان نهازة فرص. وما دمنا قد روينا قصته مع سليمان فمن حق القصة أن نكملها؛ فقد سدد سليمان دينه، وعمل في التجارة، وكسب في العام التالي كسبا يمكنه من سداد دين وهدان، ولكنه لم يفعل وإنما قصد إلى وهدان. - لقد عملت في معروفا ما زالت الجهة تتحاكى به. - يتهيأ لك. - اسمع، أنا كسبت هذا العام، ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أرد إليك دينك. ومن عمل معروفا فعليه أن يتمه، فهل أنت على استعداد أن تتم معروفك؟ - أتمه إن شاء الله. - تترك فلوسك للعام القادم. - أمرك.

وانصرف وهدان ودار العام في غمضة عين وإن كانت أيامه كانت تمر ثقيلة أثقل من الأيام العادية؛ فقد كان سباعي كلما خلا بأبيه يقول له: لو كنت يا أبا اشتريت أرض سليمان لكان محصولها يكفي لشراء نصفها على الأقل هذا العام.

ويصيح الأب في حزم آباء هذا الزمن: اخرس يا ولد.

ويضطر الولد أن يخرس، ثم ما يلبث أن يكرر جملته تلك كلما امتد حديث إلى محصول أو أرض أو شراء أو بيع.

وكان الأب يحس حسرة أن ابنه يلومه. ولم تكن الحسرة وليدة اللوم، وإنما كان باعثها أن ابنه سباعي على غير خلقه، وأنه لا يعرف معنى ألا ينتهز إنسان ضائقة إنسان أخيه، ولا يعف عند مقدرة، ولا يتعالى عن خلق الذئاب.

وكانت نبوية تهون عليه ما يتداوله من ألم لما جبل عليه ابنه البكر، فكان يقول لنبوية: أخاف عليكم منه بعدي يا نبوية. - لا عشنا بعدك يا وهدان، لا عشنا بعدك. - إنه بلا قلب. - ابنك لا يمكن أن يكون بلا قلب! - أتصدقين أن الأبناء يرثون أخلاق آبائهم فيما يرثون؟ هيهات! ليست الأصلاب ولا الأرحام أمينة دائما. والذي لا يقدر ما صنعته مع سليمان شخص يخشى منه يا نبوية. - اسمع يا وهدان، علينا أن نحمل همهم ونحن أحياء. أما من بعدنا فعلى كل منهم أن يحمل هم نفسه.

مر العام إذن وكان أثقل الأيام مرورا، ثم جاء سليمان إلى وهدان وكان ولداه جالسين معه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام. - كل عام وأنت بخير. - وكل عام وأنت بخير يا سليمان. - قم يا عم هات الورقة التي عندك. - أمرك.

وعاد وهدان بالورقة وأعطاها لسليمان. - خذ يا عم، ربنا يزيدك. - وأنت خذ هذه. - ماذا؟ ... - لقد تعلمنا القراءة معا في الكتاب. اقرأ.

وقرأ وهدان فوجد بالورقة عقد شراء باسمه لعشرة أفدنة ملاصقة لأرضه، وانتفض في جلسته. - وهل أنا مراب يا سليمان؟ - اهدأ واسمع. - هدأت. - فلوسك كانت جاهزة معي من السنة الماضية، ولكنني أحببت أن أرد جميلك. قلت أتاجر لك بها فإن كسبت فالمكسب لك، وإن خسرت أردها إليك دون أن تعلم. وقد كسبت وجاءني جارك نجيب الجلطة يريد أن يبيع أرضه؛ لأن ابنه الذي أصبح مهندسا يريد أن يبني بها عمارة في مصر. وانظر إلى الثمن تجده عادلا، لا ظلم فيه. استخرت الله واشتريت الأرض باسمك.

وانتصب سباعي واقفا وأهوى على يد سليمان يريد أن يقبلها. وألمت بوهدان غصة أوشكت أن تضيع عليه فرحته بما صنع صديقه. ما سباعي هذا؟ لا عفة عند مقدرة، ولا كرامة عند فرحة! حسبي الله ونعم الوكيل.

حسبي الله ونعم الوكيل.

الفصل الرابع

في هذه السنوات البلهاء من حياة مصر كان ينبت في بعض المناطق مجرم يثير الذعر حوله، ينتمي هذا المجرم إلى وجيه من وجهاء المنطقة، بعقد شيطاني غير مكتوب، أن يحمي الوجيه المجرم من الحكومة، ويحمي المجرم أملاك الوجيه من المجرمين الآخرين. وشأن كل العقود الشيطانية يتجاوز مفعول العقد حدوده، ويتستر الوجيه على المجرم تسترا لو حاسبه عليه قانون العقوبات لأصدر عليه أحكاما قاسية. وفي مقابل ذلك يصبح المجرم أداة بطش وعدوان للوجيه، يخيف به كل المقيمين حوله، مجرمين كانوا أو غير مجرمين. وما هو إلا يسير زمن حتى تصبح أعمال الوجيه بواسطة مجرمه كلها اعتداء على حقوق الآخرين؛ لأن سمعته وحدها كافية أن تذود عنه أي مجرم يفكر أن يمس حقوقه. ويصبح الريف غابة، السيادة فيها لمن لا ضمير له. وهذا نوع من الغابات فريد؛ فغابة الحيوان غابة تجمع مخلوقات بغير عقول، ومن لا عقل له فلا ضمير له، فمن الطبيعي أن يكون الحكم فيها للأقوى. ومن الطبيعي أيضا أن تكون الوحشية هي الدستور؛ فبغيرها لن تطعم الحيوانات ولن تجد مأكلها. وهذا في ذاته سبب كاف أن تستعمل قوتها لتعيش.

أما غابة الإنسان فهي بعيدة عن ذلك كل البعد، فإذا كان الحيوان قد حرمه الله حق الاختيار فإنه سبحانه قد فرض على الإنسان هذا الحق بما وهبه من نعمة العقل، ومن نعمة الرحمة، ومن نعمة المشاعر الرقيقة. وكان طبيعيا ما دام العدل المطلق قد وهب للإنسان كل هذه الحقوق أن يفرض عليه واجب الأمانة، التي عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان. وهو سبحانه حين حمله هذه الأمانة الثقيلة فرضها عليه حين اختار هو أن يقبلها؛ فحين خلق الله آدم طلب إليه ألا يمس شجرة من الجنة، وما شجرة في جنة عرضها السموات والأرض؟ فحين عصى آدم ربه اختار إذن أن يحمل الأمانة. إن الإنسان كان ظلوما وهكذا ظل.

قليل من وجهاء الريف من كان يضع تحت حمايته مجرما أو عددا من المجرمين؛ ففي كل منطقة قد نجد واحدا من هؤلاء الوجهاء غير الوجهاء في الدنيا أو في الآخرة. وغالبا ما تكون المناطق نقية منهم كل النقاء تسمع عنهم في الجهات المجاورة، ولكنها لا تعرفهم ولا تشتهي أن تعرفهم، بل إن الجميع يدعون الله أن يبعدهم عنهم ويعمي عيونهم عن بلادهم وأملاكهم وأرواحهم؛ فهم يعرفون عنهم كل شيء معرفة يقين، ويعرفون أنهم متوحشون يستأجرهم سادتهم لقتل من يجرؤ أن يناقشهم في أمر، أو يتوانى في تنفيذ إشارة إصبع تصدر عن ذلك الوجيه غير الوجيه.

وكانت بلدة الصالحة متطهرة من هذا الوباء، وكانت كل صلتهم به ما يسمعونه عن أبو سريع الفرحان، ذلك المجرم الدموي الذي يأوي بعصابته إلى ظل عز الدين بك الخولي، عضو مجلس النواب عن الدائرة التي تتبعها الصالحة. وكانت الصالحة ترد عن نفسها العدوان بأن تعطي أصواتها لعز الدين متظاهرة بالطواعية حتى لا يكون هناك أي مبرر أن يقترب منها أبو سريع. والبلدة لم تكن متحمسة لمرشح آخر؛ فهي لا تجد بأسا أن تنتخب حامي المجرمين هذا، مرتئية أن فيما تفعله كياسة لا تضيرها.

وفي يوم كان وهدان جالسا إلى أسرته جميعا؛ أما الأم فقد كانت تصلي، وكان وهدان يقرأ القرآن، وكانت فاطمة تقرأ في كتاب اشتراه لها أخوها خليل، وعابدة تنظر إلى الجميع وترى في وجوههم القلق الشديد، الذي يحاول كل منهم أن يخفيه بشتى وسائل، حتى لا يثير بقلقه قلق الآخرين. ولم يكن عجيبا أن يتولاهم هذا القلق؛ فخليل هو أملهم أن يصبح لهم شأن في حياة العلم، بعد أن ترك سباعي المدرسة وهو طفل في العاشرة، فلم يتعلم منها إلا قراءة وكتابة توشك أن تكون عاجزة. أما خليل فقد مضى في التعليم مضيا موفقا، وكان متقدما في دراسته دائما. وهم اليوم ينتظرون نتيجة التوجيهية التي حملت اسمها هذا؛ لأنها تعطي لحائزها الحق أن يتوجه في التعليم الجامعي إلى الكلية التي يختارها؛ فهي نهاية التعليم العام، أو هي بلغة وزارة المعارف نهاية التعليم الثانوي.

كان الأب والأم والابنتان جميعا في هذا القلق، الذي تشعر به عابدة وتراه على وجوههم. وكان سباعي كشأنه بعيدا عن قلق الأسرة وعن اجتماعها هذا، بل هو حتى لم يكن يدري أن نتيجة شهادة التوجيهية ستظهر في هذا اليوم؛ فهو دائما في شأن يظن أنه يغنيه، وهو دائما بعيد عن أسرته ومشاعرها بما يشغل به نفسه من شواغل، منها الأرض والمحصول، ومنها غير ذلك.

كان في يومه هذا يلبي دعوة على الغداء دعاه إليها شعبان الخولي بن عز الدين الخولي الذي تعرف به منذ قريب في مقهى بالمركز. وأراد شعبان أن يظهر ابن وهدان على القصر الذي ابتناه أبوه بقريتهم العدوة، وأراد أيضا أن تصل بينه وبين ابن الرجل الذي يعتبر أغنى من في الصالحة آصرة صداقة؛ فقد كان شعبان أيضا ممن نكصوا عن التعليم شأن سباعي. وكما يلتقي الفلاح بالفلاح فيتناجيان ويتعارفان ويجدان شيئا دائما يقولانه يلتقي الغريبان فيتناجيان، ويتعارفان، ويجدان شيئا يقولانه فيصبحان صديقين، ولكن لا بد لنا أن نكون منصفين؛ فإن يكن شعبان وسباعي قد فشلا في المضي قدما على درج التعليم، فقد كان كل منهما فلاحا من الطبقة الأولى يعرف ما تحتاجه الأرض، ويقدمه لها في كرم ومهارة وحذق، واثقين أن الأرض خير شيء يرد ما يأخذ أضعافا مضاعفة. وقد كان وهدان يجد في قدرة سباعي الفائقة على رعاية شئون الأرض ما يعزيه عما جبل عليه من خلق لا يرضيه، ولكنه شأن الناس أجمعين كان يتلمس لطف الله فيما يصاب به. وقد وجد لطفه سبحانه في براعة سباعي الزراعية، وراح يقول لنفسه: ربما أراد سبحانه أن يجعل منه حارسا على الأرض يرعاها من بعدي لإخوته عني. وإن كانت غصة تلوي عزاءه بعض الشيء، أتراه سيحرسها أم سينهشها؟ الله وحده يتولى عباده بما يرضاه.

كان سباعي إذن يلبي دعوة شعبان، وقبل أن يأتي الغداء جلس الضيفان في غرفة الاستقبال الواسعة الأرجاء، وقال سباعي: ما سمعنا عن سعادة البك والدك ولا عن سعادتك إلا كل كرم. - أرأيت بخلا؟ - نعم رأيت. - ولكن الأكل لم يظهر بعد. - قطعة جبن تنبئ عن الكرم في كثير من الأحيان. - فماذا تقصد؟ - أنتغدى وحدنا؟! - آه! أنا أردت ألا يشاركنا أحد الحديث. - وهل يحلو الحديث إلا باللمة. - ومن تريد؟ - أين أبو سريع؟ - والله هو هنا اليوم. - فلماذا لم تدعه معنا؟ - أدعوه. إن بيته قريب. - لا بد أن يكون بيته قريبا!

وضحك شعبان، وقال سباعي: ادعه يا شعبان بك، وادع رجاله، واللقمة الهنية تكفي مية.

وجاء أبو سريع، وعرف أن الذي دعاه هو سباعي، وحمد هذا له؛ فما كان يتناول طعامه على مائدة عز الدين بك إلا عندما يكون هناك أمر جليل يريد أن يكلفه به. أما شعبان فما كان يهتم بدعوته مكتفيا بأن يعطيه من حين لآخر بعض المال. •••

حين عاد سباعي إلى البيت وجد الكثيرين أمام بابه، ووجد الدوار مبتسما فرحا. وعجب! إنه هو فرحان نعم أن تغدى مع شعبان وأبو سريع ورجال أبو سريع، ولكن ما هذا الفرح في بيتهم؟ وعرف أن أخاه حصل على التوجيهية. والعجيب أو ربما ليس عجيبا أن يشعر بالفرح؛ فخليل بهذا قد أصبح من أهل الكتب وليس لهؤلاء صبر على الفلاحة. لقد تأكد في لحظة علمه أن أخاه ذاهب إلى الجامعة وإلى كلية الطب، أن أرض أبيه أصبحت له وحده من بعده.

وعجب الأب من فرحة سباعي وربما خامر ذهنه ما اختلط بنفس سباعي؛ فقد علمته الحياة أن يصل من النفوس إلى أبعد أعماقها، ولكنه بمشاعر الأب الذي يمتزج حب الأبناء مع الدماء فيها نفى أن يبلغ الجشع بابنه البكر هذا المدى، وأبى إلا أن يسعد في يومه هذا سعادة لا يقف بها عارض من أي مكان، سواء كان هذا العارض من داخل النفوس أو من خارجها.

الفصل الخامس

حين عرف وهدان من سباعي أنه دعا شعبان وأبو سريع ومجرميه إلى الغداء بالبيت غضب كل الغضب. - هذا بيت عاش طاهرا وأحب أن يظل طاهرا.

وكان سباعي في دهشة من أمر أبيه؛ فقد كان يظن أنه سيفرح غاية الفرح أن ابن عز الدين بك قبل الغداء عنده. - يا أبا، إنه ابن عز الدين بك.

وازداد ذهول سباعي وأبوه يقول له: طظ! وما عز الدين بك بتاعك هذا؟ - يا أبا، عز الدين بك كبير الناحية. - بالإجرام والقتل والاعتداء على حرمات الله والناس. - رجل عترة. - عند من لا يخافون الله أمثالك. إنما في الحقيقة هو ليس رجلا أصلا. - ليس رجلا؟! - الرجل هو الذي يشق الحياة إلى الآخرة بطاعة الله لا بعصيانه، وبإحياء البشر لا بقتلهم، ومن قتل إنسانا واحدا فهو عند الله كمن قتل الناس جميعا. - انظر يا أبي إلى الثروة التي كونها. - بسيطة. - مائتا فدان من لا شيء بسيطة. - وألف وألفان بسيطة، ما دامت وسيلته إلقاء الذعر في قلوب الناس، والاستيلاء على حقوقهم بالباطل. - على كل حال يا أبا أنا لم أدعه. - دعوت ابنه ودعوت المجرمين الذي يعملون لحسابه. - أريد أن يكون لنا قيمة في البلدة وفي الناحية. - فشرت أنت وضيوفك جميعا. إن قيمتنا في قلوب الناس أعظم منهم ألف مرة. - يا أبا، إنه نائب الدائرة. - بالرعب والقهر وليس بالاختيار، ولو ملك الناس أمر أنفسهم دون خوف لاختاروا أي شخص يمثلهم فيكون تمثيله لهم شرفا وقيمة، يختارون متعلما أو يختارون شريفا لا لصا ولا قاتلا. - فما احترام الناس هذا؟ - ألا تعرفه وتعرف من أين يصدر من نفوسهم؟ - إنهم يهابونه. - إنهم يخافونه، وإنهم لا يحترمونه. إنما الاحترام هو ذلك الذي تنطوي عليه نفوسهم بحريتها المطلقة وليس بما يخشونه منه إذا هم حجبوا عنه احترامهم. إن أخاك خليل محترم بعلمه في بلدتنا أكثر من عز الدين هذا، الذي تتشرف بمعرفة ابنه وبدعوته إلى الغداء عندك. - خليل أخي. لا يا أبا، شرع الله عند غيرك. - بل هذا هو شرع الله والناس. أما شرعك أنت فشرع الشيطان المسعور من بني آدم. - والآن ماذا ترى؟ - وهل تركت لي رأيا؟ لقد دعوت فعلا، ولا أحب أن أجعل منك طفلا أمام الناس. - مصيبة سوداء لو عرف عز الدين بك رأيك فيه. - أويشرفك هذا؟ نعم فعلا مصيبة سوداء، ومعرفته مصيبة سوداء أيضا؛ ولهذا كنت أرجو أن أقضي الأيام الباقية لي لا أعرفه ولا يعرفني. - الحق علي يا أبا. - حين أموت أخاف أن يكون عز الدين وأمثاله هم مثلك الأعلى.

وأوشك سباعي أن يهتف: يا ليت. ولكنه كتمها وسأل أباه: أتحضر معنا الغداء يا أبا؟ - وأنا ما شأني؟ - إنه بيتك. - بل بيتك ما دمت دعوت فيه فأنت تعرف أنه بيتك. وإن لك هذا الحق لا أنازعك فيه، وإنما أغضبني اختيارك لمدعويك، ولكن الأمر لله. •••

حين استقر المقام بشعبان ورجال أبيه في الدوار أصبح الدوار فجأة خلية نحل، وراح كل من يعمل في البيت يعد العدة للغداء. وتسامع أهل القرية جميعا بهذه الدعوة فتولاهم نحو سباعي ذلك الشعور العجيب الذي يجمع بين الخوف والرهبة والاحترام المرتعد. ولم يحاولوا أن يضعوا الحدود الفاصلة بين هذا النوع من الاحترام وبين ما يكنونه لوهدان من احترام فيه حب وفيه تقارب ومودة. لقد تعودوا أن يكتموا ما يعتمل في نفوسهم نحو عز الدين ومجرميه، وأصبحت هذه العادة منهم طبيعة لا تناقش ولا يحلل مداها إنسان، ولا يحاول أحد أن يتتبع جذورها. هم فقط أحسوا أن سباعي أصبح شخصا مهما؛ لأنه دعا ابن عز الدين، وأبو سريع، ورجال أبو سريع وقبلوا الدعوة.

تناولوا الغداء وضمتهم حجرة الاستقبال في الدوار مرة أخرى. وقد كان الدوار شأن أمثاله في بيوت الأعيان بعيدا عن الدار موصولا بها في وقت معا؛ فهو جلسة الرجال، وليس له بحرم البيت وحريمه صلة، إلا أن يأتيهم منه المطعم والمشرب، ثم لا اتصال.

قال شعبان وقد انتفش على الكنبة مزهوا بمكانة أبيه: مبسوط يا سباعي؟ - رضا، والحمد لله. - الحمد لله على كل حال، ولكن لماذا الرضا؟ - يا سلام! أتكون مشرفا عندي أنت وهؤلاء الرجال السباع ولا يكون الحال رضا؟

وضحك الجميع.

وقال أبو سريع معلقا على السباع: يا سباعي!

وعلا الضحك مرة أخرى؛ أما رجال أبو سريع فلأنهم لا بد لهم أن يضحكوا ما دام أبو سريع يضحك. وأما شعبان وسباعي فليفهما أبو سريع أنهما فطنا إلى قفشته وتلاعبه بالسباع وسباعي وسرعة خاطره أيضا، ولكن شعبان يقول مواصلا حديثه: يا حبيبي أنا أسألك: هل أنت مبسوط في حياتك؟ - وهي أيضا رضا، والحمد لله. - لماذا؟ - وماذا أريد أحسن من هذا؛ آكل شارب نايم أشوف أرض أبي، وأنتج منها أحسن محصول. ماذا أريد أحسن من هذا؟ - وهل هذه عيشة؟ - وما العيشة؟ - تعال معي إلى مصر وأنا أعرفك العيشة على حقيقتها. - يا سلام! - رحت مصر؟ - طبعا. - أين ذهبت؟ - زرت المشايخ، وزرت أقاربنا هناك وأصدقاءنا، ودخلت السينما، ورحت إلى المسارح، وشفت كل حاجة في مصر. - دخلت كباريه؟ - كبا... وماذا؟ - كباريه. - آه، لا، سمعت عنه فقط. - سمعت عن ماذا؟ - يقولون عن الأوبرج وشيء آخر اسمه الأريزونا. - يقولون. - سمعت. - ولم تر؟! - الكذب خيبة، لا لم أر. - فأنت لم تر مصر. - أهذه هي مصر؟ - عندي أنا. أنا يا بني حين أذهب إلى مصر لا شأن لي لا بأقارب ولا بغيره. كم صاحب أعرفهم، أصل إلى بيتنا هناك وأدور عليهم بالتليفون، وعينك ما تشوف إلا النور. - وأين هذا النور؟ - في الأوبرج. - أتذهب إلى الأوبرج؟ - ولا أحب غيره. جربت كل كباريهات مصر، لم يملأ عيني إلا الأوبرج. الملك يذهب إلى هناك. - شفته؟ - مرة. - واحدة؟ - كفاية. - ما شكله؟ - سمين وضخم، إنما الحق له هيبة. - ملك، ملك يا عم ملك، المأمور عندنا يهز المديرية، شف ملك ماذا يفعل. - ليس هذا هو المهم. - الملك ليس مهما؟! - هناك ليس مهما بالمرة. المهم أشياء أخرى. - مثل ماذا؟ - اسمع يا عم. أنا رجل أحب العمل، ولا أحب الكلام. - ولكننا الآن لا نملك إلا الكلام. - فشر، ونملك العمل أيضا. - كيف؟ - أنا مسافر الخميس القادم، تجيء معي؟ - أجيء. - صحيح؟! - وهل ألاقي فرصة أحسن من هذه؟ - اتفقنا. - اتفقنا. •••

حوت غرفة الاستقبال في المساء قوما آخرين؛ فقد تصدرها وهدان كشأنه كل ليلة، والتأم حوله أصدقاء جلسته يكادون لا يتغيرون في ليلة عن الأخرى؛ فأغلبهم تعود هذه الجلسة والحديث بينهم متصل منذ سنوات، وفي أيام أم كلثوم يعدون العدة لسماعها في راديو وهدان. وقد كان الاستماع إلى الراديو لمدة طويلة يحتاج أن يذهب أحدهم بحماره إلى المركز في اليوم السابق ليملأ البطارية الضخمة؛ فهي بطارية سيارة، ويعود بها في اليوم التالي. ولم تكن أم كلثوم تغني في هذه الليلة وإنما هو الحديث، حديث في كل شيء. وأحيانا كان يلم بالجلسة أصدقاء غير منتظمين، إما أن يكونوا أصحاب مصلحة يريدون قضاءها مع وهدان أو مع أحد جلسائه، أو يكون قدومهم لمجرد السمر والحديث. وفي هذه الليلة جاء إلى الجلسة عبد الحميد أبو ديدة الذي توقف عن العمل كخياط للقرية تاركا الصنعة لابنه بعد أن أوهنه الكبر. وأصبح لا يخرج من البيت إلا في القليل النادر، وكانت تنعقد في بيته هو أيضا جلسة مثل جلسة وهدان هذه، فلم يكن غريبا أن يكون إلمامه بدوار وهدان نادرا، وقد أوسعه وهدان ترحيبا. وقد حرص سباعي أن يحضر الجلسة ليرى نفسه موضع الإكبار والتقدير بعد دعوة الغداء التي عرفت القرية جميعا بشأنها. وما هذا بعجيب؛ فإن أي دعوة في القرية هي حديث القرية جميعا، ولكن مجيء شعبان ورجاله أمر يعرف سباعي أنه هز القرية كلها من الأعماق. وتهيأ سباعي لسماع كلمات التقدير على دعوته تلك. وقد رأى فعلا نظرات الاحترام ماثلة في أعين معظم أهل الندوة. وحين بدأ الحديث بدأ بطبيعة الحال عن مجيء شعبان وأبو سريع، فإذا وهدان يقول في هدوء وفي حسم: إذا تكلمتم في شأن هذه الدعوة فاسمحوا لي أن أنصرف.

