ولكن ما هي سمات هذه التجربة التي يتعين علينا أن نفهم الإبداع الفني من خلالها، والتي يبدو أنها ستظل هي المفهوم الرئيسي المستخدم في هذا المجال طوال فترة غير قصيرة من الزمان؟
إن المحور الذي يدور حوله أي فهم سليم للتجربة الجمالية هو مفهوم الانتباه؛ فالتجربة الجمالية هي - قبل كل شيء - انتباه مستغرق في موضوع معين، ننصرف فيه إلى إدراك القيمة الكامنة في هذا الموضوع، ونتلقاها كاملة في حضورها المباشر. هذا التحديد لطبيعة التجربة الجمالية من خلال فكرة الانتباه يؤدي إلى استبعاد مجموعة من المفاهيم التي ظلت طويلا ترتبط بهذه التجربة في أذهان الكثيرين، ومن خلال عملية الاستبعاد هذه يمكننا أن نفهم على نحو أفضل ماهية التجربة الجمالية وعلاقتها بالخلق الفني.
وأول المفاهيم التي تؤدي الطريقة السابقة في تحديد التجربة الجمالية إلى استبعادها - أو على الأقل إزاحتها عن مكانتها المركزية - هو مفهوم الانفعال؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أن الوسيلة الرئيسية لتحديد طبيعة التجربة الجمالية هي تفسيرها من خلال ما تثيره من الانفعال، ولكن الشواهد التجريبية ذاتها تثبت أن الموضوع الفني الواحد يمكن أن يثير انفعالات متباينة في أشخاص مختلفين. وربما في الشخص الواحد خلال حالاته المختلفة، وهذه الشواهد ذاتها تكشف عن حالات لأشخاص لا يشك أحد في مكانتهم الفنية، ولا يكون للانفعال تأثير واضح في تجاربهم الجمالية، فهناك موسيقيون - قد لا يكونون كثيرين ولكنهم موجودون - يؤلفون بلا انفعال، وهناك شعراء يكتبون بلا انفعال، دون أن يكون غياب عنصر الانفعال مؤديا بالضرورة إلى الإقلال من قيمة ما ينتجون. وفي الطرف الآخر يوجد أولئك الذين لا يبحثون في العمل الفني إلا عن إثارة انفعالاتهم، وهؤلاء هم الذين لا يرون في الصفات الموضوعية للعمل الفني إلا وسيلة رمزية لبعث مشاعر معينة في النفس، مما يؤدي بهم إلى عدم الاهتمام بهذه الصفات الموضوعية، وإلى تركيز اهتمامهم على أنفسهم، أمثال هؤلاء المتذوقين يرتدون دائما إلى أنفسهم، وينظرون إلى مرآتهم الداخلية في الوقت الذي يبدون فيه وكأنهم يتأملون العمل الفني الخارجي، وما العمل الفني في نظرهم إلا ذريعة أو مناسبة لإثارة انفعالاتهم النفسية. وهذا النمط لا يمكن أن يقال عنه: إنه قادر على تذوق الفن في ذاته تذوقا سليما؛ ومن ثم فهو أشد عجزا في ميدان الإبداع؛ على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن التجربة الجمالية لا صلة لها بالانفعال؛ فالانفعال مرتبط بهذه التجربة في معظم الأحيان. ولكنه يكون في هذه الحالة نتيجة للتجربة. وليس هو المحور الأساسي الذي تدور حوله.
وهناك مفهوم ثان ينبغي استبعاده من مجال التجربة الجمالية، هو مفهوم الإدراك السلبي، فالذهن أثناء التجربة الجمالية لا يكون متلقيا سلبيا للموضع، يستقبله على ما هو عليه دون أي تدخل من جانبه. بل إن الذهن يشارك إلى حد غير قليل في تحديد طريقة إدراكه للقيم الموجودة موضوعيا في العمل الفني، ولا يمكن أن توصف حالة التلقي السلبي بأنها هي الحالة المثلى للتذوق في الفنون. بل إن الشخص الخبير يعرف أن الفن لغة خاصة تحتاج إلى مران وجهد وفهم، وتقتضي نوعا إيجابيا من الانتباه. أما الإدراك السلبي فيندر أن يوصل إلى شيء.
