قال: ما هذا الجنون؟ - أصغ إلي واعلم أنك إذا لم تقسم لي بشرفك على أن تبقى هنا ... - ماذا يكون؟ - تكون هذه الساعة آخر العهد بيني وبينك. - ولكن لماذا تلح الليلة بالخروج إلى الحديقة؟ - هذا سر لي ما أحب أن أبوح به. فاضطرب شارنسون، ولكنه لم يجسر بعد ذلك على إصراره، فتنهد تنهدا طويلا وسكت.
أما فيلكس فإنه ألقى على كتفه وشاحا وخرج حتى بلغ الباب المؤدي إلى الحديقة، فوجده مفتوحا فقال في نفسه: لقد صحت ظنوني فإن البرنس لا شك عند هذا الرجل، وقد مشى في الحديقة رويدا وهو يقف من حين إلى حين مصغيا، ولا يسير إلا في الطريق المفروشة بالرمل ؛ إخفاء لصوت خطواته، فكان يسمع أصواتا مختلفة شبه الهمس، تصل إلى أذنيه عن بعد.
وفيما هو على ذلك سمع بين هذه الأصوات صوت امرأة فخفق قلبه خفوقا شديدا؛ إذ أيقن أن هذا الصوت صوت باكيتا، وقال في نفسه: إنها لا محالة مع البرنس، ولكن أي شأن لها عنده في هذه الساعة؟ وقد مشى إلى مصدر الصوت - أي إلى المكان الذي كان يقيم فيه الطبيب - فكانت الأصوات تقترب من أذنه، ولكنها كانت لا تزال بعيدة عنه فلا يستطيع أن يتبينها ويفهمها، حتى وصل إلى ما تحت النوافذ ووقف يصغي، ولكنه لم يفهم شيئا أيضا.
وكانت النوافذ عالية، وقد زرعت الأشجار الباسقة عندها، فتسلق شجرة كانت أغصانها ملاصقة للنافذة، وهناك انجلت له الأصوات، وبات يرى داخل تلك الغرفة التي كانت تضيء فيها الأنوار، فرأى في وسطها منضدة كبيرة كان عليها كثير من الكتب والأوراق، ومنضدة أخرى عليها القناني المختلفة وآلات كثيرة شبه آلات المشتغلين بالطبيعيات والكيمياء، ثم رأى كوكلين جالسا قرب المستوقد وأمامه البرنس وهو مصفر الوجه مقطب الجبين، وقد أخذ يد باكيتا بين يديه والدموع تسيل من عينيها، فجمد الدم في عروقه، وجعل يصغي إلى الحديث أتم الإصغاء، وكان كوكلين يتكلم والاثنان مصغيان إليه، فكان مما قاله وسمعه فيلكس قوله:
لقد كان مرض صديقك يا سيدتي نفسانيا محضا في بدئه، فإن هذه الرواية التي رويتها لي عنه أثرت فيه أبلغ تأثير، فقد فتكت نفسه بجسمه، وكان مثله مثل السيف الكثير المضاء يتلفه الغمد، فقال البرنس: ألا يمكن أن تكون مخطئا يا كوكلين؟ - إني أتمنى أن أكون مخطئا، ولكني واثق مما أقول لسوء الحظ. - ولكنه ساكن هادئ منذ حين. - ذلك لأنه يشتغل. - ماذا تعني؟ - أعني أن له الآن غرضا يسعى إليه، وهو إتمام التمثال الذي حطمه، فتتغلب إرادته على المرض وهي ستتغلب إلى أن يدرك هذا الغرض. - ومتى أدرك هذا الغرض؟ - يكون ذلك اليوم بدء نزعه. فغطت باكيتا وجهها بيديها، وجعلت تبكي بكاء مرا، ومضى الطبيب في حديثه فقال: نعم، إن ذلك اليوم يكون بدء أيام نزعه، فإن إرادته تتلاشى بعد إدراك غرضه، فترتخي أعصابه، وتخمد نظراته بالتدريج، ويحل الضعف محل القوة، ويسري مرض الجسم في مسراه إذ لا تبقى قوة من الإرادة توقف سيره، فيدركه الانحلال تباعا حتى يموت دون ألم.
وكان البرنس يسمع أيضا، فلما وصل الطبيب بقوله إلى هذا الحد، وقف البرنس فجأة وقال: أما سمعتما؟
فقال الطبيب: ماذا؟
قال: هنا وراء هذه النافذة قد سمعت حسا، ثم ذهب مسرعا إلى النافذة، وأطل منها فلم ير أحدا، فقال الطبيب: ولكني لم أسمع حسا.
قال: أما أنا فإني سمعت، وأنا على اليقين. - ماذا سمعت؟ - وقع خطوات. - إن الجميع نيام في القصر.
وقد دنا الطبيب أيضا من النافذة وأطل منها باحثا، ونظر إلى جهة القصر، فلم يجد فيه أثرا لأحد، فقال لقد خدعك سمعك يا مولاي.
Shafi da ba'a sani ba