حيا الله رشدي باشا.
الفصل الرابع
مناقب ثروت باشا
نقف الآن وجها لوجه أمام شخصية من أعظم ما أنجبت هذه البلاد من الشخصيات الجليلة، نحاول جهد طاقتنا بيان ما أودعت من آيات القوة والنفوذ ودلائل الفضل والحجى، وتحليلها إلى ما يكون مجموعها من عناصر الذكاء واللوذعية، وأسرار النبوغ والعبقرية. هذا ما نرومه الآن وما نحاوله وإن كان فوق قدرتنا الضئيلة وحولنا الضعيف؛ لأنا نعلم أن البطل لا يزال لغزا يعي الناس حله، وأن ما يظهر لنا من مآثره وحسناته ثمار تختفي جذورها في أعماق سر الطبيعة وخفايا مجاهل الأبحاث البسيكولوجية، ونعلم أن تهجم الكتاب والنقاد على شخصية الرجل العظيم - ابتغاء تعرف أسرارها وتحليلها إلى عناصرها - يكون في الغالب كتهافت أسراب الفراش على الشهاب المتقد يبهر أبصارها ويحير ألبابها ، وقصارها بعد ذلك أن ترتد عن لهيبه الساطع برءوس مطرقة وأجنحة محرقة.
ولكنا على الرغم من كل هذا - وبباعث غريزة الاستطلاع الفني التي تدفع كل فني إلى الجرأة على أعوص مطالب فنه وأبعدها غورا - نحاول الآن أن نجول جولة في عالم هذا النبوغ العجيب، ونسبح سبحة في خضم تلك العبقرية المهيب، لعلنا أن نعود من هذا وذلك بقليل من نفائسهما الجمة وثروتهما الطائلة.
ثروت باشا رجل عظيم قد توافرت فيه شرائط العظمة التي أساسها قوة الشخصية المتسلطة على النفوس والأذهان بسحر الجاذبية، ومن ثم ما يعهد فيه من تفوق ملكة البيان وخلابة المنطق في جميع مراتب الكلام، من أسماها، أعني الخطابة في الجماهير والمحافل، إلى أدناها، أعني التهامس والمسارة.
لقد عرفنا ثروت في جميع أدوار حياته - منذ كان نائبا عموميا وقبل ذلك إلى وقتنا هذا الذي يتربع فيه دست الوزارة، ويدير دفتي الإدارة والسياسة - خطيبا مصقعا، ومنطقيا مفحما، ومتكلما مؤثرا خلابا. لقد عهدناه في كل أدواره ساحر البيان، يقتاد أفكار سامعيه، فيمكنه ذلك من اقتياد إراداتهم، حتى يحبب إليهم من الأعمال والأغراض ما كانوا يستنكرونه - جهلا منهم بفوائده - منذ ساعة، فيحملهم على الارتياح إلى مزاولته بعد إحجام عنه ونفور، وليس بعسير على من بلغ من سحر البيان والخلابة منزلة الرئيس الجليل ثروت باشا أن يلعب بألباب سامعيه، فيقرع بها أوتار السرور تارة وأوتار الحزن أخرى، وآونة يبعث منها رنات الندم والأسف، وآونة صدحات الحبور والطرب، ومثله قدير أن يسل بقوة بيانه سخائم الصدور، ويستأصل جذور الضغائن والأحقاد، حتى يترك العدو صديقا حليفا، والضد صاحبا أليفا، ويملأ القلوب اليائسة رجاء وأملا، والنفوس الموحشة أنسا وجذلا. أو لم تحدث خطبه الأخيرة الرنانة أمثال هذه الآثار الحسان في نفوس الشعب المصري الكريم يوم نزلت على القلوب بردا وسلاما، وبددت ما كان لا يزال عالقا بنفوس الكثيرين من بقايا الريب والظنون والقلق والإشفاق، فكان في آياتها البليغة جلاء الشبهات، وفي حججها الدامغة زوال الظنون، وكانت منفاة الهموم والأتراح، مدعاة المسار والأفراح.
