فكان أن وجهت أغلب جهدي نحو الاتجاه التجريبي العلمي من اتجاهات الفلسفة المعاصرة. وهل كان يمكن للعلم أن يبلغ ما قد بلغه من السيطرة على عقول الناس، وعلى حياتهم العملية في عصرنا هذا، دون أن يكون لذلك صداه في الفلسفة وأهدافها؟ إن تاريخ الفكر في كل مراحله، لم يشهد عصرا رفضت فيه الفلسفة أن تتابع الحركة الفكرية السائدة في عصرها . ولست أدري من ذا الذي كذب الأكذوبة الكبرى عن الفلسفة ، فقال عنها إنها تعزل نفسها في أبراج من العاج، فلا تصطخب مع تيار الحركة الفكرية في شتى ميادينها؟ متى كان ذلك، وعند من من الفلاسفة؟ هل كان سقراط وهو يجول في طرقات أثينا، يناقش الناس في أمور حياتهم الخلقية، معتزلا في برج من العاج؟ هل ترك فلاسفة العصر الوسيط، في الشرق الإسلامي أو في الغرب المسيحي، سائر الناس في واد، وذهبوا هم في واد آخر؟ ألم يجولوا مع الناس في الميدان الأساسي الهام الذي كان يشغلهم، وهو ميدان العقيدة الدينية وتحليلها وتأويلها وتأييدها؟ هل ترك كانط علماء عصره يبحثون في الرياضة وفي الطبيعة، وحبس نفسه دونهم في برج عاجي، يتكلم فيما لم يكونوا مشتغلين به؟ أو أنه كان يحلل قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة التي كان يأخذ بها علماء عصره؟
وكذلك أردنا للفلسفة أن يكون لها دورها في عصرنا، أردنا لها أن تجلس مع سائر رجال العلم على مائدة واحدة، وأن تسكن معهم في بيت واحد؛ فلئن كان علماء عصرنا في شغل شاغل من الطبيعة الذرية، التي غيرت من وجهة النظر إلى قوانين الطبيعة، فجعلتها احتمالا لا يقينا، وجعلتها إحصاء لما يقع بالفعل، لا إملاء لما ينبغي أن يقع، فلا بد للفلسفة كذلك أن تشغل نفسها بهذا الاحتمال في صدق القوانين العلمية، ما معناه؟ وبهذا الإحصاء الذي تبنى عليه المعرفة العلمية، ما سنده من منطق العقل؟
كان مبدئي - وما زال - هو أن الفيلسوف الذي ينفض يديه من تيارات عصره، إنما هو متمرد، لا يفيد أحدا بعصيانه. وتيار العصر هو بغير شك - وفي أهم جانب من جوانبه - تيار العلوم الطبيعية التجريبية، أو ما يتصل بتلك العلوم من قريب أو بعيد، فكيف تغير الفلسفة التقليدية من نفسها، بحيث تتجاوب مع عصرها؟ إنها تفعل ذلك - في رأينا - بعدة وسائل، من أهمها أن تترك العلوم لأصحابها؛ فلا يجوز للفيلسوف اليوم أن ينافس العالم في علمه، لا يجوز له - مثلا - أن يبحث في طبيعة الذرة، أو في طبيعة الضوء، أو الصوت، أو طبقات الأرض، أو أجرام السماء، وهنالك من رجال العلم المتخصصين من جعلوا هذه الموضوعات مدار اختصاصهم العلمي. وكذلك لا يجوز للفيلسوف أن يبحث في طبيعة الإنسان، وهناك من علماء النفس وعلماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع وغيرهم، من يحاولون البحث في طبيعة الإنسان وطرائق سلوكه وتفكيره، ما وسعتهم المحاولات العلمية، وبمقدار ما يمكن إخضاع الإنسان للتجارب والمشاهدات العلمية.
وقد نسأل: إذا نحن تركنا العالم للعلماء المتخصصين، لكل منهم ميدانه الخاص، فماذا يبقى للفلسفة بعد ذلك؟ الجواب هو أن تضطلع الفلسفة - بين ما تضطلع به - بتحليل الأسس التي تقوم عليها العلوم نفسها؛ وذلك أن كل علم من العلوم، يفترض لنفسه نقطة معينة يبدأ منها، ثم يصعد، لكنه لا يعنى بنقطة البداية نفسها، ليرى كيف جاءت؛ فتكون هذه العناية بها، هي العمل الأساسي للفيلسوف. يبدأ علم الحساب في الرياضة - مثلا - بالأعداد، ثم يصعد منها إلى العمليات الحسابية التي تزداد تركيبا وتعضيدا كلما صعد، لكنه لا يعنى بالجذور الأولى التي نبتت منها الأعداد ذاتها، فإذا التفت باحث هذه اللفتة، كان فيلسوفا يفلسف علم الحساب. وكذلك قل في علم الهندسة من علوم الرياضة، إنه يبدأ بفكرة المكان ثم يأخذ في تقسيم ذلك المكان المفترض، إلى نقط وخطوط ومسطحات ومثلثات ومربعات ودوائر، لينظر في خصائص كل قسم من هذه الأقسام، لكنه يترك فكرة المكان ذاته، لا يهمه أن يعرف كيف تكونت، مع أنها هي الأساس الذي بني عليه علمه. فإذا تناولها باحث بالنظر والتحليل، كان عمله هذا هو فلسفة تفلسف علم الهندسة. وقل شيئا كهذا في كل علم وفلسفته. وبهذا يجيء علم العصر وفلسفته متكاملين موصولين في خط فكري واحد.
