ومن ناحية أخرى، فإن ارتباط الخلق الفني بالخيال لا بد أن يؤدي بالعلم إلى أن يلتزم الحذر التام في التعامل معه؛ ذلك لأن العلم لا يستطيع أن يجد لديه وسيلة أو منهجا يتمكن به من حفز الخيال وإثارته، بل يبدو أن الخيال يتبع مسار التلقائي الخاص الذي لا شأن لقوانين العلم به؛ على أن عجز العلم عن فهم الخيال يدل على أن العلم لا يستطيع أن يفهم الأصول التي ظهر هو ذاته بها؛ ذلك لأن قدرا كبيرا من الأفكار العلمية الرئيسية قد تم إبداعه عن طريق الخيال، وعلى الرغم من ذلك فإن العلم حين يتحدث عن هذا النوع من الخيال الذي أدى إلى ظهور نظرياته الهامة، فإنه يفعل ذلك على استحياء، وكأنه يخوض أرضا محرمة؛ فالعلم يركز اهتمامه على النتائج النهائية لعملية الكشف العلمي. أما كيفية ظهور هذه النتائج، ونوع العمليات التي كانت من ورائها، والتي أدت إليها، فهذا ما يعجز العلم عن الحديث عنه، ما لا يبدي به اهتماما كبيرا.
ومما يزيد من صعوبة المعالجة العلمية للخلق الفني، أن هذا الخلق لا يتمثل على نمط واحد، فهناك فنانون ينبثق لديهم العمل الفني بسهولة ويسر، ولا يبدو أنهم قد بذلوا فيه جهدا كبيرا، وذلك على مستوى الوعي على الأقل، وهناك فنانون آخرون لا يتم الخلق الفني لديهم إلا بعد جهد ومعاناة شديد، وبعد محاولات متعددة يعيدون فيها إنتاج عملهم ويدخلون عليه تعديلات وتحسينات لا حصر لها، إلى أن يصل إلى تلك المرحلة التي يرضون فيها عنه، ويزداد الأمر تعقيدا حين نعلم أن هذا الاختلاف في أنماط الخلق الفني لا ينعكس على الأعمال ذاتها، بمعنى أن العمل الذي استغرق الفنان في إعداده فترة طويلة، والذي مر بتغييرات وتعديلات متعددة، لا ينم - بعد أن يكتمل - عن هذا الجهد على الإطلاق، بل يبدو - في حالة كثير من الأعمال الكبرى - كما لو كان الفنان قد أبدعه بيسر وطلاقة ودون أي قدر من المعاناة. ومن ناحية أخرى فإن يسر الخلق الفني أو عسره لا يرتبط بقيمة العمل الناتج عنه، فليس العمل الذي ينتج في يسر أفضل بالضرورة من ذلك الذي ينتج بجهد ومعاناة. بل إن بعضا من أعظم الأعمال الفنية كان الجهد الخلاق فيه شديد البطء والتردد. على حين أن الانطلاق والتلقائية قد يؤديان أحيانا إلى السطحية في الإنتاج. ومجمل القول: إن العلم حين يتصدى لظاهرة الخلق الفني لا يجد أمامه نمطا واحدا يخضع لنوع واحد من الدراسة والتحليل، بل يجد أنماطا متباينة لا تخضع لقاعدة واحدة.
ولقد كانت المحاولات العلمية التي بذلت من أجل الكشف عن القدرات المرتبطة بالإبداع الفني، تتجه إلى الربط بين الإبداع وبين صفات نفسية معينة، أهمها القدرة على الجمع بين عناصر منفعلة في إطار موحد؛ فالإبداع - تبعا لهذا الرأي - هو إيجاد وحدة جديدة تعمل على تبسيط العلاقات القائمة بين الأشياء، وأساس الإبداع اتجاه إلى الوحدة والتكامل والتوافق، بحيث إن من المستحيل أن ينتج الإبداع أجزاء أو فتات غير متصلة أو مترابطة. وهذا الرأي يصدق بالفعل على أنواع متعددة من الإبداع، وخاصة في ميدان الكشف العلمي. ولكنه يبدو غير كاف في حالة الفن على وجه التخصيص؛ ذلك لأن الخلق الفني يتضمن إضافة جديدة إلى التجربة، ولا يمكن إرجاعه إلى بعث الوحدة في العناصر المشتتة للتجربة، ومثل هذا يقال عن مختلف المحاولات التي تربط بين الإبداع الفني وبين القدرة على «حل المشكلات»؛ لأن هناك فارقا في النوع - لا في الدرجة فحسب - بين حل المشكلات وإعادة ترتيب العناصر الموجودة قبلا بطريقة فعالة، وبين ذلك الخلق الجديد الذي هو أهم ما يميز الإبداع في الفن.
وإذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن عدم كفاية المحاولات التي بذلها العلم من أجل فهم ظاهرة الخلق الفني، فمن الواجب أن نذكر أن الفن - من جانبه - قد أسهم بنصيب غير قليل في إبعاد العلم عن مجاله الخاص؛ ذلك لأن الفنان ينفر بطبيعته من التحليلات العلمية، ويتصور أن العلم إذا اقتحم مجاله الخاص فسوف يشوهه ويحيله إلى موضوع للتشريح والتحليل، والفنان بطبيعته فردي النزعة، يؤمن بأصالة إنتاجه وبأن كل ما يصدر عنه غير قابل للتكرار، بينما العلم يبحث عن قوانين وأنماط عامة لا شأن لها بما هو فردي، ويستبدل بالحرارة والحساسية المرهفة نظرة موضوعية باردة تستبعد كل اتجاه إلى التفضيل وكل نزوع إلى تأكيد الفوارق والاختلافات الفردية.
وهكذا نجد بين الفن والعلم نوعا من عدم الثقة المتبادلة، كانت نتيجته أن كلا منهما سار في تطور مستقل، دون أن يحدث بينهما تفاعل حقيقي، فمنذ أوائل العصر الحديث ظل العلم يحرز نصرا تلو الآخر، واستطاع أن يفتح أمام الإنسان آفاقا من الفهم ومن السيطرة على العالم لم يكن يحلم بها. وفي الوقت ذاته أخذ الفن يؤكد ذاته بوصفه نشاطا إنسانيا رفيعا، وتوالت مذاهبه واتجاهاته وتعددت وازدادت عمقا وتعقدا. ولكن مسار كل منهما ظل مستقلا عن الآخر، واتجها معا في خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في أندر الأحوال؛ إذ إن العلم ظل ينظر إلى الإبداع الفني على أنه عملية خارجية عن مجاله، والفن ظل يترفع على التحليل العلمي ويأبى الخضوع له.
ويمكن القول: إن هذا النمو المتوازي للعلم والفن من أهم سمات العصر الحديث، وهو سمة تركت تأثيرها في كيان الإنسان ذاته؛ ذلك لأن عصرنا هذا إنما هو عصر التقدم الهائل للعلم والفن، ولكن بغير تفاعل أو التقاء بينهما، فهناك ازدواج حاد في الحضارة الحديثة بين شق علمي وشق فني، ترتب عليه بالضرورة ازدواج مناظر داخل الإنسان ذاته، فلم يقتصر الأمر على تباعد العالم والفنان كل عن الآخر. بل إن الإنسان الواحد أصبح ينظر إلى نفسه على أنه يشتمل على جانبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما: جانب عقلي يسيطر عليه العلم ، وجانب خيالي إبداعي يسيطر عليه الفن، هذه الازدواجية تحول دون تحقيق أي انسجام بين جوانب حياة الإنسان المختلفة، وتجعل من المستحيل ضم حياة الإنسان كلها في وحدة متكاملة تجمع بين دقة المنهج العلمي وحساسية الخيال الإبداعي، ولو تأملنا العصر الحديث في نظرة شاملة؛ لجاز لنا أن نقول: إن قدرا كبيرا من مشاكله إنما يرجع إلى هذه الثنائية الحادة التي فرضها الإنسان على نفسه بين عقله العلمي وحساسيته الإبداعية؛ إذ إن العلم قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بحساسية الروح، والفن قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بموضوعية العقل، واستحل كل منهما لنفسه - في مجاله الخاص - ما يحرمه الآخر وينهى عنه، كل ذلك مع أن الهدف واحد وأرض الصراع واحدة وهي النفس البشرية.
