المقدمة
ما إن ارتقى فضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين - رضوان الله عليه - المرتبة العلمية الرفيعة التي انتهى إليها في قمة مجده العلمي، وفي أواخر حياته المليئة بالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وما إن أضحى بحرا لا ساحل له في مختلف العلوم الإسلامية واللغوية، باشر في وضع تفسير محكم لكتاب الله العزيز، ينبع من صفاء علمه وعرفانه، وهدايته وتقواه.
وبقلمه البليغ بدأ - رحمه الله - نشر التفسير الذي وضعه في مجلة "لواء الإسلام" التي كانت تصدر بالقاهرة، وكان رئيسا لتحريرها، بدءا من العدد الأول الصادر بتاريخ الأول من شهر رمضان المبارك لعام 1366 ه الموافق التاسع عشر من شهر يوليو تموز 1947. واستمر في هذا العمل الجليل، حتى أثقلته السنون، وقد قارب عمره الطاهر على الثمانين عاما، وتحت وطأة الشيخوخة، توقف عن متابعة هذا الجهد الرائع، والإنتاج الفكري العظيم، وكانت آخر الصفحات من التفسير هي تلك التي نشرها في العدد الثاني عشر من السنة الرابعة لمجلة "لواء الإسلام"، والصادر في شهر شعبان لعام 1370 ه الموافق شهر مايو أيار لعام 1951 م.
Shafi 3
قام المؤلف بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة حتى الآية 195، # بالإضافة إلى سورة الفاتحة، وبتفسير آيات قرآنية كريمة من سور مختلفة، وهي: آية من سورة آل عمران - آيات من سورة الحج - آيات الصيام - ثلاث آيات من سورة الأنفال - أربع آيات من سورة يونس - خمس آيات من سورة ص.
وقد ضممنا في هذا الكتاب تفسير آيات سورة البقرة من 1 - 195، والمنشور في أعداد مجلة "لواء الإسلام"، ودروس التفسير التي ألقاها في بعض النوادي والجمعيات الإسلامية، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" التي كان يصدرها المؤلف في القاهرة.
والله نسأل السداد والتوفيق في خدمة رسالة الإسلام.
على الرضا الحسيني
Shafi 4
تفسير سورة الفاتحة # بسم الله الرحمن الرحيم (¬1)
Shafi 5
{بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 1 - 7].
قد اشتملت هذه السورة بوجه إجمالي على مقاصد الدين؛ من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد. ولهذه المزية سميت: أم القرآن، وافتتح بها الكتاب المجيد، وأمر الناس بقراءتها في كل صلاة، وهي مقولة على ألسنة العباد لتعليمهم كيف يناجون البارئ تعالى، ويحمدونه، ويتضرعون إليه. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها أول ما نزل من القرآن، وروي هذا عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -.
وجمهور أهل العلم على أن أول ما نزل سورة: {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1].
{بسم الله}:
الاسم: اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى. (والله): علم على ذات الخالق تعالى، والباء في (باسم): متعلقة بفعل مقدر، والمعنى: أبتدئ القراءة متبركا باسم الله، لا كما يفعل المشركون من البداية بأسماء آلهتهم متبركين بها، فيقولون: باسم اللات، باسم العزى. وإنما حذف الفعل العامل # في (باسم الله)؛ ليكون المبدوء به في اللفظ اسم الله دون شيء آخر.
Shafi 7
{الرحمن الرحيم}:
هما صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفا لله تعالى، ففسرها بعض العلماء بارادة الإحسان، وفسرها آخرون بالإحسان نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته تعالى لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وليست الصفتان - أعني: الرحمن الرحيم - بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى: عظيم الرحمة؛ لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، والرحيم بمعنى: دائم الرحمة؛ لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة؛ ككريم، وظريف، فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمها (¬1).
وذهب ابن قيم الجوزية في الفرق بين الصفتين إلى أن الرحمن دال على الصفة القائمة به تعالى، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فالرحمن دال على أن الرحمة صفته، والرحيم دال على أنه يرحم خلقه، فيكون الرحمن من صفات الذات، والرحيم من صفات الأفعال (¬2).
{الحمد لله}:
الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار؛ من # نعمة، أو غيرها .
Shafi 8
والجملة مفيدة لقصر الحمد عليه تعالى؛ نحو قولهم: الكرم في العرب. وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله؛ لأن كل ما يستحق أن يقابل بالحمد إنما هو صادر من الله، وهذا يقتضي أن يكون الحمد لله وحده. فالقصد من جملة الحمد: إنشاء الثناء عليه تعالى بمضمونها الذي يتلخص في أن الله مستحق لجميع المحامد.
