معبرًا عن حال تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن جملة، وهي أن ينساه الناس؛ لذهابه من قلوبهم قبل أن يعرفوا نسخه، ووجه ذكر هذا الحال بوجه خاص: أن ما ينسى لعدم حضوره في القلوب لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغني غناءه.
وقرئ (ننسَأْها) - بالهمز -، من النسء، وهو التأخير. وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ على النوعين السابقين: نسخ الآية حكمًا فقط، ونسخها حكمًا وتلاوة. ومعنى ننسأها: نؤخر إنزالها إلى وقت ثان، فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة. ويصح أن يفهم على أن الله تعالى إذا نسخ آية، أتى بالآية الناسخة، وهي خير من المنسوخة، أو مثلها، وإذا أخر آية، وهي الناسخة؛ أي: أبقاها إلى أن يأتي وقتها المناسب، أنزل الآية التي يراد نسخها من بعد، وهي عند إنزالها خير من الناسخة، أو مثلها.
والخيرية في قوله: (خير منها)، والمماثلة في قوله: ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ ترجع إلى ثواب العمل بها؛ فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، ويكون مماثلًا له، وإن كان كل واحدة من الآيتين: الناسخة والمنسوخة - بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها - أَقْوَمَ على المصلحة من الأخرى.
ولم يزل علماء السلف منذ عهد الصحابة ﵃ يذهبون إلى أن نسخ بعض الأحكام ثابت في الشريعة، إلى أن ظهر أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المتوفى سنة ٣٢٢، فأنكر وقوع النسخ في شريعتنا، وحمل النسخ الوارد في الآية على معنى نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين.