وقال أبو سريع معلقا على السباع: يا سباعي!
وعلا الضحك مرة أخرى؛ أما رجال أبو سريع فلأنهم لا بد لهم أن يضحكوا ما دام أبو سريع يضحك. وأما شعبان وسباعي فليفهما أبو سريع أنهما فطنا إلى قفشته وتلاعبه بالسباع وسباعي وسرعة خاطره أيضا، ولكن شعبان يقول مواصلا حديثه: يا حبيبي أنا أسألك: هل أنت مبسوط في حياتك؟ - وهي أيضا رضا، والحمد لله. - لماذا؟ - وماذا أريد أحسن من هذا؛ آكل شارب نايم أشوف أرض أبي، وأنتج منها أحسن محصول. ماذا أريد أحسن من هذا؟ - وهل هذه عيشة؟ - وما العيشة؟ - تعال معي إلى مصر وأنا أعرفك العيشة على حقيقتها. - يا سلام! - رحت مصر؟ - طبعا. - أين ذهبت؟ - زرت المشايخ، وزرت أقاربنا هناك وأصدقاءنا، ودخلت السينما، ورحت إلى المسارح، وشفت كل حاجة في مصر. - دخلت كباريه؟ - كبا... وماذا؟ - كباريه. - آه، لا، سمعت عنه فقط. - سمعت عن ماذا؟ - يقولون عن الأوبرج وشيء آخر اسمه الأريزونا. - يقولون. - سمعت. - ولم تر؟! - الكذب خيبة، لا لم أر. - فأنت لم تر مصر. - أهذه هي مصر؟ - عندي أنا. أنا يا بني حين أذهب إلى مصر لا شأن لي لا بأقارب ولا بغيره. كم صاحب أعرفهم، أصل إلى بيتنا هناك وأدور عليهم بالتليفون، وعينك ما تشوف إلا النور. - وأين هذا النور؟ - في الأوبرج. - أتذهب إلى الأوبرج؟ - ولا أحب غيره. جربت كل كباريهات مصر، لم يملأ عيني إلا الأوبرج. الملك يذهب إلى هناك. - شفته؟ - مرة. - واحدة؟ - كفاية. - ما شكله؟ - سمين وضخم، إنما الحق له هيبة. - ملك، ملك يا عم ملك، المأمور عندنا يهز المديرية، شف ملك ماذا يفعل. - ليس هذا هو المهم. - الملك ليس مهما؟! - هناك ليس مهما بالمرة. المهم أشياء أخرى. - مثل ماذا؟ - اسمع يا عم. أنا رجل أحب العمل، ولا أحب الكلام. - ولكننا الآن لا نملك إلا الكلام. - فشر، ونملك العمل أيضا. - كيف؟ - أنا مسافر الخميس القادم، تجيء معي؟ - أجيء. - صحيح؟! - وهل ألاقي فرصة أحسن من هذه؟ - اتفقنا. - اتفقنا. •••
حوت غرفة الاستقبال في المساء قوما آخرين؛ فقد تصدرها وهدان كشأنه كل ليلة، والتأم حوله أصدقاء جلسته يكادون لا يتغيرون في ليلة عن الأخرى؛ فأغلبهم تعود هذه الجلسة والحديث بينهم متصل منذ سنوات، وفي أيام أم كلثوم يعدون العدة لسماعها في راديو وهدان. وقد كان الاستماع إلى الراديو لمدة طويلة يحتاج أن يذهب أحدهم بحماره إلى المركز في اليوم السابق ليملأ البطارية الضخمة؛ فهي بطارية سيارة، ويعود بها في اليوم التالي. ولم تكن أم كلثوم تغني في هذه الليلة وإنما هو الحديث، حديث في كل شيء. وأحيانا كان يلم بالجلسة أصدقاء غير منتظمين، إما أن يكونوا أصحاب مصلحة يريدون قضاءها مع وهدان أو مع أحد جلسائه، أو يكون قدومهم لمجرد السمر والحديث. وفي هذه الليلة جاء إلى الجلسة عبد الحميد أبو ديدة الذي توقف عن العمل كخياط للقرية تاركا الصنعة لابنه بعد أن أوهنه الكبر. وأصبح لا يخرج من البيت إلا في القليل النادر، وكانت تنعقد في بيته هو أيضا جلسة مثل جلسة وهدان هذه، فلم يكن غريبا أن يكون إلمامه بدوار وهدان نادرا، وقد أوسعه وهدان ترحيبا. وقد حرص سباعي أن يحضر الجلسة ليرى نفسه موضع الإكبار والتقدير بعد دعوة الغداء التي عرفت القرية جميعا بشأنها. وما هذا بعجيب؛ فإن أي دعوة في القرية هي حديث القرية جميعا، ولكن مجيء شعبان ورجاله أمر يعرف سباعي أنه هز القرية كلها من الأعماق. وتهيأ سباعي لسماع كلمات التقدير على دعوته تلك. وقد رأى فعلا نظرات الاحترام ماثلة في أعين معظم أهل الندوة. وحين بدأ الحديث بدأ بطبيعة الحال عن مجيء شعبان وأبو سريع، فإذا وهدان يقول في هدوء وفي حسم: إذا تكلمتم في شأن هذه الدعوة فاسمحوا لي أن أنصرف.