{رب العالمين}:
الرب: المالك، والسيد المربي، ولا يطلق على غير الله إلا مقيدا؛ نحو: رب الدار. والعالمين: جمع عالم، والعالم: الخلق من ذوي العلم، وهم الإنس والملائكة والجن. وقيل: إن العالم اسم لكل مخلوق من العقلاء وغيرهم. وجمع في الآية بالياء والنون، وهما علامة جمع المذكر العاقل؛ لأنه أريد منه: ذوو العلم خاصة.
{الرحمن الرحيم}:
وجه إعادة هذين الوصفين - وقد سبق تفسيرهما -: أن وصفه تعالى برب العالمين؛ أي: مالكهم، أو سيدهم، يثير في النفوس شيئا من الرهبة، فقرن بوصف الرحمة؛ ليجعل بجانب الرهبة منه رغبة إليه، وفي ذلك استدعاء إلى الإقبال على طاعته، مع رجاء فضله وإحسانه.
{مالك يوم الدين}:
المالك: وصف من الملك - بكسر الميم -. والدين: الجزاء؛ أي: إنه تعالى يتصرف في أمور يوم الدين تصرف المالك فيما يملك، قال تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19]، وقرئ:
Shafi 9
{ملك يوم الدين} من الملك - بضم الميم -، ومعناه: المدبر لأمور يوم الدين، كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16].
{إياك نعبد}:
العبادة: الطاعة البالغة للنهاية في الخضوع والتعظيم، والعبادة الصحيحة ما تحقق فيها أمران: الإخلاص، وموافقتها للوضع الذي رسمه الشارع. وقدم المعبود على العبادة، فقال: {إياك نعبد}؛ لإفادة قصر العبادة عليه، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص. والمعنى: نخصك بالعبادة، ولا نتجه بها إلى غيرك. وقال: {نعبد} بنون الجماعة، ولم يقل: أعبد؛ ليدل على أنه يعبده في جماعة المؤمنين، ويشعر بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شؤونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم.
{وإياك نستعين}:
الاستعانة: طلب المعونة، ومعنى الجملة: نخصك بطلب الإعانة، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى غيرك. ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال؛ ليشمل الطلب كل ما يتجه إليه الإنسان من الأعمال الصالحة.
وجاء طلب الاستعانة بعد قوله: {إياك نعبد}؛ ليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذي ييسر لهم أداءها.
{اهدنا الصراط المستقيم}:
Shafi 10
الهداية: الإرشاد، والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، وتسند الهداية إلى الله، والنبي، والقرآن، وقد يراد منه: الإيصال إلى ما فيه خير، وهي بهذا المعنى لا تضاف إلا إلى الله - جل شأنه -. والصراط في أصل # اللغة: الطريق السهل المستوي، ومعناه في الآية: ما يدعو إليه الأنبياء - عليهم السلام - من العقائد والشرائع والآداب، ومن هدي إليها، فقد ظفر بأسباب السعادة في الدنيا والآخرة.
{صراط الذين أنعمت عليهم}:
الإنعام: إيصال الخير إلى الأحياء العقلاء، والمراد في الآية: الإنعام الديني، فالمنعم عليهم: من عرفوا الحق فتمسكوا به، والخير فعملوا به. وقوله: {صراط الذين} بدل من {الصراط المستقيم}، ولم يقل: "اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم" مستغنيا عن ذكر الصراط المستقيم؛ ليدل على أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم. وقال {أنعمت عليهم}، ولم يقل: صراط الأنبياء أو الصالحين؛ ليدل على أن الدين نعمة عظيمة. ويكفي في الدلالة على عظمتها إسنادها إليه تعالى في قوله: {أنعمت عليهم}.
{غير المغضوب عليهم}:
Shafi 11
بدل من {الذين أنعمت عليهم}. والغضب ضد الرضا، وهو في أصل اللغة حركة في النفس تنزع بها إلى طلب الانتقام، وإذا أسند إلى الله، فسروه بمعنى: إرادة الانتقام، أو بمعنى: الانتقام نفسه. والموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له تعالى لائقة بجلاله، لا نعلم حقيقتها، وإنما نعرف أثرها، وهو الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم. وأتى في وصف الإنعام بالفعل المسند إلى الله تعالى، فقال: {أنعمت عليهم}، وفي وصف الغضب باسم المفعول، فقال: {غير المغضوب عليهم}، وفي ذلك تعليم لأدب جميل، هو أن الإنسان يجمل به أن يسند أفعال الإحسان إلى الله، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإحسان والعقاب # صادرا منه. ومن شواهد هذا قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن: 10].