وانقمع الحديث عنها تماما، وأحس سباعي لذعة أسف أنه لم يتمتع بما كان يهفو إلى التمتع به. والتوى الكلام إلى غير هذا مما تعودوا أن يأخذوا فيه. وما هي إلا بعض الساعة حتى استأذن عبد الحميد أبو ديدة، وقال وهدان: لماذا يا عم عبد الحميد؟ لم نشبع منك يا رجل. - عمك كبر يا وهدان. أنا حتى في داري أترك ضيوفي كل ليلة يكملون حديثهم، وأقوم أنا ويعذرونني يا ابني. كبرنا يا وهدان. - أنت الخير والبركة. أوصل عمك عبد الحميد إلى بيته يا سباعي.

ويقول عبد الحميد في صوت من يرغب في هذا التكريم الذي تعود عليه، والذي جاء في هذه المرة آملا أن يحدث: وما لزوم التعب؟ - تعبك راحة، يا عم عبد الحميد.

ويصيح سباعي راجيا أن يسمع من عبد الحميد ما فوته أبوه عليه من تكريم: تحت أمرك، يا عم عبد الحميد.

وما يكاد الطريق يخلو بالاثنين حتى يقول عبد الحميد: لقد جئت اليوم خصيصا من أجل خلوتنا هذه. - خيرا، يا عم عبد الحميد. - أنت دعوت اليوم شعبان. - حصل. - اخطب أخته. - ماذا؟! - ما سمعت. - وهل هذا معقول يا عم عبد الحميد؟ بنت البك تقبلني أنا؟! - وأنت ما عيبك؟! - على الأقل يقولون لم يتعلم. - وهل تعلم أبوها أو أخوها أو تعلمت هي؟ إنما هما كلمتان عرفت بهما كيف تفك الخط. - أنا والحمد لله مستور في القرية، ولكن بالنسبة لعز الدين بك أنا فقير. - ولا فقير ولا حاجة. - كيف؟ وأين ما أملك مما يملكون، وإيجاراته من الأوقاف وحدها تدر عليه دخلا قدر دخلنا مائة مرة أو قل مائتين؟ - اسمع ما أقول لك، اخطب أخته. - إن رفضوني فستكون سبة. - لن يرفضوك. - وأنت كيف عرفت؟ - هذا شأني. - فقط قل من أين عرفت. - من سني الكبيرة، من الزمن، من الناس الذين عرفتهم. اسمع كلامي يا ولد، أنا في مكان جدك، ومن سنه أيضا. - إذا تمت هذه الزيجة يا عم عبد الحميد لا أدري كيف أكافئك. - أنت يا ولد تكافئني؟ أنت يا ولد ابن وهدان، وأبو وهدان عاش عمره كله على باب دكاني، أتظن أنني جئت إليك لكي تكافئني، وماذا أصنع بمكافأتك؟ هل سآخذها معي إلى الآخرة؟ إن أردت أن تكافئني حقا فإني أوصيك بابني حسن؛ فهو قليل الحيلة، وأنا لم أترك إلا ثلاثة أفدنة دفعت فيها عيني وانكفائي على ماكينة الخياطة عشرات السنين. - ربنا يطيل عمرك يا عم عبد الحميد، وحسن في عيني الاثنين. - يكفيني هذا. ارجع أنت. سلام عليكم.

الفصل السادس

لا يكون الحلم إلا من تجارب الإنسان ومن سابق خبرته؛ فالأحلام على هذائها وبعدها عن العقل تخاطب الناس على قدر خبراتهم. هي قد تخلط هذه الخبرة، وتقلب موازينها، وتجعل أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها. إنما تظل بالنسبة للإنسان الذي تعرض له في حدود ما عرف من واقع الحياة؛ ولذلك يستطيع المرء غالبا أن يعبر عنها، ويروي ما عرض له في أحلامه إذا كان منتظما، أو يعزوه إلى خرف النوم، أو فقد انتظامه وتتابعه.

أما هذا الذي يراه سباعي فلم يخطر له على حلم أبدا، وما تصور أن تضم جنبات الحياة شيئا مثل هذا الذي يشاهده من راقصات الأوبرج. عرايا صدورهن أو عرايا جسومهن جميعا إلا موقعا أو موقعين الغطاء فيهما أخبث من العري. وما إن أفاق هونا من ذهوله حتى التفت إلى شعبان: أهؤلاء نسوان؟

وانفجر شعبان في قهقهة عالية ليست غريبة ممن يحويهم هذا المكان، وقال: طبعا نسوان.

وظل سباعي في بهره وهو يقول: مثل نسوان البلد عندنا؟

واستمرت القهقهة يختطف من شهيقها الإجابة. - ماذا ترى أنت؟

ويقول سباعي في جدية حاسمة لا أثر فيها لمزاح: النسوان عندنا خفراء.

ويقول شعبان بعد أن هدأت ضحكاته: لعلك لم ترهن إلا في مواطن الجد.

ويقول سباعي في جديته لا يزال: رأيتهن في كل المواطن، خفراء، خفراء في أكثر المواطن خلاعة. - لعلك لم تحسن الاختيار. - وهل هي واحدة؟ إنهن كثيرات عرفتهن، وكلهن خفراء. - فما رأيك أنك لم تر شيئا بعد. - ما أرى يكفي. يا رجل، أنا أتعجب من نفسي كيف لم يغم علي. - لا، اجمد، الليل ما زال طويلا أمامنا. - وماذا سنعمل فيه أكثر من هذا؟ - هذا شأني. - أنا تحت أمرك، عبدك وبين يديك. - أولا تشرب هذا الكأس. - وما له أشربه، هه باسم الله الشافي العافي.

وهم أن يقلب الكأس جميعه في فمه مرة واحدة، ولكن شعبان أسرع فأمسك بيده. - لا، انتظر، ليس هكذا. - فكيف إذن؟ - رشفة رشفة، أتريد أن تنقلب منا في الأوبرج. - أمرك. - حين ينتهي الكأس أو الكأسان، وليس أكثر سترى ما لم تره حتى الآن.

وانتهى سباعي من شرب الكأسين في بطء الجاهل الذي لا خبرة له. وبدأت المناظر التي يراها تصل إلى أعماق كيانه. وتصاعدت الحميا إلى مكامن الشعور فيه فإذا هو يعيش حياة غير الحياة، حتى ليحسب أنه لم يولد إلا في هذه اللحظة. وحين أدرك شعبان ما صار إليه حال صديقه سأله: وما رأيك إذا قلت لك إنك ستقضي الليلة مع واحدة من أولئك الراقصات.

وفي وقار متعتع سأله: وماذا أصنع معها؟

وحينئذ انفجر شعبان مرة أخرى في قهقهة عالية، وراح يقف ثم يقعد والقهقهة على حالها، حتى إذا استطاع أن يلتقط أنفاسه قال لسباعي: كان يوم هنا يوم عرفتك.

أما أصحاب شعبان فكانا اثنين، وقد اتخذ كلاهما موقف الشاهد، سعيدين غاية السعادة بهذا المخلوق الجديد على المكان والجديد على هذه الحياة جميعا، ولكنه عندما سأل شعبان سؤاله الأخير هذا كانا أشد صخبا من شعبان. وسأله أحدهما وكان شعبان يدعوه كريم: ألم تقل إنك عرفت نسوانا كثيرات في البلد؟!

وفي نفس النغمة الوقور المتعتعة قال سباعي: يا سي كريم أفندي، اسم الله على مقامك، النسوان اللواتي عرفتهن شيء والنسوة هنا شيء آخر بالمرة، لم يرد صنفه علي مطلقا، ولم يخطر لي على بال أن في العالم نسوانا بهذا الشكل، بالتأكيد هؤلاء صنف آخر من الناس لا أعرفه أنا ولا أبي.

وتتم الليلة كما ينبغي أن تتم مثل هذه الليالي، ويحس سباعي أنه بهذه الليلة أصبح من طبقة أخرى غير طبقة أهله، ولكن العجيب أن سباعي مع كل هذه المتعة التي شعر بها والتي أوغلت في العميق من كيانه كان يدرك أن مثل هذه الليالي إنما هي لهو يتمتع بها من يحبها ليلة كل شهر أو ليلتين، ولكنها لا يمكن أن تكون حياة بأكملها كما كان يعتبرها شعبان. كان الأمر بين الاثنين مختلفا كل الاختلاف؛ فقد كان شعبان لا يريد من الحياة إلا هذه الحياة، وكان عمله في الأرض عمل مرغم لا راغب، مدركا أن أباه سينضب عليه موارد المال إذا هو لم يقم بواجبه كفلاح يعينه على زراعة الأرض الواسعة بما يستأجر من الأوقاف. أما سباعي فقد كان يرى في الزراعة حياته ويرى في مثل هذه الليلة لهوه.

كان من الطبيعي أن تتوطد العلاقة بين شعبان وسباعي، وتكاثرت الزيارات بينهما. وفي يوم حزم سباعي أمره بعد أن فكر وأطال التفكير وتدبر الأمر مع نفسه، فأحكم التدبير وقصد إلى شعبان في بيت أبيه. - أنا أحببتك حبا لا تدري قدره. - هذه مقدمة لشيء تريد أن تقوله. - أي نعم. - قل. - أريد أن أكون قريبك وصاحبك. - فهمت. - وما رأيك؟ - لا بد أن أتأكد من صحة فهمي أولا. - أنت تفهمها وهي طائرة. - يكون أحسن لو قعدت. - أخطب إليك الست أختك قدرية. - هل شفتها؟ - شفتك أنت. - على كل حال أسأل أبي. - طبعا. - ولكن لا بد أن تشوفها. - ومن غير شوف. - لا بد. - أمرك، كيف؟ - هذا أمر ميسور، والحقيقة أنا أفضل أن تشوفها قبل أن أكلم أبي. - كيف؟ - حتى يتكلم أبوك بعد ذلك، وتجري الأمور في طريقها الطبيعي. - ولكن معنى كلامك أنك لا ترفضني. - أنا لا أملك الرفض أو القبول. - أعرف ذلك، ولكن معنى أن تسمح لي برؤية الست أختك أن الأمر ليس بعيد الاحتمال.

وتنبه شعبان إلى الموقف، وسارع يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئا مطلقا، وأنا أسمح لك برؤية أختي لأني أعتبرك أخا، وأحب إذا فاتحت أبي في هذا الموضوع أن أكون واثقا أنك جاد فيه؛ لأن التقدم منك ثم الرجوع مسألة قد تسيل فيها دماء. - أنا أعرف تماما وظيفة أبو سريع عندكم، ولا أحب أن أكون أنا أو يكون أبي من بعض مهام وظيفته. - إذن تراها. - يا ليت، متى؟ - الآن. - كيف؟ - اسمع، اخرج من الباب الأمامي قدام الخدم ولف وعد لي من باب الشرفة. - أمرك.

وخرج سباعي وعاد، وفتح شعبان حجرة مجاورة وأدخله فيها. - سأنادي قدرية وأنت تستطيع أن تراها من هنا، وسأجعلها تقعد بحيث لا تراك، فحين تراها وتسمعها روح إلى بيتك من هذا الباب الذي يخرج من الشرفة إلى الحديقة إلى الخارج.

ووجم سباعي قليلا، وقال: وكيف سأقول لك إني وافقت؟ - قلها بكرة، لا أريد أن أعرف رأيك اليوم على كل حال. - أمرك.

ودخل سباعي الحجرة، وأبقى شعبان بابها نصف مفتوح حتى إذا رأته قدرية حسبت أنه نصف مقفل، وأنه ترك هكذا عن إهمال لا عن عمد.

ونادى شعبان من بهو البيت الأسفل: قدرية، قدرية. - نعم يا شعبان فيه حاجة؟

وأطلت عليه من أعلى فقال: ماذا تصنعين؟ - لا شيء، أسمع الفونوغراف. - أنا زهقان، لماذا لا تحضرين الكوتشينة وتجيئين نتسلى؟ - حاضر، جاية.

وجاءت ورآها سباعي وفهم كل شيء. •••

هي النقيض الكامل للنسوة اللواتي خبلن عقله بجمالهن في الكباريه، هي الطرف الآخر من جمال الخليقة. إذا كان سبحانه قد خلق النسوة الجميلات ليرى عباده بديع صنعه، فهو سبحانه جلت قدرته قد خلقها ليعرف عباده شديد سخطه. إذا كان هناك من لا يصدق أنه سبحانه قادر على خلق الجنة والجحيم فليضع قدرية إلى جانب أي جميلة من جميلات أي مكان، سواء كان هذا المكان هو الأوبرج أو حتى قرية الصالحة. وحينئذ ستتمثل له في الفتاة الطبيعية الجنة كل الجنة، وفي قدرية الجحيم غاية الجحيم. سبحانه إنه على كل شيء قدير!

لهذا قال له عبد الحميد أبو ديدة اخطبها، ولهذا لم يرفض شعبان فكرة زواجه بها رفضا قاطعا من أول وهلة، وإن كان قد دهش من رد الفعل الذي استقبل به شعبان طلبه، وإن كان قد ذهل لأن شعبان جعل الأمر قابلا للإتمام، وإن كان قد ازداد ذهوله حين وجده يسارع إلى إتاحة الفرصة له أن يرى أخته، فإن الدهشة والذهول الآن لا مكان لهما؛ فهو بالنسبة إلى الحالة التي رآها فرصة لا تعوض لعز الدين بك؛ فلا شك أن أباها وأمها وأخاها لم يكونوا يأملون أن تتزوج أكثر من عامل زراعة في أملاكهم ويكون العامل مظلوما.

كيف استطاع فمها أن يكون بهذه السعة؟ وكيف استطاع أنفها أن ينفرش لينال من وجنتيها - إذا كان لها وجنتان - كل هذه المساحة؟ وكيف استطاع هذا الوجه المسحوب كعلامة تعجب أن يسع كل هذا الفم وكل هذا الأنف؟ وهي تغطي شعرها بمنديل، ولكنه شعر متمرد صاخب يرفض المنديل ويقذف به إلى أعلى ليجعل منه طرطورا. وكل هذا يهون إذا تركز البصر من الناظر على ذقنها، إنه مقذوف إلى أعلى يوشك أن يغلق الفم. وربما كان هذا هو السبب في نحافتها المفرطة؛ فلا شك أن فمها يجد مشقة عاتية في أن يلقف اللقمات!

لقد وعى سباعي قبح الفتاة وعيا كاملا، ولكن العجيب في أمره أنه ازداد إصرارا على الزواج بها؛ فقد أدرك لحظة رآها أن الزواج بينهما متكافئ؛ بل إن أسرتها هي الكاسبة فيه؛ لأنهم لا يعرفون ما يفكر فيه هو، الزواج متكافئ لا شك، هي قبيحة كل القبح وهو فقير بعض الفقر؛ فهو مقبل إذن على الزواج في عزم وإصرار ازدادا ولم ينقصا. وهو في إقباله هذا غير مرغم ولا مضطر؛ فإنه يستطيع إذا لم يكن يريد للزواج أن يتم أن يذهب من غده إلى شعبان ويحدثه في حديث آخر غير هذا، وسيفهم شعبان وسيعذره، فهو مصمم، وهو مصمم أيضا أن يكلم شعبان أباه حتى يكون وهدان مضطرا لإتمام الزواج. وقد كان سباعي مقدرا لهذا الأمر منذ دبر أمره قبل أن يفاتح شعبان في شأن الخطبة؛ فهو يعلم حرص أبيه وهدان على أن تعيش أسرته بعيدة عن كل المشاكل، فإذا هو امتنع عن إتمام الخطبة فالويل الآخذ والانتقام الوبيل.

وقد كان سباعي واثقا أنه حين يطلب من أبيه أن يخطب له ابنة عز الدين سيرفض رفضا قاطعا، كما كان واثقا أنه سيقبل أن يخطبها له على رغم أنفه إذا أخبره أن شعبان فاتح أباه فعلا في الأمر وأنه قبل. قدر سباعي هذا جميعا، وأقدم على هذا الحديث مع شعبان.

وفي الصباح الباكر كان سباعي واقفا بجانب شعبان في الغيط: متى ترد علي؟

ونظر إليه شعبان مليا ثم قال: تعال الليلة في البيت. •••

انتظر سباعي حتى صحا أبوه من القيلولة وتوضأ وصلى صلاة العصر، واستقرت به الجلسة على الأريكة وبجانبه نبوية، وكان وهدان منشرح الصدر فهو يقول تلك الجملة التي كثيرا ما يرددها: لقد كان قطع ذراعي بركة، تزوجت بي نبوية بعد أن تأكدت من قطعه، إنها تحبني لشخصي، وأعفاني الله من غسيل ذراعين في كل وضوء مكتفيا بذراع واحدة.

وضحكت نبوية وهي تقول: أما زلت تذكر زواجنا؟ قد آن الأوان أن نفكر في زواج أبنائنا.

وقال وهدان: ما أحب هذا إلي!

واندفع سباعي الذي كان يتربص بالحديث: صحيح يا أبا؟ - صحيح جدا. - إذن فأنا أريد أن تخطب لي. - من؟! - قدرية بنت عز الدين بك الخولي.

وهب الأب واقفا: من؟!

ودقت نبوية صدرها وهي تقول: من؟!

وقال سباعي: ماذا يا أبا؟ ماذا يا أمه؟

وألجمت الصدمة لسان وهدان، وذهلت الأم بعض الحين، ثم قالت: ولكن يا ابني، هل ... هل يقبلون؟

وابتسم سباعي وهو يقول: لقد قبلوا فعلا.

وصاح الأب مرة أخرى وهو ما يزال واقفا: ماذا؟!

وقالت الأم: قبلوا، إذن ...

ومات الكلام على شفتيها وارتمى وهدان جالسا على الأريكة، معتمدا برأسه على ذراعه الواحدة، مفكرا في كل ما فكر فيه ابنه من قبل، وتمت الخطبة وتم الزواج.

الفصل السابع

أقام سباعي وزوجته في بيت وهدان، ولكن وهدان لم يكن يطيق أن يكون البيت مزارا لعز الدين وابنه شعبان. وما كان يتصور أن أسرة كهذه تندمج مع أسرته. وما كان يدور بخياله أن شعبان يمكن أن يدخل إلى بيته في أي وقت من أوقات اليوم، وهجست نفسه أن شعبان ربما فكر في الزواج من فاطمة أو عابدة، وإذا مر هذا التفكير بذهن شعبان فهيهات لوهدان أن يرفض؛ لأنه لم يكن يريد أن يموت مقتولا؛ فهؤلاء نفر من الناس لا يقف بهم نسب أو قرابة أن يرتكبوا أي جرم.

سارع وهدان فابتنى بيتا لابنه سباعي ولم يشعر أن كارثة زواج ابنه من ابنة هذا المجرم قد خفت حدتها إلا يوم انتقل هو وزوجته الكئيبة إلى البيت الجديد، ومهما يكن البيت قد كلفه فكل مال هين إذا قارنه بمصيبة زيارة واحدة من عز الدين، أو إطلالة من شعبان على أخته التي تسكن في نفس البيت الذي يعيش فيه مع نبوية وابنتيه.

وكان التعليم قد انتشر في القرية انتشارا أتاح لفاطمة أن تجد شابا متخرجا في كلية التجارة هو حسونة الزيني، خطبها بعد أن تم تعيينه بالصعيد مراجعا لحسابات السكة الحديد بها. ولم يمر كثير من وقت حتى خطبت عابدة أيضا إلى ياسين ضيف خريج كلية دار العلوم، والذي عين مدرسا بالقاهرة. وقد كان ياسين قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم شيخا معمما نال ثانوية الأزهر، ثم التحق بكلية دار العلوم. وكان الأب والأم سعيدين غاية السعادة بهاتين الزيجتين، وكان كلاهما يحمد الله أن عوضهما عن زيجة سباعي.

والواقع أن قدرية لم تكن في أخلاقها على هذا القبح الذي طبعه الله على وجهها، وإن كان بلوغ هذا القبح عسير المنال على أية حال، إلا أن الفتاة كانت رضية الخلق تعامل حماها وحماتها بكل إجلال واحترام. وكان وهدان بحاسة العدل فيه وبمشاعر الأبوة يعلم أن قدرية لا ذنب لها فيما ركب عليه أبوها، وأنها تزوجت برغبة منفردة من زوجها، وبشعور بالسعادة من أبيها وأخيها أن وجدت إنسانا أي إنسان يقبل أن يتزوجها.

وهكذا كانت معاملة وهدان ونبوية لقدرية تتسم بالأبوة الكاملة وبالحنان الشفوق لا يفرقان بينها وبين ابنتيهما، وكانت هي تقوم مع أختي زوجها بشئون البيت في يسر ونعومة. ولم يحدث في يوم أن اشتجر خلاف مهما يكن هينا بينها وبين أحد من أهل البيت جميعا، حتى الخادمات اللواتي استقبلنها في وجوم وأسى لقبحها، وليس لأي سبب آخر، هن أيضا سرعان ما أصبحت عندهن واحدة من أهل البيت، لا تختلف معاملتهن لها عن معاملتهن للست فاطمة والست عابدة. والخادمات في الريف يألفن بنات الأسر التي يعملن بها حتى لتصبح الصلة بينهن صلة أقرب إلى الأخوة منها إلى صلة سيد بمسود، فلم يكن غريبا إذن أن تفرح قدرية بخطبة فاطمة ثم عابدة كفرح البيت جميعا من سادة وخدم.

وقد يتساءل الشباب: ما هذا الزواج الذي تم بغير حب سبقه ولا لقاء ولا اتفاق بين العروسين؟ ولو عرفوا الريف في هذه الأزمان لعلموا أن الزيجات التي كانت تتم على حب في الأسرة المتوسطة تكاد تنعدم؛ ففتيات هاته الأسر لم يكن يخرجن من بيوتهن منذ اليوم الذي ينقطعن فيه عن التعليم، بل إن الكثيرات منهن كن يتلقين تعليمهن في البيت إذا كان الأب يريد لبناته أن يتعلمن؛ فالدائرة التي تتسع لسجنهن ضيقة غاية الضيق، ولكن تفاصيل حياة كل فتاة ومدى جمالها أمر مشاع بين أبناء القرية جميعا. والخاطب حين يتقدم إلى الخطبة يكون عالما بكل أسرار الفتاة التي يتقدم لها ولكن من غيرها وليس منها.

فأحاديث القرية عن القرية، وأمهات هؤلاء الشبان يروين لهم كل شيء عن كل فتاة أو سيدة أو حتى طفلة في القرية، فينشأ الفتى وأبناء القرية جميعا في كامل وعيه، لا يغيب عن شاب من هؤلاء الشباب خبر عن أي فتاة من فتيات قريته.

والأمر مختلف كل الاختلاف إذا كان الزواج من ابن فلاح يعمل في الحقل وابنة فلاح آخر يعمل. فالفتيات في هذه الفئة يخرجن كل يوم ليذهبن بالطعام إلى آبائهن أو أخواتهن في الحقول وهن يملأن الجرار، وهن يشترين حاجات البيت في أيام الأسواق، فإذا كان الحب قد اندلع بين وهدان ونبوية حين كان الزمن ما زال في غيبوبة الجهل فهو مندلع أيضا والزمن قادم على نور العلم؛ لأن الفتيات من مثيلات نبوية حين تزوجت ما زلن كشأنها في الأيام الخالية من طفولتها وصباها وباكر شبابها.

ربما لو كان هناك شاب من أقرباء وهدان أو نبوية يتردد على البيت بصلة القرابة وشب حب بين هذا الشاب وبين واحدة من الفتاتين كان الأمر قد تغير. وقد كانت الفتاتان جميلتين وكانت كل منهما تمثل نوعا من الجمال الذي لا يختلف فيه اثنان، وإن كان هناك مجال لاختلاف فإنه سيكون تقدير مدى هذا الجمال. كانت إحداهما خمرية اللون ذات تقاطيع منسجمة لها أنوثة جذابة وشعر مناسب فيه رخاء وسيولة ولين. وكانت الأخرى عابدة شديدة البياض في خديها حمرة واهنة، وفي عينيها سواد داكن يتوسط بياضا ناصعا، وفي شعرها عربدة حبيبة. كلتاهما ممشوقة القوام، وكانت عابدة أطول من فاطمة قليلا، ولكن لا يشتكى من فاطمة قصر ولا يعاب على عابدة طول.

