ومن الشائع أن توصف المادة بأنها صلبة وغير قابلة للاختراق، وهاتان بالفعل صفتان تتميز بهما مجموعة كبيرة من أفراد فئة الانطباعات الحسية المسماة بالمادية. غير أنهما لا تنتميان بالضرورة إلى كل أفراد هذه الفئة؛ فالصلابة وعدم القابلية للاختراع أمران نسبيان، ولا يدلان على صفة مطلقة تنتمي إلى عالم الواقع. أما القول بأن المادة تتميز بالدوام والبقاء، فهو - في رأي بيرسن - قد يكون راجعا إلى استمرار الانطباعات الحسية لا إلى استمرار شيء غير مدرك من وراء هذه الانطباعات، وهو يضرب في هذا الصدد مثلا بالموجة؛ فعندما نرى الموجة تتحرك في البحر ، تتكون لدينا عنها انطباعات حسية متماثلة ومستمرة؛ بحيث يبدو لنا أن «نفس» الموجة هي التي تتحرك، وهي التي تقترب منا. ومع ذلك فلو ألقينا فيها قطعة من الفلين لارتفعت وانخفضت في نفس الموقع عندما تمر الموجة بها، ولما انتقلت معها، مما يثبت أن الموجة ليست هي نفسها التي تتحرك. وهكذا قد تظل الموجة محتفظة بشكلها، وتتكون لدينا عنها نفس المجموعة من الانطباعات الحسية. ومع ذلك يكون أساسها أو مادتها متغيرا على الدوام. وبعبارة أخرى: فإن تماثل الانطباعات الحسية لا يعني في كل الأحوال تماثل المادة الأساسية المكونة لها.
ولعل مما يلفت النظر حقا أن بيرسن يهاجم فكرة المادة - بمفهومها الشائع - على أساس أنها تفتح الباب لكل الخرافات الميتافيزيقية التي يبذل العلم جهدا كبيرا لكي يتخلص منها،
17
وهو بطبيعة الحال لا يقصد أن المادية مذهب لاهوتي. ولكنه يربط بين الاعتقاد بالمادية وبين الاعتقاد بما وراء الحس؛ إذ إن المادة هي العنصر الدائم من وراء تغيرات الانطباعات الحسية؛ فحينما نقول بمادة خارجية «تسبب» الانطباعات المحسوسة، نتجاوز نطاق الحقيقة الوحيدة التي يجوز لنا الاعتراف بها، وهي هذه الانطباعات، فنكون في ذلك أشبه بالميتافيزيقيين أو اللاهوتيين في شطحاتهم التي يتجاوزون بها عالم الواقع، ويفترضون بها كيانات ليس لوجودها أي مبرر؛ فالمادية إذن - في رأي بيرسن - تسير في نفس الطريق الذي تسير فيه المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية، وهي مضادة أساسا للروح العلمية السليمة، وقد وصفت هذا الرأي بأنه ملفت للنظر؛ لأن فيلسوفا آخر ينتمي إلى نفس التراث الإنجليزي الذي ينحدر منه بيرسن - وهو الفيلسوف باركي - قد هاجم المادية لأسباب مضادة تماما، هي أنها تفتح الطريق للإلحاد، وتسد الطريق أمام الإيمان الديني. ومن المؤكد أن الذهن الفاحص يستطيع أن يستخلص دلالات كثيرة عميقة من هذه المقارنة بين فيلسوفين ينتميان إلى تراث فكري واحد، يحارب أحدهما المادية دفاعا عن الدين، ويحاربها الآخر دفاعا عن العلم! (9) الأفكار الفيزيائية الحديثة
فيما بين الطبعة الأولى (1892م) والطبعة الثالثة (1911م) لكتاب «أركان العلم»، حدثت ثورة كبرى في علم الفيزياء قلبت مفاهيمه الأساسية رأسا على عقب، ولم يكن من السهل على من يكتب في العقد الأول من القرن العشرين أن يدرك الأهمية الهائلة لنظرية النسبية وللكشوف الضخمة في ميدان الذرة والكهرباء والمغناطيسية؛ ومن هنا فلم يكن في استطاعة بيرسن، بل لم يكن من المنتظر منه، أن يتمكن في الفصل الذي أضافه في الطبعة الثالثة عن المفاهيم الفيزيائية الحديثة، من استيعاب هذه المفاهيم وإدراك دلالاتها في نفس الوقت الذي كان يجري فيه تعديلها بسرعة لاهثة، ومبعث الطرافة في هذا الفصل هو أنه يمثل رأي عالم تكونت معظم أفكاره في ظل المفاهيم القديمة لعلم الفيزياء، ويكشف عن وقع هذا الانقلاب الضخم في أذهان علماء ذلك العصر.