{ولا الضالين}:
الضالين: جمع ضال، وهو من لا يهتدي طريقا يصل منه إلى المطلوب، فيمشي في غير طريقه، ويتخبط في عماية.
وحرف (لا) في قوله: {ولا الضالين} جاء لتأكيد معنى النفي المستفاد من كلمة: غير. والمعنى: اهدنا صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين.
وورد في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى (¬1).
ومن لم يروا الحديث بالغا في الصحة الدرجة التي توجب الوقوف عنده، فسروا المغضوب عليهم بمن فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، وقالوا في تفسير الضالين: هم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالات، لا يهتدون إلى الحق. ومن هؤلاء من ذهب في تفسيره إلى أن المغضوب عليهم كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة، وهم الفساق، وأن الضالين كل من أخطأ في اعتقاد، وهم فاسدو العقيدة.
وقدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم، فكان جديرا بأن يوضع في مقابلته قبل: الضالين.
Shafi 12
تفسير آيات من سورة البقرة # بسم الله الرحمن الرحيم (¬1)
Shafi 13
{الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1 - 5].
{الم}:
Shafi 15
افتتحت سور من القرآن الكريم بأحرف مقطعة، وقد ذهب المفسرون فيها مذهبين: مذهب من يعدها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، ومذهب من يتناولها بالتفسير؛ كسائر الآيات التي هي مجال لأنظار الراسخين في العلم، وجمهور أهل هذا المذهب يعدونها اسما للسورة، ويزاد على هذا: أنها اسم فيه إشعار بأن القرآن الذي تحداهم الله به هو من جنس الكلام المركب من هذه الأحرف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في البلاغة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم دونها بمراحل فسيحة، وتصدير السورة بمثل هذه الأحرف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إذ يطرق أسماعهم لأول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك # مما يلفت أنظارهم؛ ليتبينوا ماذا يراد منها، فيستمعوا حكما وحججا قد تكون أسباب هدايتهم.
{ذلك الكتاب}:
الكتاب: المكتوب. والمراد: القرآن المجيد، فإنه كان يكتب حين نزوله في الألواح ونحوها. وأتى به معرفا، ولم يقل: ذلك كتاب؛ تنبيها لكماله في المعنى الذي تتفاضل فيه الكتب، وهو الهداية والحكمة، كما تقول: زيد الرجل؛ أي: الكامل في الرجولة. وأشير إلى الكتاب باسم الإشارة المقرون بالكاف الدالة على بعد المشار إليه؛ تنزيلا لعلو مرتبته، وبعدها في الكمال منزلة البعد المحسوس.
{لا ريب فيه}:
الريب: الشك. والقرآن لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماويا، ومطلع هداية وإصلاح. فالآية تنفي الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن، فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة.
{هدى للمتقين}:
الهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي، واستعمل هنا بمعنى: هاد، مبالغة في الوصف بالهداية. والعرب يستعملون المصدر في معنى اسم الفاعل، مبالغة في وصف الشيء بما صدر منه من الأفعال، أو قام به من الصفات. والمتقون: جمع متق؛ أي: متصف بالتقوى. والتقوى درجات، أدناها: اجتناب الشرك، وأعلاها: اجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بما أمر به، حسب الاستطاعة. وأشار إلى هذا من قال: "التقوى أن لا يراك حيث نهاك، # ولا يفقدك حيث أمرك".
Shafi 16
ومعنى كون القرآن هدى للمتقين: أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى، كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} [محمد: 17].
ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما لو قلت: هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى: أني هديت شخصا صار مهتديا بهذه الهداية، وكتبت خطابا صار مكتوبا بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربي صحيح، كما ورد في حديث: "من قتل قتيلا، فله سلبه" (¬1).
{الذين يؤمنون بالغيب}:
الغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى: الغائب، وهذا المعنى هو الظاهر من الآية، ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل؛ كذات الله تعالى، وصفاته، وملائكته، واليوم الآخر.
والإيمان بالغيب: التصديق به على وجه الجزم، والتصديق الجازم لا يحصل إلا عن دليل، وقيام الآيات على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقا به عن دليل، فلا يحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب التي نزلت قبل القرآن، والرسل الذين بعثوا من قبل، واليوم الآخر، إلى دليل زائد على الآيات التي قامت على صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام -. أما الإيمان بالله، فإنما يحصل من الأدلة العقلية، ذلك لأن صدق الرسول في دعوى الرسالة لا يثبت إلا بعد الإيمان بالإله الحق.