فالفتاتان كانتا جديرتين أن تحبا، ولكن لم يكن هناك حبيب؛ فالذين يرونهما من الرجال لا ترتقي آمالهم إلى حبهن. وكلتاهما كانت تعلم أنها ستجد الزوج اللائق بها فقد كانت كل منهما تعلم أنها جميلة، وأن أباها ممن يألف الناس ويألفون، وأن أمها قريبة إلى مشاعر الأمهات في القرية لم تمد يدها لإحداهن بغير المعروف والمكرمة. كلتاهما كانتا تجدان المتعة في كتاب من الكتب الكثيرة التي كان يشتريها لهما خليل، وفي الراديو ما وجدت البطارية وفي الأسطوانات. وقد تزوجتا كلتاهما وهما في مطالع الشباب فلم تضق منهن نفس، ولم تشعر واحدة منهما في حياتها برهبة المستقبل، ولم يهدد إحداهما شبح من عنس.

وما هي إلا سنوات قلائل حتى امتلأ البيت بأبناء فاطمة وعابدة يأتون جميعا إلى بيت وهدان في الإجازات والأعياد، وكان الجدان يشعران بمجيئهما أن الحياة التي عاشاها كانت مثمرة خصيبة، ولم يشعر واحد منهما بالأسف أن سباعي لم ينجب وقد استطالت سنوات زواجه. وكان سباعي في هذه السنوات تواقا إلى ابن وليس ابنة ليضمن وارثا لماله الذي سيئول إليه من أبيه، والذي ينوي أن ينميه بكل الخطط التي كان يعدها طوال حياته وما سترثه أيضا قدرية من أبيها وهو نصيب إن يكن نصف نصيب شعبان إلا أنه يظل مع ذلك موفورا. ولم يكن قبح زوجته بالنسبة إليه يشكل أي أسف لزواجه منها؛ فقد سرعان ما تعوده حتى لم يعد يرى فيها ما رآه في أول يوم دهمه فيه رؤياه، وهو أيضا كثيرا ما يروح عن نفسه مع شعبان. ولم يكن شعبان يجد أي غضاضة أن يصحب زوج أخته في لياليه الصاخبة، بل لعله كان يعتقد أنه إذا لم يصحب شعبان، فإن شعبان سيجد وسيلة أخرى يخفف بها وطأة أخته عليه، وهي وطأة لا يطيق احتمالها إلا ذو قوة وأيد.

وكان العرب قد بدءوا يرودون ملاهي شعبان وسباعي. وكانوا حريصين أن يجدوا لأنفسهم أصدقاء في القاهرة. وكان شعبان يتمتع حيث يسعى بأنه ابن أحد النواب، وبأنه ثري. وأحس أمير عربي أن مثل هذا لن يطمع في ماله، وأنه يستطيع أن يتخذ منه صديقا، فاتخذه صديقا، وأصبح الأمير نمر من أقرب أصدقاء شعبان. أما سباعي فكانت الصلة بينه وبين الأمير صلة تعارف لا تصل إلى الصداقة. وكثيرا ما دعا شعبان الأمير إلى شقته بالقاهرة، وكم سعد أبوه عز الدين حين دعا الأمير إلى بيتهم في القرية؛ فأي مجد يناله وهو يصيح في خدمه: القهوة لسمو الأمير يا ولد، الشاي لسمو الأمير يا ولد؟! إنه لم يحلم بزيارة وزير فكيف بأمير؟! كان فخورا عز الدين بابنه وبصداقته هذه الأمير فخرا لم يعرفه حياته كلها.

ودعا الأمير شعبان أن يزوره في بلده فلبى الدعوة وحده طبعا؛ فالدعوة لم توجه إلا إليه. وحين سافر شعبان لم يكن يفكر إلا في رؤية هذه البلاد، وحين استقر به المقام هناك، ووجد الثراء الفاحش الذي يعيش فيه الأمير انتهز فرصة خلا فيها به وسأله في شبه مداعبة: أتقبلون في أسرتكم غير الأمراء.

وقال الأمير: يا أخي وما البأس؟ كلنا أبناء آدم، وكلنا مسلمون. - أحقا ما تقول يا سمو الأمير؟ - نعم هو الحق. - ألك أخوات لم يتزوجن بعد؟ - تسع أخوات تزوجت منهن اثنتان. - فإذا طلبت منك أن تزوجني إحدى السبع الباقيات. - أيهن؟ - وهل أعرف؟ إنها أول مرة أعرف أن لك أخوات؟ - وكيف تريد أن تتزوج إذن؟ - بالإنابة. - الإنابة تكون في زوجة محددة. - إنني أوكلك عني في الاختيار، أما العقد فلا داعي فيه للإنابة؛ فأنا حاضر بين يديك. - أتريد أن تتزوج في هذه الزيارة؟ - وأعود إلى أبي بالعروس. - وهل هذا معقول؟ - وفيم نحتاج إلى الزمن؟ أنا بيتي موجود في البلدة، وفي ساعات أختار للأميرة أحسن شقة في القاهرة، والأميرة قطعا لا تحتاج إلى جهاز، ففيم الانتظار؟ - أسألها. - هل اخترت لي؟ - قد اخترت.

وتزوج شعبان من الأميرة العربية، وعاد بها إلى أبيه، وأقيم الفرح في القرية ثلاث ليال سويا. ولم تكن الأميرة على كل حال في قبح قدرية، وهو حين طلبها إنما سعى إلى لقبها وثرائها، وما سعى إلى جمالها أو أنوثتها. قدر أنه لا بد أن يتزوج وقدر أن مثله لا يعرف للحب معنى إلا هذا الذي يمارسه في لياليه في القاهرة، وعندما تنطفئ الأنوار تتساوى جميع النساء. •••

اشتد المرض بوهدان؛ فقد داهمه الكبر فجأة وتوالت عليه علائمه، وأحس أنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. وكانت نتيجة البكالوريوس على وشك الظهور، فكان كل دعائه حين كان يصلي وهو نائم من شدة الوهن أن ربي لا تضمني إليك حتى أعرف نتيجة خليل، أريد أن أقول له يا دكتور مرة واحدة قبل موتي. ومن العجيب أن قدرية كانت حاملا في هذه الفترة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الولادة. ولم يدع وهدان ربه أن يرى سباعي قبل أن يموت، وإن كانت نبوية تدعو له دائما بطول العمر ثم تهمس وكأنها تناجي الله في علياء سمائه: وإن كان لا بد يا الله فأفرحه بنجاح الدكتور خليل، وبحفيد من ابنه البكر.

وفي يوم أصبح خليل الدكتور خليل، وقبله أبوه وعيناه تنهمران دموعا، وراح ينظر إلى السماء وهو يقول: الآن إذا شئت يا رب، الآن ولك ألف شكر وألف حمد. وأبت السماء إلا أن يأتيه الخبر الآخر في نفس اليوم أن ابنه سباعي قد رزق بولد، وكان سباعي هو من سعى إليه بالنبأ، وقبل يده وسأله: لن يختار له الاسم إلا أنت يا آبا، أطال الله عمرك.

وقال وهدان وهو يلتقط أنفاسه: ليكن اسمه صلاح، وليكن صلاحا بإذن الله.

وفي المساء فاضت روح وهدان وهومت في سموات القرية كلمات الآية الكريمة:

يخرج الحي من الميت . سبحانه!

الفصل الثامن

الانتخابات في القرى مواسم. حين تقبل يصبح الجميع مشغولا بها لا يصرفه شيء عنها، إلا أن يكون موعد زراعة أو ري أو تسميد؛ فإن الأرض لا تعرف التأجيل، والنبات لا شأن له بالانتخابات؛ فهو لن يعطي صوتا، وهو أيضا لن ينال ما يناله أصحابه من مال أو من تسلية.

ولئن كان النفاق هو أعظم العملات تداولا في الحياة جميعها، فإن موسمه الأكبر هو أيام الانتخابات، نفاق متبادل يقدمه المرشحون إلى الناخبين، ويقدمه الناخبون إلى المرشحين مع ما يكرمونهم به عند زياراتهم. ويروي أحد المرشحين المشهورين أنه ذهب في يوم لزيارة بلدة من بلاد دائرته الانتخابية فلقيه الأهالي على الأعناق، واتجه الركب إلى بيت العمدة ليكون أول بيت يزوره المرشح في القرية، وكان التراب قد تصاعد إلى عيني المرشح حتى لم يعد يرى، وهو بطبيعته ذو عيون كليلة حساسة، فهمس في أذن العمدة أنه يريد أن يغسل وجهه، وسرعان ما أخلى الطريق له إلى الحمام، وغسل وجهه ونشفه ووضع نظارته على عينيه. ووجد بالحمام شيئا عجيبا، ووجد لافتات في حجم اللافتات التي استقبلته بها البلدة، لا فارق هناك بينهما إلا شيء واحد، هو أن هذه اللافتات تحمل اسم المرشح الآخر.

ولئن كانت الرشوة تتستر وراء الكلمات في مألوف الحياة، وإن كان المرتشي يقول دائما أن المال لغيره والراشي يتظاهر بأنه يصدق فإن الرشوة في أغلب الانتخابات تسفر عن وجهها سفورا كاملا، لا تتشح بساتر ولا تستخزي وراء الكلمات، ولا تستحي أن تصرح، فإذا لم يكن للبلدة كبير يرشى فقد تتمثل الرشوة في تبرع يقدمه المرشح لجامع يبنى، علم الله أنه تبرع لن يكتب في الحسنات أبدا. وإذا كان كبير البلدة عفيف النفس وطلب إلى المرشح ألا يقدم أي تبرع في أثناء الانتخابات سعى الصغار إلى المرشح يوسعونه مطالب واستجداءات، حتى ليتمنى لو كان كبير البلدة مرتشيا؛ فطلبات الأفراد لا نهاية لها، أما التبرع أو رشوة الكبير فرقم محدد وينتهي الأمر. ولما كان المكر السيئ يحيط بأهله دائما، فالراشون هم في الأغلب الأعم هم الساقطون، فإن المرشح الواثق بنفسه لا يقبل مساومة في فترة الانتخابات قط، حتى لأعرف مرشحا كلفه المطعم والمشرب واستقبال الناخبين مبلغا لا يتجاوز بضع مئات، ولكنه خشي أن يعرف أحد هذا فيظن أنه أنفق في الرشوة مالا، فقال لابنه وهو ينبئه بالحساب: لا أحب أن يعرف أحد أنني أنفقت هذا المبلغ. وكان نجاح هذا المرشح ساحقا.

فالمرشح السياسي الخبير بالانتخابات يعلم أن الصوت الذي يشتريه لم يصبح له، وإنما يصبح سلعة في السوق. وإذا كانت السلعة يدفع مشتريها ثمنها ويتسلمها، فإن الصوت سلعة غير أمينة ولا مأمونة؛ فهي تأخذ من كل المرشحين ثم لا تنتخب أحدا على الإطلاق، أو قد تنتخب من لم يدفع لها شيئا.

ولكن حين يكون بين المرشحين مجرم مثل عز الدين الخولي فإن الأمر يختلف كل الاختلاف؛ فإن أغلب البلاد لا تريد أن تتعرض لزبانيته ومجرميه، الذين يسلطهم على عباد الله فيفعلوا بهم الأفاعيل، من حرق للزرع إلى سرقة للبهائم إلى قتل إذا احتاج الأمر إلى قتل. والبلاد في الريف تخاف على زرعها وعلى بهائمها وعلى أرواحها، ولكنها لا تحب أن تعلن أنها خائفة، فهي تتظاهر بذكاء لا يتأتى إلا للفلاحين أنها تنتخب المرشح المجرم عن حب وطواعية وليس عن خوف وإذعان، وأنها تختاره راغبة لا راغمة. والمجرم أعمى البصيرة بطبيعة تكوينه، وإن لم يكن كذلك لأدرك أن مال العالم وسلطانه أجمع لا يساوي دم إنسان بريء واحد من الدماء التي يريق، وبهذا العمى في البصيرة يصدق أنه محبوب من دائرته، وأنها تنتخبه عن إقبال وحب. وقد يسأل واحد من الذين لم يعيشوا في الريف: ألا يسأل المجرم نفسه لماذا يحبه الآخرون وهو قاتل سفاح يهدد مصادر رزقهم، ويقض منهم المضاجع، ويجعل حياتهم رعبا وموتهم لعبة؟ إن هذا السؤال قد يرد على ذهن المجرم، وهو واجد عند نفسه الجواب؛ فهو يظن أن الفلاحين ما داموا يطربون حين يسمعون حكايات أبو زيد الهلالي وعنتر بن شداد والزناتي خليفة، وما دام بعضهم يروي لبعض حكايات أدهم الشرقاوي ومن تبعه بإجرام إلى الخط، فهم إذن يعجبون بالرجل القوي الذي يصادر الحياة، ويجعل من نفسه جلادا لمن يقول في وجهه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو منطق كما ترى سخيف وساذج. أما الطرب من الفلاحين لحكايات الأبطال فهو شعور بأن هؤلاء الذين تروى عنهم الأساطير قد واجهوا الظلم بمثله ودافعوا الطغيان بالقوة والعنفوان، وهو ما كان الفلاحون يتمنون أن يصنعوه مع أمثال عز الدين الخولي؛ فعنتر وأبو زيد والزناتي وأضرابهم هم إزاحة الغضب الذي يغتلي في نفوس المغلوبين على أمرهم، أمام القوة الغاشمة المتمثلة في أسلحة الطغاة وأعوانهم.

أما رواية الفلاحين لقصص المجرمين من معاصريهم فهي اتقاء لشرهم وتظاهر بالإعجاب بهم، عساهم أن ينأوا عنهم بإجرامهم وأذاهم؛ فالفلاحون إذن بما يروون إنما يتقون شرا ولا يعجبون بشرير، إلا أن يكونوا أطفالا يسمرون ما يلبثون مع الأيام أن يدركوا الحقيقة، وأن يعلموا الذميم والطيب والفساد والصلاح والأعوج والقويم.

ولكن عز الدين الخولي وأمثاله لا يحبون هذا الحق، وإنما يحبون أن يهيئوا لأنفسهم أنهم أبو زيد وعنتر والزناتي وأدهم الشرقاوي والخط جميعا، وأنهم محبوبون.

ولهذا لم يكن عجيبا أن يزور عز الدين الخولي بلاد الدائرة في سيارة مكشوفة، وخلفه صفوف من السيارات التي استأجرها للانتخابات بأسعار توشك أن تكون رمزية؛ فأصحاب السيارات أصحاب أولاد يخشون أن يخطفوا وأصحاب أرواح يخشون أن تحرق، فهم إذن يقدمون سياراتهم له بكل الحب وبألفاظهم صائحين أنها ملكه هي وأصحابها، مقسمين بالطلاق ألا يتقاضوا مليما، وما يزال بهم حتى ينزلوا على أمره ويقبلوا ما يعرضه. وقد كان ما يعرضه سفاكا للمال كما هو سفاك للدماء، وكانت الانتخابات قد بدأت، وكان عز الدين منتميا لحزب الوزارة التي تركت الحكم، ولكنه في نفاق واضح لا شبهة فيه ولا مراوغة ترك حزب الحكومة المولية وانضم إلى حزب الحكومة الحاضرة؛ فالرجل لم يدع في يوم من الأيام أنه ذو مبدأ، أو أنه سياسي، أو أنه - لا قدر الله - ذو شرف.

ولم يكن هذا الانتقال من حزب إلى حزب نظرة إلى الانتخابات فهو يعرف نتيجتها على الحالين، وإنما كان تحسبا لما بعد الانتخابات، وحرصا على أن تكون صلته بالسلطة التنفيذية وطيدة، فتظل إيجارات الأوقاف سارية المفعول في العهد الجديد، وتظل رغباته في تعيين العمد ونقل الموظفين نافذة. وهو قبل لم يختر الحزب الذي كان فيه عن مبدأ ولا هو انتقل إلى الجانب الآخر عن إعمال رأي؛ فالشرف السياسي بعيد عن كيانه كل البعد. وما دام الأمر كذلك فماذا سيخسر إذن إن هو ترك حزبا إلى آخر؟ لا خسارة طبعا، والربح مؤكد.

وراحت مواكب عز الدين تجوب بلاد الدائرة، وإن له لبصمة في كل بلد زارها، وبصمة السفاح تترك حيث تقع دماء، إن لم تكن دماء بشر فدماء كرامة مسفوكة، وخزي يلحق بمن اختاره الطاغية ليكون ضحيته. والسفاح معدوم الحياء جامد الوجه شديد التبجح؛ فليس يراعي ألا يمر ببيت قوم قتل عائلهم أو سلب بهائمهم أو حرق زرعهم أو محصولهم، وإنما هو يتحرى أن يعمد في أول نزوله إلى القرية إلى البيت المخضب بدماء البشر أو الكرامة أو الفقر التي أسالها هو، ويتعمد أعوانه الذين هم على شاكلته من الفجور أن يرفعوا عقائرهم بالهتاف له، ثم ينطلق رصاص عصاباته ليعلن أن الذي يتخلف عن الهتاف ينوب الرصاص عنه في هذا الهتاف.

وعلا الضجيج وعلا الصخب، ودق الطبل وعلا المزمار، وتهاتفت أصوات الرصاص، وغلت دماء في العروق، وصعدت حميا الجنون إلى مكان العقول، وسقط عز الدين الخولي قتيلا برصاصة في رأسه، وخشع الطبل والمزمار، وولى المجرمون بزعامة أبو سريع هربا وهم من كانوا يقسمون في كل يوم أنهم يفدونه بحياتهم، ولكن القسم شيء وقتله ومجيء الشرطة والتحقيق شيء آخر. وبدا الفرح على وجوه الجميع في القرية تحاول أن تغطيه الحوقلة ولا إله إلا الله، وسبحان الدائم! ومحاولة التظاهر بالحزن أمام ابنه ومن بقي من أعوانه؛ فمن أين لهم أن يعلموا إن كان شعبان في مثل إجرام أبيه أو أقل أو أكثر؟ فهم لم يجربوه بعد، ولا يدرون مدى جبروته أو ضعفه. لقد عاش عمره تابعا لمجرم، أفتراه يصبح متبوعا لمجرمين أم لا يكون؟ الله وحده أعلم. التظاهر بالحزن أسلم. وما هي إلا ساعة أو بضع ساعات ثم ينحسر عن القرية موكب الإجرام، ويفرغون هم لأفراحهم بما خلصهم الله من هذا العاتية السفاح. كان من المستحيل أن يعثروا على الجاني فكم من أعداء للقتيل! وإن انصرف الظن إلى من نكبهم عز الدين من أهل القرية فسرعان ما يخيب هذا الظن؛ فقد كانوا جميعا يعلمون أنه قادم إلى القرية في هذا اليوم، وكان من الطبيعي أن يتركوا القرية إكراما لأنفسهم أن يروا وجهه الذي لا يطيقون رؤيته، وتقية أن يبلغ منهم الغيظ مداه فتنطلق من أفواههم كلمة قد تكون فيها نهايتهم. ويدرك الشرطة أن القاتل قادم من بلد أخرى، وأنه تخفى حتى لا يلمحه أحد ممن يعرفونه من أبناء هذه القرية، وأنه انتهز فرصة الهتاف والرصاص والطبل والمزمار ونال ثأره وثأر كثيرين آخرين غيره. ولم يدهش أحد من كل الذين شهدوا القتلة أو الذين سمعوا بها؛ فهي أمر كان لا بد أن يقع على هذه الصورة وليس على غيرها، كل الذي كانوا لا يعرفونه هو متى، وقد عرفوه.

الفصل التاسع

حين اجتمعت أسرة وهدان بعد وفاته بفترة قال خليل كلاما قاطعا: يا أمه، أنت الكبيرة، ولا رأي قبل رأيك ولا بعده، ولكننا نعرف أن هذا الحديث لا يطيب لك. ونعرف معنى أن تفقدي المرحوم، ولكننا فلاحون، والأرض جامدة صلبة بلا عواطف، ولا بد لها من خدمة، وأنا لي رأي. - يا خليل يا بني، أنا ليس لي أرض، الأرض أرضكم.

وقال سباعي: بل كلها أرضك.

وقالت فاطمة: اسمعي يا أمه، أنت تديرين الأرض كما كان يفعل أبي، ويساعدك سباعي.

وقالت عابدة: ونعم الرأي يا فاطمة، وماله يا أمه، أنت فلاحة بنت فلاح وسباعي ابنك.

ونكس سباعي رأسه في مراوغة مكشوفة وقال: أنا تحت أمركم، إلا أنني أحب أن أتسلم نصيبي.

وقالت الأم في أسى وفي تؤدة: طول عمرك مستعجل يا سباعي!

وقال سباعي: ليس في الأمر استعجال، هذا شرع الله.

وقالت الأم: لا إله إلا الله، وهل نازعك فيه أحد ... ولكن أنت كذا طول عمرك مستعجل!

وقال سباعي: يا أمه أبدا.

وقالت نبوية: إن لم تكن عجولا لانتظرت على الأقل حتى تسمع رأيي.

وقال سباعي: أنا آسف يا أمه، الحق علي، قولي رأيك.

وقالت نبوية: الآن لا أقول.

وقال سباعي: ورحمة أبي إلا قلت رأيك.

وقالت نبوية: ماذا كنت تريد أن تقول يا خليل؟ - كنت أريد أن أوفر عليكم كل هذا الحديث، أما الآن وبعد أن قالت فاطمة ما قالت ووافقت عابدة على كلامها فلا بد أن أسمع رأيك أولا.

واندفع سباعي قائلا: هذا ليس رأي فاطمة ولا عابدة، هذا رأي الشيخ ياسين والأستاذ حسونة.

وقال ياسين: أولا يا سباعي أنا وحسونة جالسان ولم نفتح فمنا بكلمة. وأقسم بعهد الله أننا لم نلتق قبل هذا الاجتماع ولم نتفق على هذا الصمت، ولكنني رأيت أن هذا هو الخليق بي. ويبدو أن حسونة رأى نفس هذا الرأي، ولو كان ما قالته زوجتي رأيي لقلته. وأعتقد أيضا أنه لو كان رأي حسونة لقاله؛ فليس علينا بأس أن نشارك في شئون عائلة أصبحنا منها بحق النسب، ولكن هذه أرضكم وزوجتي والحمد لله تعيش حياتها الزوجية في رضا، وأعتقد أن أختها كذلك. ولهذا فأنا أرجوك أن تبعدني عن هذه المناقشة، ويتهيأ لي أن حسونة يرجوك نفس هذا الرجاء.

وقال حسونة: الله يفتح عليك يا ياسين، ليس لي بعد ما قلت كلمة واحدة أزيدها.

واستخزى سباعي بعض الشيء وأطرق، وقالت نبوية: ألم أقل لك يا سباعي إنك دائما مستعجل؟!

وقال سباعي: الحق علي مرة أخرى، قولي أنت رأيك.

وقالت نبوية: الأمر لله، أقول: أنا لا أريد من الدنيا إلا أن أكون أمكم، وأن أبقى في هذا البيت لأفتحه لكم جميعا حين تأتون إليه، وبهذا أشعر أنني استطعت أن أرد بعض الدين الذي في رقبتي للمرحوم الذي عشت معه ما عشت، ولم أر منه في لحظة من اللحظات ما يسيئني، حتى إذا غضب كان يدخل إلى حجرته ويقفل بابها على نفسه حتى لا أراه مكشرا، أرض؟! أنا لن أشوف، وإن كنت كما قالت فاطمة فلاحة وبنت فلاح إلا أنني منذ تزوجت أباكم لم أخرج إلى الغيط، حتى حين كنا فقراء في أول حياتنا رتب لنا مصطفى السقا حتى لا أخرج لملء الجرة، فأي أرض هذه التي أشوفها؟ وهل تسمح سني بذلك؟ يا أخي، أنا كفاية علي أن أجعل البيت دائما مستعدا لاستقبالكم، غير هذا أنا ليس عندي كلام، وما تشوفه أنت وأخوك أنا مسئولة أن أجعل فاطمة وعابدة تقبلانه.