وانقمع الحديث عنها تماما، وأحس سباعي لذعة أسف أنه لم يتمتع بما كان يهفو إلى التمتع به. والتوى الكلام إلى غير هذا مما تعودوا أن يأخذوا فيه. وما هي إلا بعض الساعة حتى استأذن عبد الحميد أبو ديدة، وقال وهدان: لماذا يا عم عبد الحميد؟ لم نشبع منك يا رجل. - عمك كبر يا وهدان. أنا حتى في داري أترك ضيوفي كل ليلة يكملون حديثهم، وأقوم أنا ويعذرونني يا ابني. كبرنا يا وهدان. - أنت الخير والبركة. أوصل عمك عبد الحميد إلى بيته يا سباعي.
ويقول عبد الحميد في صوت من يرغب في هذا التكريم الذي تعود عليه، والذي جاء في هذه المرة آملا أن يحدث: وما لزوم التعب؟ - تعبك راحة، يا عم عبد الحميد.
ويصيح سباعي راجيا أن يسمع من عبد الحميد ما فوته أبوه عليه من تكريم: تحت أمرك، يا عم عبد الحميد.
وما يكاد الطريق يخلو بالاثنين حتى يقول عبد الحميد: لقد جئت اليوم خصيصا من أجل خلوتنا هذه. - خيرا، يا عم عبد الحميد. - أنت دعوت اليوم شعبان. - حصل. - اخطب أخته. - ماذا؟! - ما سمعت. - وهل هذا معقول يا عم عبد الحميد؟ بنت البك تقبلني أنا؟! - وأنت ما عيبك؟! - على الأقل يقولون لم يتعلم. - وهل تعلم أبوها أو أخوها أو تعلمت هي؟ إنما هما كلمتان عرفت بهما كيف تفك الخط. - أنا والحمد لله مستور في القرية، ولكن بالنسبة لعز الدين بك أنا فقير. - ولا فقير ولا حاجة. - كيف؟ وأين ما أملك مما يملكون، وإيجاراته من الأوقاف وحدها تدر عليه دخلا قدر دخلنا مائة مرة أو قل مائتين؟ - اسمع ما أقول لك، اخطب أخته. - إن رفضوني فستكون سبة. - لن يرفضوك. - وأنت كيف عرفت؟ - هذا شأني. - فقط قل من أين عرفت. - من سني الكبيرة، من الزمن، من الناس الذين عرفتهم. اسمع كلامي يا ولد، أنا في مكان جدك، ومن سنه أيضا. - إذا تمت هذه الزيجة يا عم عبد الحميد لا أدري كيف أكافئك. - أنت يا ولد تكافئني؟ أنت يا ولد ابن وهدان، وأبو وهدان عاش عمره كله على باب دكاني، أتظن أنني جئت إليك لكي تكافئني، وماذا أصنع بمكافأتك؟ هل سآخذها معي إلى الآخرة؟ إن أردت أن تكافئني حقا فإني أوصيك بابني حسن؛ فهو قليل الحيلة، وأنا لم أترك إلا ثلاثة أفدنة دفعت فيها عيني وانكفائي على ماكينة الخياطة عشرات السنين. - ربنا يطيل عمرك يا عم عبد الحميد، وحسن في عيني الاثنين. - يكفيني هذا. ارجع أنت. سلام عليكم.
الفصل السادس
لا يكون الحلم إلا من تجارب الإنسان ومن سابق خبرته؛ فالأحلام على هذائها وبعدها عن العقل تخاطب الناس على قدر خبراتهم. هي قد تخلط هذه الخبرة، وتقلب موازينها، وتجعل أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها. إنما تظل بالنسبة للإنسان الذي تعرض له في حدود ما عرف من واقع الحياة؛ ولذلك يستطيع المرء غالبا أن يعبر عنها، ويروي ما عرض له في أحلامه إذا كان منتظما، أو يعزوه إلى خرف النوم، أو فقد انتظامه وتتابعه.
أما هذا الذي يراه سباعي فلم يخطر له على حلم أبدا، وما تصور أن تضم جنبات الحياة شيئا مثل هذا الذي يشاهده من راقصات الأوبرج. عرايا صدورهن أو عرايا جسومهن جميعا إلا موقعا أو موقعين الغطاء فيهما أخبث من العري. وما إن أفاق هونا من ذهوله حتى التفت إلى شعبان: أهؤلاء نسوان؟
Shafi da ba'a sani ba