phenomenalism
والقائل: إن الموضوعات الأولية المؤكدة للمعرفة هي «الانطباعات» المباشرة في التجربة الحسية الخارجية أو في التجربة الاستنباطية الداخلية. أما ما نسميه بالأشياء أو الجواهر، فما هي إلا إضافات ميتافيزيقية لا تبررها تجاربنا المعرفية المباشرة، ولا سبيل لأصحاب هذا المذهب - مهما بذلوا من محاولات - إلى أن يتخلصوا من شبح مذهب الذات الوحيدة
Solipsism
الذي يهددهم على الدوام، والحق أن بيرسن - على خلاف كثير من القائلين بهذا النوع من المذهب الظاهري - لم يحاول كثيرا أن ينفي عن نفسه شبهة الذاتية المطلقة؛ إذ إن تشبيهه للذات بعامل «التليفون» الذي أقفل على نفسه أبواب «كابينة» ولم يعرف عن العالم الخارجي إلا ما يأتيه خلال الأسلاك القريبة منه من أصوات. هذا التشبيه يكاد يكون اعترافا صريحا بالمثالية الذاتية التي يتردى فيها كثير من المفكرين، الذين يتصورون في بداية الأمر أنهم هم وحدهم القادرون على محاربة المثالية والدفاع عن العلم ضد هجماتها عليه. ولا جدال في أن هذه الحجة يمكن أن تستخدم سلاحا ذا حدين؛ إذ إننا نصف بالحمق والجنون عامل «التليفون» الذي يتوهم أنه هو وحده الموجود، ومعه الأسلاك القريبة منه، وأن العالم الخارجي والناس ليسوا إلا انطباعات حسية تأتي من الأسلاك فحسب، فوجود انطباعات من هذا النوع لا يفسر إلا بعالم خارجي يبعثها، وكذلك الحل في انطباعاتنا التي نعجز قطعا عن تفسير مصدرها في ظل أي مذهب يجعل من هذه الانطباعات حقيقة نهائية لا يقوم وراءها شيء. وهكذا يقع أصحاب هذه الآراء في سلسلة من الأخطاء التي يعجزون تماما عن التخلص منها كالقول إن مصدر الانطباعات المباشرة مجهول أو يستحيل أن يكون موضوعا للمعرفة، والعجز عن تعليل السبب الذي جعل بعض الانطباعات مباشرة، وبعضها الآخر غير مباشرة، والقول: إننا نقوم «بإسقاط» انطباعاتنا خارجنا، وكأن هذه العملية الأولية البسيطة - عملية إدراك الموضوعات الخارجية - هي في حقيقتها عملية إرادية كان يمكن أن تتم على نحو مخالف! ومن المؤكد أن الصورة النهائية التي يكونها أصحاب هذا المذهب للعالم أعقد ألف مرة من الصورة التي يكونها عنه الإنسان في موقفه الطبيعي، وأكثر تناقضا منها إلى حد بعيد.
ولقد دأب بيرسن طوال الكتاب على تأكيد أن «الميتافيزيقيين» هم مصدر الاعتقاد بوجود أشياء خارجية، مع أن هذا الاعتقاد ملازم للإنسان في حياته العادية دون أي تفكير ميتافيزيقي، فهو جزء لا يتجزأ من موقف الإنسان الطبيعي في هذا العالم، وترتب على هذا الخطأ الأساسي خطأ آخر، هو الاعتقاد بأن التجربة الأصلية هي تجربة إدراك الانطباعات الحسية المباشرة، كالألوان والأصوات والطعوم ... إلخ، على حين أن إدراك «الأشياء» هو استنتاج لاحق لا مبرر له، ومن المؤكد أن أبسط قدر من التفكير كفيل بأن يقنعنا بأن تجربة إدراك الانطباعات هي التي ينبغي أن توصف بالتعقيد، على حين أن تجربة إدراك الأشياء المتكاملة هي الأكثر أولوية وأصالة، «فتجربة الإنسان الفعلية ليست ألوان وطعم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة . وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه، لا أخطاء الإنسان البدائي، أو التفكير قبل العلمي. أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة، التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور.»
19
وفضلا عن ذلك، فقد تصور بيرسن أن صورة العالم قد اختلفت نتيجة للفكرة السابقة القائلة: إن انطباعاتنا المباشرة هي المصدر الوحيد لمعرفتنا. وهكذا تحدث مرارا عن معرفتنا التي «تقتصر» على الانطباع ولا تتجاوزه. ومع ذلك فإن كل ما أتى به في هذا الصدد إنما هو لغة أخرى تصف نفس العالم الذي يقول به الماديون والمثاليون معا؛ فالجديد الذي أتى به - هو وغيره من أصحاب هذا المذهب - إنما هو إحلال لغة الانطباعات الحسية محل لغة الأشياء، على حين يظل العالم نفسه كما هو، ويظل محتوى المعرفة دون أي تغير،
20
أما أننا سنفلح يوما ما في وضع لغة علمية يستعاض فيها عن «الأشياء» بانطباعاتنا الحسية المباشرة، فهذا ما أشك في إمكان تحقيقه، فضلا عن أنه لو تحقق لكانت اللغة الناتجة أعقد كثيرا من اللغة المألوفة، ولما أحرزنا بذلك التغيير أي تقدم في فهم العالم. •••
ولنتساءل بعد هذا البحث في الأسس الأولية لفلسفة بيرسن: لماذا يحمل هذا الكتاب على فكرة التفسير، ويدعو إلى اتخاذ الوصف هدفا وحيدا للبحث العلمي؟ وعلى أي أساس يدعو إلى الاستغناء عن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» والاستعاضة عنها بأسئلة وصفية تبدأ بكلمة «كيف»؟ في وسعنا أن نستخلص من كتاب «أركان العلم» عدة إجابات على هذا السؤال، فلنحلل كلا منها لنرى مدى صحتها أو بعدها عن الصواب: (1)
Shafi da ba'a sani ba