وقال خليل: أطال الله عمرك يا أمه، وأبقاك لنا جميعا، نعم الرأي، الحقيقة أنني الآن أصبحت طبيبا، والطبيب يحتاج لوقته كله حتى يكون طبيبا ناجحا، وأنا متأكد أنكم تحبون أن يكون أخوكم ناجحا. والحقيقة أيضا أن سباعي كان دائما ابن الأرض يعرف كل شيء عنها، وكان أبي يعتمد عليه منذ كان سباعي صبيا، وحين أصبح شابا كان هو الذي يشرف على الأرض ويكتفي أبي بأن يعرف منه ما فعل، وكان أبي يبيع المحصول وبحضور سباعي، أليس هذا كله حقا؟!

وهيمنت أصوات بالموافقة فأكمل حديثه: وأن يجلس كل واحد منا آخر السنة ويرى حساباته أمر أنا لا أحبه؛ فقد تقتنع فاطمة بالحساب ولا أقتنع أنا مثلا، فالرأي عندي أن أقعد الآن مع سباعي، ونرى ما أنتجته الأرض في السنوات الثلاث الأخيرة، ونقدر إيجارا معقولا يعود بالربح على سباعي مقابل إدارته للأرض وتعبه فيها، ويكون كل منا على علم طول السنة بما سيحصل عليه آخر العام.

وقالت الأم في حسم: كلام معقول.

ونظرت فاطمة إلى أختها وبادلتها عابدة النظر، وتلمست كل منهما رأيا عند زوجها فلم تجدا اعتراضا، وقالت فاطمة: موافقة.

وقالت عابدة: نكتب عقود إيجار.

وقال خليل: نكتب عقود إيجار.

وقال سباعي والفرحة تملأ عليه منافذ الهواء: على بركة الله. •••

حين خلا سباعي إلى شعبان بعد مأتم أبيه سأله شعبان عما فعله مع إخوته فأخبره، وفكر شعبان مليا، ثم قال: بعد الأربعين أريدك في أمر مهم. •••

كان شعبان إنسانا آخر غير أبيه وغير الذي عرفه فيه أبوه، فإن تكن الأرض هي كل حياة أبيه يقتل في سبيلها الناس ويعتصر دماء البشرية، فإن شعبان لم يكن يرى في الأرض إلا وسيلة تمكنه من قضاء أيامه مقلوبة، ومن أن يجعل نهاره كله سوادا؛ لأنه فيه دائما يحب أن يكون نائما ولياليه كلها بيضاء بالنور الملقى على أجساد الراقصات، وهن بعض كاسيات، أو حمراء بالضوء الشاحب الهارب في خجل من جسومهن وهن عاريات؛ تلك هي الحياة عنده، وإن كان في حياة أبيه يعاونه في الزرع ويغضي عما يفعله بالبشر، فما كان هذا منه إلا لينال ما ينفقه على صنعته الوحيدة في الحياة، وهي المتعة والمتعة المشتراة وإنها لباهظة الثمن.

وإن كان أبوه يحب أن يكون عضوا في مجلس النواب معتليا كرسيه على الرعب يثيره في الناس بالقتل والسرقة والغصب والنهب والجبروت، فإن شعبان كان ينظر إلى مجلس النواب هذا على أنه تسلية لا طائل تحتها ما دامت لياليه لا تنتهي بما تنتهي به لياليه هو. وإن كان في حياة أبيه مرغما على الزراعة والسعي في الانتخابات، فلا إرغام اليوم عليه. وقد كان شعبان في القمة من سعادته بزوجته الرضية التي لا ترى فيما يفعله من سهر أمرا غير عادي، وإنما هو مألوف ما يصنع الرجال، وما عليهم في ذلك من بأس ما داموا آخر الليل أو أول النهار ينامون في أسرة منازلهم. وكانت قد ولدت لشعبان سمية ووليد، فهي مشغولة بأبنائها والمال عندها دائما موفور بما يرسله إليها أخوها، أو يعطيه لها حين يزور مصر. وهي تشتري ما يعن لها أن تشتري، وربما كان الشيء الوحيد الذي كانت تتوق إليه هو زيارة أمريكا وأوروبا. وقد كان زوجها يعتذر عن عدم تنفيذ هذه الرغبة بمشغوليته في أملاك أبيه، مخفيا الأسباب الحقيقية التي يتقدمها جهله باللغة، ولكنه أمام إلحاحها وافق على السفر معللا نفسه أن اللغة التي يجب أن يتحدث بها عالمية، وربما وجد في باريس مثلا من يفهمها خيرا مما يفهم الفرنسية نفسها، وحدد لسفره انتهاء المعركة الانتخابية، فحين قتل فيها أبوه تأجل الموعد إلى أن تمر فترة مناسبة. وهكذا كان شعبان في مشاغله وآماله بعيدا كل البعد عن مشاغل أبيه وآماله. وكان أبعد ما يكون عما يفعله أبو سريع. وقد كان واثقا أن أبو سريع لن يبقى معه بعد موت أبيه إلا ريثما تمر فترة تسمح له أن يجد مستأجرا آخر؛ فما كان شعبان يتصور أن يقتل أحدا في سبيل أي شيء إلا أن يعوقه عن متعته في الملاهي.

ولهذا لم يكن غريبا أن يقول شعبان لسباعي بعد إحياء ذكرى الأربعين لوفاة أبيه: ما رأيك يا سباعي أن تصنع معي ما صنعته مع إخوتك؟

وذهل سباعي، أحقا ما يسمع؟! ويسأله أيضا: ما رأيك؟ وهل فيها رأي؟ لقد بدأت الآمال تتحقق من أوسع الأبواب. •••

حين غادر سباعي بيت شعبان قصد من فوره إلى بيت أبو سريع. - السلام عليكم. - أهلا سباعي بك مرحبا، القهوة يا ولد، يا مرحبا، أهلا وسهلا. - أهلا بك يا أبو سريع، قهوتك مشروبة يا أبو سريع، إلا أنني أريدك في كلمتين. - تحت أمرك، عن إذنكم يا رجال.

وينظر الرجال بعضهم لبعض في دهشة شديدة، ثم يقومون الواحد منهم تلو الآخر، وقبل أن يصل أولهم إلى الباب يصيح سباعي: يا سلام.

ويقف سلام، ويلتفت إليه في إجلال: نعم يا بك. - أنتم طول عمركم رجال. - تحت أمرك، مر. - هذه الزيارة ... - ما لها يا بك؟ - لم تحصل، لم تتم، لم أجئ إلى هنا، لم يرني أحد منكم.

وابتسم سلام وهو يقول: وهل جئت يا بك حتى يراك أحد منا؟ هيا بنا يا رجال.

وخرج الجميع وهم يضحكون تشيعهم جملة سباعي: ألم أقل إنكم طول عمركم رجال؟!

وحين خلا المكان بسباعي وأبو سريع قال سباعي: هل اتفقت مع أحد بعد عز الدين ... بك. - يا بك الأربعين كان أول أمس، من يمكن أن يكلمني قبل أن يمر الأربعين ؟ - لا تتفق. - أمرك، فيه حاجة؟ - لا تتفق وبس، أفهمت؟ - أمرك.

الفصل العاشر

متولي أبو منصور هو أحسن فلاح في أرض وهدان جميعا، وقد أنتج فدانه في العام الأول من تولي سباعي الأرض سبعة قناطير. وكان نظام الزراع مع الملاك خاضعا للمحمول، وهو نظام يشبه الإيجار إلا أن السداد فيه يكون عينيا؛ أي بالمحصول نفسه. وكان هذا السداد يسمى المحمول، وقد غلبت هذه الكلمة على النظام كله، فكان يقال إن الزراعة بالمحمول، وكان محمول الأرض الذي يجب أن يسدده الفلاح في أرض وهدان هو ثلاثة قناطير عن فدان القطن وثلاثة أرادب عن فدان القمح وأربعة أرادب عن فدان الذرة. وكان متولي يزرع خمسة أفدنة، وكانت الأرض تنتج في مألوف عادتها خمسة قناطير، وكان الأصل أن يكون ثلاثة أخماس المحصول للمالك وخمساه للزارع، فإن كانت هناك مصاريف زراعية تخصم بنفس النسبة ما تمثل الكيماوي والري وجمع قطن عينا أيضا من محصولها.

وحلا لسباعي أن يبدأ حياته الجديدة التي أعد نفسه لها منذ باكر الأيام مع متولي أبو منصور الذي يزرع عندهم منذ عشرين سنة ونيف. أرسل إليه وبدأ يحاسبه على ملأ من الناس. - كم أنتج الفدان عندك؟ - يا سي سباعي أفندي. - بك يا ولد. - ولا مؤاخذة بك، ألا تعرف؟ - أعرف ولكن أريد الرجال أن يسمعوا. - سبعة قناطير. - هو ما قلت؟ - أنا لا أكذب عمري، وأنت تعرف. - سبعة قناطير في خمسة أفدنة يكون كل محصولك كم؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله! - انطق. - خمسة وثلاثون قنطارا. - حلو جدا، فلماذا وردت خمسة عشر قنطارا. - عجيبة! ثلاثة في خمسة، أليست خمسة عشر. وليس علي مصاريف، أنا اشتريت الكيماوي ورويت وأنا الذي جمعت أيضا. ماذا تعوز مني يا سي سباعي أفندي؟ - بك. - بك. - أليس المحمول مخامسة؟ - كان كذلك حقا، ولكن المرحوم والدك لما رأى الأرض تنتج عادة خمسة قناطير جعل المحمول ثلاثة قناطير حتى ينال الفلاح الذي يجتهد حقه، وينال المقصر جزاءه عن ضعف المحصول، وأنت نفسك كنت تحصل منا المحمول منذ سنوات على هذا الأساس . - ولكني السنة أريده مخامسة. - السنة هذه غير معقول! أما إذا كنت تريد ذلك في العام القادم فأمرك، ولكن رأيي أن هذا ليس من مصلحتك وليس عدلا أيضا. - وهل لك رأي؟ - وكان المرحوم والدك يأخذ به منذ كنت أشيلك على كتفي. - اخرس يا ابن الكلب. - ابن الكلب! أهي حصلت يا سباعي؟ - بك. - من غير بك، سلام عليكم.

وانصرف متولي ونادى سباعي: يا أبو سريع.

وجاء أبو سريع من الحجرة الأخرى. - نعم يا بك. - قطن متولي أبو منصور يذهب رجالك اليوم ومعهم بعض رجال تختارهم أنت وتعبئونه في الأكياس، وتجيئون به الليلة. - أمرك يا بك، لكن فقط ... - ما لك! - سمعت وهو جالس معك من الرجال أنه باع قطنه. - باعه؟ - نعم. - وسلمه؟ - اليوم وقبض ثمنه. - تذهبون إليه وتطالبونه بثمن سبعة قناطير منه. أنا لا أظلم أحدا، إنما حقي لا بد أن آخذه.

ولم يجد الرجال الجالسون والذين يقف أمامهم أبو سريع بكل تاريخه في موقف التابع الخاضع لسباعي بدا من أن يقول قائلهم: عداك العيب. - رجل وابن رجل طول عمرك. - وكتر خيرك لأنك لم تؤدبه بثمن قنطارين جزاء طريقته في الكلام مع سعادتك.

ويقول سباعي الذي أحس أن مراسم التتويج الإجرامي قد تمت له بهذا النفاق: المؤدب ربنا، أنا أريد حقي فقط، اذهب أنت يا أبو سريع. - أمرك يا سعادة البيك.

وينصرف أبو سريع ويأخذ الرجال الجالسون من سباعي في حديث آخر، وحين يأتي أبو سريع يبادره سباعي: هه، أحضرت المبلغ؟ - يا سعادة البك، هذا الرجل قليل الأدب. - كيف؟ - قال لن أدفع شيئا، ولن أخاف منك يا أبو سريع، ولا من سيدك الجديد، وأعلى ما في خيلكم اركبوه.

ويقول سباعي: أهو قال هذا؟

ويقول أبو سريع: يا سعادة البك، وماذا يجعلني أتقول عليه وأنا لم أخاطبه في حياتي إلا اليوم؟ - هيه! طيب منه إلى الله، روح أنت يا أبو سريع.

والتفت سباعي إلى الرجال وقال: إذا منعته من الزراعة عندي أيلومني أحد.

وقال أكثرهم نفاقا: وهذا قليل عليه.

وقال سباعي في تظاهر بالعفو والرحمة: يكفيه هذا، وإنما أردت فقط أن تكونوا شاهدين.

مر على هذه الواقعة يومان فقط، وإذا بلدة الصالحة تعلو بها أصوات الأعيرة، وما إن تنكتم حتى يعلو الصراخ وتنقلب البلدة كلها إلى بيت متولي. لقد أطلق عليه الرصاص وهو جالس مع زوجته يتناول العشاء وعلى ركبته ابنه الأصغر الذي كان في الخامسة من عمره، وقد أفنى الرصاص ثلاثتهم. وجاءت الشرطة وجاءت النيابة واستقبلهم العمدة والخفراء وجرى التحقيق، ولم يكن أحد في القرية يجهل القاتل والآمر بالقتل جميعا؛ لأن أحدا في القرية لم يكن يجهل تفاصيل ما حدث بين سباعي ومتولي، ولكن من ذلك الذي يريد أن يلقى مصير متولي؟ وازداد سباعي فجورا فأعلن أن مصاريف الدفن والمأتم عليه؛ فهو رجله، وهو مسئول عن دفنه هو وابنه وزوجته، وعن مأتمهم أيضا. وبلغ أقصى القمة حين وقف يستقبل العزاء يحف به عن يمين شاكر الابن الأكبر لمتولي وعن يسار عبد التواب الابن التالي لشاكر.

وعرفت القرية أو المنطقة أن سباعي قد جلس على عرش سيئ الذكر المجحوم عز الدين الخولي بك.

ثنى سباعي بحسن بن عبد الحميد أبو ديدة الذي أوصاه بابنه هذا لقاء نصيحته له أن يتزوج ابنة عز الدين! طلب سباعي إلى حسن أن يبيعه أفدنته الثلاثة فرفض حسن. - ماذا يقول الناس عني؟ باع أرض أبيه! خائب أنا إذن لا أكسب من صنعتي.

ويقول سباعي وكأنه ينصحه: يا بني، أنت في دكانك، ولا تستطيع زراعة الأرض، وهم ينهبونها منك. - كل هذا ولا أني أبيعها. - بل تبيعها. - أهذا تهديد يا سباعي بك؟ - ليكن كذلك. - تقتلني كما قتلت متولي؟ - وهل أنت كبير؟ - كبير جدا. - نشوف.

ويحرق المحصول في أرض حسن وتسرق بهائمه في ليلة واحدة، ويأتي خاضعا وعيناه نيران ولهيب وغيظ وتمرد، ولكنه تمرد المكبل الذي لا يستطيع من كبوله فكاكا. - أبيع يا بك، أبيع وأمري لله. - بنصف الثمن الذي عرضته. - بنصفه؟! - إذا كان يعجبك. - يعجبني؛ فأبنائي صغار ولن يجدوا من يربيهم من بعدي، أبيع، وإن قلت بغير ثمن أبيع أيضا.

وأمر سباعي وكتب العقد.

ثم استدار إلى سليمان النواوي؛ ذلك الرجل الذي أتاح لأبيه أن يشتري عشرة أفدنة بالدين الذي استدانه منه. ذلك الرجل الذي قبل سباعي يده يومذاك وغضب أبوه من فعلته تلك مرتئيا فيها بعدا عن الكرامة. هذا الرجل صاحب ذلك الفضل عليهم استدار إليه سباعي بجبروته الجديد. وكان الرجل قد علت به السن واستطاع أن يجمع إلى الستة أفدنة عشرين أخرى، وكف عن التجارة خاشيا ألا يتيح له وهن جسمه أن يقدم لها ما تستحق من سعي. ومكث الرجل يربي أولاده بريع أرضه.

استقدمه سباعي الذي لم يستطع أن ينسى أن أباه كان يستطيع أن يشتري هذه الأفدنة الستة وعف عنها بكبرياء من لا ينتهز الفرص، وينهش ما ليس له بحق. واستطاع في جمود مشاعره وتحجره أن ينسى أن سليمان أبدلهم بالستة أفدنة عشرة، ونسي بعواطفه الصلبة البخيسة صداقة سليمان لأبيه منذ وقف أبوه إلى جانبه في أزمته.

استدعاه: أشتري الأفدنة الستة.

ومع أن سليمان رجل عجوز خبر من الحياة أوجه الحياة جميعا، ومع أنه عاش أغلب عمره تاجرا يرى ما لا يراه الناس، ويعرف من القوم أسافلهم والأكرمين منهم، ويعرف من الأسافل أشدهم انحطاطا ومن الأكرمين أعلاهم يدا، ومع أنه عرف من الحياة كل دناءتها، وكل ما فيها من قذر ودنس، ومع أنه أصبح وهو لا شيء يدهشه ولا يثير فيه تعجبا؛ مع كل هذا، فغر الرجل فاه! هذا نوع من فجور الحياة لم يتصور أنه ملاقيه، ومن هذا الولد الذي قبل يده، ومن ابن أعز صديق له.

وتمالك سليمان أمر نفسه، ولكن بعد فترة ليست بالقصيرة سيطر فيها الصمت الصاخب في نفسه، والصمت المتبجج من محدثه. - آه! أنت لم تنس أن أباك كان يستطيع أن يشتريها وعف.

ويقول سباعي في جرأة: عليك نور. - ولكنك نسيت أنني اشتريت لأبيك عشرة أفدنة بدلا منها. - ونسيت هذا، ولن أذكره مهما ذكرتني به. - كم تريد أن تدفع؟ - بكم تريد أن تبيع؟ - أما أنا فلا أريد أن أبيع، ولكنني تاجر وأعرف أنك حددت الثمن، وأعرف أيضا أنني لن أستطيع أن أناقشك، فهل أعددت العقد؟ - جاهز. - أين هو؟ - ها هو ذا. - وهذا توقيعي، سلام عليكم. - ونقودك. - أرسلها حين تريد مع أبو سريع؛ فهو الذي صنع الصفقة. سلام عليكم.

الفصل الحادي عشر

كان صلاح طفلا لا يدري ما يصنعه أبوه، وحين بدأ ينطق الكلام ويفهمه وجد أباه في مكان الصدارة من البلدة جميعا، ووجد الناس لا تخاطبه إلا بكل إجلال. وحين بلغ الخامسة من عمره وجد أبوه أن من الطبيعي أن يذهب إلى المدرسة. وقد أحب أن يبعده عن القرية؛ فقد خشي أن يجتمع بالفلاحين فيعرف منهم في طفولته ما لا ينبغي أن يعرفه عن أبيه. أما القاهرة فهي بعيدة وابنه هناك سيكون في تيه عن أمر أبيه، وأمر أبيه هناك لا يعرفه أحد. وإن كان سيلتقي في القاهرة مع ياسين زوج أخته ومع عابدة أخته إلا أن أحدا منهما لن يذم أبا إلى ابنه، وخاصة إذا كان الأب هو المتصرف في أرضهم، ومهما يكن ظالما لأخته ولخليل متأبيا أن يرفع الإيجار الذي ارتفع في جميع الأراضي، إلا أنه مع ذلك كان واثقا أن أحدا من الاثنين لن يذم أبا عند ابنه. وسيرى هناك الدكتور خليل عمه، ولكن خليل أبعد ما يكون عن ذلك، فإن من هو في مثل علمه لا يتصور أن يذكر أبا عنده ولده بما لا يرضاه.

كلم سباعي ياسين في التليفون، وطلب إليه أن يبحث له بجوارهم في المنيرة عن شقة تسكن فيها قدرية وابنها. وقدر أنه بقربه من ياسين المدرس سيكون في رعاية منه طيبة، خاصة وأنه في مثل سن ابنه عمر، وسيذهبان مدرسة واحدة. وتم الأمر كما أراد تماما، وذهب سباعي إلى القاهرة ورأى الشقة وكانت فاخرة واسعة؛ فقد استقر في نفسه أن تكون بيتا له في القاهرة يلتقي فيها بمن يرى دعوتهم إلى غداء أو عشاء إذا اقتضت مصلحة أن يدعو إلى غداء أو عشاء. وبعد أن وقع عقد الشقة عزمت عليه أخته وزوجها أن يبيت ليلته عندهما، ولكنه رأى أن يبيت عند أخيه خليل. واستقبله خليل بترحاب أخ شريف يحب أخاه، ويتغاضى عما يرتكس فيه مما لا يرضاه الشرفاء. وبعد العشاء قال خليل: قل لي يا سباعي، من المؤكد أنك عندك من المال السائل ما تريد. - الحمد لله، لا أشكو. - لا تخف. أنا لا أنوي أن أستلف منك؛ فالحمد لله أنت لا شك تعرف أنني أكسب من عملي مكسبا يكفيني ويزيد. - ولماذا لم تفكر في الزواج؟ - فكرت. - واخترت؟ - وسأدعوك قريبا لتخطب لي، وتتفق على كتب الكتاب. - أعرفها؟ - لا أظن، إنها ابنة أستاذ لي، وطبيبة زميلتي. - وستجعلها تعمل؟ - طبعا هذا أمر لا تتصوره أنت، ولكن هل تظن مصر تستطيع أن تستغنى عن جهد طبيب أو طبيبة؟

ويقول سباعي في دهشة: مصر! وأنت ما لك وما لمصر؟

ويقول خليل في حسم: طبعا هذا موضوع لا شأن لك أنت به. - أنا من مصر، ألست كذلك؟ - سباعي اعمل معروف، يا أخي، لكل منا طريق في الحياة لا يتوازى معه ولكن يتقاطع. ولا يمكن أن أفهمك وأنت أيضا لا يمكن أن تفهمني، فدع هذا وقل لي: هل عندك مانع أن تشتري أرضي؟ - مطلقا، كم تريد في الفدان؟ - أنت الذي تسألني؟ إنني لو كنت أبيعها لغريب لجعلتك أنت الذي تبيعها عني. - وهو كذلك، اشتريت. - ادفع الثمن ولن أناقشك فيه واكتب العقد الآن.

وكتب سباعي الشيك، وكتب خليل العقد، وتمت الصفقة.

وقال سباعي: أين مفتاح شقتك؟ - في جيبي. - نم أنت إذن، وسأترك لك المفتاح على هذه المنضدة حين أعود، حتى تخرج إلى عملك ولا توقظني. - إلى أين أنت ذاهب؟ - ألم تقل إن الطريقين متقاطعان؟ - فقط أردت أن أعلم. - وأنت تعلم، ولكنك تتخابث علي. - ظننت أنك ستقضي الليلة معي نسمر؛ فإنا لا نلتقي إلا نادرا. - أنت ستنام. - ما أخبار أمي؟ - قاطعتني. - ولهذا أسألك. - ولماذا؟ - إنها قادمة لتعيش معي. - أحسن. - أتظن ذلك؟ - أصبحت لا تحتمل البلد. - لا يخرج أمي نبوية من البلد إلا ما لا تطيق. - ما دمنا اتفقنا أن الطريقين متقاطعان، ألا يحسن بنا ألا يناقش أحدنا طريق الآخر؟ - على كل حال أشكرك. - العفو، علام؟ - أنك جعلت أمي تأتي لتعيش معي. - وسأرسل لك إيجار أرضها كل سنة. - بل أظنها ستوكلني في بيع أرضها هي أيضا. - وعلام توكلك؟ اكتب وخذ العقد وخذ الشيك، ولتوقع هي العقد عندما تحب. - وهو كذلك.

وتمت الصفقة، وقال سباعي: والآن أين المفتاح؟ - هل أنت مصمم؟ - لو شفت ما أشوفه أنا حين أجيء إلى مصر لما سألتني هذا السؤال، أتظن نفسك عائشا يا دكتور؟ - علم الله أن حياتي هي الحياة، ولكن فليتقاطع الطريقان ولا نقاطع نحن، وخذ المفتاح. - ولكن تقاطع الطريقين لن يمنعك من رعاية صلاح؛ فإني سأتركه تحت إشرافك، وسجلت اسمك في المدرسة وليا لأمره. - هل رأيتني عمرك أتخلى عن واجبي؟ أنا أعرف واجبي دائما، وصلاح ابني كما هو ابنك. - أعرف ذلك. سلام عليكم.

