فالإنسان نفس حية اختصها الله بالعقل دون مخلوقاته، وهو يتطور على مر الزمان ويتغير، ومهما كانت درجة ثباته في الأرض؛ فهو يتحرك ويغير من صور حياته، ويتحول فكرا وعلما وعملا، وهو يعيش في مجتمع حي يتسم بالحركة والتحول هو الآخر. ولذلك فإذا تكلمنا عن الإنسان وعن الماضي فينبغي أن ننحي عن عقولنا صورة الشجرة التي ما تفتأ تتكرر في أحاديثنا، وتفسد علينا معنى الزمن وإحساسنا به.
وللزمن عدة أوجه؛ أولها وأعقدها هو الزمن الذاتي؛ أي ذلك الكم الهائل من الصور والأفكار المكتسبة من الخبرات المتراكمة في النفس والتي تتحكم دون وعي منا في مشاعرنا وسلوكنا، وقد يصعب علينا - مثلما قال وردزورث في قصيدته وسيرته الذاتية المقدمة - أن نرصد نشأة كل منها وإن كنا نستطيع أن نرتاد البقاع الزمنية التي شهدت نشأتها، فالبحث في الماضي الفردي علم معقد يختص به النفسانيون، ويفردون له البحوث والدراسات المتعمقة، وإن كان الأدباء يصولون فيه ويجولون دون أمل في استنطاق كنهه وسبر غوره.
والوجه الثاني متصل به وهو الزمن الجمعي؛ أي ذلك الخضم الزاخر من الخبرات البشرية التي تولد مع الإنسان وإن كان بعضها مكتسبا - كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف كارل جوستاف يونج؛ إذ يربط بينهما وبين اللاشعور الجمعي (وأنا أستخدم التعبير الذي كان الدكتور عبد الحميد يونس يفضله )؛ أي تلك المناطق المجهولة لنا من نفوسنا جميعا والتي يشترك فيها أبناء البشرية جمعاء على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم؛ ففيها الصور الأولى لكثير من أنماط مشاعرنا وأفكارنا والنماذج القديمة أو الفطرية لكثير من الرموز التي درجنا عليها وقبلناها دون تحليل.
أما الوجه الثالث فهو زمن الجماعة أو المجتمع، وهو لا يتصل كثيرا بأي من الوجهين السالفين؛ لأنه مادي المظهر، يسهل رصده وتحليله، ويسهل قبوله أو رفضه وإن كان الأدباء يلجئون إليه لتفسير ملامح الزمن الذاتي أو ملامح الزمن الجمعي وتجسيد بعضها في أعمالهم؛ فالشاعر قد يعود بذاكرته إلى أيام صباه فلا يستطيع أن يستخرج منها إلا صورا محسوسة مجسدة، مستقاة مما شاهده وسمعه وخبره في طفولته، وهي صور زال بعضها فأصبح ينتمي إلى الماضي. وما زال بعضها باقيا فهو ينتمي إلى الحاضر؛ ولهذا فقد تتفاوت درجة تجاوب القارئ مع هذه الصور الماضية والحاضرة!
ونحن في الشرق مولعون بصور الماضي؛ ننشدها ونجسدها ونسعى إلى إحيائها سعيا حثيثا؛ فهذه الصور تؤكد لنا امتدادنا في الزمان، وتبعث الطمأنينة في نفوس يتصل تاريخها الطويل اتصالا فريدا لا تكاد تجد له مثيلا بين أمم الأرض، ولكننا - دون أن نعي ذلك - نخلط بين الحنين إلى الماضي الذاتي، وحياة المجتمع في الماضي (أو ما أسميته زمن الجماعة)، فنجد أننا نضفي على هياكل الحياة الاجتماعية القديمة شاعرية دافقة مستقاة من ذواتنا. دون أن يكون لها وجود مادي حقيقي في التاريخ؛ إذ يعود الكثير من أدبائنا إلى عصور ماضية فيسبغون عليها صفات جميلة خلابة هي منها براء، وينشدون في أوضاع قديمة بالية مثلا عليا وقيما لا علاقة لها بها! وهذا الخلط هو سبب انشغالنا بالتراث إلى حد التقديس، وهذا هو الخلط الذي ينبغي أن نحذر منه ونحن نخطو إلى المستقبل، فليست حياة أجدادنا المتمثلة في آدابهم بالحياة هي التي نبكي على فقدانها أو نتحسر على ضياعها!
لقد انشغلت على مدى عام كامل بتأمل تلك الحياة الماضية، فلم أعثر على ذلك النبع الصافي من الجمال الذي يدفع الكثيرين اليوم إلى التطلع والحنين إليه باعتباره نموذجا لحياة المستقبل، فلم يكن النظام السياسي عادلا منصفا، ولم يكن النظام الاجتماعي جميلا باهرا، ولم تكن الأوضاع الاقتصادية محكمة كاملة، ولا كان الأدب في مصر منذ نهاية العصر العباسي وحتى فجر النهضة الحديثة أدبا عبقريا حتى نطمح إلى عظمته ونحاكيه!
إن حركة الزمن - في تصوري - حركة إلى الأمام لا إلى الخلف؛ ولذلك فأنا أتطلع إلى فكر وأدب ينبعان من زماننا وينظران إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأعتقد أن ثمة فروقا جوهرية بينهما.
الثقافة والتنمية
عندما عاد الصديق الشاعر إسماعيل أبو زيد من روما؛ ليقضي عطلة الصيف في القاهرة؛ فهو يعمل رئيسا لتحرير المطبوعات العربية بمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة؛ جاءني معه خطاب رقيق من الكاتبة الشهيرة فيكتوريا بوتري التي عملت رئيسة لتحرير مجلة «الفكر والعمل» طوال ربع قرن من الزمان تقول فيه إنها الآن بصدد إصدار مجلة أدبية فصلية جديدة «بالإنجليزية أيضا»، وسلسلة كتيبات تضم منتخبات من الشعر المعاصر، وتطلب مشاركة الشعراء المصريين والعرب في المجلة وسلسلة الكتيبات، بعد أن كونت جماعة أدبية لنشر كل هذا في أرجاء العالم وأسمتها «جماعة مونتيفاركي».
وتأملت ذلك الخطاب المسهب - وما أرفق به من قوائم الأعلام الذين انضموا إلى الجماعة الأدبية - فوجدت أن أطرف ما فيه هو العلاقة التي تقيمها الكاتبة هي وأعضاء الجماعة (28 يمثلون عشرين بلدا) بين الثقافة والتنمية. وهي تقول إنها بعد خمس وعشرين سنة من العمل في منظمة ذات طابع اقتصادي في المقام الأول اكتشفت أن قضية الثقافة لذاتها لا تنفصل عن قضية التنمية بشتى أشكالها؛ الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية؛ إذ إن الاتجاه السائد في معظم بلدان العالم الثالث هو فصل الثقافة عن الحياة المادية (باعتبار الثقافة بناء فوقيا يمكن تناوله بمعزل عن الأساسيات مثل المأكل والملبس والمسكن والعلاج وما إلى ذلك)، ولأن الفصل بين مظاهر الحياة المادية وعناصر الحياة النفسية (الذهنية والعاطفية وغيرها) يمثل جورا بالغا على قضية الإنسان نفسه ويضر بقضية التنمية المادية نفسها.
Shafi da ba'a sani ba