والنتيجة الواضحة التي تفرض نفسها حتما بعد هذا التحليل هي أن محاولة فهم الخلق الفني من خلال العلم ما زالت حتى الآن تتعثر، وما زال من الصعب استيعاب هذا الخلق بواسطة المفاهيم العلمية وحدها، وإن لم يكن من المستحيل أن نتصور مجيء يوم يتحقق فيه اندماج أكبر بين العلم والفن. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن الطريق الذي يوصلنا إلى قلب الفن لا بد أن يكون طريقا آخر. (2) الخلق الفني والتجربة
هذا الطريق الآخر هو النظر إلى الفن على أنه تجربة. والواقع أن الذهن البشري قد اعتاد - في أمور كثيرة - أن يضع هذا التقابل بين ما هو موضوع للعلم وما هو موضوع للتجربة؛ فكل ما يعجز الإنسان عن تفسيره علميا، يتناوله على أنه موضوع للتجربة، وكل ما يعتقد الإنسان أنه أرفع من أن يفهم من خلال العلم، يدرجه ضمن الموضوعات التي تجرب مباشرة. وكلما كانت تجربة الإنسان أشد حرارة وأصالة، اتجه إلى أن ينأى بها عن مقولات العلم وقوانينه، وإلى أن يجعل منها شيئا فريدا يجل عن الوصف. ولقد قيل الكثير من قبل عن تجربة المتصوف، وكيف أنها تسمو على الفهم العقلي والمنطق، ولا يتذوق إلا من يمر بها، وقيل الكثير أيضا عن تجربة الحب التي لا تخضع للتحليل ولا تنطبق عليها قاعدة أو قانون، وإنما هي معاناة أصيلة لا يعرفها إلا من يكابدها، ومثل هذا يقال أيضا عن تجربة الفنان؛ فهي تجربة يقتلها التحليل والتشريح العلمي، وهي علاقة من نوع فريد بين الفنان وموضوعه، لا سبيل إلى وصفها. بل إن الوسيلة الوحيدة لمعرفتها هي الممارسة.
ولكن، ما الذي يميز التجربة والمعاناة - بالمعنى الذي حددناه - عن المعرفة العلمية؟ إن الفارق الحاسم هو أن المعرفة العلمية تفترض نوعا من التوسط، على حين أن التجربة مباشرة، فحين يمر المرء بتجربة عاطفية - مثلا - يشعر شعورا مباشرا بالانفعالات المرتبطة بهذه التجربة، ولا يحتاج إلى أي وسيط لكي يفهم ما يحس به. بل إنه قد يشوه تجربته ويسيء إليها لو بدأ في استخدام اللغة في التعبير عنها، وحاول أن يصف ما يمر به لشخص ثالث؛ فالعلاقة هنا مباشرة بين الطرفين. أما في حالة المعرفة العلمية فلا بد من وسيط بين العارف وموضع معرفته، وهذا الوسيط قد يكون هو اللغة العادية أو اللغة الرياضية أو المفاهيم العلمية المصطلح عليها أيا كانت، ويترتب على وجود هذا الوسيط أن المعرفة العلمية قابلة بطبيعتها للتداول. بل إن قيمتها إنما تكمن في قدرتها على إقناع أكبر عدد من الأذهان ومخاطبيها بلغة مشتركة يفهمها ويقتنع بها الجميع. أما التجربة الفنية فهي وإذا أصبحت تجربة متداولة فإن وقعها يغدو مختلفا في كل حالة عن الأخرى.
على أن هذا الاختلاف الأساسي لا يعني بالضرورة أن العلم يدير ظهره للتجربة الفنية ويستبعدها من قاموسه؛ ففي حالات معينة يقدم العلم تفسيرات لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت هذه التجربة - بكل ما تتصف به من فردانية وأصالة - مفترضة ضمنا، فعلم النفس مثلا يعترف بدور اللاشعور في الخلق الفني. وحين يحاول أن يقترب من مجال اللاشعور - مستخدما لغة شبه علمية - يذكر أن ما يتم في اللاشعور هو نوع من «اختمار» الفكرة، يمهد الطريق لتدفق مفاجئ للإبداع. ولكن الشرط الأساسي لحدوث هذا «الاختمار». وهذا النضج البطيء غير الواعي، هو أن يكون الفنان مهتما بموضوعه ومنشغلا به، وإن طغى عليه الرغبة في التعبير عن نفسه من خلال وسيطه الفني الخاص، فلا يمكن أن يؤدي اللاشعور دوره في الإعداد لخلق فني مفاجئ إلا بالنسبة إلى شخص يستغرق الموضوع الفني قدرا كبيرا من تفكيره الواعي، ويشغل وقته وجهده به. هذا ما يقول علم النفس حين يحاول تجاوز نطاق الغموض الذي ظل طويلا يشوب كل ما يقال من عملية الإبداع الفني. ولكن هذا الاهتمام الدائم، والانشغال الذي لا ينقطع بموضوع معين، هو ذاته الذي يسميه الفنان تجربة ومعاناة مباشرة، فعلم النفس - في بعض اتجاهاته على الأقل - يفترض وجود تجربة أصيلة لدى الفنان، ويجعل من هذه التجربة بكل صفاتها المألوفة جزءا لا يتجزأ من عناصر التفسير الذي يقدمه للإبداع الفني، ومن شأن هذه الحقيقة أن تؤدي إلى تضييق الهوة بين المعالجة العلمية الخالصة للخلق الفني، وبين معاملته على أنه تجربة فريدة تأبى الخضوع لمنطق التحليل العلمي.
Shafi da ba'a sani ba