فقام وهو يقول ساخرا: إنها على أي حال تستحق القتل.
ثم مضى قائلا: ولكنك تستحق الشنق أيضا.
رمتني الزيارة البغيضة في دوامة، أقنعتني بوجوب الاختفاء عن أعين الأغبياء، ولكن هل أستحق الشنق حقا؟ كلا ... حتى لو حوسبت على النوايا الخفية! ما كانت أحلامي إلا رمزا للتخلص من متاعب راهنة، لا من الحب أو المحبوب، وهي تثار بانفعال اللحظة العابرة، لا بالعاطفة المستقرة، وعلى أي حال، لم يعد لي بقاء في مجال الشياطين. •••
دلني سمسار على حجرة في بنسيون الكوت دازور بحلوان. وجدتني في وحدة جديدة أنا والكتب والخيال، لزمت الحجرة أكثر الوقت، وخصصت الليل وقتا لرياضة المشي. استقلت من عملي، ولم يبق لي إلا الفن وحده. قلت لنفسي إن علي أن أركز على فكرة من بين عشرات الفكر السابحة في خيالي. عند الاختبار، تبين لي أنني لا أملك فكرة واحدة. ما هذا؟ إني لا أعيش في وحدة، ولكن في فراغ. وعاودتني أحزاني على تحية بصورة قاهرة ونافذة وعميقة، حتى صورة طاهر تجسدت لي في هزالها وبراءتها وهي تصارع المجهول. وكنت أهرب من كآبتي إلى الفن فلا ألقى إلا الفراغ، والخمود أيضا. أجل؛ لقد انطفأت الشعلة تماما، وانسحقت الرغبة في الخلق، وحل محلها فتور أبدي وتقزز من الوجود.
في تلك الأثناء، قرأت الكثير عن نجاح المسرحية المذهل، واطلعت على عشرات التحيات الموجهة لموهبة المؤلف، وتنبؤات عما سيجود به للمسرح. سخريات تتتابع معذبة لي، وأنا أتقلب في جحيم القحط، أتقلب في جحيم القحط والأحزان ، ونقودي تتناقص يوما بعد يوم. قلت أخاطب الكآبة المحدقة بي: ما توقعت ذلك قط.
أين موسم المطر الذي تغنى به سرحان الهلالي؟ لا توجد أفكار؛ إذا وجدت فكرة تمخضت عن لا شيء، إذا تطلبت فكرة تأملا، كتم أنفاسها الجفاف والخمود. إنه الموت، الموت كما يتبدى لحي؛ إني أرى الموت، وألمسه، وأشمه، وأعاشره.
وعندما نفدت النقود، ذهبت للقاء سرحان الهلالي في بيته؛ لم يضن علي بمائة جنيه خارج العقد. انخرطت في سباق مميت، ولكن الجفاف استفحل حتى صرت جسدا بلا روح، وتسلل إلي صوت الفناء الساخر، ينذرني بأنني قد انتهيت. لقد عبث بي ما شاء له العبث، ثم غادرني مكشرا عن أنياب القسوة والإعدام. ونفدت النقود مرة أخرى، فهرعت إلى سرحان الهلالي، ولكنه لاقاني بحزم مؤدب، معربا عن استعداده لمنحي هبة جديدة، تحت شرط أن أطلعه على أي جزء من المسرحية الجديدة. عدت هذه المرة إلى الوحدة والحزن والجفاف، بالإضافة إلى الإفلاس أيضا. خطر لي أن ألجأ إلى باب الشعرية، ولكن سدا اعترض الخاطر، مؤكدا لي أنني يتيم، وبلا بيت أو حي. عند ذاك قلت لنفسي: لم تبق إلا النهاية التي رسمتها للبطل!
اهتديت أخيرا إلى مخرج، رمقت الأعباء والهموم بشماتة وازدراء، حررت رسالة المنتحر محتفظا بالسر لنفسي، مضيت إلى الحديقة اليابانية قبيل العصر. لم أنتبه إلى ما حولي، لم أر إلا خواطري المتلاطمة في حمرتها القانية. جلست على أريكة. بأي وسيلة، وفي أي وقت؟ ثقل رأسي في مهب الهواء الجاف، ولم أكن نمت الليلة الماضية إلا ساعة واحدة، ثقل رأسي، وغلبني الإرهاق، وخفت النور بسرعة مذهلة. لما فتحت عيني، تبدت العتمة في هبوطها الوئيد؛ لعلي نمت ساعة أو أكثر. قمت في خفة غير متوقعة، وجدتني في حال جديد من النشاط، تخلص رأسي من الحرارة، وقلبي من الثقل؛ ما أعجب ذلك! انقشعت الكآبة، وتلاشى التشاؤم؛ إني الآن إنسان آخر. متى ولد؟ كيف ولد؟ لماذا ولد؟ تساءلت أيضا عما حدث في إغفاءة ساعة؛ لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين، لقد نمت عصرا كاملا، واستيقظت في عصر جديد! لا شك قد حدثت في أثناء النوم أمور ذات شأن، ولولا فرحة الشفاء المباغت لاحتفظ الوعي منها بقبس. ألهتني الفرحة عن التشبث بالذكريات، فتلاشت أشياء لا تقدر بثمن، لكنني قمت برحلة طويلة وناجحة، وإلا فمن أين وكيف جاء البعث؟ وهو بعث غير معقول ولا مبرر، ولكنه حقيقة محسوسة ماثلة، يمكن أن ترى ويمكن أن تلمس، بالرغم من الفراغ والإفلاس، بالرغم من عناد الأشياء وتحدياتها، بالرغم من الخسران والأحزان! وإذن، فلأستمسك بالنشوة كتعويذة سحر، ولتكن قوتها في سرها الغامض؛ ها هي الحيوية تدب ناشرة شذاها الظافر. وفي الحال، مضيت نحو المحطة، وهي هدف غير قريب، ومع تتابع الخطوات، تدفقت الحيوية خلابة واعدة، كما تبشر السحابة الثرية بالمطر. ما هو إلا وعد وشعور وطرب، عدا ذلك فإنني مفلس ومطارد وذو حزن. وعندما تراميت بعيدا تذكرت الرسالة، ولكن أدركت أيضا أن قد فات أوان استردادها. قلت لنفسي لا يهم، وما يهم في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير؟ ليكن من شأنها ما يكون، ولتكن العاقبة ما تكون! ذروة النشوة تتألق على جسد عراه الإفلاس والجفاف، ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية.
Shafi da ba'a sani ba