وخرج سباعي إلى سهراته التي بدأ تاريخه معها في صحبة شعبان، والتي أصبح مجيئه إلى مصر مرتبطا بها ارتباطا يوشك أن يكون هو الوحيد. •••

حين جاءت نبوية إلى بيت خليل وأعطاها ثمن أرضها سألته: ماذا أنت صانع بأموالك؟ - سأشتري بها كمية من الأسهم. - وماذا تصنع هذه الأسهم؟ - تدر دخلا أحسن من دخل الأرض على الأقل. - إذن فاسمع، اشتر بثمن أرضي أنا أيضا كمية من الأسهم باسم أختك فاطمة وأختك عابدة واسمك، للذكر مثل حظ الأنثيين. - أنا متنازل عن نصيبي لهما. - الله يفتح عليك ويعوضني فيك عما أصابني به من أخيك. فقط أريد الريع طول حياتي. - وأنا أدفع لك قيمة الريع، واتركي أنت الريع للبنات. - أطال الله عمرك، ولكن لا، أن أعيش على نفقتك لا مانع فهذا حقي عليك، لكن مصروف يدي لا بد أن يكون من دخل مالي أنا. حين أريد أن أعطي أحدا من أولاد أختيك هدية لا بد أن تكون من مالي أنا. أعط أنت لأختيك ما تشاء لتعينهما، أما أنا فريع الأسهم يكون لي طول حياتي. - أمرك. وسيكون كذلك.

الفصل الثاني عشر

حين اقتربت الإجازة الصيفية كان سباعي في بيته بالقاهرة في إلمامة سريعة، فإذا صلاح يقول له: بابا سنأخذ الإجازة الصيفية بعد أسبوعين.

ووجم سباعي فما كان يفكر في هذه الإجازة فطالعته من حيث لا يحتسب، ودون وعي سأل ابنه: وماذا تريد أن تفعل؟ - أذهب للبلد. - وماذا تصنع في البلد؟ - أركب الحمير وألعب الكرة. إنني أريدك أن تشتري لي كرة ألعب بها مع أصحابي في البلد. - أي بلد التي تذهب إليها؟ - بلدنا، أنا أحبها جدا يا بابا. - يا بني، البلد تراب وعفار. - ولكنك تعيش فيها مع التراب والعفار. - شغلي. - رفضت في العيد وإجازة نصف السنة أن تذهب بي إلى هناك، أرجوك يا بابا، والنبي. - ألم أجئ إليكم في العيد؟ - أنت جئت نعم، ولكن البلد لم تجئ. - وكيف تريد البلد أن تجيء؟ - أذهب إليها أنا.

وفجأة ومضت في ذهن سباعي فكرة لم تكن خطرت له على بال. - أنت تلعب مع من طول السنة؟ - مع أصحابي في المدرسة، ومع عمر ابن عمتي.

وهنا فقط تدخلت قدرية في الحديث: الله يخليها عابدة، لا تتركني ليلا ولا نهارا، أما ياسين أفندي فلا بد أن تقدم له هدية عظيمة، إنه يعامل صلاح كأنه ابنه عمر وزيادة، لا يشغله شيء في الدنيا أن يعطيهما كل يوم الدرس، ويراجع معهما دروس المدرسة، فإذا أحسن صلاح الإجابة أعطاه مكافأة من النعناع والملبس والشيكولاتة التي لا يخلو منها درجه أبدا.

والتفت سباعي إلى صلاح. - مبسوط منك عمك ياسين يا صلاح؟ - كل يوم آخذ أنا النعناع والملبس والشيكولاتة، وعمر لا يأخذ. - أنت أشطر من عمر؟ - بزمان.

وقال سباعي: ما رأيك أن تذهب أنت وعمر وعمتك عابدة وعمك ياسين إلى الإسكندرية لتصيفوا هناك؟

والتفت إلى قدرية وقال لها: وتكون هذه هي هديتنا إلى ياسين وعائلته.

وقبل أن تجيب قدرية يقول صلاح: ما الإسكندرية هذه يا بابا؟ أنا لم أرها عمري.

ويقول الأب في سخرية: والله يا ابني ولا أنا، ولكن ماذا أفعل؟ الغلبة لها أحكام.

وتقول قدرية وهي مترددة في السؤال وكأنها تعرف الإجابة: لماذا لا تريد صلاح أن يذهب إلى البلد ؟ - أريده بعيدا عنها. - ألا ينبغي أن يتصل بالأرض؟ - ليس الآن، حين يكبر.

وفي خوف ولعثمة قالت قدرية: إذا كنت لا تريده أن يعرف ما تفعله فلماذا تفعله؟

وفي حسم قال: أنت التي تقولين هذا يا بنت عز الدين الخولي؟ دعي هذا الكلام لغيرك! - ومن قال لك إني كنت راضية عما يفعله أبي؟ - إذن فما دمت لم تكوني راضية فمن الطبيعي ألا يذهب صلاح إلى البلد.

وحاولت أن تقول: ولكن ...

وقاطعها سباعي في لهجته العاتية التي أصبحت طبيعية عنده: انتهينا، لا مناقشة.

ونكست قدرية رأسها في استسلام. - أمرك.

ومر هذا النقاش على ذهن صلاح وكأنه لغة أخرى غير التي يعرفها؛ فهو لم يفهم من الحديث شيئا وكان يفكر أن يسأل، ولكنه حين رأى الطريقة التي ختم بها أبوه الحديث أخذه الرعب من ملامح أبيه ولهجته فنكس رأسه في استسلام، وراحت عيناه ترتفعان إلى أبيه مخالسة ثم ترتدان إلى أسفل كأنما يخشى أن يراه أبوه وهو يتجرأ على النظر إليه، ورمقه أبوه في حاله هذه فحاول أن يزيل ما علق بنفسه من آثار الحديث. - وماذا يدرس لك عمك ياسين؟ - القرآن. - القرآن؟ - نعم؛ فأنا أحفظ الفاتحة وأحفظ الكثير من السور.

ونظر سباعي إلى زوجته وسألها: هل يدرسون لهم القرآن في المدرسة؟

وقبل أن تجيب أجاب صلاح: لا، ولكن عمي ياسين يدرس لنا القرآن مع دروس المدرسة.

ولم يجد سباعي شيئا يعلق به إلا أن يقول: ما رأيك أن تذهب إلى الإسكندرية؟ - أنا لا أعرفها. - سنعرفها معا. - هل ستبقى معنا هناك؟ - أطل عليكم كما أفعل هنا، هيه ما رأيك؟ - أريد أن أذهب إلى البلدة.

وحسم سباعي الموقف: ستذهب إلى الإسكندرية.

وفي الصباح توجه سباعي إلى الإسكندرية، وحين نزل من القطار سأل عن فندق وذهب إلى فندق سيسيل.

وهناك طلب من إدارة الفندق أن تدله على سمسار شقق وبدأه: أريد شقة. - للمصيف؟ - طبعا. - تقصد مفروشة؟

وفكر سباعي قليلا فوجد نفسه لا يفهم السؤال، فلم يجد بدا من أن يسأل: ماذا تقصد؟

وفهم السمسار أنه أمام رجل لم يطأ الإسكندرية من قبل فقال: هناك شقق يمكن أن تستأجرها طول العام وتفرشها أنت، وهناك شقق تؤجر للصيف فقط وتكون مفروشة، ويكون إيجارها مدة الصيف فقط أو جزءا منه إذا شئت، أنت وكيفك.

وفكر سباعي قليلا. - والشقق التي أستأجرها طول العام أفرشها أنا؟

وقال السمسار: نعم، وطبعا تستطيع أن تأتي إليها في الصيف وفي الشتاء كما تريد، تصبح شقتك. - وكم إيجار هذه وكم إيجار المفروشة؟ - على حسب الحجم والمكان. - أقصد الفرق كبير بين المفروشة وغير المفروشة؟ - طبعا المفروشة تكون أغلى بكثير؛ لأنك تستأجرها بفرشها ولمدة ثلاثة أشهر فقط على الأكثر. - والسنة الجائية إذا أردت أن أصيف؟ - نستأجر لك شقة أخرى. - وأظل كل سنة أبحث عن شقة؟ - طبعا. - إذن فأنا لا أريد شقة مفروشة. - عظيم، تريد شقة طول السنة. - طول السنوات. - طبعا، العقد يتجدد من تلقاء نفسه. - أريد من هذه. - كم تريد أن تدفع؟ - أريد شقة واسعة، وعلى البحر، والفلوس لا تهم.

وكان ما أراد.

الفصل الثالث عشر

حين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول لم يمس سباعي؛ فقد كانت أرضه لا تزيد عن المائة فدان إلا قليلا، وكانت أرض زوجته تقارب السبعين فدانا. أما شعبان فقد كانت أرضه تقارب المائة والأربعين فدانا، ولكنه أحس بما تحمله هذه القوانين في طواياها فطلب إلى سباعي: بع أرضي. - ماذا تقول؟ - أنا لست فلاحا، والدولة أصبحت لا تحب الملاك.

وفكر سباعي قليلا، إنه يرى في كلام شعبان حقا، ولكن بيع هذه الأرض سيجعل المساحة التي يشرف عليها تتقلص فنظر إلى شعبان طويلا، ثم قال: ما رأيك أبيع أرضك ولا أبيعها؟ - وكيف؟ - أكتبها بأسماء فلاحين آخرين، وأستكتبهم أوراقا بمبالغ من ثمنها. - الله أكبر، أحاول أن أهرب من الحكومة فأقع في أيدي ناس الله أعلم بذمتهم! - أيجرؤ أحد منهم أن يطالب بالأرض؟ - يجرؤ أحد، ويقول إن هذا البائع هو ابن عز الدين الخولي، وإنه اغتصب منا كمبيالات. لا، لا يا عم، إلا هذا، وأنا ما حاجتي إلى الأرض؟ بعها يا سباعي، واسمع مني نصيحة: هذا الزمن يجب أن تعرف أنه غير الزمن الذي نعرفه، والله وحده يعلم ما مصير الملاك فيه. - والله كلامك معقول. - بع أرضي الآن، وأنت اليوم تستطيع أن تحسن بيعها قبل أن تضيع مني. - وماذا ستعمل بالفلوس؟ تصرفها على إياهن؟ - أنا أحب المتعة، ولكني صاحب أولاد وقد فكرت جيدا. - ماذا ستفعل؟ - سأعطي الفلوس كلها للأمير، وإن شئت أن تطمئن علي فسلمها أنت له. - وبعد. - سيضعها في أحد مشاريعه وسيعطيني مرتبا شهريا أكبر من ريع الأرض خمس مرات، وآخر السنة يعطيني بقية أرباحي، ويبقى رأس المال كما هو، وحتى يزداد اطمئنانك سيضع المال باسم وليد وسمية بالنصيب الشرعي. - وهو كذلك. - كم يستغرق بيع الأرض؟ - لو كان غيري الذي يبيع لاستغرق بيعها شهورا قد تصل سنوات، أما أنا ففي مدى شهر واحد سأكون قد بعت الأرض.

وأنفذ سباعي وعده، وكان الأمر ميسورا بالنسبة إليه فقد أمر كل مستأجر في الأرض أن يشتري الأرض التي يزرعها، ولم يبالغ في الثمن وسارع المستأجرون يشترون فقد كانوا على ثقة أنهم لن يحصلوا على هذه الأرض تطبيقا لقانون الإصلاح الزراعي، الذي سمح للمالك أن يستبقي مائتي فدان إذا لم يكن له أبناء وثلاثمائة إذا كان أبا، وشعبان أب، وأين مائة وأربعون من ثلاثمائة؟ ولم يكن عسيرا على المستأجرين أن يحصلوا على أثمان الأرض؛ فمن لم يكن منهم ميسورا كان يسيرا عليه أن يستدين المبلغ أو يتقاسم الأرض مع ميسور، على أن يسدد هو ما عليه على مدى الأيام.

باع سباعي الأرض جميعا، وأبلغ شعبان بأن ثمن الأرض جميعه معه، وقال شعبان في فرحة: يعمر بيتك. ما رأيك؟ الأمير هنا هذه الأيام سأدعوه للغداء عندك بعد غد، وسيتم كل شيء أمامك. - وهو كذلك، يا مرحبا.

وتم الأمر كما رتبه شعبان، وأصبح شعبان لا يملك قيراطا واحدا من الأرض. •••

كان سباعي قد انضم إلى التنظيمات السياسية الجديدة، ولهذا لم يكن عجيبا أن ترشحه الحكومة في دائرة عز الدين الخولي. وبدأت الانتخابات، وطلب صلاح أن يأتي إلى البلدة ليكون مع أبيه أثناء مروره بالدائرة. وأحب سباعي أن يشهد صلاح أباه والناس تهتف باسمه والخطب تلقى في مديحه. وجاء صلاح ورأى عجبا، رأى أباه يمر بالدائرة ولكن محوطا دائما بالسلاح يشهره أبو سريع ورجاله، ورأى في نقاء صباه أن الناس تهتف ولكن العيون والوجوه لا تهتف. وسمع الخطب تلقى ولكن الخطباء يتكلمون مذعورين؛ فالأوجه منهم باسرة وعلى الجبين منهم حسرة، وفي أصواتهم رنين المقهورين من الرجال فعل المغلوب على أمره، لا اختيار له.

قليلا ما بقي. وعجب أبوه ألا يفرح صلاح بما يرى، واستبعد أن يكون قد وصل ببصيرته إلى خفايا النفوس. وما كان يتصور أن الروح الشفيفة ترى من الأشياء ما تخطئه العيون. وحزر أن يكون أحد قد هجس في أذن صلاح بجبروت أبيه، ولكنه استبعد هذا الحزر أيضا؛ فمن ذاك الذي يجرؤ على أن يقدم على هذه الهمسة. إذن فلماذا يطلب صلاح أن يعود إلى القاهرة؟ - ورائي مذاكرة. - ألا تريد أن تنتظر حتى تعرف النتيجة؟ - المرشح الآخر واضح الضعف، وأنا واثق من نجاحك.

وسافر صلاح عائدا إلى القاهرة وفي نفسه الكثير مما لو أراد أن يعبر عنه لما استطاع. إنها مجرد مشاعر. إن حاول أن يسأل سته أو عمه أو عمته فإنهم جميعا سيطلبون إليه ألا يفكر في هذا الذي يغشي ظنونه. وكيف لأم أو لأخ أو لأخت أن يشوهوا ابنهم أو أخاهم أمام ابنه؟

طوق نفسه على ما بها وصمت، ولكن نفسه أبت عليه هذا الصمت، قال لعمر: يا أخي، سبحان الله! هناك شيء في البلدة لا أعرف كيف أقوله ... - ماذا؟ - الناس تخاف من أبي. - وماذا في هذا؟ - الكلام معك لا يجدي.

وانتظر فرصة في فسحة الظهيرة وذهب إلى زوج عمته؛ فقد أصبح هو وعمر تلميذين في المدرسة نفسها التي يعمل ياسين مدرسا بها. وكان صلاح يحس نحو ياسين بنوة صادقة يمازجها إعجاب شديد؛ فقد استطاع ياسين أن يرسي في نفسه حب الله والطمأنينة إليه بما علمه من الدين، وما حببه في القراءة وفي كل المعاني التي أصبح صلاح يجد فيها سموا وقربا من السماء، كما استطاع أن يجعله يحب أن يذاكر لا للنجاح ولكن للعلم. وإن كان صلاح في سنه هذه الباكرة المتشوقة في مطالع الشباب الأولى إلى الغد لا يستطيع أن يقدر فضل ياسين عليه بالعقل والمنطق، إلا أنه كان يشعر بهذا الفضل بنقاء هذه السن التي تتمازج فيها الطفولة مع الشباب. - عم ياسين، أريدك في كلمة.

وكان ياسين في حجرة المدرسين فقال: تعال، وقل. - لا، إذا سمحت، نتمشى في الفناء.

ورأى ياسين على وجه الصبي الذي رباه خلجات لم يشهدها عليه قبل اليوم فقام إليه، وقال صلاح في لجلجة: لا أعرف كيف أبدأ، ولكن أنا لم أكمل الانتخابات مع أبي. - أعرف ذلك، وحسنا فعلت حتى لا يفوتك شيء من الدراسة. - هذا ما قلته له، ولكن ليس هذا ما جعلني أترك المعركة الانتخابية.

وصمت ياسين قليلا، ثم قال: الحق أنا دهشت لهذا الذي فعلته؛ فالشباب في سنك يحبون هذه المعارك ويسعون إليها، فما الذي جعلك تترك هذه المتعة؟ - كانوا يهتفون لأبي، ويلقون له الخطب، ويدقون الطبل والمزمار. - ألم يسرك أن تجد أباك محبوبا؟ - هذا هو ما أرجعني. - ألا تحب أن تراه محبوبا؟ - بل لا أتمنى شيئا في حياتي قدر أن يكون أبي محبوبا. - ألم يكن ما رأيته علامات الحب؟ - بل هو علامات حب. - إذن؟ - علامات غير صادقة، رأيت في العيون خوفا، ورأيت في القلوب رعبا. لم يكن الحب هو الذي رأيته.

وأطبق الصمت بين المتحدثين تماما. أما ياسين فلا يدري ماذا يقول. أيقول إنه انقطع عن الذهاب إلى البلدة حتى لا يسمع ما يصنعه نسيبه بالناس؟ أيروي لهذا الفتى الغض كيف جمع أرضه وهو لم يرث عن أبيه إلا عشرها تقريبا؟ وما ذنب صلاح فيما صنع أبوه؟ ولكن هو يعرف منزلته عند صلاح ولا يحب أن تهتز هذه المنزلة. من أجل مستقبل صلاح نفسه لا ينبغي أن تهتز هذه المنزلة. وإذا كذب عليه اليوم فهو في غد سيعرف الحقيقة، فكيف ستكون نظرته إليه؟ ربما يدرك ويقدر، ولكن إذا أحس أن أستاذه وزوج عمته الذي كان منه دائما بمكان الوالد يكذبه فمن يصدق إذن؟ وأين ينشد الصدق إذا لم ينشده عند الإنسان الذي يعتبره بغريزته الصافية أباه الروحي؟ ولماذا لم يوجه هذا السؤال إلى عمته؟ بل لماذا تحرى أن يأخذ في هذا الحديث معه في المدرسة، وهو قادر دائما أن يحادثه في البيت الذي يعتبره بيتا ثانيا له؟ أو لماذا لم يسأل جدته أو عمه؟ لقد خشي أن يحرج أحدا منهما، والوحيد الذي ألقى إليه بثقته هو أنا.

وتقبل صلاح الصمت الطويل، متصورا أنه لم يستطع أن يحسن البيان عما يجيش بصدره. وأخيرا تكلم ياسين: صلاح، اسمع، إنك غير مسئول عن أبيك. - ولكنه مسئول عني. - ولكنك غير مسئول عنه. - ولكن الناس تنسبني إليه، وأنا ابنه فعلا. - هذا يجعله مسئولا عن الإنفاق عليك، ولكن حين تخرج إلى الحياة ستكون وحدك في مواجهتها؛ فهي لن تعرف إلا أنت. وإني أراك تحسن إعداد نفسك لمواجهتها، وحينئذ لن يقول الناس من أبوه، وإنما سيعاملونك مع موقفك منهم، ومع موقفك من الحياة، ومن البشر ومن الإنسانية. وحينئذ يصبح أبوك أيضا وهو غير مسئول عنك. إنه لم يقصر في شأنك. - وهل المسئولية مال فقط يا عمي ياسين أفندي؟ - إنه اطمأن أنك معي، وأني أحسن القيام بشأنك، وأنا لحسن حظه أو لحسن حظك مدرس أيضا، والتعامل مع الناشئين هو صناعتي وليست صناعته. - اسمع يا عمي ياسين أفندي، إنك أجبت أحسن إجابة وإني أشكرك، ولقد قلت أكثر مما توقعت أن أسمعه منك. لن أفتح هذا الموضوع معك مرة أخرى.

ودق جرس المدرسة، وذهب المدرس إلى مكان المدرس والتلميذ إلى مكان التلميذ.

توفيت نبوية، واتصل خليل بأخيه، وأخبره. ••• - سأقيم المأتم، وأنتظركم. - لا تقم المأتم. - ماذا؟! كيف؟! - لقد طلبت أن يكون العزاء فيها أمام بيتي. - أمرها، أجيء فورا. - بل انتظر. - ماذا؟! - لقد طلبت أيضا أن تدفن إلى جانب أبي، فأعد مكانها وتعال لتتقبل العزاء. •••

حدث انفصال سوريا. وصدرت القوانين في مصر بمصادرة شركات وأموال. وهكذا فقد خليل أغلب أمواله؛ فقد كان يضع كل ربحه من الطب في الأسهم شأن أغلب الأطباء. وكان رأيهم أنهم ليسوا فلاحين، وأن عملهم في العيادات وفي المستشفيات لن يسمح لهم أن يباشروا أرضهم حتى ولو كانوا من هواة الزراعة، فإذا أرادوا أن يبنوا عمارات فهم قد رأوا ما حل بأصحاب العمارات من أهوال، فلم يكن أمامهم إلا الأسهم تعطيهم عائدا دون أن تتطلب منهم مباشرة، ودون أن تعرضهم لما يتعرض له أصحاب الأملاك كافة، أرضا كانت هذه الأملاك أو كانت عمارات.

وهكذا لم يبق للدكتور خليل إلا أوشال، وضاع عليه جهد السنين الطويلة التي عاناها، والتي كان يأمل أن يجد فيها موئلا حين يفكر ابنه وهدان في الدراسة بالخارج، أو حين يأتي اليوم وتتزوج ابنته نبوية.

سبحانك يا رب! أهذه هي العدالة الاجتماعية؟ أخي الذي جمع ماله بهذه الوسائل لا يمسه شيء وأنا الذي جمعت مالي بما يرضيك أصاب بهذه المصيبة؟! ولكنه سرعان ما نفض عن نفسه هذا الخاطر. إن الله عادل والذي أنزل بي هذا الخراب بشر من البشر. ولا يجوز لي أن أنفس على أخي أنه لم يمس، ولكنها هواجس نفسي وليس لي فيها حيلة. الأمر لله من قبل ومن بعد.

أما فاطمة وعابدة فقد أصابتهما القوانين في دخلهما، ولم تصبهما في رأس المال؛ فقد كان بطبيعته أقل من الحد الأدنى الذي أعفاه القانون.

ولكن المصيبة الحقيقية هي تلك التي نزلت بعد أيام بقدرية زوجة سباعي الذي أصبح عضوا بمجلس الأمة؛ فقد صدر قرار بمصادرة أموال أبناء المرحوم عز الدين الخولي وابنته. ونزل القرار بسباعي فاجعة قاصفة. وراح يطرق الأبواب بكل الوسائل التي يستطيعها ولكن هيهات! لا سبيل.

ليس عجيبا أن يكون سباعي وحده هو الذي أحس بهول الكارثة؛ فقدرية لم تكن تدري عن الأرض شيئا، وهي تعيش في حمى زوجها وتعلم أن شيئا لن ينقصها، وما كانت مطالبها تزيد عما تحتاجه حياة طيبة ليس فيها هوان وليس فيها أي بذخ. أما المشاعر التي كان من المفروض أن تشترك فيها مع زوجها فهي لم تكن موجودة بينهما في أي شيء حتى تجمع بينهما في هذه الكارثة. وبلطف من الله كانت قدرية تحس أن غنى ابنها صلاح لن يكون بمال أبيه، وإنما بعلمه الذي ظل متفوقا فيه دائما. وهو في هذا العام مقبل على امتحان الثانوية العامة، وهي تريد أن يكون الصفاء مخيما على البيت حتى لا تتأثر نفس صلاح بأي عامل خارجي.

أما صلاح فلم يكن يعرف عن أرض أبيه شيئا، وإنما هو مشغول بالعلم وبالقراءة وبالشباب وبصداقات في المدرسة. يريد أن ينسى ما وسعه الجهد ما رأى من خوف الطبالين والزمارين والهاتفين لأبيه وأصحاب الخطب التي كانوا يلقونها في مدحه، وقد وجد بغيته بالإقبال بالحياة على الحياة. وألقى نفسه في دفاعها يتعلمها منها، ومما يكتب الكتاب، ومما يؤلف الفنانون في الموسيقى والرسم. ومن التاريخ الذي كان يعتبره السيرة الذاتية للحياة، كتبها عنها أبناء لها، منهم الصادق ومنهم المتحمس الذي يميل به تحمسه عن الصدق إلى الهوى. وكان يحلو له أن يرى تصارع هؤلاء المتحمسين، ويرى كلا منهم وهو واقف على طرف قصي من أطراف الحقيقة. وعرف صلاح التيارات الدينية والتيارات الملحدة.

وناقش كل الآراء مع عمه ياسين، وكان يقبل رأيه حينا ويرفضه أحيانا، ولكنه كان يحترم الرأي وصاحبه دائما.