وإذا كان هذا هو المهمة الأولى للفلسفة في عصرنا، فإنه لا بد لها أن تقف طويلا عند الألفاظ الهامة، التي تكون أركانا أساسية في التفكير العلمي، لتتناول تلك الألفاظ بالتحليل الذي يحدد معانيها، والذي يتعقبها إلى أصولها، وهو تحليل يغلب عليه الجفاف - كأي تحليل علمي آخر - فهو لا يقدم للقارئ حديثا سهلا شائقا سائغا، يقرؤه وكأنه يقرأ حكاية حب ومغامرات؛ ومن ثم كانت كراهية الجمهور العام لمثل هذه التحليلات التي يراها عابر السبيل وكأنها تعقد البسيط، وتغمض الواضح، لكن ما يكرهه عابر السبيل من الجمهور العام، لا يجوز أن يكون كريها كذلك عند من أخذ نفسه بدقة العلم وعنائه وجفافه.
ومع ذلك، فقد وجدت الدعوة إلى هذه الدقة العلمية - برغم جفافها وعنائها - أقول إن هذه الدعوة إلى الدقة العلمية، التي أطلقناها في الخمسينيات، إيمانا بضرورتها، لا في الميدان الفلسفي الخاص فحسب، بل بضرورتها كذلك في ميادين التفكير الأخرى، كلما أراد باحث أن يكون لبحثه كل الدقة التي يتطلبها منطق العلوم. إن هذه الدعوة وجدت أشد المعارضة من بعض المشتغلين بالفلسفة عندنا؛ لأنها دعوة جاءت مخالفة للألوان المألوفة من العمل الفلسفي؛ وذلك لسبب بسيط، وهو أن عصرنا لم يجئ على الصورة نفسها التي ألفتها سوالف العصور.
وختمت أعوام الخمسينيات بكتاب أسميته «نحو فلسفة علمية»، لو كنت حكمت على مصيره، في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته، لقلت إنه لن يظفر بنظرة من فرسان الفلسفة الذين يجيدون في ميدان الفروسية، ركوب الجياد، ورماية الرمح، والمبارزة بالسيف، لكنه - برغم ذلك كله - كان هذا الكتاب الذي ظفر - فور صدوره - من الدولة بجائزتها، مما دلني على أنها دولة لا تضيع أجر العاملين.
أمتنا الوسط
كانت فاتحة الستينيات في حياتي الثقافية، معركة فكرية خفيفة، لم تكد تثور حتى هدأت، وذلك أني أعلنت رأيا في كتيب صغير، كان عنوانه هو «الشرق الفنان»، أردت به أن أقول إن تراث الإنسانية الثقافي، كما تشهد عليه أمهات الأسفار الدينية والفلسفية والعلمية، ينهض دليلا على أن ثمة طرفين وبينهما وسط يلتقيان فيه؛ فطرف منهما على يمين العالم، هو بلاد الشرق الأقصى، كالهند والصين، طابعه الأصيل العميق، هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفد خلال الظواهر البادية للحواس، إلى حيث الجوهر الكامن وراءها، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر، يمزج ذاته في ذاته، مزجا تفنى معه فردية الفرد، لتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم. ومثل هذه النظرة المعتمدة على الذوق المباشر، والتي لا تحتاج إلى تعليل أو تحليل، هو ما يميز الفنان - بصفة عامة - في طريقة النظر إلى حقائق الأشياء. ونحن إذا أخذنا هذا النظر المباشر أساسا لرؤية الحقيقة الكونية، وجدناه لا يقتصر على الإدراك الفني وحده، بل يشمل معه كذلك نظرة المتصوف ورؤية المتدين؛ لأن هذه الجوانب الثلاثة، فروع لوقفة واحدة، هي وقفة من يدرك العالم بروحه لا بعقله.
ذلك إذن هو أحد الطرفين. وأما الطرف الآخر فنراه في الغرب، وطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي، بعقل منطقي تحليلي، يقف عند الظواهر مشاهدا لها، وهي تطرد وتتتابع، فيجعل من اطراد الحدوث على وتيرة واحدة، قانونا علميا، يستخدمه بعد ذلك في الانتفاع بظواهر الطبيعة، على النحو الذي يرتضيه. ولا بد لمثل هذه النظرة، من السير في خطوات استدلالية، تنتزع النتائج الصحيحة من مقدماتها الصحيحة، وتلك هي نظرة العلم.
Shafi da ba'a sani ba