وهكذا الحال بالنسبة إلى كل إنسان يقع أسيرا لما بث في نفسه من مخزونات فكره وشعوره، إلا من أراد له الله علما يخرجه من أسره، ليرى حقائق الأمور كما هي واقعة، فيمحو من مخزونه كل ما يتناقض مع تلك الحقائق التي اهتدى إليها بعدئذ عن طريق معرفة كسبها وهو على وعي بما كسب.
وجاء رجل في فاتحة النهضة الأوروبية، هو فرنسيس بيكون، وحصر مصادر الخطأ عند الناس، فجعل منها مصدرا أسماه «بالكهف» جريا على الصورة التي سبقه إليها أفلاطون؛ فأخطاء الكهف عند بيكون هي تلك التي لم يزل فيها الإنسان بسبب أفكار مبثوثة في جوفه من حيث لا يدري، فأصبحت له بمثابة عدسات المنظار، ينظر إلى الدنيا خلالها فتصطبغ الدنيا بألوانها. ويظن لابس المنظار أنه إنما يرى الدنيا على حقيقتها؛ فهو إذا رأى الأشياء حمراء حسب احمرارها فيها وليس في لون منظاره.
على هذا النحو تتشكل الحقائق للناس متأثرة بتربيتهم الأولى. ومنهم من لا تؤاتيه ظروف حياته بمعرفة علمية يصحح بها أوهام نفسه، فيظل متشبثا بنظرته «الذاتية» تلك. ومنهم من تدركه رحمة الله فينكشف له الحق كما هو واقع؛ أي الحق «الموضوعي» الذي يستمد صدقه من الواقع الفعلي، غير متأثر بدوافع الأهواء المخزونة. وإذا مضينا في التشبيه بلابس المنظار، قلنا إن من الناس من يرى الدنيا بعدسات ينكسر فيها مسار الضوء، فتظهر لهم الأشياء منحرفة عن حقائقها، وهم لا يشعرون. ومنهم من جاءت عدسات منظاره أمينة على مسار الضوء في استقامته فيرى ما يراه على حقيقته الخارجية.
ولا عيب في أن يجيء إدراك الإنسان لما حوله صادرا عن مكنون وجدانه، شريطة أن ينحصر ذلك الإدراك الوجداني في مجاله الخاص، وعندئذ نكون على بينة بأن ما يقال إنما قيل تعبيرا عن وجدان خاص، لنفهمه من هذه الزاوية وحدها، فلا نضل بالظن أنه يصور لنا الأشياء تصوير المطابقة بين أصل وصورته الفوتوغرافية، أو صورته الكربونية، ومثال ذلك شعر الشعراء، وألحان الموسيقيين، ولوحات المصورين، وغيرها مما يدور مدارها. فإذا قال لنا شاعر إن ليله كان كموج البحر، وجب علينا أن نجاوز الصورة إلى ما وراءها من بواعث في وجدان الشاعر حملته على أن يرى ليله قد طال عليه ظلاما يعقبه ظلام، ولا نهاية له بفجر يبدده.
لا، لا عيب في أن يصدر المرء عن وجدانه فيما يقول، شريطة أن يكون على وعي بذلك، وأن نكون نحن على وعي به معه، حتى لا يختلط عندنا تصاوير الخيال بأحداث العالم. ولكن العيب كل العيب هو فيمن يتصدى لتقرير الحقائق كما تجري، فيدس في قوله خيوطا من تهاوين الحالمين قد يرضي بها وجدانه، لكنها لا تصور من واقع الأمر شيئا؛ فلئن كانت النظرة الذاتية مطلوبة لمن أراد أن يخرج للناس مكنون نفسه؟ فالنظرة «الموضوعية» للحقائق واجبة على من يتصدى لتلك الحقائق بالعرض الصادق؛ فلقد كنت أستمع في التلفزيون إلى متحدث جليل، فلما ورد في سياق حديثه محاولات العلماء الصعود إلى القمر وغير القمر من أجرام السماء، قال المتحدث الجليل أن منديل الورق الذي يمسح به أنفه المزكوم أنفع من صعود العلماء إلى القمر؛ فلو كان متحدثنا الجليل يعبر في ذلك عما يشعر به هو ، وجعل السامعين على إدراك بأنه إذ يقول ذلك، فإنما هو ينظر إلى موضوع نظرة شاعر، مسئول فقط أمام وجدانه وما يشعر، لما كان في الأمر ما يؤخذ عليه؛ فللشعراء كل الحق في أن يجعلوا من اللحظة القصيرة دهرا لا ينتهي، وأن يجعلوا من أبدية الدهر لحظة عابرة؛ لأنهم يستوحون نفوسهم وطريقتها في رؤية العالم. وأما أن يقول كلاما كهذا في سياق عرض «علمي» لما يعرض له، فقد كان واجب «العقل» يقتضيه أن يتقصى الحقائق في موضوعية العلماء. ولو فعل ذلك لعرف أن إحدى النتائج الفرعية الجانبية التي نتجت لنا عن الصعود إلى القمر، تلك الأقمار الصناعية التي نستخدم بعضها في نقل البث التلفزيوني إلى أرجاء العالم كله في لحظة واحدة. ومن يدري؟ فلعل محدثنا الجليل كان في حديثه ذاك مسموعا للعالم الإسلامي كله بواسطة أقمار صناعية، جاءت نتيجة فرعية لمحاولات الصعود إلى القمر، التي قال عنها سيادته إن ورقة يمسح بها أنفه المزكوم أنفع منها.
