وأطرق رستم ثانية وهو يقول في أسى وانكسار: أعلم ذلك.
الفصل الثاني عشر
اشتد المرض بحيدر، وضاقت به وسائل الرزق، وأغلقت السبل أمام زوجته زنوبة، ولم تجد شيئا تقوله لزوجها إلا: ألا نخبر عبد الشكور؟ - إياك أن تذكري اسمه. - إننا في حالة ضنك والغرباء يشفقون علينا، أليس ابننا أولى بنا؟ - إنه ليس ابننا. - على كل حال أن نمد يدنا له خير من أن نقبل صدقة الغرباء. - بل الصدقة من الغرباء أفضل. - لا حول ولا قوة إلا بالله.
وصمتت زنوبة وهي تضمر في نفسها أمرا.
حين نام حيدر في القيلولة ذهبت زنوبة إلى بيومي أقرب صديق لعبد الشكور قبل أن يهاجر من القرية، ورحب بيومي بها فإذا هي تجبهه. - أيرضيك ما نحن فيه يا بيومي؟ - البلدة كلها تتكلم. - وأنت، ألا تفعل شيئا؟ - أنا تحت أمرك. - نحن نعلم أنك لا تملك أكثر مما تعطيه لنا من حين لآخر. - كريم ستار. - ولكنك تملك ما تفعله. - والله فكرت فيه. - وماذا منعك عنه؟ - ما عرفته من مقابلته لأبيه. - ربما كان في ذلك اليوم معذورا. - هذا كلام من تحكم على ابنها بقلبها لا بعقلها. - ربما. - وإذا سلمنا معك إنه كان معذورا يوم لقائه بأبيه، فهل ظل معذورا بعد ذلك حتى الآن. - حجته معه. - ماذا يمكن أن تكون حجة ابن يقاطع أباه وأمه ويصبح شهيرا لا يمر يوم لا تذكر فيه الجرائد اسمه، ويصبح المال عنده بالكيل ولا يذكر أباه وأمه ببعض هذا المال، أو على الأقل بالسؤال عنهما. - هل يمنعك هذا أن تفعل ما أرجوه منك؟ - أنا أعرف ما تريدين دون أن تقوليه، بل وأعرف من زمن طويل أنك تتوقعين مني أن أفعله دون أن تطلبيه مني. - وماذا يمنعك أن تفعله؟ - اليأس وشيء آخر. - أي شيء آخر؟ - الذي يهون عليه أمه وأبوه وهما أصل وجوده لا يمكن أن يرعى صداقة أو ودا لأي إنسان. - إنك كنت كأخيه. - بل أكثر، ولكن أتظنين أنه لو كان له أخ كان سيفعل معه أحسن مما يفعله معك ومع أبيه. - هل هذا ما يسيئك. - نعم. إنني لا أحب أن أراه يتنكر لي أو يتعالى علي أو يتجاهلني، والذي أراه من جحوده معكما يجعلني أتوقع منه أسوأ التوقعات. - وهل يمنعك هذا أن تحاول من أجل عمك حيدر. - صعب. - الرجل يموت ولا نملك ثمن الدواء، بل لا أخجل أن أقول لك إننا كثيرا ما لا نجد ثمن الطعام لولا كرم الناس الطيبين. إنك أنت نفسك لا تنسانا وتجود علينا بما تستطيع. - جهد الفقير. - فإذا كنت أنت وأنت محدود الدخل تمد لنا يدك بالعون أليس ابننا أولى بنا. - ابنك يعمل في بنك، أيجهل أن صناعة أبيه في السمسرة لم يصبح لها وجود؟! إن كان عنده أي نية للمعاونة فما الذي يؤخره؟! - ربما ظن أن أباه وفر من أيام عمله بعض المال يستعين به الآن. - ألا يعرف أن أباه كان يحصل على قوت يومه بطلوع الروح، وأنه لم يستطع أن يجعله يكمل تعليمه في الجامعة رغم علمه بحب أبيه له حبا فائقا؟! - وهل عندنا غيره؟! إنه هو الذي يمثل لنا الحياة كلها. - طبيعي؛ ابن وحيد، جاء بعد تشوق وانتظار. - أتصدق بالله؟ - لا إله إلا الله. - إنني وحيدر لا نصلي صلاة إلا وندعو له فيها بالتوفيق والسداد. ولا نرجو الله أن يجعله بارا بنا؛ فكلانا فقد الأمل في هذا تماما. - ليس فيما أسمعه غرابة. - والله ما دفعني للمجيء إليك إلا مرض الرجل وآلامه. أراه يتمزق أمامي ولا أجد ثمن الدواء. - لا حول ولا قوة إلا بالله. - إنه لا ينسى في كل صلاة بعد أن يدعو لعبد الشكور أن يطلب من الله أن يرفعه إليه. - اسمعي يا أمه زنوبة، إنني سأذهب إلى عبد الشكور. - إنه يا بني لا يعلم أن أباه مريض مرضا شديدا. فربما لو عرف يرق قلبه. - إنني ذاهب وليكن ما يكون.
سألته نعيمة سكرتيرة عبد الشكور: نقول له من؟ - قولي له بيومي. - بيومي من؟ - قولي له بيومي صديق الطفولة. - فقط؟ - هذا يكفي. - أمرك.
وقال لها عبد الشكور: قولي له في لجنة، مشغول، لا يقابل أحدا.
وسمع بيومي الإجابة فاقتحم غرفة عبد الشكور دون أن ينتظر إذنا وصاح به: لقد كنت أتوقع أنك ستمتنع عن لقائي.
ونظر عبد الشكور إلى نعيمة وأومأ لها أن تخرج ولم يتح له بيومي أن يتكلم. - إن من يفعل الذي تفعله بأبيك وأمك لا يمكن أن يحن لأيام الصبا ولا لأقرب صديق منه لما يزيد عن عشرين سنة من حياته. - لا تطل، أنا أريد أن أنسى هذه الأيام، وأريد أن أنسى بلدتكم وكل ما فيها ومن فيها. أنا أقنع نفسي أنني ولدت هنا في هذا البنك وحياتي هنا وليس لي قبلها حياة. - لست سيدنا آدم. إن لك أبا وأما. - بل إنني أنا آدم الجديد. - حتى إذا علمت أن أباك مريض مرضا شديدا. - هل لآدم أب. - إنه يكاد يموت. - كلنا سنموت. - لا سلام عليك. - ولا سلام عليك.
وخرج بيومي غاضبا يبحث عن أقرب طريق للهواء النقي. •••
Shafi da ba'a sani ba