لم تمض أسابيع حتى مات حيدر، وتولى بيومي بما جمعه من كرام القرية نشر نعي حيدر بالأهرام بادئا الخبر بقوله: شيعت أمس جنازة فلان والد فلان؛ قاصدا أن يعرف الناس أن لعبد الشكور أبا وأنه ليس بآدم ولا حتى آدمي.
وغضب عبد الشكور من نشر الخبر فبادر يعلن أنه سيستقبل العزاء في جامع عمر مكرم دون مأتم، ووقف عبد الشكور في الموعد الذي حدده يتلقى العزاء على باب المسجد فيسلم المعزون عليه وينصرفون.
وأقام أهل القرية مأتما لحيدر لم يحضره عبد الشكور طبعا، ولو كان فكر أن يحضره لافترش الحصير على الأرض مع المعزين؛ فما كان أحد ليفكر أن يستأجر الكراسي ليستقبل عليها العزاء في رجل ابنه يملك أن يقيم له عشرين مأتما دون أن يمس هذا غناه الفاحش أي مساس.
ولم يعبأ عبد الشكور أن الأعيان الكبار من القرى المجاورة سيذهبون إلى المأتم الذي حدد نعي الأهرام مكانه؛ فقد كان هؤلاء الأعيان يدركون ما بلغه عبد الشكور من سلطان، وكانوا حريصين أن يتقربوا إليه إن لم يكن رجاء المنفعة فدفعا لمكروه من جانبه؛ فقد كانوا على تمام الدراية أنه يملك أن يفيد وأن يضر، وأنه كان دائما لحب الضرر أقرب. وكان الضرر الذي يوقعه قاتلا، ولما كانوا حريصين على الحياة فقد ذهبوا إلى المأتم متوقعين أن يجدوا عبد الشكور هناك ليأخذ العزاء في أبيه؛ فإن لم يأخذ الابن الوحيد العزاء في أبيه، فمن؟!
لم يجدوه، ووجدوا بعض أهل القرية يتقبلون العزاء، ووجدوا المعزين يفترشون الحصير على الأرض، حتى لم يجدوا كرسيا يجلس عليه قارئ القرآن الذي تبرع بإحياء المأتم بلا أجر.
والعجيب أن أحدا من هؤلاء الأعيان لم يجرؤ أن يخبر عبد الشكور أنه ذهب إلى المأتم مخافة أن يغضبه، وإن كان عرف كل ما جرى من أبو العلا عفيفي، ولم يهز الذي سمعه شعرة منه. •••
وبعد انتهاء المأتم لم تجد زنوبة وسيلة لتواصل بها الحياة المفروضة عليها إلا بأن تعمل خادمة في منزل عمدة القرية، الذي اعتبر استخدامه لها صدقة مستورة، وقالت له زوجته: إن ابنها يستطيع أن يشتري البلدة كلها. - وهذا أدعى إلى الصدقة؛ فهي لم تفقد زوجها وحده وإنما فقدت من قبله بر ابنها الوحيد؛ فكأنه مات وهو على قيد الحياة، بل ربما كان موته خيرا لها من حياته؛ لأنها - على الأقل - سترث نصيبها من ثروته. - صدقت. إن مصيبتها في حياة ابنها أعظم من مصيبتها في موت زوجها.
الفصل الثالث عشر
جلس رستم مهزوما ضائعا في غرفة المعيشة، وطلب من الخادم أن يستدعي له فوزية. وجاءت، ونظر إليها أبوها نظرة حانية آسفة حزينة طويلة، وظهرت الدهشة على وجه الفتاة البارعة الجمال؛ صاغها الخالق البارئ المصور فأدقها وأجلها؛ وجه ملائكي السمات، وعينان خضراوان صافيتا الخضرة، كأن الرموش عليها أحراس، مقوسة إلى أعلى في عزة وكبرياء، وكأن الحاجبين أبوان يحنوان على ابنتيهما. وهذا الإبهار جميعه مشفوع بجلال رباني وثقة متواضعة. يحيط بوجهها شعر عربيد تولت هي استئناسه وتهذيب عربدته. كل هذا الإعجاز الإلهي يعلو قواما أهيف ممشوقا من صنعة الله. أين منها رفائيل ومنقاشه وسحر بنائه!
عاد رستم إلى نفسه حسيرا أسيفا كسيفا، وكأنه يرى جمال ابنته للمرة الأولى؛ فهو لم يحاول قبل اليوم أن يتبين معالم جمالها، وإنما كان يرى فيها ابنته الوحيدة وأمله في الدنيا والمبرر لحياته، ويدري أنها جميلة في غير حيثيات ولا تفاصيل.
Shafi da ba'a sani ba