وربما تصور البعض أن تأكيد سمة المشاركة الإيجابية من جانب متلقي الفن في فهم صفات الموضوع الفني، يعني أن هذا المتلقي يضيف من عنده عناصر تزيد من قيمة الموضوع. ولكن الواقع أن القيم التي ينبغي أن نشارك إيجابيا في إدراكها هي - كما قلنا من قبل - القيم «الكامنة» في الموضوع نفسه، ومعنى ذلك أنه ليس مطلوبا ولا مرغوبا من متذوق العمل الفني أن يخرج عن إطار هذا العمل إلى حد تشتيت انتباهه في أمور خارجة عنه، يضيفها من معلوماته الخاصة أو من ذكرياته السابقة، معتقدا أنه يزيد بذلك من قيمة هذا العمل؛ فالعمل نفسه ينبغي أن يظل محور التجربة الجمالية وكل ما يخرج عن نطاق العلم لن تكون له قيمة إلا بقدر ما يرتد آخر الأمر إلى العمل نفسه ويلقي ضوءا عليه.
وهنا يتضح الفارق الأساسي بين نوع الانتباه الذي تتطلبه التجربة الجمالية، ونوع الانتباه الذي نحتاج إليه في حياتنا اليومية، فهذا النوع الأخير من الانتباه غالبا ما يكون غير مكتمل، نكتفي فيه بإدراك وجه واحد من أوجه الموضوعات التي نتعامل معها؛ فحين أقول: إنني رأيت صديقا يمر أمامي، قد لا يكون ما رأيته بالفعل مجرد لون مميز لملابسه، أو طريقته الخاصة في المشي، وهذه العناصر البسيطة وحدها تكفي لتحقيق هدف هذا النوع من الإدراك . أما في إدراك العمل الفني فنحن لا نكتفي بهذا الاختزال، وإنما نستغرق في الموضوع استغراقا تاما، ولا نتخذه مجرد علامة لتحقيق هدف آخر.
وهذا يعني أن التجربة الفنية متجردة عن المنفعة، وأنها تأمل مقصود لذاته، لا من أجل أي غرض عملي. صحيح أننا نسمع عن أطماع أو منافسات تدب بين الفنانين، ونعرف أن الفن يستغل كثيرا لأغراض تجارية. غير أن هذه كلها ظواهر تقع على هامش الفن ولا تنتمي إلى صميمه، وإذا أصبحت لها السيطرة في حالة فنان معين، أصبح هذا الفنان في نظرنا مزيفا مفتقرا إلى الأصالة.
ومع هذا كله، فلا بد من الاعتراف بأن الوصول إلى حالة من التجرد التام عن المنفعة أو الهدف العملي، ونسيان الذات من أجل الاستغراق في الموضوع، والامتناع عن اتخاذ الموضوع الفني وسيلة للعبور إلى موضوعات أخرى تتداعى معه في أذهاننا، هو في حقيقة الأمر مثل أعلى يصعب تحقيقه، فهو يقتضي اهتماما وجهدا هائلا، وتدريبا طويلا شاقا، ونادرا ما يكون في وسعنا الوصول إليه؛ إذ إننا نجد من الأيسر دائما أن نعود إلى أنفسنا ونتأمل الموضوع الفني من خلال انعكاساته على حالاتنا النفسية، أو أن نهرب من التركيز على العمل نفسه إلى موضوعات أخرى سبق أن دخلت نطاق تجربتنا وأصبحت مألوفة لدينا ومريحة لنا. وفضلا عن ذلك فإن هذا التركيز الشديد يبدو في نظر الكثيرين متعارضا مع هدف التجربة الجمالية، وهو في نظر هؤلاء هدف يرتبط بالترويج عن النفس وتخفيف توتراتها، فكيف يراد مني أن أركز انتباهي وأضيف مزيدا من الجهد إلى ما أقوم به فعلا في حياتي اليومية، مع أنني أريد من الفن أن يريحني، وأن يزيل ما أعانيه من توتر؟ تلك هي الاعتراضات التي تكمن من وراء المقاومة التي يلقاها كل اتجاه فني جديد لا يدخل بسهولة في نطاق تجاربنا المريحة المألوفة، وأبسط رد عليها هو أنها تفترض أن الفن وسيلة لغاية أخرى، هي الراحة من عناء الحياة، مع أن الموقف الذي ندافع عنه يعد الفن غاية في ذاتها، وتجربة أصيلة لا تستخدم لخدمة أي غرض آخر.
