وانثنيت أفكر في مدى انطباق ذلك على مصر أولا - بطبيعة الحال - باعتبارها من البلدان النامية، ثم على الوطن العربي بعد ذلك بصفة عامة. واستغرق التفكير أياما طويلة ومناقشات مستفيضة ومراجعة شاملة لمفهوماتنا عن «الثقافة» من ناحية وعن معنى «التنمية» و«النمو» بمعناها الاقتصادي الضيق من ناحية أخرى؛ فوجدت أننا بلاد تنطبق عليها أكثر من غيرها مقولة الكاتبة بوتري.
فنحن نعاني انفصاما حادا في حياتنا بين مفهومنا للتقدم المادي وبين المفهوم العام للتقدم وهو الذي لا ينفصل فيه التقدم الفكري عن سائر جوانب التقدم البشري. وأول مظاهر هذا الانفصال هو تصور إمكانية تحقيق الازدهار المادي دون تحقيق تقدم ثقافي، وقد بني هذا التصور الخاطئ على نماذج ازدهار بعض بلدان العالم الثالث في السبعينيات؛ نتيجة للطفرة في أسعار البترول التي كانت بمثابة خرق لقوانين الجهد البشري وسخرية من عمل العاملين.
والمظهر الثاني هو التصور الساذج للثقافة باعتبارها مقصورة على المعلومات التي يجنيها الإنسان من قراءاته خارج أسوار المدرسة أو الجامعة، أو باعتبارها مقصورة على الأنشطة الفنية التي تقدم من خلال قنوات الاتصال الجماهيري بغية التسرية والترفيه.
فإذا ذكرنا ذلك وجدنا أن العالم - أي المتخصص في العلوم الطبيعية - الذي يؤمن بالخرافات الموروثة من عهد الجهالة لا ينتمي ثقافيا إلى هذا الزمن، ويعتبر مصابا بتخلف فكري يقعد به عن اللحاق بعصر التنوير مهما بلغ هضمه للمعادلات الكيميائية وأسرار الذرة! وقس على ذلك من يتلقى قسطا وافرا من التعليم فلا ينتفع به إلا في الحصول على منصب رفيع، أو في كسب المال، أو في التفاخر بين الأقران، أو من يحصل على مال وفير فينفقه في مظاهر الرفاهية المادية والانسياق وراء الملذات الحسية المحدودة، والإسراف في الإنجاب.
أظن أن هذه النماذج التي لا يخلو منها مجتمع تصبح شرا مستطيرا وخطرا وبيلا إن هي شاعت في مجتمع ينشد النمو أو يطلق على نفسه «المجتمع النامي»؛ فهذه النماذج تسود معظم مجتمعات العالم الثالث المثقلة بتراث ثقافي لا تستطيع منه فكاكا؛ فهي حقا تقيم مؤسسات الدولة الحديثة ومظاهر النهضة الحديثة، ولكن ثقافاتها على تعددها تشترك في عدم الإيمان بذهن الإنسان وقيمة العمل والجهد البشري؛ ولذلك علق أحد أبناء تلك الدول في المؤتمر الذي عقدته الجماعة الأدبية الجديدة في إيطاليا من 27-29 مايو 1989م على المشكلة الأولى في بلده قائلا: إن الفرد قد «فقد إحساسه بالهدف»؛ فالمدرس يتصور أنه يقوم بوظيفته من أجل لقمة العيش وحسب، دون اعتبار للرسالة السامية التي ينهض بها، والطبيب إذا اغتنى أصبح عسير المنال.