وحين صودرت أموال أمه كان يدرك أن هذا لن يؤثر على حياته في شيء، ولم يكن يهمه إلا أن تظل حياته كما هي حتى يتم تعليمه، ثم يتفرغ بعد ذلك لما يحاول أن ينساه مما رآه في الانتخابات؛ فموقفه الذي اتخذه بالتباعد عما رآه في الانتخابات وعما استشفه من حديث ياسين لم يكن الموقف النهائي له، وإنما كان موقف الذي يؤجل المواجهة إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يواجه وهو قادر؛ حتى تكون للمواجهة يومذاك قيمة، ولا تكون مجرد احتجاج كاحتجاجات هيئة الأمم.

ولم تكتف الأيام بهذه الصاعقة تنزلها بسباعي بل نزلت به صاعقة أخرى؛ فقد صدر أمر بترحيل أبو سريع إلى جبل الطور مع المجرمين الذي يخشى على الأمن منهم . وراح سباعي يبذل مساعيه للإفراج عنه، وفي هذه المرة نجح سعيه، وعاد أبو سريع إلى البلدة، وأمر سباعي فاستقبله الطبل والزمر والفرح، ولكن ما هي إلا أيام لا تصل إلى الشهر حتى جاء النبأ لسباعي أن أبو سريع قتل وهو عائد في الليل من البندر. وحاول سباعي أن يتماسك وجعل سلام كبير مجرميه بعد أبو سريع، ولكن أين الوشل من الغمر، وأين التلميذ من الأستاذ؟

الفصل الرابع عشر

التحق صلاح بكلية الحقوق، وقد انتسب إليها عن رغبة وليس بإرغام من المجموع؛ فقد كان مجموعه يؤهله لأي كلية يختارها. وهناك تعرف بأصدقاء جدد، إلى جانب من التحق معه بالكية من زملاء دراسته الثانوية. وكانت معه في نفس السنة عديلة، أعجب بها منذ وقعت عينه عليها. وما أيسر ما عرف اسمها عديلة عبد الغني الزاهد! ولكن في زحام الطلبة لم يكن يعرف عن أبيها شيئا إلا اسمه. أما وظيفته، أما بلدته، ولكن ماذا يهمني من وظيفته أو بلدته؟ وماذا يهمني أيضا من عديلة؟ إنها جميلة وفقط، وأنا لست قادما إلى هنا لأحب فللحب أمكنة أخرى، ولكن البنت حلوة، وحلاوتها جعلتني أعرف اسمها والأمر عندي ينتهي إلى هذا الحد.

ولننظر بعد ذلك في أمر هذه الكلية التي تحمل اسما من أشرف أسماء التاريخ، الحق وهو اسم من أسماء الله الحسنى. وإن من أسمى معاني الحياة أن يعرف الإنسان الحق، ويقف عنده. ترى لو لم تحدث لي هذه الحادثة التافهة في أول سنة لي في المدرسة الإعدادية أكنت انتسبت إلى كلية الحقوق؟ من يدري؟ لماذا لا تريد هذه الحادثة أن تفارقني؟ أهي حادثة؟ إنها واقعة صغيرة، ولكنها في حياتي كانت حادثة، بل هي الحادثة الوحيدة التي ارتكبتها، لماذا لا تريد أن تبارحني؟ كان ياسين أفندي يدرس لي القرآن في الليلة السابقة على هذه الحادثة، وكان يشرح لي أن السرقة حرام، وأن الذي يسرق يعاقبه الله. وفي اليوم التالي كان علينا حصة حساب بعد الفسحة مباشرة، وبدون أي مناسبة ذهبت إلى الفصل قبل أن يدق جرس الحصة، وجلست إلى الدرج أعيد النظر في واجب الحساب ووجدت زميلي عبد التواب تاركا قلم حبر على درجه. القلم رخيص كل الرخص، ولكنني قلت في نفسي سأسرق هذا القلم وأرى إن كان الله سيعاقبني أم لا. وبفكرة السرقة وحدها أخذت القلم. ربما لو كنت أخذته دون تفكير في السرقة كان الأمر قد اختلف، وإنما أنا استوليت عليه بقصد السرقة وأعلنت هذا النفسي. وبدأت أوضح بالقلم أرقام مسألة حسابية من مسائل الواجب، أمر عجيب! القلم جديد، فما هذا الذي حدث؟ كيف انكسر دون أي ضغط مني عليه ثم انتثر الحبر منه على الواجب كله حتى لم يبق في الصفحة مكان لم ترتم عليه بقعة حبر؟ أكل هذا الحبر كان في هذا القلم الصغير؟

عرفت الحياة بعد ذلك، وعرفت أن الله لا يعاقب كل السارقين من الحياة في الحياة، وإنما عقابهم في الآخرة. وجعلتني هذه المعرفة أوقن أن الله يرعاني بعنايته، وأنه أنزل بي العقاب عند أول سرقة لي. وهو وحده يعلم أي طريق كنت سأسير فيه لو لم يردعني في بادرتي الأولى. أم ترى من حقي الآن أن أقول في حادثتي الأولى والتي أصبحت أخيرة؟

أهذا ما جعلني أختار كلية الحقوق؟ إن الذين انتسبوا إليها معي عن اختيار قلة نادرة؛ فأغلب زملائي فيها رمى بهم إليها المجموع. لماذا؟ لماذا يرفضون الالتحاق بكلية الحقوق؟ أترانا أصبحنا في زمن لا حقوق فيه؟ هل ضاع في زماننا حق الله وحق الوطن وحق الأسرة وحق الناس؟ وإلا فما انصراف الشباب عن كلية الحقوق لا يلتحقون بها إلا مرغمين؟

ربما جعلني هذا أتفوق في دراستي، ولكن هل التفوق على الضعاف قوة؟ ليس النجاح في الكلية إذن هو المهم. إنما يوم أكون محاميا أو وكيلا للنيابة وأتفوق على الظلم وعلى الجشع وعلى نفسي. يومئذ أستطيع أن أدعي لنفسي أنني تفوقت. •••

كان صلاح حريصا على أن يزور عمه كل فترة وكان يجد منه لقاء رحبا. وقد حرص أن يذهب إليه بعد القوانين التي أتت على الجانب الأكبر من مدخراته، وفرح بعمه وهو يجده يقوم بعمله في العيادة وكأن شيئا لم يكن. - المصيبة يا صلاح ليست في حجمها وإنما في الحجم الذي تحس به أنت وفي المكان الذي تنزلها فيه من نفسك. وقد علمتني مهنتي أن أرى الناس. وجدت بعض المرضى مصابا بالإنفلونزا وهو مع ذلك هالع مرعوب كأنما هي كارثة الكوارث. ووجدت آخرين من ذوي العقول الناضجة والعلم الواسع والإيمان الراسخ مصابين بأمراض تجعل الموت إليهم أقرب من حبل الوريد، ومع ذلك كنت أجدهم كالجبال الرواسي لا يحركها شيء؛ بل وجدت من هو سعيد فرح أنه سيلاقي ربه، فما المال يا بني؟ أنا الذي جئت به، وأنا القادر على أن أجيء به مرة أخرى. وإنما قل لي: ما الذي جعلك تأتي وقد اقتربت من امتحان الثانوية العامة؟ - أحببت أن أطمئن عليك. - لفتة عظيمة منك هذه يا أبو صلاح، أنت مصمم على الحقوق؟ - إن شاء الله. - حين تعرف أساتذتك أخبرني عنهم فإن لي أصدقاء كثيرين في الكلية. - وماذا أريد منهم؟ - أعرف همتك، ولكن تعرفك بهم يجعلك تقصد إليهم في غير حرج إذا أردت شرح شيء أو التوسع في موضوع، على كل حال التعرف بالأساتذة ينفع ولا يضر. - فعلا، حاضر، سأخبرك بأسمائهم، ولكن أين أنا من أسمائهم وأنا لم أمتحن بعد في الثانوية العامة؟ - نجاحك مضمون، وحتى أكون أكثر تأكدا تفضل بالذهاب إلى المذاكرة، ولا أراك إلا بعد الامتحان. وأرجوك بل آمرك أن تأتي إلي في اليوم الأخير من الامتحان لأطمئن. - حاضر. - قبل سفرك إلى الإسكندرية. - حاضر.

ولم يستطع صلاح أن يجد عمه في العيادة يوم انتهى من الامتحان، وسافر إلى الإسكندرية، وعرف النتيجة، والتحق بالكلية، وعرف أسماء الأساتذة. وأحس أنه تأخر عن زيارة عمه، فقصد إليه بعد أسبوع من الدراسة كان مشغولا فيه بالتعرف على الحياة الجامعية الجديدة عليه.

ماذا يدبر القدر؟ ما الذي أتى بعديلة هنا؟ ومن هذا الذي بجانبها؟ أيسلم عليها؟ وكيف؟ إنها تعرفه فقد رأته مدة الأسبوع كله وهو يحملق فيها. جمع أطراف شجاعته: مساء الخير يا آنسة عديلة، أنا زميلك صلاح سباعي وهدان. - مساء الخير، أهلا وسهلا، هذا أبي.

وقال الأب وهو يحاول أن يرغم نفسه على تقبل الأوضاع الجديدة للشباب: أهلا يا بني، مساء الخير.

وأبى صلاح أن يفوت الفرصة: خيرا، ماذا تفعلين هنا؟ - أبي متعب قليلا. - وهل البك الوالد من زبائن الدكتور خليل؟

قال الأب في اختصار من يريد أن ينهي الحديث: نعم.

وقال صلاح في دهشة: هذا شرف لنا كبير.

ودهش الأب لحظة ثم قال: ما اسمك قلت؟

وابتسم صلاح وقال: نعم، وهدان جدي هو والد الدكتور خليل وهدان.

وابتسم الأب، وأحس بنوع من هدوء بعد بوادر ثورة من غضب: أهلا يا بني، ونعم الناس. أنا أعرف عمك منذ بدأ اشتغاله بمهنة الطب. كنت أنا موظفا صغيرا لا أحتمل أجر الدكاترة الكبار، ودلني عليه أحد الزملاء. ونعم الناس يا بني. - سلامتك يا عمي. - والله يا بني الكبد.

ووجد صلاح نفسه قد نجح نجاحا باهرا؛ فليس أحب للمريض من أن يروي عن مرضه ويجد من يسمع له.

الفصل الخامس عشر

لو ترك سباعي مقتل أبو سريع يمر دون أن يهتم به اهتمام الإنسان على خاصة حياته لكان معنى هذا قاصما بالنسبة له؛ فإن هذا يحمل في طواياه تهديدا مباشرا لسباعي. والقاتل يعلنه أنك لست عنا ببعيد، نقتلك حين نشاء؛ فحياة سباعي إذن أصبحت أسهل شيء منالا، ولم يكن سباعي يحب أن يموت. والأمر الذي لا شك فيه أن مقتل أبو سريع ضياع لهيبة سباعي، وإعلان أنه لم يصبح مرهوب الجانب في المنطقة.

سارع سباعي إلى المأمور: أرى أنكم لم تهتموا بالبحث عن قتلة أبو سريع.

وكان المأمور يعرف كل شيء عن سباعي وصلة أبو سريع به، فقال له في جفاء صريح: هذا ليس من شأنك. - أنا عضو مجلس أمة، ومن واجبي المحافظة على الأمن. - الظاهر أن سيادتك لا تعرف واجبات وظيفتك وحقوقها. - نتعلم من سعادتك. - بل ويعلمك تلامذتي يا سيد سباعي؛ فالذي أعرفه عن مدى ثقافة سيادتك يسمح لتلامذتي أن يعلموك. - أنا عضو مجلس أمة. - هذا لا يدل على ثقافة. - وابني طالب في كلية الحقوق. - وهذا أيضا لا يدل على أن سيادتك مثقف. - إذن؟ - إذن فيجب أن تعلم أن وظيفة عضو مجلس الأمة داخل مجلس الأمة فقط وليست خارجه، وأن المحافظة على الأمن من اختصاص وزارة الداخلية فقط. وإذا رأيت علينا إهمالا فتستطيع أن تتقدم بسؤال أو استجواب داخل مجلس الأمة، ولكن الصلة الرسمية بيني وبينك مقطوعة تماما.

كارثة أخرى، لم يكن رجال الداخلية يكلمونه بهذا الجفاء، وهو أشد ما يكون حاجة إلى هؤلاء الرجال. وإن يكن سباعي الذي طغى وتجبر قد صار متعودا أن يقول فلا يناقشه أحد، فإن سباعي الذي قبل يد سليمان النواوي ما زال في داخله؛ فإن المجرم البعيد عن الحق هو مع جبروته أشد الناس هلعا إذا واجهه الحق أو واجهته السلطة. والرجل الذي ينافقه الجبناء خوفا من بطشه هو أكثر الناس خبرة بالنفاق إذا اقتضى الأمر منه نفاقا.

وأحس سباعي من كلام المأمور المستخف كل الاستخفاف بمنصبه في البرلمان أن الحكومة تريد أن تؤمم الإجرام كما أممت الشركات والأرض، إنها حكومة لا تريد أحدا أن يسرق أو يقتل أو يذل الناس غيرها هي. هي وحدها صاحبة الحق في السرقة والقتل والإذلال. وهي لا تريد أن تراعي زملاءها من الأفراد، وإلا فما لهذا المأمور يخاطبه بكل هذه الاستهانة!

وهكذا لم يكن عجيبا أن يتصاغر سباعي فإذا هو قطيطة مذعورة. وما أسرع ما قال: ومن قال يا سعادة البك إنني قصدت إليك بصفة رسمية؟ ومن قال يا سعادة البك إنني لا أحب أن أتعلم منك ما لا أعلمه؟! أنت راجل سمعتك مثل المسك وحياة النبي، والمديرية كلها تحبك، وتعمل لك ألف حساب. - يا سيدي كتر خيرك، ما دام الأمر كذلك فأنا أقول لك ما تشاء عن مقتل أبو سريع. أعداء أبو سريع كثيرون، وهو كما تعلم جيدا مجرم محترف.

وضغط المأمور بقوة وهو يقول كلمة «جيدا»، وأصابت الكلمة موضعها تماما من كيان سباعي، وأكمل المأمور حديثه: له عند الكثيرين ثأرات، وما أكثر ما قتل وما أكثر ما سلب ونهب! ولذلك فإننا في هذه الحالات نعلم علم اليقين أن البحث عن قاتله والعثور عليه أمر يوشك أن يكون مستحيلا. قد يكون القاتل أحد رجاله أنفسهم فالذي يقتل مرة يسهل عليه أن يقتل لأقل سبب. قد يكون أساء إلى سلام مثلا فقتله سلام، أو قد يكون سلام طامعا أن يحل محله في رئاسة العصابة كما حصل.

وقال المأمور الجملة الأخيرة في تؤدة وفي تفصيل واضح فيه القصد الذي يهدف إليه. وأدرك سباعي الإشارة، أولاد العفريتة هؤلاء لا تخفى عليهم خافية!

وأكمل المأمور كلامه: ولهذا فقد قمنا بكل التحريات الممكنة، ولم نصل لنتيجة؛ لأن الذين نسألهم واحد من ثلاثة؛ إما لا يعرف شيئا وهذا طبعا لن نأخذ منه حقا ولا باطلا. وإما يعرف وفرحان، وهذا أيضا سيبالغ في إخفاء ما يعرفه، ولا أمل لنا فيه. وإما يعرف وخائف من القاتل أن يقتله، وهذا لا حيلة لنا معه، فإذا كنت سيادتك تعرف شيئا وتريد أن تمدنا به أكون شاكرا. - شيئا! مثل ماذا يا حضرة المأمور؟ - مثل أبو سريع قتل من؟ اغتصب مال من؟ حرق غيط من؟ هذه المعلومات، ستنفعنا كثيرا.

يا نهار أسود من الحبر الكوبيا! هذا الرجل يريدني أن أقول إن أبو سريع قتل متولي أبو منصور، وأحرق غيط حسن ابن عبد الحميد أبو ديدة، وهدد سليمان النواوي، والسؤال التالي من الذي استفاد من هذه الجرائم، وأروح أنا في ستين مصيبة! أنا غلطان من الأول أن جئت لهذا الداهية. تنبه سباعي إلى ما يحيط به، فوجد نفسه على شفا أن يكون متهما، وهو الذي جاء ممتلئا بالكبر ليعلم الداخلية واجباتها. قال للمأمور: وهل تظن سعادتك أنني أعرف شيئا وأخفيه؟ - من جهة أظن، نعم أظن، ولكن للأسف لا دليل عندي على الإطلاق. - ومن أين هذا الظن؟ - هذا علمنا يا سيد سباعي، أن نبدأ بالظن.

مصيبة سوداء! الرجل يهددني تهديدا صريحا، لا، القيام أحسن حاجة أعملها الآن. - الحمد لله يا سعادة المأمور أنك تظن فقط، وستعرف مع الأيام أنك لست محقا في ظنك. - هذا ما أرجوه يا سيد سباعي؛ لأن الظن في أعضاء مجلس الأمة الذين رشحتهم الحكومة وعملت على نجاحهم أمر لا نحبه نحن العاملين في نفس الحكومة. - ربنا يديم المودة يا سعادة البك. - هي دائمة طالما أنت مع القانون ولست ضده يا سباعي. - أستأذن أنا. - مع ألف سلامة.

لا أمل له إذن أن يعرف قاتل أبو سريع من الجهات الرسمية، لم يبق أمامه إلا تحرياته الخاصة وقد بدأها فور عودته. - سلام، أليس بينك وبين أبو سريع عيش وملح؟ - وعيش ودم وحياتك يا سعادة البك. - فكيف تترك قاتله بغير عقاب؟ - أعرفه ويموت قبل أن تطرف عينه. - أليس من واجبنا نحن أن نعرفه؟ - وما له! نبحث. - في البلد هنا أولا، شف لي أين كان حسن ابن عبد الحميد أبو ديدة، وأين كان شاكر وعبد التواب أولاد متولي أبو منصور، وأين كان سليمان النواوي. طبعا هو لن يقتل بيده، وإنما اعرف لي من زاره أو هو زار من. - يا سعادة البك، سليمان لا يخرج من الدار مطلقا. - اعرف لي من زاره. - أمرك.

أما حسن أبو ديدة فهو منذ اغتصب منه سباعي الأرض لا يبرح دكانه يحاول أن يعوض بالعمل ما ضاع من ريع الأفدنة. وقد اشترى بثمن الأرض حجرة بجانبه وفتحها على الدكان فاتسع المكان، وما إن بلغ ابنه الأكبر عبد الحميد السن التي يستطيع فيها أن يتعلم الصنعة حتى أجلسه معه وراح يعلمه الخياطة بكل ما يملك من مهارة. كان الطفل ذكيا واستطاع أن يكون تلميذا موفقا لأبيه، وفي نفس الوقت أرسل ناصح ابنه الأصغر مع ابنتيه إلى الكتاب. وحين أتم ناصح حفظ القرآن أرسل به إلى الأزهر الشريف حتى يستطيع أن يفي بنفقاته إلى نهاية التعليم.

وكان عبد الحميد الابن الأكبر جالسا في الدكان حين جاء مرسي الشحات أحد رجال سلام ومعه قطعة قماش: أين أبوك يا ولد؟ - ما ولد هذه؟ أكنت خادم أبيك؟ - يا سيدي ولا مؤاخذة. أين أبوك يا سي عبد الحميد؟ - ومن غير سي. عبد الحميد كفاية. - نهارك أسود! أين أبوك يا عبد الحميد؟ - في البيت. لماذا تريده؟ - أما عجيبة! هو ترزي وأنت شايف في يدي قطعة قماش، فيم سأريده؟ ويقولون عنك ناصح! - ناصح أخي. - طيب يا سيدي. يقولون عنك فالح. - أنا اسمي عبد الحميد. - اسمع يا بني، لو قابلت كل الزبائن بهذه الصورة فالمؤكد أنك أنت وأبوك وإخوتك لن تجدوا قوت يومكم. يا أخي قل لي: أين أبوك؟

وخرج عبد الحميد من باب البيت المفتوح على الدكان. - حاسب على الوليد يا مرسي، وهل هو قدك؟ - أنت سامع الحديث؟ - من أوله. - ولماذا تأخرت؟ - لم أتأخر، وإنما كانت في يدي قطعة قماش أنقعها، تحت أمرك. - القطعة هذه اشتريتها من البندر. - وما له! ألف مبروك. - أريدها جلبابا على ذوقك. - أول مرة تأتي إلي. طول عمرك تفصل عند عطية. - أتلف لي الجلباب الأخير فأقسمت ألا أذهب إليه. - أمرك يا سيدي، نفصلها لك. خذ مقاسه يا عبد الحميد. - خذه أنت. - وأنت لماذا لا تأخذه؟ - يدي مشغولة. - أمرك يا سيدي. أصل الزمن انقلب. تفضل يا سي مرسي.

وبدأ مرسي الحديث الذي جاء من أجله: المديرية مقلوبة على رجل. - لماذا، كفى الله الشر؟ - من أجل مقتل أبو سريع. - هل عرفوا القاتل؟ - أبدا. - عجيبة! - والأعجب أن كل حادثة مثل هذه نسمع كلاما، ربما يكون إشاعات كاذبة إنما نسمع. أما هذه المرة ولا حتى سمعنا شيئا. - الناس ملهية في مشاغلها. - طول عمرهم مشغولون، ومع ذلك يحبون الكلام أكثر من عيونهم. في هذه المرة لا حس ولا خبر. - عجيبة! - وأنت كيف عرفت بقتله؟ - مع الناس. - أين كنت؟ - أنت تعرف أنني لا أترك الدكان مطلقا. - يعني لم تسمع شيئا؟ - نهائيا. - طيب يا سيدي. شكرا. متى أستلم الجلباب؟ - أعطني يومين فقط. - وهو كذلك. السلام عليكم. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وانصرف مرسي، والتفت عبد الحميد إلى أبيه في غيظ: تفصل له أيضا؟ - يا ولد اعقل، وأفصل لأبيه أيضا. وأفصل لسلام إذا طلب مني ذلك. - ليس هذا غريبا عليك، ما دمت ضعفت أمام تهديدهم. - يا عبد الحميد، يا ابني، تمزقني بسكين بارد كلما قلت ذلك. يا ابني، أنا ليس لي أمل في الدنيا إلا أن أكون أمامك وأمام إخوتك رجلا قويا. - وهل يقبل القوي التهديد؟ - غصبا عنه إذا هدده من هو أقوى منه. ماذا كنت تريدني أن أفعل؟ - اترك البلد. - وهل لو كنت تركتها كنت سأحمل فداديني على كتفي؟ - لا أعرف ماذا كان يجب أن تفعل. إنما المهم ألا تقبل التهديد. - أنت تعرف أنني حاولت فأحرقوا المحصول، وسرقوا البهائم، وكانت الخطوة التالية أن يقتلوني. - ولا عار الذل. - ومن كان سيربيك أنت وإخوتك؟ أكنت أترككم تمدون أيديكم للحسنة؟ - كلما سمعت اسم سباعي زفت أو شفت أحدا من رجاله تركبني عفاريت الدنيا. - مصيرك تتغلب على العفاريت. إنما يا ابني خف الوطأة عني؛ فلا شيء يقتل الأب مثل شعوره أن ابنه لا يحترمه. - أنا فقط أشفق عليك. - وهذه يا ابني أدهى وأمر! حسبي الله ونعم الوكيل. •••

حين ذهب مرسي إلى سليمان النواوي قال له: كيف الصحة يا عم سليمان؟ - أهلا مرسي، عجيبة! - ما العجيبة؟ - الزيارة. - قلت أطمئن على صحتك. - أي صحة التي تريد أن تطمئن عليها؟ أنا أنتظر عزرائيل من سنوات، ولم تحاول أن تطمئن على صحتي وعزرائيل هو الآخر تأخر في الوصول، تأخر جدا يا مرسي يا بني. - وفيم العجلة؟ - حتى يعفيني من رؤيتك ورؤية أمثالك يا سي مرسي. اسمع يا بني أنا عجزت نعم، ولكن عقلي كما هو رغم كل ما شفته في الحياة. أنت تريد أن تعرف مني معلومات عن قتل المجحوم أبو سريع. وطبعا لا أنت تتصور ولا سيدك ولا سيد سيدك أنني سأقتله. لم يبق إلا أن أسلط عليه، ولو كنت أفكر هذا التفكير لفعلتها منذ استوليتم على أرضي. قم يا مرسي مع السلامة، ولا تضيع وقتك، وابحث عن غيري. - كذا؟! - وهل هناك غير كذا؟ - أمرك، سلام عليكم. •••

كان شاكر وعبد التواب معا في الغيط، وقدم إليهما مرسي، ورآه شاكر مقبلا عليهما من بعيد فالتفت إلى أخيه: يعني أخبطه بالفأس وأخلص؟

ونظر عبد التواب وهو يقول: من؟ آه! يا أخي اعقل. إنه قادم يظن أننا لنا يد في قتل أبو سريع. اسكت أنت ولا تتكلم. - لا أطيق. - اسكت أنت وأنا سأريحك. - السلام عليكم.

