منذ تلك اللحظة، وإلى هذه الساعة، لا أجد لنفسي ما يبرر أن أنظر إلى العمل الفلسفي نظرة أخرى غير هذه. وبهذا الاعتقاد الجديد ذهبت لأستمع إلى الأستاذ آير وهو يلقي محاضرة الافتتاح.
وكان الدكتور كيلنج - صاحب المرجع المعروف في فلسفة ديكارت - هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كنت في «الكلية الجامعة» قبل أن أتحول عنها إلى «كلية الملك»، ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابا به، مع أنه كان أول أستاذ بريطاني ألتقي به في إنجلترا. نعم، إنه ذكي، وملم بمادته إلمام الباحث الدارس، أما نفاذ البصيرة، ومسايرة الحركة الفكرية مسايرة تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئا منه. لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا، وله لحية صغيرة يصبغها بما يشبه الحناء، وقد دعاني ذات مساء على عشاء في منزله، فوجدته منزلا مكدسا بالكتب، وهو متزوج من سيدة فرنسية، والظاهر أنه لا ولد له، وقد اعتذر لي عن تواضع مسكنه، قائلا: إن بيتي الأول قائم في باريس؛ حيث أقضي أطول وقت مستطاع.
وكان من الأفكار التي تحمس لها أثناء حديثنا - وكان الحديث قد تناول الأدب المسرحي - أن شكسبير لا يستحق هذه الضجة كلها التي يثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعر من الطراز الأول. أين هو في القدرة على البناء الشعري من راسين أو كورني؟ فقلت لنفسي: ترى لأي حد تجيء آراء الرجال انعكاسا لجنسية الزوجات؟ ... إن كيلنج رجل عليل ضعيف البنية، ولقد كان يطمع في دعوة توجه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عاما أو عامين، لعله ينعم بشيء من الصحة، وظنني قادرا على أداء هذا الصنيع. والحق أني تمنيت يومئذ لو أن بي شيئا مما ظن، لكن عيني كانت بصيرة، وأما يدي فكانت أقصر جدا مما ذهب إليه خيال الذين أجروا هذا المثل على ألسنة الناس.
كان لي في لندن ضروب من النشاط الثقافي تستحق أن تذكر، منها أن جامعة لندن فور انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945م أعدت برنامجا عاما للمواطنين في بريطانيا، الذين يزمعون السفر إلى الشرق الأوسط، فكان أن طلبت من السفارات العربية المختلفة أن ترشح من أبنائها المقيمين في بريطانيا من يلقون المحاضرات في الموضوعات التي أرادت الجامعة أن تدار حولها الأحاديث، فرشحتني السفارة المصرية لأحاضر في الأدب العربي المعاصر، متمثلا في أديب بعينه ترك لي اختياره، كما أذكر أنها رشحت معي في جلسة الأدب زميلي الدكتور محمد النويهي ليحاضر في الأدب العربي القديم، فاخترت العقاد شاعرا ؛ لأنني كنت وما أزال مؤمنا بأن العقاد في شعره قد جسد تطورا عميقا في قيم المجتمع العربي؛ إذ نقل محور الارتكاز إلى الفرد المتميز من سائر الأفراد، بعد أن لم يكن للفرد في المجتمع العربي وزن كثير. ولقد رأيت يومئذ بأنه لا جدوى من الحديث المجرد، دون أن يسمع الحاضرون نماذج من شعر العقاد مترجما إلى الإنجليزية، فاستثرت كل ما أملك من قدرة لغوية، وترجمت أكثر من مائتي بيت من شعر العقاد، شعرا إنجليزيا، ثم تابعت بعد ذلك عملية الترجمة إلى أن توافر لي قدر لا بأس به، وأرسلت أجزاء مما ترجمت إلى المجلات الأدبية في بريطانيا أولا، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، فكان من احتفال تلك المجلات المتخصصة بما أرسلت، شاهد لي بأن الترجمة الشعرية التي قمت بها لم تخل من قيمة.
وكذلك كان من أوجه نشاطي الثقافي في بريطانيا في تلك الفترة، محاضرات ألقيتها بدعوة من معهدنا المصري في لندن، قمت فيها بتحليل مستفيض للثقافة المصرية التي كانت سائدة في ذلك الحين، وهي ثقافة كانت تتميز بازدواجية واضحة، كأن مصر كان يسكنها شعبان لا شعب واحد.