ويلخص بيرسن رأيه في التغيير الشامل الذي طرأ على علم الفيزياء بقوله: «على حين أنه خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر مفهوم «المادة» هو الذي يعد أساسيا في علم الفيزياء، وكانت لهذه المادة خاصة غير مألوفة تسمى بالكهرباء، فإنه يبدو اليوم أن الكهرباء ينبغي أن تعد أهم من المادة، بمعنى أن ما كنا نعده مادة أساسية ينبغي أن يتصور الآن على أنه شكل من أشكال ظواهر كهربائية عظيمة التعقيد»،
18
ولا جدوى هنا من تتبع آرائه التفصيلية التي يطبق بها الحكم العام على المفاهيم الفيزيائية المختلفة؛ إذ إن هذه الحركة كانت - كما قلنا من قبل - ما زالت في بدايتها، وإنما الذي يعنينا في هذا الفصل كله هو أن بيرسن وجد في هذه التطورات الفيزيائية الحديثة تأييدا لرأيه القائل: إن العلم لا يهتم إلا باختراع أنموذج تصوري يصف به مجرى انطباعاتنا الحسية، ولا شأن له بتقديم تفسير للعالم المدرك حسيا بالفعل، ففكرة الإلكترون - التي أصبحت هي الفكرة الأساسية في الفيزياء في ذلك العهد - ما هي إلا تركيب ذهني يستحيل أن يكون موضوعا مباشرا للإدراك الحسي، شأنها شأن سائر المفاهيم التي أدخلتها الكشوف الحديثة على علم الفيزياء. (10) تحليل نقدي للمذهب الوصفي عند بيرسن
ينتمي بيرسن إلى تلك الفئة من فلاسفة العلم، التي يؤكد أفرادها أن مهمة العلم تقتصر على الوصف لا التفسير، وأن لغة العلم ليست إلا رموزا مختزلة تنتمي إلى مجال الذهن وحده، وتتيح لنا أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية، فهو إذن ينتمي إلى تلك المدرسة الفكرية التي ترى أن العلوم - ولا سيما الفيزيائية - لا تستطيع أبدا الإجابة على أي سؤال تفسيري يبدأ بكلمة: «لماذا»؛ إذ إن مثل هذه الأسئلة لا يجاب عليها إلا إذا أمكننا أن نثبت أن الأشياء «يجب» أن تحدث أو أن العلاقات «يجب» أن تقوم بين الأشياء على نحو معين. غير أن المناهج التجريبية المستخدمة في العلم لا يمكنها أن تصل إلى إثبات أية ضرورة منطقية في الظواهر التي تتناولها هذه المناهج؛ ومن هنا فإن قوانين العلوم ونظرياتها، حتى لو كانت صحيحة؛ فهي لا تعدو أن تكون حقائق عارضة، من الوجهة المنطقية، تصف علاقات التزامن والتعاقب بين الظواهر. أما الأسئلة التي يستطيع العلم أن يجيب عليها بحق فهي تلك التي تبدأ بكلمة: «كيف»؛ أعني الأسئلة الوصفية التي تبحث في طريقة حدوث الظواهر وتعاقبها؛ فكل علم إذن يهدف - تبعا لوجهة النظر هذه - إلى تكوين نسق شامل متأمل من «الأوصاف» لا من التفسيرات.
هذه النظرية ترتكز على أساس فلسفي معروف، هو المذهب المسمى بالمذهب الظاهري
Shafi da ba'a sani ba