وقال عبد التواب وهو يعمل فأسه في الأرض وكأنه لا يراه: من غير سلام، أبلغ سيدك أننا عندما قتل أبو سريع كنا في فرح هنداوي الجلطة أنا وأخي، وأعطينا النقوط على ملأ الناس وألف شاهد يشهد على ذلك. مع السلامة يا مرسي. - يا سلام! أهكذا من غير أخذ ولا رد؟ - وما لزوم الأخذ والرد وقد عرفت ما كنت جائيا من أجله؟ مع السلامة يا مرسي. - طيب يا سيدي. وهو كذلك. •••

أدرك سباعي أن لا فائدة ترجى من بحثه، وانتهى به الأمر إلى اليأس التام من العثور على القاتل. ولم يبق له إلا أن يكون هو على أهبة تامة حذر الموت. وتولاه شعور بالرعب لم يعرفه حياته كلها. إن لحظة خوف واحدة يصغر أمامها مال العالم كله وسلطان الدنيا بأسرها. وخالق النفوس سبحانه هدد البشر بشيء من الخوف رحمة بعباده أن يبلوهم بالخوف كله، فإن شيئا منه أدهى من الموت ومن الفقر وكل عذابات الدنيا. ترى أيكون سباعي بهذا الرعب الذي يتغشاه قد كفر عن جرائمه؟ من يدري؟ فالله وحده هو الذي يملك الغفران، وهو وحده الذي يعرف متى يستحق عبده المغفرة يمنحها له أو لا يستحقها فيحجبها عنه.

فكر سباعي أن يقيم أغلب وقته في القاهرة ولكن ارتد عن هذا؛ فالقاهرة واسعة وقد يقتل هناك في أي لحظة، ثم هو لا يستطيع أن يسير في القاهرة وحوله هؤلاء الحراس الذين يصطنعهم هنا في البلدة. كل ما استطاع أن يفعله أن يضع على بابه أضعافا مضاعفة من المراتج، وأن يزيد من عدد الخفراء. وكان يظل طول ليله لا يغمض له جفن، وتظل آلة الإضاءة تعمل لا تني ولا تنطفئ، بل لقد اشترى آلة أخرى لتضيء إذا أصاب العطب الآلة التي تعمل. ولا يني طول الليل ينادي أسماء الخفراء الواحد بعد الآخر ليكون على ثقة أنهم أيقاظ فلا ينام إلا حين يأتي الصباح.

الفصل السادس عشر

السنوات الخضر من الشباب حين يكون للحب جناحان يحلق بهما الإنسان في سموات سامقات عن الدنا، قصيات عن الأرض، رفيعات عن الدنية. هناك يحس الشباب أن الهوى لم يخلق إلا له، وأن الله سبحانه وتعالى يرسل به إلى الأرض نفحات من الجنة تعين الإنسان على مرور الحياة، وعلى تكالب البشر، وعلى اشتباك المصالح، وعلى الكذب، وعلى الغش، وعلى خداع الصديق، وعلى حضيض الناس وانحيازهم إلى خلق الحيوان وتنكرهم للإنسانية التي جعلهم الله بها سادة الخلق أجمعين.

بالحب يستطيع الإنسان أن يكون سيد المخلوقات، بهذه الخفقات المجنحة العربيدة الآمنة، السعيدة القلقة، الباسمة المقطبة، الآملة اليائسة، الراغبة العازفة، المقدمة عن رعونة المحجمة عن حذر.

بالبحث عن الكلمات فإذا هي في تيه عن المشاعر أغلقت عليها المسالك لا تدري أين سبيلها إلى الشفة لتعبر عن حب صاحبها، باللعثمة واللسان فصيح، ولكنه ينوء بما لا يطيق من أحمال الحب، فإذا به - وهو المنطلق القئول - مقيد مكبول، وإذا النجوى صمت وإذا الحديث نظرة، وإذا الحياة نشوة يطمسها الحديث المعلن ويشعشعها الفم الصموت.

عرفه صلاح وعرفته عديلة. بلمسة يد، بابتسامة عند لقاء في الصباح أو لقاء في المساء. بكلمات يهمهمن على شفاه صلاح ويقف بهن جلال على وجه عديلة.

إنه الحب البكر لقلبين مخلوقين من نقاء الماس دون صلابته، ومن طهارة الملائكة ممتزجة بخلجات الإنسان، وشفافية البلور، وقد سرى فيه نبض البشر، ومن نور الأمل في المستقبل طليقا من قيود الزمن. أحس كل منهما عند صاحبه ما كانا به في غناء عن التصريح. وكان الحديث يجري بينهما رخاء، وفي عير الحب كان الحديث. لقد اتفق كل منهما مع الآخر دون قول منهما أن أي حديث هو أصغر من الحب يكنه كل منهما لحبيبه، والمكان الذي يعرفه كل منهما لنفسه عند هواه.

سألته يوما: هل أنت إخوان أم شيوعي؟ - أنا مصري. - إذن فأنت من الأغلبية. - وأنت؟ - ماذا تظن؟ - مصرية ، لحما، ودما، وقلبا، وروحا، وجسما، ومشاعر، وأخلاق، وآراء ... - إما أن يكون المصري كذلك أو لا يكون. - ولكن ألم تفكر أن تنضم إلى هؤلاء أو أولئك لتعرف ما يفكر فيه كل من الجانبين؟ - صادقت من هؤلاء ومن هؤلاء، وحاول كل من الجانبين أن يضمني إليه ورفضت. - لماذا؟ - لا أريد أن أحكم العالم، ولا أريد حتى أن أحكم مصر، بل ولا أريد أن أحكم أحدا على الإطلاق. - فماذا تريد أن تكون؟ - إنسانا. - ألست كذلك؟ - ليس بعد. - فما الإنسان عندك؟ - أن أحب كل الناس حتى المخطئين، ولا أحقد، وأن أعطي إذا ملكت العطاء، ولا أنتظر على العطاء شكرا؛ لأن العطاء نفسه يمنح المعطاء سعادة لا يبثها في القلب كل شكر العالمين. أريد أن أرى جمال الحياة وأحاول بكل جهدي أن أهون البؤس فيها على البائسين. أريد أن يظل إيماني بالله وبالخلق وبالصدق وبالقيم ثابتا لا تزعزعه الأهوال التي أعلم أن الحياة ستواجهني بها. أريد أخيرا أن أكون وأنا في طريقي إلى الله سعيدا أنني سألقاه، وأنت؟

لم يسمع جوابا ورأى الدموع تجري مدرارا على وجنتيها، وكانت توقفت عن المسير فتوقف، وهو يتحدث دون أن يسألها عما دعاها للوقوف. أسعده بكاؤها ومد يده ومسح دموعها في هوادة محب مشفق، وفي ضغط شاب فتي وابتسم وقال: لقد أجابت دموعك عنك، أنت تريدين أن تكوني مثلي.

الفصل السابع عشر

كان صلاح يؤدي امتحان النقل من السنة الثانية في كلية الحقوق إلى السنة الثالثة حين ضرب جرس التليفون في بيتهم، وقال خليل: صلاح أنت تذاكر هذه الأيام؟ - نعم. - إذن اسمع، آخر يوم امتحان تعال فأنا أريدك في شيء مهم جدا. - خير يا عمي. - وهل تظن أن عمك يقدم لك إلا خيرا؟ - ولكن سعادتك شغلتني. - وهل تظن أنه لو كان هناك ما يشغل كنت طلبتك وأنت تمتحن؟ متى آخر امتحان عندكم؟ - غدا. - إذن تعال غدا، واطمئن ستفرح جدا، أظن ذلك على الأقل.

وحين ذهب صلاح إلى عمه في اليوم التالي كانت اللهفة تحيط به. وكان عمه مشغولا بالكشف على مريض، فازداد به القلق، حتى إذا خرج المريض دخل دون استئذان، وقال دون سلام: ماذا هناك يا عمي؟ - اقعد. - ماذا هناك والنبي؟ - اسمع يا سيدي، لقد خطبت لك. - ماذا؟ من؟ هل أعرفها؟ - وهل من الضروري أن تعرفها؟ - اسمع يا عمي، أنا خاطب فعلا، وأنا أعرف حبك لي؛ ولذلك أرجو أن تكون خطبتك مجرد جس نبض، أنا خاطب فعلا. - من؟ - فتاة زميلتي. - اسمها عديلة؟ - ماذا؟! - وابنة عبد الغني بك الزاهد؟ - كيف عرفت يا عمي؟ - الله يكسفك! أعرف منهم ولا أعرف منك. - ماذا تقول؟ - لقد جاءت إلي هنا، وقالت إن كثيرا من الخطاب تقدموا لها ورفضتهم، ولكن تقدم إليها أخيرا شاب مهندس لا عيب فيه، وأبوها يريد أن يزوجها منه على رغم أنفها، وطلبت إلي أن أرجو أباها ألا يرغمها. - وماذا فعلت يا عمي؟ - سألتها عن سبب الرفض فأصرت أن تصمت، ولكنها أخيرا قالت إنها لا تريد أن تخرج عن طاعة أبيها ولكنها لن تتزوج هذا المهندس. - وبعد يا عمي وبعد. - طلبت إليها أن تنتظر في غرفة الاستقبال وطلبت أباها في التليفون، فإذا الرجل ينفجر: ألم تفكر يا دكتور لماذا اختارتك أنت بالذات؟ قلت: أعتقد أنها اختارتني لأنها تعرف مكانتي عندك. قال: يا سيدي مكانتك على العين والرأس ولا شك فيها، ولكن لها أعمام ولها أخوال، وكان من الطبيعي أن تلجأ لواحد منهم. وتنبهت إلى هذه الحقيقة متأخرا، يبدو أننا عائلة غبية يا ولد يا صلاح، سألت عبد الغني: ماذا إذن؟ قال: ابن أخيك يا سيدي. ماله؟! قال متحابان وهي لا تريد الزواج من أجل خاطره. ربك والحق يا ولد يا صلاح، فرحت بك. قلت: وأنت ما المانع عندك؟ قال: المانع بسيط جدا، أنه لم يتقدم إليها، وهؤلاء العرسان تقدموا وكلهم شبان ممتازون وأحسنهم هذا الشاب الأخير، ما رأيك؟ قلت له: إذن يا عبد الغني فأنا أخطب ابنتك عديلة لابن أخي صلاح. قال: ألا تسأله؟ قلت: إني أعرف الجواب. قال: إذن وأنا قبلت، قل للبنت إنها لن تتزوج الزفت المهندس، ولا تقل لها شيئا عن الخطبة حتى تتم رسميا. قلت: حاضر.

وقفز صلاح عن كرسيه وراح يقبل عمه ويحتضنه ويصيح: الله يطيل عمرك، الله يخليك. وقال خليل: والآن قل لي: ماذا فعلت في الامتحان؟ - قل لي أنت أولا: كيف عرفت أنني سأقبل هذه الخطبة؟ - عجيبة! ألا تعرف أن لي أصدقاء كثيرين بين أساتذتك؟ - وكيف عرفوا؟ - لماذا يعتقد الشاب منكم أن الشباب لم يعرف إلا جيله وحده؟ كانوا هم أيضا شبابا وكانوا في الجامعة ولا تفوتهم الفائتة. - العجيبة أنني مع عديلة كل يوم، ولم تقل شيئا عن هذه الحكاية مطلقا! - أولا: ماذا تريدها أن تقول لك؟ تعال اخطبني! ثانيا: هي لا تعرف أنني خطبتها من أبيها. - والبنت التي ترفض أن تذكر لي شيئا عن خطابها أليست جديرة بالحب؟! - فعلا هي جديرة بالحب وبالإعجاب، ولو أننا نحن أحببناها أولا، والآن نفكر في حيثيات الحب. أليس كذلك يا نصف المتر؟ - وهل تظن أن أبي سيقبل أن يخطب لي وأنا نصف متر؟ - غصبا عنه. - كيف؟ - إن كان عليه هو يريد أن يزوجك من يوم دخولك الجامعة وأنا الذي كنت أستمهله. - هل كلمته؟ - وسيكون هنا غدا، اذهب أنت الآن إلى والدتك وأخبرها بكل شيء حتى لا تفاجأ.

وجاء سباعي وطلب إلى أخيه خليل أن يشتري له الشبكة المناسبة، وما هي إلا أيام حتى تمت الخطوبة وأعلنت، واتفق الجميع على أن يكون الزواج بعد الليسانس مباشرة. وكانت أم عديلة متوفاة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يهمس عبد الغني في أذن صلاح: تعال يا ابني أريدك في كلمتين.

قام صلاح مع والد خطيبته وذهب به إلى غرفة نومه: أعرف أن الكلام في هذا سابق لأوانه إلا أنني يا بني لا أحب القلق. - تحت أمرك يا عمي. - أنت ترى أنه ليس لي في الدنيا إلا عديلة. أمها تركتها لي من خمس سنوات، وأنا كبرت ولا أستطيع أن أعيش وحيدا، أيكون هناك إثقال عليك لو عشت معي في هذا البيت؟ - أنا تحت أمرك، ولكن لي رجاء واحد عندك. - قله. - أن أساهم في مصاريف البيت. - في بيتي؟ - وهل ترضى لي أن أعيش عالة عليك؟ - أنا قبلت. - وأنا قبلت. - على بركة الله، إذن ربنا يهنيكم يا ابني، إن شاء الله.

الفصل الثامن عشر

كان صلاح قد انتهى من امتحان الليسانس، ولكنه بقي في القاهرة في انتظار النتيجة، ولم يسافر إلى الإسكندرية. وكان يتهيأ للنزول ليذهب إلى عديلة شأنه في كل يوم حين دق جرس الباب، وإذا القادم عمه خليل. وفوجئ صلاح بعمه يحتضنه على الباب ويصيح: جيد جدا، ألف مبروك.

وذهل صلاح: أحقا؟ - كلمني الآن الدكتور عبد الوهاب رفاعي. - أستاذ الجنائي؟ - ورئيس الكنترول. - وعديلة؟ - جيد. - يعني نجحت؟

وقبل أن يكملا الحوار انفجرت زغرودة من حيث لم يحتسبا ومن حيث لم يتصورا أيضا. لقد كانت قدرية بمسمع منهما. والتفتا إليها في فرح فإذا هي تطلق زغرودة أخرى وترتمي على الكرسي. ويجري إليها ابنها وعمه وتقول لاهثة: ندر علي وأنا أوفيه. ما فعلتها في حياتي، ولكني كنت أتمرن عليها كل ليلة منذ دخلت الحضانة. أنا يا بني لا أحب الحياة إلا من أجلك. أنت حياة حياتي.

وراح صلاح يقبل يدها ووجهها ويشرب صادق دموعها المنهمرة، وهي تقول وكأنها تكلم نفسها: لقد جئت مصر من أجلك، وأنا لا أعتبر أن لي زوجا منذ رزقني الله بك. لم أفكر في شيء لنفسي طول حياتك، لا فكرت في فسحة، ولا في فستان، ولا في شيء، حتى أرضي حين أخذوها مني قلت: في ستين داهية ما دمت أنت فالحا في مدرستك. ولولا إلحاحك ما ذهبت عمري إلى السينما. التلفزيون لا ينفتح ما دمت أنت تذاكر. عمري كله كان ينتظر هذه اللحظة فلا تعجبوا. إنها لحظة عمري، منذ اليوم أنا لا أريد شيئا. أنا ابني معاه الليسانس، وكل شيء بعد ذلك لا يساوي شيئا. حتى في يوم فرحك لن أزغرد. فرحانة نعم سأكون، ولكني لن أزغرد. هي مرة، ولن تعود. ابني معاه الليسانس، شربات يا أم السعد، شربات يا هنية، شربات للعمارة كلها.

إن حب الأم لابنها أمر ليس غريبا على صلاح، ولا هو بغريب على خليل، ولكن الذي دهشا له أن قدرية الصموت المستسلمة دائما الجادة تزخر بكل هذه المشاعر ولا تبين عنها إلا الآن. تركيبة عجيبة هذا الإنسان! حتى أقرب الناس إليه لا يعرف الأعماق الحقيقية التي ينطوي عليها كيانه.

قال خليل: أنت وعديلة عندي على العشاء الليلة. وكلم أباك.

وقبل أن ينزل خليل قال له صلاح: نجيء لك في العيادة أم في البيت؟ - على البيت مباشرة، وإذا تأخرت فانتظراني. - وهو كذلك.

وسارع صلاح إلى عديلة وبشرها بمشهد من أبيها، ومن هناك طلب أباه فأخبره فإذا بصوت أبيه يأتيه في التليفون: اسمع يا أستاذ، بعد غد أنت وعروسك والبك والدها وعمك وزوجته وعمتك عابدة وزوجها وعمتك فاطمة وزوجها كلكم مدعوون مع أولاد الجميع على احتفال عندنا هنا في البلد بمناسبة تخرجك. سامعني؟ - خذ سعادتك كلم عمي عبد الغني.

قبل الرجل الدعوة ونزل صلاح مع عديلة، ولم ينتظرا أن يركبا السيارة وإنما قبلها على السلم، وإذا هي تضربه على خده ضربة أقرب إلى التربيت وهي تقول: يخرب عقلك! - ماذا؟ إذا كنت جيد فأنا جدا. - وما شأن الناس بهذا؟ - إنهم يحبون أن يروا خطيبا يبوس خطيبته. - ولكنهم مع ذلك يدعون الغضب. - وأنت ما الذي يهمك، الحقيقة أم الادعاء؟ - يبدو أنك ستكون أنت في الادعاء؛ فالغالب أنك ستدخل النيابة. - أو أكون أستاذا في الكلية. - ماذا تريد أنت؟ - لم أحدد بعد، ربما رفضت هذا وذاك وفكرت في المحاماة.

كانا قد ركبا السيارة وسارت بهما وقالت عديلة: إلى أين؟ - إلى صاحب الفضل الأول علي. - الأستاذ ياسين؟ - كان يجب أن يعرف قبل أبي.

الفصل التاسع عشر

كان سباعي حريصا دائما أن يحضر كل بقرة أو جاموسة عنده تلد. وتلك خصلة صحبته وصحبها منذ كان طفلا في رعاية أبيه. وقد ظلت فرحته بولادة البهيمة التي كان يحسها وهو ذلك الطفل كما هي لم تتغير. وإن كان في طفولته يساعد الكلاف إلا أنه كف عن ذلك منذ شب عن الطوق، وأصبح يشرف على زراعة أبيه ، وهو اليوم يضع كرسيا ويجلس قريبا من الذين يقومون بتوليد البقرة أو الجاموسة حتى تتم الولادة فينصرف إلى البيت. وكان في جلسته هذه ينسى كل مشاغله التي أصبحت حين كبر مخاوف، ولا يفكر إلا في مولد العجل أو العجلة إن كانت الوالدة بقرة، والفحل أو الفحلة إن كانت الوالدة جاموسة. وكانت البلدة كلها تعرف عنه هذه العادة؛ فعادات كل أبناء القرية معروفة لبعضهم البعض؛ فالقرية مهما تتسع إنما هي بيت كبير، كل إنسان يعرف كل شيء عن كل إنسان فيها، فما الشأن إذا كانت تلك هي عادة أغنى أبناء القرية وكبير طغاة المنطقة؟

وقدر الذين يجسون البهائم، وهم أطباء الولادة بالقرية، أن الجاموسة المفضلة عند سباعي ستلد في نفس اليوم الذي حدده للاحتفال بحصول ابنه على الليسانس.

وفكر سباعي قليلا ثم قال لمحدثه الذي سيقوم بتوليد الجاموسة: إذن فاسمع، عليك أنت أن تظل إلى جانبها لا تنتقل، وحين تحس أن الموعد اقترب أرسل لي أجيء إليك. وسيكون المدعوون كثيرين، ولن يلتفت أحد لغيابي.

وحل يوم الاحتفال ولم تكن الجاموسة قد ولدت بعد، وتقاطر المدعوون وكان سباعي لم يترك أحدا إلا دعاه وفي المقدمة المحافظ، ومدير الأمن، والمأمور، وأعضاء مجلس الأمة، والعمد، والأعيان. لقد أراد أن يعلن للجميع أن سباعي الذي لم ينل شهادة استطاع ابنه أن يحصل على الليسانس وبدرجة جيد جدا. الوحيد الذي كان يجب أن يكون موجودا ولم يدع هو شعبان؛ فما كان إلى دعوته من سبيل؛ فقد كان قد سافر إلى صهره الأمير مع زوجته وأولاده، وأقام هناك إقامة غير عائد.

وجاء المحتفل به ليرى القرية التي لم يكن رآها منذ كان صبيا يافعا سعى إلى القرية فرحا ليشهد الانتخابات، وانصرف عنها مصطحبا الحيرة والقلق مما رأى في أعين الرجال وهم يحتفلون بأبيه.

جلس صلاح بين القوم وراح ينظر. لم تكن عديلة معه فقد ذهبت هي وأمه وعماته إلى مكان الحريم، فالريف لم يعترف بعد باختلاط الجنسين. رأى في عيون القوم المدعوين وفي جباههم تعبيرا آخر غير الذي شهده من الناخبين. هؤلاء لا يخافون أباه، ولكنهم أيضا خائفون. كلهم مرتعد في داخله تتضح الرعدة في حديثه؛ فالحوار يبدأ، ولكنه ينقطع من تلقاء نفسه إذا أدى إلى موضوع عام، وكل حوار بين الرجال لا بد أن يؤدي إلى موضوع عام، ولكل منهم رأي، وربما كانوا متفقين جميعا على رأي، ولكن هيهات لرأيهم أن يعلن أو يخرج من منطقة الهمس الداخلي إلى منطقة الحديث. أشدهم رعبا المحافظ، ويليه مدير الأمن، ويليه المأمور. ويعجب صلاح كيف يحافظ على الأمن من لا أمن له؟ كيف يكون مسئولا عن أمن الناس وهو نفسه غير آمن على نفسه؟ ويل للناس إذا خاف الناس، وويل للناس كل الويل إذا كانت نفوسهم تخاف من نفوسهم.

أما أعضاء مجلس الأمة فهم يتلهون بكل حديث فارغ، ويختارون طريق الحديث حتى لا يصل بهم إلى ما يرهبون. وقد وجد بعضهم في الاجتماع فرصة ذهبية يقترب بها إلى العمد والأعيان؛ فكل نائب فيهم ليس يدري الانتخابات القادمة متى تكون.

حابل ونابل كما يقول العرب، وقوم يجتمعون وينفضون يقولون الكثير من الكلام ولا يقولون شيئا. وصلاح ذاهل واع مندهش مفكر، لا يفوته شيء مما حوله. وتزيد قوة الملاحظة ألما ورفضا، وخلا بأستاذه ياسين: أهؤلاء ناس؟ - مجتمعك. - أكانوا كذلك دائما؟ - المجتمعات التي عرفتها حين كنت في مثل سنك لم تكن متعرضة لما يتعرض له هؤلاء. - أليس فيهم رجل؟ - كلهم في داخلهم رجال، ولكن الإرهاب يطمس الرجولة، فالتمس لهم العذر، ولا تعنف بهم في حكمك. - ماذا تقول أنفسهم؟ - إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي. - وماذا لهم عند الكلب؟ - الحياة. - الموت خير منها. - نادر من يقول هذا أو يشعر به. - تهون الحياة مع الذل. - ومع ذلك فهم يرون أنفسهم على كرامة. - من أين يأتيهم هذا الشعور؟ - كل منهم لبعض الناس عندهم حاجات. - فكلهم كلاب. - ويجدون من يقول لهم يا سيدي.