هذه النظرة إلى التجربة الفنية على أنها غاية في ذاتها، يترتب عليها مباشرة القول باستقلال التجربة الجمالية عن سائر التجارب التي نمر بها في حياتنا المعتادة. غير أن استقلال هذه التجربة، وكونها فريدة في نوعها، لا يعني على الإطلاق أنها منقطعة الصلة بالحياة. صحيح أنها توصف أحيانا بأنها دخول إلى عالم جديد لا صلة له بعالم الحياة اليومية، وبأنها تخلق عالمها الخيالي الخاص الذي يتسم بأبعاده ومقولاته الفريدة، والذي لا يكاد يتصل بعالمنا هذا على الإطلاق. غير أن من الواجب ألا نبالغ في الفصل بين التجربة الفنية وبين الحياة المعتادة؛ إذ إن التجربة الفنية ليست آخر الأمر إلا تكثيفا وإثراء للتجارب الإنسانية بوجه عام؛ فالفن هو خلاصة الحياة وقد تركزت وتبلورت في لوحة أو قصيدة أو نغم، وما يبدو في نظر البعض فارقا كبيرا بين التجربة الفنية وتجربة الحياة المعتادة إنما يرجع - في واقع الأمر - إلى ما تتسم به الأولى من تركيز شديد، ومن قدرة على تلخيص الحياة واختزال عناصر كثيرة منها في عمل عظيم واحد.
ونتيجة لوجود رأيين متعارضين يرى أحدهما الفن منفصلا عن الحياة ويراه الآخر مرتبطا بها أوثق الارتباط، أصبح ينظر إلى الفن تارة على أنه هروب من الحياة وتارة أخرى على أنه أعظم مظاهر الحيوية والإقبال على الحياة في الإنسان، وأغلب الظن أن السبب الذي عد من أجله الفن هروبا من الحياة، هو أنه يكسب الفنان حرية وانطلاقا لا يجدهما في حياته الواقعية بما تخضع له من قوانين صارمة؛ فالفنان يضع لنفسه قوانينه الخاصة، ثم يخرج عنها كما يشاء، وهو يشكل عالما لا يخضع إلا لإرادته. وربما استخدم حريته هذه على سبيل التعويض عن القهر الذي يعانيه في عالم الواقع؛ ومن هنا لم يكن من الخطأ القول: إن تحرر الفنان وانطلاقه يتناسب تناسبا عكسيا مع تحرر الجو الذي يعيش فيه الفنان؛ فالقهر الاجتماعي يدفع الفنان إلى مزيد من التحرر والخروج عن القواعد، وعلى الرغم من أن هذه ليست قاعدة عامة ، فإنها تصلح لتعليل ذلك الخروج الزائد عن المألوف، والتحرر الذي يتخذ غاية لذاته، الذي يتسم به فن القرن العشرين، ذلك القرن الذي أصبحت فيه الضغوط الاجتماعية تتحكم في الإنسان بقوة لم يعرف لها من قبل نظير. ومع ذلك فإن هذا الهروب من القواعد هو ذاته تعبير عن موقف معين من الحياة، هو موقف الرفض؛ ومن ثم فهو يعد بهذا المعنى تلخيصا وتركيزا لما ينبغي عمله إزاء نوع الحياة الذي يعيشه الفنان. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى الحقيقة التي نحرص على تأكيدها في ختام هذا البحث؛ وهي أن فردانية التجربة الفنية لا تعني استقلالها التام عن الحياة وانفصالها عن المجرى العام للتجربة الإنسانية.
Shafi da ba'a sani ba