والواقع أننا لا نختلف في مصر كثيرا عن بلدان العالم الثالث تلك؛ فأنظارنا موجهة صوب أوروبا وأمريكا، ولكن أعماقنا تزخر ببعض عناصر تراث التخلف والخرافة والجهالة، فنتصور أن الثقافة إضافة يمكن الاستغناء عنها في مرحلة التنمية، ونتصور أن الأنشطة الثقافية هي جهد ترفيهي يروح عن العاملين! إننا بحاجة إلى ثقافة التنوير التي ما فتئ الدكتور زكي نجيب محمود يدعو إليها، وإلى ثقافة العمل المتأصلة في نفوس المصريين والتي تتعرض لأخطار جمة هذه الأيام في مواجهة الثقافة السلفية حيث ينال الإنسان ما لم يجهد نفسه في سبيله، فيتلفت حوله حائرا ما يفعل بهذا المال الطائل؟ إن فيكتوريا بوتري وجماعتها الأدبية على حق؛ فالثقافة لا تنفصل عن التنمية.
ملاليم المترجم
منذ ما يقرب من ثلاثين عاما عدت إلى المنزل من دار الإذاعة «حيث كنت أعمل محررا مترجما بقسم الأخبار»، فوجدت رسالة موجزة من صديقي وزميلي السفير أحمد مختار الجمال - وكان آنذاك في بداية عمله بوزارة الخارجية - يقول لي فيها أسرع إلى مصلحة الاستعلامات فلدينا عمل يحتاج إليك! وهرعت من فوري إلى المكان الذي حدده، فوجدت غرفة مكتظة بالزملاء والأصدقاء ممن سبقوني بالتخرج في قسم اللغة الإنجليزية، وكلهم منكب على العمل بحماس وفي صمت؛ الأستاذ محمد عبد الله الشفقي (رحمه الله) والأستاذ عبد الفتاح العدوي (رحمه الله) والأستاذ سيد سليمان (الذي يعمل الآن سفيرا) والأستاذ أنور جلال، وغيرهم. وقبل أن تتاح لي فرصة الحديث معهم أو حتى إلقاء التحية عليهم، وضع في يدي كتيب وأعطيت قلما وبعض الأوراق وجلست إلى منضدة وانطلقت أترجم ما أمامي.
كان الكتيب يتناول جانبا من جوانب الحياة في الهند، وكذلك كانت جميع الكتيبات التي انكب عليها الزملاء؛ إذ إن الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله) كان ينتوي زيارة الهند، وكان يريد أن يحيط بكل ما يستطيع أن يحيط به من معلومات عن الهند؛ أي أن يضيف إلى المعلومات السياسية والاقتصادية المتاحة سائر المعلومات التي تهم دارسي جغرافيا البلدان والشعوب. وبعد أن قضينا ساعات طويلة - لم يشعر بها أي منا - في العمل، قال أحدنا (لا أذكر من كان): إننا بحاجة إلى الشاي أو القهوة حتى نستطيع السهر؛ فالليل قد أوغل ولم يتسن لأحد منا أن يغفو في الظهيرة. ورحب الجميع بالفكرة وكانت فرصة للتوقف عن العمل دقائق تساءلت فيها عن الأجر الذي سنتقاضاه. وكم كانت دهشتي وفرحتي حين علمت أن ترجمة الكتيب الواحد قد حدد لها خمسة جنيهات كاملة!
كان الأجر آنذاك قد حدده قرار جمهوري بمليمين للكلمة الواحدة من الإنجليزية إلى العربية وثلاث مليمات من العربية إلى الإنجليزية، ومليم واحد للمراجع في الحالة الأولى ومليمين للمراجع في الحالة الثانية، أما المكافأة الشاملة «الجنيهات الخمسة» فقد كانت تتجاوز ذلك الأجر (بسبب ضيق الوقت والحاجة إلى الترجمات الدقيقة على وجه السرعة)، وكان الأجر المرتفع دافعا قويا ألصقنا جميعا بمقاعدنا أياما متواصلة حتى انتهت المهمة وطبعت الكتيبات وأعتقد أن بعضها ما زال متاحا لمن يريد أن يستزيد من العلم بالهند!
Shafi da ba'a sani ba