وانقطع الحوار، وهوم الصمت الذاهل؛ فقد انطلقت في أسماع الحاضرين ثلاث رصاصات. أرصاص والمحافظ والمدير والمأمور ورجال الأمن جميعا هنا؟! ما هذا؟ ما هذا؟ ما هذا؟

وجاء الجواب: قتل سباعي. من القاتل؟ سلم نفسه. من هو؟ حسن عبد الحميد أبو ديدة. من حسن عبد الحميد أبو ديدة؟!

الفصل العشرون

كان كل ما عني به المأمور أن يحافظ على حياة القاتل، وقد تمكن من ذلك، وصحبه إلى المديرية. وانقلب الاحتفال مأتما، وتحقق بيت شوقي:

وإذا نظرت إلى الحياة وجدتها

عرسا أقيم على جوانب مأتم

وكان أول ما صنعه صلاح بعد أن انفض معظم الناس أن يعجل بسفر خطيبته وأبيها. وحين حاولت عديلة البقاء معه أصر على سفرها في حسم لم تشهده منه قبل اليوم، فاضطرت إلى السفر.

أقيم المأتم في اليوم التالي، ولكن صلاح لم يكن يطيق انتظارا. لقد رأى داخل الناس وكأنهم يقولون: غمة وانزاحت.

انتحى جانبا بياسين: أتعرف شيئا؟ - أعرف كل شيء ولا أعرف شيئا. - أتذكر حديثنا في فناء المدرسة؟ - وكيف أستطيع أن أنساه؟ - ألا تعرف على الأقل من أستطيع أن أسأله؟ - نعم أعرف. - من؟ - أكبر أهل البلدة سنا، عمك سليمان النواوي كان صديق جدك الصدوق ولن يكذبك. •••

روى سليمان النواوي كل شيء. لم يخف عنه خافية، وحين أتم حديثه قال صلاح: هل معك العقد الذي فرضه عليك أبي؟

ونادى سليمان ابنه وأمره أن يأتي بحقيبة أوراقه. وأخرج سليمان العقد دون جهد، وقدمه إلى صلاح. قرأه، ثم التفت إلى الابن وطلب منه ورقة بيضاء، وصدع الابن بالطلب، وقال سليمان: ماذا ستصنع؟ - أكون أنا.

ولم يزد. وجاءت الورقة وراح صلاح يكتب ونقل بعض أشياء من العقد القديم ووقع الورقة، وأعطاها لسليمان. وقام وهو يقول: سلام عليكم. - انتظر، اقعد، ما هذا؟ - لقد انتهت مهمتي. - إذن، فانتظر. ربما كانت لي مهمة أنا الآخر. - أمرك. أنتظر.

وقرأ سليمان الورقة ووجدها عقد بيع من صلاح بالأفدنة الستة خالصة الثمن، وفهم أنه كان ينقل الحدود من العقد الأول، وجرت دمعتان على خدي سليمان وهو يقول: عجيبة! - وقال صلاح: ما العجيبة؟ - بل عجائب! - ما هي العجائب؟ - العجيبة الأولى أن عيني ما زال فيها دموع، ولم تحجرها السنون. والثانية أن تكون أنت ابن سباعي، وأمك من أشرف الناس ولا شك أنك ابنه فتلك عجيبة. أما العجيبة الثالثة أن عزرائيل تأخر عني طول هذه المدة وأنا لا أدري السبب. واليوم دريته. - والآن أتسمح لي؟ - بل انتظر. - ماذا؟ - الفلوس التي أرسلها إلي أبوك، لم أمسها. كما هي وهي هنا في هذه الحقيبة. - لا تلزمني. - أمثلي يقبل الصدقة؟ - أستغفر الله! وإنما الذي قدرته قلته أنت الآن، لو كان أبي صنع هذا معك وأنت تاجر فربما كنت تاجرت بالمال وكسبت منه. أما وقد فعل ما فعل بعد أن توقفت أنت عن التجارة فهذا معناه أن المال بقي عندك ولم يصنع شيئا. ولا شك أن نفسك عزفت حتى أن تشتري أرضا أخرى، فالريع الذي أخذه أبي من الأرض حقك، فليكن ما أرسله لك من المال مقابل هذا الريع. - منطق قد يقبله غيري؛ فقد كنت أستطيع أن أشتري أرضا أخرى، وكنت أستطيع أن أجعل زميلا لي في التجارة أو واحدا ممن علمتهم التجارة يتاجر لي؛ فإبقاء المال بلا عمل خطأ اخترته أنا ولم يفرضه علي أبوك. والأرض اليوم ثمنها أضعاف أضعاف ثمنها يوم اغتصبها مني أبوك ودفع فيها نصف الثمن، فإذا كنت تريدني أن أقبل الأرض فاقبل أنت على الأقل ما دفعه لي أبوك قسرا. إنه أرغمني على البيع بثمن بخس فأذل كرامتي، فلا ترغمني أنت على الشراء بلا ثمن وتزيد كرامتي ذلا. - لا والله؛ فما إلى هذا قصدت. - إذا أردت أن تريح ضميرك فأرح ضمير الناس، وأطال الله عمرك، وثبتك على ما أخذت به نفسك وأعانك عليه؛ فإن من كان في مثل عدلك سيلقى الكثير من المتاعب. خذ الفلوس. - أمرك. سلام عليكم. - مع ألف سلامة! •••

ذهب صلاح إلى بيت شاكر، وكان ما صنعه صلاح مع سليمان النواوي قد ذاع في القرية كلها، فرحب به شاكر؛ فقد أحس أن القادم إليه إنسان. قال صلاح: أين أخوك عبد التواب؟ - في بيته. - أرسل إليه من يستدعيه.

وجاء عبد التواب وبدأ صلاح: حياة الإنسان لا يساويها شيء في العالم، ولكن الله وحده هو القادر على أن يبعث الحياة ولا يد لي في هذا. وكل كلام للعزاء في أبيكما لا يجدي فلا عوض عن الأب، ولكنني أنا أريد أن أعيش، وبيدك أنت وأخيك هذا أن تسمحا لي بأن أحس أنني فعلت ما يجب علي أن أفعله في أضعف صورة، فأستطيع أن أعيش.

وقال عبد التواب: ما المطلوب منا يا أستاذ؟ - لا شيء إلا أن تقبلا هذا العقد. - وماذا فيه؟ - بيع باسمك واسم إخوتك مني للأفدنة الخمسة التي كان يزرعها أبوكم.

وبهت الأخوان، وقال شاكر: والثمن؟ - العقد خالص، والثمن وصل.

وقال عبد التواب: لا يرد الكرامة إلا لئيم. كان غيرك يستطيع أن يقول ما شأني بما فعله أبي ويبقي الأرض. - ولكني أنا لا أستطيع. - إذن فأنت جدير بالشكر. - بل الشكر لكما أن قبلتما. السلام عليكم. - السلام ورحمة الله وبركاته.

تردد كثيرا ثم جمع أطراف شجاعته وذهب إلى عبد الحميد ابن حسن قاتل أبيه. وجزع الشاب وهو يراه واقفا على رأسه في الدكان، وانتفض واقفا وبيده المقص، وهو يقول: ماذا تريد؟ - رد السلام أولا. - ومن أين يأتي السلام؟ - يا أخي، أبوك قاتل أبي وأنا الذي جئت إليك! - من أجل هذا أعجب، ماذا تريد؟ - كل خير إن شاء الله. - لم نر الخير منكم مطلقا. - صدقت، ولكن من يدري ماذا في داخل الأيام القادمة؟ رد السلام. - وعليكم السلام. - اقعد. - نقعد. - خذ هذا. - ما هذا؟ - أنا أعرف أنك تعلمت القراءة والكتابة.

وقرأ عبد الحميد: أهذا معقول؟ - نعم. - ليس معي ثمنها. - ألم تقرأ العقد؟ - نعم. - ماذا فيه عن الثمن؟ - أنه خالص. - وهو خالص. - هذا كثير، هذا كثير. إن أبي قتل أباك من أجل هذه الأفدنة الثلاثة. - والآن وقد مات أبي فلنترك الأيام تصنع ما عندها، ويؤدي كل منا واجبه.

وانفجر عبد الحميد عن بكاء عالي النحيب، وراح صلاح يربت كتفه، وقال عبد الحميد: أنا الذي جعلته يصنع ما صنع. - أنت؟ - كنت دائما أعيره أنه قبل الذل، وكان يقول إنني أقتله كلما قلت له هذا. قال لي عندما زرته في السجن: ثلاث رصاصات، عن كل فدان رصاصة، قل لأولادك جدكم لم يكن ذليلا. - هل وكلت عنه محاميا؟ - لا. - وهل معك أجر المحامي؟ - سأدبره. - خذ هذا المبلغ، وتسمع نصيحتي في اختيار المحامي أم تظن أنني أغشك؟ - أتقدم لي كل هذا وتغشني؟ - إذن فاذهب إلى القاهرة، ووكل الدكتور عبد الوهاب رفاعي أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق، وهذا عنوان مكتبه. سلام عليكم. - نعم، الآن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبقي صلاح في البلدة يعيد إلى كل من اغتصب منه أبوه أرضا أرضه أو يعيدها لأولاده، منهم من يرد الثمن ومنهم من لا يرد، حتى إذا اطمأن أن لم تبق أرض لم تعد لصاحبها أو لورثته سافر إلى القاهرة.

وهناك ذهب إلى عمه الدكتور خليل. - أهكذا تكون النهاية؛ موت في حظيرة بهائم؟ في أقذر مكان في القرية، بل ربما في العالم. - إنه مجرد جسد ارتمى في القذارة، وعند الموت تستوي الأمكنة. - وربما كانت روحه قد صعدت وهي تحمل من القذارة أكثر مما ارتمى عليه جسده. - هذا ليس شأنك. - أنا ابنه. - ولكنه أصبح إلى من لا ينفع عنده مال ولا بنون.

وأكمل صلاح: إلا من أتى الله بقلب سليم، أو كان قلبه سليما. - ومن هذا الذي يستطيع أن يطلع على القلوب؟ - الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون. - فهذا شأنه اتركه له. - يا ليتني أستطيع. - أنت قمت بواجبك بعد وفاته. - ليس بعد. - ماذا بقى عليك؟ - هناك إنسان سيقتل. - إنه قاتل، هذا حق المجتمع. - وحقي، ألست ولي الدم؟ - وماذا تريد أن تفعل؟ - رفعت الدعوى المدنية. - أتريد عوضا عن أبيك؟ - أريد الحق أن يأخذ مجراه. - لا أفهم شيئا. - لكل شيء وقته. - بلغني ما فعلته في البلد. - لم يبق أحد أرد حقه إلا سعادتك. - أنا ليس لي حق. - سنعرف الآن. - كم بقي لك من أرض؟ - أربعون فدانا. - لا بأس. - ستصبح الآن عشرين تقريبا. - لماذا؟ - أرضك وأرض جدتي. - أرضي أنا؟ - نعم. - ما لها؟ - لا بد أن أردها إليك. - لماذا وهل بعتها قسرا أنا الآخر؟ - لو لم يكن أبي على ما كان عليه ما بعت أرضك. - أكذب لو قلت لك إن هذا كان تفكيري. - بل تريد أن تبقي في ملكي أرضا ليست من حقي. - كان أبوك لا يتأخر عن دفع الإيجار، وكنت أستطيع أن أبقي الأرض تحت إشرافه لو أردت ذلك ولكنني بعت الأرض بمحض اختياري والثمن كان مناسبا لهذه الفترة. - عمي أنت تعرف العبء الذي أحس به على ضميري. - وواجبي أن أخففه عنك، ولكن أتريد أن تخفف من عبئك لأحمل أنا عبئا أشد؟ أغشك؟ أغش ابني؟ أي ضمير يقبل هذا؟ - هل أنت واثق؟ - كل الثقة. - فأرض ستي إذن. - هي الأخرى باعتها مختارة. - لقد رأيت ستي وهي تعيش معك. كانت الحسرة تملأ نفسها إلى يوم وفاتها؛ لأنها تركت البلد وبيتها. لا، لولا أبي وما فعله ما تركت ستي البلد أبدا. - وافرض، ولكنها باعت الأرض باختيارها. - أهذا اختيار؟ إنه الإرغام ذاته، على كل حال أنا قررت أن أتنازل عن أرض ستي لعمتي عابدة وعمتي فاطمة. - وأنا قبلت عنهما هذا وقبلت هذا لك؛ فإن من واجبك أن تكرم عماتك، وفعلا كلتاهما تحتاج إلى ما يعينها على الحياة، وأنا أعمل ما في طاقتي وأحب لك أن تكون بجانبي في رعايتهما. - إذن. - عندي توكيل منهما. - وهذا عقد بيع خالص الثمن لهما وقعه أو لا توقعه فهو على كل حال من صورة واحدة، وكلف سعادتك واحدا من وكلاء المحامين ليبدأ في إجراءات التسجيل. - لا أحب أن أمدحك، ولكن لا بد أن أقول لك إني فخور بك. - أرجو أن أشعر بنصف هذا الشعور نحو نفسي. - والآن ماذا ستعمل في الزواج؟ - تأجل طبعا. - كيف؟ - عديلة من نفسها قالت لا بد أن ننتظر سنة على الأقل وأبوها أيد هذا الرأي بحرارة. - وأنت ما رأيك؟ - لو لم يقولا هذا ما كنت تزوجت الآن على أي حال. - نعم، ولكن سنة كثير. - والله أعلم! ربما أكثر. - كيف؟ - أتريدني أنا أن أتزوج وأفرح وأنجب أطفالا، وهناك روح إنسان متهم في قتل أبي يتردد الأمر فيها بين البقاء والإزهاق؟ - وأنت ماذا بيدك؟ - لا أعرف، ولكنني لا أتصور أن أتزوج والقضية منظورة. - صلاح، أتكون كرهت عديلة؟ - بل يزداد حبي لها كل يوم عن اليوم الذي فات. - عجيبة! - يا عمي حتى يتزوج الإنسان، وأقول الإنسان، لا بد أن يكون مرتاح الضمير. - يا بني، ضمير الإنسان لا يشغله إلا ما يصنعه الإنسان نفسه. - أو ما يصنعه أبوه. - وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. - وهذا طائري يا عمي. - أعانك الله على نفسك يا ابني. - ادع لي. - لم تقل لي فيم انتويت أن تعمل. - عرض علي عميد الحقوق أن أتقدم لأشغل وظيفة المعيد الخالية بالكلية فطلبت أن يمهلني للعام القادم. - لماذا؟ - لي غرض في هذا. - ألا تقوله لي؟ - ستعرفه في حينه. - والنيابة؟ - هي أيضا لم أتقدم لها. - إذن فماذا تنوي؟ - طلبت قيدي في المحاماة. - ومتى ستحلف اليمين؟ - أظن بعد شهر تقريبا. - وأين تريد أن تتمرن؟ - لم أفكر بعد. - أتحب أن تتمرن في مكتب الدكتور عبد الوهاب؟ - وكله ابن حسن عن أبيه، وليس معقولا أن أتمرن في مكتب يترافع عن قاتل أبي. - إذن أكلم الأستاذ عاطف البهنسي. - عظيم. - الآن، أي مكتب يتمنى أن تتمرن عنده، أنت جيد جدا يا أستاذ، وهل أنت قليل؟ وعاطف من أعز أصدقائي. - وهو كذلك.

الفصل الحادي والعشرون

انعقدت دائرة الجنايات ونظرت في قضية حسن عبد الحميد، وتحدد يوم المرافعة، وتكلم وكيل النيابة، ولم يكن محتاجا لإسهاب؛ فالقاتل معترف والجريمة تمت مع سبق الإصرار والترصد فهو يطالب بأقصى العقوبة.

وطلب صلاح أن يترافع بوصفه مدعيا بالحق المدني فسمح له وبدأ المرافعة. - بسم الله الرحمن الرحيم، أقولها يا حضرات المستشارين لا افتتاحا للمرافعة فحسب؛ وإنما لأتأمل مع المحكمة الموقرة لماذا اختار سبحانه الرحمة الرحيمة من بين أسمائه الحسنى جميعا ليجعل منها فاتحة فاتحة الكتاب. أليس هذا لأن صفة الرحمة الرحيمة هي أحب الصفات إلى الذات العلية؟ وقد جعل الله الإنسان سيد المخلوقات؛ لأنه قبل أن يحمل الأمانة التي عرضها سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فنصبه سبحانه سيد خلقه أجمعين، فإنسان بلا رحمة ليس إنسانا جديرا أن يحمل الأمانة، والأمانة يا حضرات المستشارين هي الاختيار الذي منحه الله للإنسان حين هداه النجدين، وحرم سائر مخلوقاته من حق الاختيار هذا؛ فالحيوان لا يستطيع أن يكون إلا حيوانا، والملائكة لا تستطيع أن تكون إلا ملائكة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون إنسانا أو حيوانا أو ملاكا، وبهذا الاختيار يصبح الإنسان إما شرا من الحيوان لأنه اختار، أو خيرا من الملائكة لأنه اختار، وكلاهما لا يملك الاختيار، ونحن في عصر يا حضرات المستشارين فرض على مصر أن يكون أبناؤها مسحوقين، وحينما يسحق الناس يسود الجبروت ويفشو الظلم، ويصبح النفاق هو الزعيم الأول؛ فنحن ننافق السلطات، وننافق من ينافقون السلطات، وننافق الغش، وننافق الخداع، وننافق الرشوة، وننافق التدليس، وننافق السرقة، وننافق القتل، وننافق الاعتداء على الأعراض والأموال والكرامات وعزة الآدمي. حضرات المستشارين إننا ننافق النفاق ذاته، وأبناء جيلي نشئوا في هذه الفترة القاتمة السواد. وقد تبينا أمرنا بعد أن ادلهم الخطب، واشتدي أزمة تنفرجي، قد أوشك ليلك بالبلج. هكذا قال الشاعر وهو ينظر إلى قوله سبحانه:

فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا

والعسر هنا واحد؛ لأنه معرف بأل واليسر مطلق؛ لأنه محرر من التعريف بحكمة الإله الأعظم، ولهذا قال المفسرون: لا يغلب عسر واحد يسرين أبدا، فلا عجب يا حضرات المستشارين أن يبدأ جيلنا نحن أن يصنع اليسر بيده مؤيدا بروح من بارئ النفوس وملهمها فجورها وتقواها. وقد آن لنا أن نتبع تقوانا بعد أن أوغل عصرنا في فجوره، وخلق من المعاصي ما لم تعرفه البشرية.

إن هذا المتهم الماثل أمامكم لم يقتل أبي، وإنما قتل أبي نفسه، وإن هذا المتهم حين أطلق الرصاص على أبي كان في حالة دفاع شرعي عن الكرامة التي هي أغلى من النفس.

أما أن أبي قتل نفسه فبما صنع من فظائع في حق البشرية، وبما قتل من أنفس، وبما قهر من رجولة الرجال، وبما أذل من كرامات الإنسان، وأي شيء أقسى على نفس الرجل من أن يكون ذليلا أمام زوجته وابنه وابنته، ولا يملك لظالمه دفعا، ولا لكرامته صونا؟ وإذا قالت النيابة إن المتهم هو أيضا قتل طلبت إلى الزميل ممثل النيابة أن يرجع إلى قول الله سبحانه:

أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . وقد كان أبي - وأشهد في هذه الساحة المقدسة - مفسدا في الأرض فحق عليه عقاب. وإذا قيل إن العقاب من حق المجتمع، ومن حق الله وحده، انتقلت إلى موقف المتهم مرتئيا أنه فعل فعله في حالة دفاع شرعي عن الكرامة التي هي أقدس عند الفلاح الأصيل من النفس. تصوروا يا حضرات المستشارين حال هذا المتهم أن يبيع أرضا لا يريد بيعها، ما نظرته إلى نفسه والنظرات من حوله احتقار أو إشفاق، وكلتا النظرتين أشد على الحر وقعا من كل رصاص العالم؟ فإذا قيل فما باله انتظر هذه السنوات فإن الجواب حاضر من قريب: لقد ذاق هو الذل مقهورا بالجبروت، ولم يرد لأبنائه أن يذوقوا الذل مقهورين بالحاجة؛ فلو أنه صنع صنيعه يوم أرغم على ترك أرضه لترك أطفاله صغارا يتكففون الناس، ويمدون أيديهم في طلب الجدوى فانتظر تزيده السنوات شعورا بالمهانة والذلة حتى استوى أبناؤه رجالا، ودافع عن كرامته التي امتهنت طوال هذه السنين.

وأنا يا حضرات المستشارين لست أدعو بقولي هذا إلى الفوضوية التي يتاح فيها للفرد أن يمسك القانون بيديه يشرعه هو ويحاكم به الآخرين وينفذه أيضا؛ فإنه إذا حدث هذا وقعنا في هوة سحيقة ينهار فيها بنيان المجتمع كله إلى حضيض ما له من قرار. إنما أحاول فقط أن أخفف عبء جريمة القتل العمد التي توجهها النيابة - وهي المدافعة عن حق المجتمع - إلى قاتل أبي هذا. إن هذا الذي أقول هو ما يعتمل في نفسه، دفعني إلى قوله محاولة مني أن يكون العدل أعظم من الأبوة، وأن يكون حق الإنسان في الكرامة التي وهبها الله له مقدسا قداسة الروح الإنسانية، وأن تكون مصر مسبح آدميين لا غابة ذئاب.

وبعد يا حضرات المستشارين فقد يقال إنني دافعت عن المتهم وجحدت حق الأبوة، والله وحده يعلم كم أقدس الأبوة، ولكن تقديسي للحق ولكرامة الإنسان أشد. وإنني بهذا الذي أقوله أتوجه إلى الذات العلية أن أكون قد كفرت بما قلت عن بعض ما صنع أبي بالإنسان سيد المخلوقات، وبما امتهن من كرامته، وبما أذل من عزته، وبما أزهق من أرواحه.

وقد يقال شاب في مقتبل العمر انتهز قتل أبيه فرصة ليصنع منها لنفسه شهرة. وإني أحتمل هذه المقالة، ولا أحتمل أن أكتم الحق نفاقا للمجتمع، ولكنني أعلن منذ اليوم أنني أعتزل المحاماة، وأقبل أي وظيفة قد تعرض علي.

ولو كنت وكيلا عن موكل في هذه القضية ما قبلتها، ولكنني يا حضرات المستشارين أنا وحدي الموكل والوكيل فلا وارث للحق المدني غيري، ولهذا رخصت لنفسي أن أتشرف بهذا الدفاع في ساحتكم القدسية.

وأنهي مرافعتي يا حضرات السادة المستشارين بتنازلي عن الدعوى المدنية تاركا لأستاذي ممثل الدفاع البدء في مرافعته.

وأنهى صلاح كلامه واتجه إلى باب الخروج، وإذا عديلة التي كانت جالسة على مقعد بجانب الممشى تقف وإذا هي حين يقبل إليها تحتضنه وتقبله على ملأ الناس لأول مرة في حياتها ويصحبها ويخرجان.

ويبدأ الدفاع مرافعته: حضرات المستشارين، ليس لي بعد مرافعة المدعي بالحق المدني أي مرافعة أضيفها إلا أن أخبر عدالة المحكمة أن هذا الشاب الذي كان ماثلا أمامكم قد أرجع الحق إلى كل من اغتصب أبوه منه حقا.

وأنهي المرافعة بطلب البراءة.

والتفت رئيس المحكمة إلى ممثل النيابة: النيابة لها تعليق؟ - النيابة تفوض الأمر للمحكمة. •••

ذهب صلاح مع عديلة إلى منزل أبيها، ولم يكن هناك ما يستطيع واحد منهما أن يقوله. هو لا يزال مرتعشا بالموقف الذي وقفه مقتنعا أنه الحق. وهي مبهورة به، ولم يطل بهما الانفراد، جاء أبوها وقالت عديلة: ما الذي أخرك؟ - كنت أنتظر الحكم.

ولم يسأل صلاح عن الحكم، وقال لوالد خطيبته: لقد انتظرت هذا اليوم لأسألك هل ما زلت مصرا أن تزوجني ابنتك بعد ما شهدت اليوم وبعد أن بددت ثلثي الثروة التي تركها أبي، والتي كانت في حسبانك يوم قبلتني؟ أما عديلة فقد أعلنت رأيها في المحكمة فما رأيك أنت؟ - يا بني، أنا لست مصرا، ولكن لو لم تكن خاطبا لابنتي لسعيت إليك لكي تخطبها، أنا اليوم أتشبث بك، وفي تشبثي بك تشبث بالأمل في مصر الغد.

Shafi da ba'a sani ba