Shafi 17
{ويقيمون الصلاة}:
الصلاة في اللغة: الدعاء، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود؛ لاشتمالها على الدعاء. وإنما تقام الصلاة بأدائها في أوقاتها المقدرة لها، وتعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها، وآدابها. والصلاة المقامة بحق هي التي يصحبها الإخلاص، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس وعفافها، وسلامة الناس من إيذائها؛ كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45].
{ومما رزقناهم ينفقون}:
رزق الله الناس: إعطاؤه لهم ما ينتفعون به من المطعومات والملبوسات ونحوها من مرافق الحياة. والإنفاق من الرزق: إنفاذ جانب منه في وجه من الوجوه الحيوية، وقد جاء في الآية مطلقا، ووروده في مقام مدح المتقين يدل على أنه إنفاق في وجوه الخير. وقال: {ينفقون}، ولم يقل: أنفقوا؛ ليفيد أن الأنفاق يتجدد منهم المرة بعد الأخرى، والعرب تعبر بالمضارع ليفيد أن الفعل يحدث ويتجدد مرة بعد أخرى، والإنفاق في الآية مطلق، فيبقى على إطلاقه شاملا للواجب والمتطوع به.
وإيراد (من) في قوله: {ومما رزقناهم} إشارة إلى أن إنفاق بعض المال مع تجدد الإنفاق يكفي لدخول صاحبه في زمرة المهتدين المفلحين.
Shafi 18
وعني القرآن الكريم بمدح المنفقين، والحث على الإنفاق؛ إذ كان من أعظم الوسائل إلى رقي الأمم وسلامتها من كوارث شتى؛ مثل: الفقر، والجهل، والأمراض المتفشية، فببذل المال تسد حاجات الفقراء، وتشاد # معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، إلى ما يشاكل هذا من جلائل الأعمال.
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}:
هذا الوصف للمتقين بالإيمان بالقرآن وغيره من الكتب السماوية، بعد وصفهم بالإيمان بالغيب. والإيمان بما أنزل على الرسول إيمان برسالته، وموجب للعمل بما تضمنته شريعته، وإيجاب العمل بما تضمنه الكتاب المنزل على خاتم النبيين - صلوات الله عليه -، باق على إطلاقه. أما الكتب الأخرى، فيكفي الإيمان بأنها كانت وحيا وهداية، أما العمل، فإنما يتمسك فيه بما تضمنه القرآن المجيد، قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89].
ويصح أن يراد من الآية: من آمنوا بالكتب المنزلة قبل الإسلام، ثم لما جاء القرآن، وعرفوا أنه الحق، آمنوا به كذلك، والجمع بين الإيمانين على هذا النحو مزية أشار إلى فضلها الحديث الصحيح الوارد فيمن له أجران، ومن بينهم: "رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -".
{وبالآخرة هم يوقنون}:
الآخرة تجيء وصفا للدار الباقية، كما قال تعالى: {وللدار الآخرة خير} [الأنعام: 32]، ثم كثر استعمالها بدون ذكر الموصوف، حتى صارت اسما يفهم منه الدار الباقية خاصة؛ كما قال تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} [الضحى: 4]، وقال هنا: {وبالآخرة هم يوقنون} و {يوقنون}: من الإيقان، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم به شبهة.
Shafi 19
وإيراد الضمير {هم} قبل قوله: {يوقنون} تعريض بغيرهم ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة، أو غير بالغ مرتبة اليقين.
وللإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في اجتناب الشر، والاستكثار من الخير، ففي وصف المتقين به تنبيه على الوجه الذي أحرزوا به الغاية من تقوى الله في السر والعلانية.
{أولئك على هدى من ربهم}:
هذا كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنساني، فقد وصفهم بأنهم على هدى عظيم، وإنما يتفاوت الناس في الكمال على قدر تفاوتهم في الهداية. ويدل على عظيم هذا الهدى: إيراده نكرة، فهو في معنى: هدى عظيم، على ما هو المعروف في علم البلاغة من أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. ويضاف إلى هذا وصفه تعالى للهدى بأنه منه، فقال: {من ربهم}، فدل على أنه ضرب من الهدى عظيم؛ حيث إن الله تعالى هو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.
وقال: {على هدى}؛ ليفيد أنهم ظاهرون بالهدى ظهور من تمسكوا به، وتمكنوا منه تمكن من استعلى الشيء، وصار في قرار راسخ منه.