النظرة «الموضوعية» هي قرين العلم، ولا علم بغيرها، فماذا يقصد بها على وجه التقريب والتوضيح؟
مقصود بها أن ترى من الشيء المعين ما يراه «كل» إنسان آخر، ما دامت له أدوات الرؤية المطلوبة للمجال الخاص الذي يخضعه لرؤيته؛ فليس من الموضوعية العلمية أن تدلي في موضوع ما «برأي» شخصي، ربما جاء ميلك نحوه نتيجة «للكهف» النفسي الذي سجنت فيه بتأثير أولياء أمرك في مراحل حياتك الأولى. وقد تبلغ بنا الدقة في تحديد النظرة الموضوعية حد القول بأنها هي التي ترتد آخر الأمر إلى ما يمكن إخضاعه للقياس الكمي فقط؛ لأن ما دون ذلك غالبا ما يكون مجرد انطباعات على حواس الشخص المدرك، مع احتمال أن تجيء انطباعات شخص آخر على صورة أخرى؛ فرؤية الألوان بالعين: هذا أخضر، وذلك أصفر، تندرج - من الناحية العلمية - في مجال الإدراك الذاتي. وأما الإدراك الموضوعي لها، فهو طول الموجة الضوئية التي أدت بالعين إلى رؤية اللون الذي تراه؛ إذ ربما اختلفت أبصار الناس في انطباعاتها، بل ربما غاب البصر عن بعضهم. أما طول الموجة الضوئية فرقم رياضي لا وجه للاختلاف حوله بين أفراد العلماء . وكذلك قل في الصوت؛ فسمع الأذن للصوت يدخل في مجال الإدراك الذاتي. وأما المعرفة الموضوعية للصوت فهي معرفة موجات الصوت المعين كم طولها، وهكذا.
صحيح أن المعرفة الموضوعية التي تبلغ هذه الدرجة من دقة التحديد، قد لا تكون ممكنة في موضوعات كثيرة؛ فنقول عن هذه الموضوعات علمية بقدر ما تحتمل تلك الدقة، وهي غير علمية بقدر ما تفجر عنها. ولقد كانت معظم العلوم الاجتماعية والإنسانية مما لا تؤهله مادته لدخول ميدان الموضوعية العلمية في أدق صورها، لكنها اليوم تسير نحو هذا الهدف بخطوات سريعة، لإخضاع موادها إلى الضبط الكمي بالإحصاءات والقياسات وغيرها.
خروجنا من سجون كهوفنا الفكرية، مرهون بالبحث - في كل موضوع عام - عن جانبه الموضوعي؛ لأنه وحده يستجيب للرؤية العلمية. وأكرر القول بأن الرؤية الذاتية الوجدانية في بعض المجالات، ليس فيها عيب يعاب عليها ما دامت تقتصر على مجالها، ولا يزعم عنها زاعم أنها واجبة القبول عند سائر الناس. إنما نحرر أنفسنا من سجون كهوفنا، يوم أن تكون لنا القدرة على تحويل الشئون العامة إلى مسائل علمية، يقول فيها باحث لباحث: تعالى «نحسب» الأمر معا حسابا عدديا، بدل أن يقول له: تعالى «نناقش» الأمر على مائدة الألفاظ نتبادلها بالحديث وكأننا نسمر في ليلة مقمرة.
ومع ذلك، فلنعترف بأن ثمة من الموضوعات الثقافية الهامة ذات التأثير الفعلي العميق في حياة الناس، ما لا يستطاع إخضاعه للحساب الرياضي في دقته وموضوعيته، وما يستلزم بالضرورة أن يكون «النقاش» اللفظي وسيلته الأساسية أو الوحيدة؛ فنحن في هذه الحالة نطالب بأن يكون المتناقشون على يقين بأنهم يستخدمون اللفظة الواحدة بمعنى واحد عندهم جميعا، وإلا كان كل منهم في حكم من يتحدث في موضوع غير الموضوع الذي يتحدث فيه زميله. كنت ذات يوم عضوا في لجنة رسمية تبحث في شئون «الثقافة»، فقال قائل في غضون حديثه إن «الثقافة الرفيعة كذا وكذا.» فأسرع زميل بالاعتراض قائلا: «ليس في الثقافة ما هو رفيع .» ... فقل لي - أيها القارئ - ولك عند الله ثواب هداية الحيران، ما هذا الذي أمكن أن يكون «رفيعا» عند أحدهم وألا يكون «رفيعا» عند الآخر؟ وهل يمكن أن يكون ذلكما المتحدثان قد فهما كلمة «ثقافة» بمعنى واحد قبل أن يدخلا معا في نقاش؟
Shafi da ba'a sani ba