لقد ألف أميل زولا عشرات القصص الرائعة، ولكن أروع ما ألفه هو حياته حين هب يناهض الظلم ويكافح الإجرام.
وألف فكتور هيجو عشرات ومئات القصائد، ولكن خير ما ألف هو حياته التي أرصدها لمكافحة الطاغية نابليون الثالث.
ومن هنا هذه الظاهرة الجديدة؛ وهي الترجمة الذاتية؛ فإن الأديب الذي وقف في صف الشعب، وأحس إحساسه، ووجد وجدانه، وكافح كفاحه، يؤلف كتابا عن تاريخ حياته؛ لأنه يجد فيها رمزا للمشكلات العديدة التي حاول أن يحملها، وهو حين يكتب تاريخ حياته إنما يرمي من ذلك إلى بعث الحوافز للشباب، وزيادة وجدانهم وإشعال شرارة المستقبل في نفوسهم، حتى يؤلف كل منهم حياته أحسن التأليف وأروعه.
إني أجد أن كثيرا من الالتباسات التي تنشأ بيني وبين من لا يروقهم نقدي أنهم يتحدثون عن الصنعة ويعجبون بها حين أتحدث أنا عن الفن؛ ولذلك يبرزون بيتا أو أبياتا من الشعر ويتحدونني بها من حيث جمالها أو حلاوتها، في حين أنا أنظر إلى الشاعر كله، حياته وعمله، وأقدر مكانته ودلالته منهما في الأدب.
ألم يفطن هؤلاء إلى أننا اخترعنا كلمة «فن» كي نعبر بها عن معنى لم يعرفه القدامى؟
لقد كان هؤلاء يصفون الشاعر بجودة الصنعة، ولكن هذا الوصف لم يعد يرضينا؛ لأننا نجد أن هذه الجودة تنصب على الكلمات والمعاني في البيت أو البيتين، أما الشاعر ومذهبه، وما له من نظرة ونبرة في الحياة، فلم يكن عندهم أي اهتمام بهما.
بل لقد وصلت إلي خطابات بهذا المعنى: ما قيمة حياة الشاعر في أدبه أو شعره؟
وردي الساذج هو: ما قيمة أي شيء في الدنيا، أي شيء إطلاقا، إذا لم تكن هذه القيمة مقدرة بمقاييس الحياة؟ إذ هل لنا مقاييس أخرى؟
لما بلغ «جيته» سن الثلاثين تأمل في ماضيه ثم فكر في مستقبله وكتب هذه الكلمات التالية:
إن الرغبة في أن أبني هرم وجودي، بعد أن أرسيت أساسه، وأن أرتفع به إلى أعلى ما أستطيع في الفضاء، هذه الرغبة تستولي على سائر رغباتي ولا تكاد تخلي عني، ولذلك لا أجرؤ على التأخير؛ فقد تقدمت بي السن، وليس بعيدا أن يفاجئني الموت وأنا في غمرة عملي دون أن أتم البناء لبرج بابل، وعلى كل فإني إذا مت فإن الناس سيذكرون التخطيطات الجريئة للبناء، وإذا لم أمت فإني - بمشيئة الله - سأتم البناء.
Shafi da ba'a sani ba