{وأولئك هم المفلحون}:
هذه الجملة بيان لما يظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال من سعادة الدنيا والآخرة، والمفلحون: مأخوذ من الفلاح، وهو الفوز بالبغية. وبغية المتقين في الدنيا: أن تكون أوقاتهم مصروفة في الأعمال الصالحة ما استطاعوا، وتكون نفوسهم راضية بما قسم الله لها من رزق، وبغيتهم في الآخرة: السلامة من فزع يوم البعث، والفوز بنعيمي الروح والبدن في # دار الخلود.
Shafi 20
وتعريف الخبر {المفلحون} مع إيراد ضمير الفصل {هم} يفيد أن الفلاخ مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو قبض يده عن أداء حق المال، فاته الفلاح، فلا يحيا الحياة الطيبة في الدنيا، ولا يستحق السلامة من الفزع في الأخرى.
Shafi 21
بسم الله الرحمن الرحيم (¬1)
{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7) ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 6 - 10].
اشتملت الآيات السالفة على وصف حال المتقين، وبيان ما ينالون من هدى وفلاح، والشأن أن تتشوف النفوس عند سماع تلك الآيات إلى وصف أضدادهم، وبيان مصيرهم، وهم فريقان: الفريق المجاهر بكفره، والفريق الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فأشار إلى الفريق الأول، فقال تعالى:
{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }:
الكفر في أصل اللغة: الستر والإخفاء، ثم شاع في جحود النعمة، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحودها، ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يجيء به الرسول نصا صريحا، ويصير معلوما من الدين بالضرورة.
Shafi 22
وسمى من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه: كافرا؛ لأنه صار بجحوده ذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطي له.
وسواء: اسم مصدر بمعنى: مستو. والإنذار: الإعلام بالأمر مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف.
ومعنى الجملة: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدم إنذارك. ويفهم من هذا: أنهم لا ينتفعون بالإنذار في الاهتداء إلى الإيمان، فقوله: {لا يؤمنون} جملة مفسرة لمعنى الجملة قبلها، وهو استواء إنذارهم وعدم إنذارهم. والمعنى: أن هذه الطائفة لا يحصل منها إيمان البتة. وحرف (لا) إذا دخل على الفعل المضارع؛ نحو: {لا يؤمنون}، أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل أبدا حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدود. وليس المراد من الذين كفروا: كل من اتصف بالكفر؛ فإن كثيرا من الكافرين ينتفعون بالإنذار فيؤمنون، وإنما المراد منه: طائفة اعتلت قلوبهم، وانطمست بصائرهم، فأعرضوا عن الحق، والنظر في أدلته بعد إبلاغهم الدعوة، أو جحدوا الحق بعد إقامة الحجة عليهم.
والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذا الصنف من الكفار: تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم، وفي هذا تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفا على قوم دعاهم إلى سبيل من الحق، وبذل جهده في دعم دعوته بالحجة، فنأوا بجانبهم، وانحطوا في أهوائهم.
{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}:
Shafi 23
هذا بيان للمانع لهم من الاهتداء للإيمان فيما يستقبل، كما أنهم لم # يهتدوا له فيما سلف. والختم: الوسم بطابع ونحوه؛ كضرب الخاتم على الكتب والأبواب. والقلب: المضغة الواقعة بالجانب الأيسر من الصدر، ويستعمل في القوة العاقلة التي هي محل الفهم والعلم. والسمع: مصدر سمع، ويطلق على القوة التي يقع بها السمع. ولما كان الختم يمنع من أن يدخل في المختوم عليه شيء، استعير لإحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما.
وورد السمع في الآية مفردا، مع إضافته إلى جماعة، وهو أسلوب عربي سائغ، وبلاغة اللغة تسع استعمال المفرد في معنى الجمع عند أمن اللبس، تفننا في العبارة، وأخذا بطريقة الإيجاز، فإن السمع أقل حروفا من الأسماع. قال سيبويه: وحد لفظ السمع، إلا أنه ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضا.
{وعلى أبصارهم غشاوة}:
الأبصار: جمع بصر، وهو في الأصل: الإدراك بالعين، ويطلق على القوة التي يقع بها الإبصار، وعلى العين نفسها، وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار في الآية، وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة؛ أي: غطاء. ومفاد الآية: أن تصير أبصارهم بحيث لا تهتدي لأن تنظر في حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات نظر اعتبار، كأنما جعلت عليها غشاوة.
{ولهم عذاب عظيم}:
هذا بيان لما يستحقونه من الجزاء على إغراقهم في الكفر، واستحبابهم للمعاصي، والعذاب: الألم الفادح، ووصف بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيرا هينا.
Shafi 24