قبيل ثورة يوليو 1952
لم يكن قد بقي على ثورة يوليو 1952م إلا عامان وبعض العام، حين أوكلتني لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكنت عضوا فيها - أن أنوب عنها في الإشراف على مجلة الثقافة، التي كانت تصدرها في ذلك الحين. وإني لأستعرض الآن بعض ما كنت أكتبه يومئذ، وما كان يكتبه غيري، فأرى كيف كانت صدورنا تغلي بما كان يحيط بنا من فساد، مما كان كافيا لمن يستطيع قراءة الأحداث، أن يوقن بأن ثورة الشعب كانت - يومها - قاب قوس واحد من الوقوع.
أحس الكاتب بالظلم الفادح ينزل على الناس أشكالا وألوانا، فصاغ هذه الحقيقة في صورة غلام صغير، وقد سمع رجلا يصيح في الطريق بكلمة «ظلم»؛ فلأمر ما، رسخت الكلمة برنينها في سمعه، فلما أصبح صباح اليوم التالي، روعت أم الغلام حين وجدته قد ملأ أركان الدار بكلمة «ظلم» مكتوبة بالطباشير على المقاعد والموائد والجدران، فتهددته أمه بالعقاب إذا عاد إلى مثل هذا العبث وطفقت تمسح الظلم من بينها بخرقة بالية.
لكنه لم يكن قد مضى بعد ذلك يوم واحد، حين جاء الجيران يشكون الغلام لأبويه؛ لأنه تسلل إلى دورهم، وملأ لهم الدنيا بكملة «ظلم» يكتبها هذه المرة بقطعة من الفحم، لا يسهل محوها كما سهل محو الطباشير. وعوقب الغلام على فعلته، لكنه بعد يوم آخر، وسع الدائرة إلى حيث كانت الدكاكين، وكان قد ظفر بوعاء فيه طلاء، فراح يغافل الناس ويكتب حيثما مكنته الفرصة، كلمة «ظلم» بطلاء لا يمحى. وزيد في عقابه من أبويه، لكنه لم يرتدع. ولبث هادئا بضعة أيام، ثم كانت بعدها الطامة؛ لأن الغلام هذه المرة، قصد إلى دار الحكومة كانت على مقربة من مسكنه مع أبويه، وحصل من حيث لا يدري أحد على مبراة، حفر بها الكلمة نفسها على مداخل تلك الدار. وتدخل الشرطي، ونودي الوالد، وعرض الغلام على طبيب. ونصح الوالد أن يصحب ولده المريض إلى الشاطئ لعله يهدأ، وفعل ما نصح به، لكن دهشة الوالد كانت على أشدها، حين استمع إلى عجلات القطار فوق القضبان، فإذا بها وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم ...
هذه صورة، وفي صورة ثانية، صب الكاتب سخرية هي أمر السخرية بمن كانوا يلوكون في أفواههم كلمة «الشعب» ومصالح الشعب، حتى إذا ما انكشفت له حقيقة الأمر، وجد هؤلاء السادة في واد، وجموع الشعب الحقيقي في واد آخر. وفي سبيل تصويره لهذه المفارقة، صور قرية على قمة جبل يرتفع برأسه فوق مستوى السحاب؛ فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب منسابا فوق رءوسهم، فأهل تلك القرية العالية ينظرون إلى السحاب تحت أقدامهم. وكانت طبقات السحاب دائما من الكثافة بحيث يتعذر على ساكن القمة أن يرى شيئا مما يقع في أسفل الجبل. ولقد أتيح للكاتب الرحالة أن يقضي يوما في قرية السادة، فإذا هي هادئة الطرقات، ومعظم دورها مغلق النوافذ والأبواب، فلا يدري السائر في الطريق من بواطنها لا قليلا ولا كثيرا، لكن صاحبنا الكاتب الرحالة لم يلبث أن وقع في تلك القرية على نشاط عجيب وراء الجدران؛ فما إن فتحت له الأبواب، حتى جاءته من الداخل أصوات كالرعود، وضجة لا يكاد يميز فيها بين متحدث ومتحدث، لكن كلمة «الشعب» لم يخطئها سمعه وسط الضجيج المختلط؛ لأنها كانت أكثر الكلمات دورانا على ألسنة المتكلمين. وعجب الكاتب الرحالة بينه وبين نفسه: أي شعب يا ترى؟ إنه لم ير في طرق القرية شعبا، وكان كل ما رآه بيوتا نظيفة جميلة، وعددا قليلا من المارة، اتسموا جميعا ببدانة الأجسام، واسترخاء الأطراف، وبطء الحركة، فلم يسع كاتبنا الرحالة إلا أن يسأل من وقف إلى جانبه: أين الشعب هنا؟ فأجابه في استنكار قائلا: شعب؟ ليس الشعب هنا على القمة؟ إنه هناك على السفح عند أسفل الجبل.
Shafi da ba'a sani ba