إن مثل الوزير الجليل ثروت باشا إذا قام يخطب، أو انبرى يتحدث، خيل إليك كأنما يصب تيار روحه الزاخر في أرواح سامعيه فيمتلك نفوسهم، ويستحوذ على ألبابهم، ويقتاد أفئدتهم بأعنتها، ثم يرى نفسه أحق بالخطابة من سائر المتصدين لها - إذ كان أغزرهم مادة وأملئهم وعاء - فينبري للكلام - وإنه لأجدر به وأولى - وإذ ذاك يصغر بجانبه الخطباء ويتضاءلون، ثم يذهلهم فرط السرور بسماع مطرباته عن الاشتغال بإحساسات الحسد والحقد وغيرها من نزعات الأنانية، فيرتاح كل سامعيه إلى التضاؤل في حضرته، ويلذ لهم أن يغمسوا أرواحهم في معين بلاغته الفياضة، ويغمروا نفوسهم برحيق بيانه المنعش. فمثل هذا الخطيب المصقع، والمحدث البارع، يملأ الساعة التي يقضيها بالخطبة أو بالحديث من بدائع آياته، وروائع معجزاته بما يجعلها غرة في جبين العصر، ويترك غيرها من ساعات حياتنا الاعتيادية، وكأنها بالنسبة إلى تلك الساعة الغنية الفياضة ساعات نوم ورقاد. فمن ذا الذي يعجب بعد ذلك لفرط ما أوتي أمثال ذلك الخطيب من التأثير والنفوذ والسلطان على نفوس البشر؟
ثروت باشا خطيب عظيم ومن أجل هذا كان بطلا؛ لأن قوة الخطابة نوع من البطولة؛ ذلك لأن الخطيب العظيم يقف من جماهير سامعيه موقف المبارز المناجز المستعد لملاقاة كل قادم، فهو قد وطن النفس على أن يكون في كلماته الحارة المتألقة، وفي عباراته الثرة المتدفقة، ما يقنع جميع سامعيه مهما تكاثر عددهم، ويفحمهم ويشفي غليلهم، ويكون فيه الجواب المسكت على كل ما عساه أن يجيش بصدورهم، ويجول في خواطرهم من الشكوك والظنون والأسئلة؛ لذلك ترى مثل هذا الخطيب إذا قام يخطب في المحافل وقف وقفة المشمر المنجرد، المتحفز بقدم متقدمة إلى الأمام، كالذي قد هم أن يزحف على تلك الجموع المحتشدة ويغزوهم، وتلك هي الحقيقة؛ لأنه يزحف عليهم فعلا بجيوش من أفكاره البديعة السامية، ويغزوهم بكتائب من آرائه الجديدة المبتكرة؛ لذلك يجب أن تكون خطبته سابقة في منازل الرقي لأفكار سامعيه أيا كانوا، بل سابقة لأفكار جيله وعصره، وإلا كانت فضولا ولغوا وهراء، ومن ثم كانت الخطبة الجليلة أجدر أن تعد عملا نافذا من أن تعتبر مجرد كلام وألفاظ؛ إذ هي في الواقع كهرباء العمل والحركة، فهي تنطوي على القوة الدافعة إلى الأعمال - شأنها في ذلك شأن ما يرسمه قائد الجيش من خرائط المواقع والملاحم، وما يصدره من أوامر الكر والفر والدفاع والهجوم - وكذلك الخطيب إما أن يكون قد جاء لأمر عظيم؛ ليستنهض جماهير سامعيه، ويستنفرهم إلى استئصال جيوش الأباطيل والأضاليل، وإلى افتتاح عوالم جديدة من الآراء والأفكار، فتكون خطبته مناداة إلى الغزو وصيحة إلى الجهاد، وإلا فأولى له أن يسكت.
إن ثروت باشا - باعتباره خطيبا مفحما ومتكلما خلابا - يؤثر في سامعيه ويقنعهم، ويحملهم على اتباع رأيه والأخذ بمبدئه، وذلك بفضل ما يجلو لهم من غوامض الأمر، ويحل لهم من مشكلاته، وبإعارته إياهم بصيرته النافذة، ورويته الثاقبة ينظرون بها في نواحي الموضوع وجوانبه، ويتغلغلون بمنظارها الكشاف إلى خفاياه وخباياه فيبدو لهم الأمر على خلاف ما كانوا يعهدون، وعلى العكس مما كانوا يحسبون فإذا السواد بياض، والفساد صلاح، والتنافر وئام، والاعوجاج استقامة، والسوأة حسنة واليأس رجاء. فمثل ثروت باشا إذا شاء إقناع سامعيه وحملهم على ما يريد رأيته ينظر إلى الأمام، ويتجه بنظره البعيد إلى ما سيكون، في حين ترى سامعيه قد جاءوه وهم ينظرون إلى ما كان من الأمر وما انقضى - أعني إلى الماضي وما قد أنكروا من حوادثه وأحواله - فنظرهم بذلك الماضي معقود وفيه محصور، ومن ثم كان قصر نظرهم وضيقه واحتباسه في دائرة صغيرة محدودة يترددون فيها ويتعثرون كالخفافيش في ظلمة الشك والحيرة، وقد يئسوا من استقامة الأمر وصلاحه. أما هو (أعني ثروت باشا) فغير ذلك شأنه - وما كان من زمرة الخفافيش حتى يحصر نفسه في دائرة الماضي الضيقة، ويحبس نفسه في ظلمتها (وإن كان لا ظلمة مع شهاب رأيه الساطع ونجم فكره اللامع) - ولكنه - وهو ذلك النسر الطماح - يضرب صفحا عن الماضي المنقرض الداثر، ويستقبل بعينه الثاقبة شمس المستقبل الباهرة فيصفق في شعاعها البراق جناحيه الطموحين، ويستدر عليهما قطرات أنداء البشارة من مزنة الأمل الصدوق والرجاء المحقق، ويستهبط آيات الوحي والإلهام من آفاق المستقبل المشرقة، وكذلك إذا استدبر القوم المعارضون أمرهم، وتشبثوا بأذيال الماضي وأعقابه - فأوصدت في وجوههم أبواب الآراء، وأغلقت منافذ الأفكار، وانحبس عنهم فيض الخواطر إلا ما يصوب عليهم من أليم الذكريات مما تكف به سحائب الماضي المنقشعة - رأيت ثروت باشا - ذلك الهمام الطماح العزيمة والأريب الثاقب البصر والروية - يضرب صفحا عن ذلك الماضي، ويعمد إلى معين ذهنه الفياض، وينبوع قريحته المتدفق، فيغترف من ثمة سجال الرأي السديد، والفكر الأنف الجديد، ثم يستطلع نجوم فراسته الصادقة فيتلمس في صحفها المشرقة طوالع السعود، أو يتسقط من شوابك أفنان شجرتها الذهبية أوراق اليمن والبشارة، وحينئذ يقبل على سامعيه فيباغتهم من سوانح إلهام بصيرته، وخطرات وحي بديهته بما يبدد سحائب شكهم وريبتهم، وينفر أسراب خوفهم ووحشتهم، وهنالك يبصرهم من غوامض أسرار الأمر وخفايا دخائله ما لم تكن نظراتهم السطحية لتستطيع من قبل أن تكشف نقابه وتهتك حجابه. هنالك يفيض إناؤه المفعم الملآن في أوعية صدورهم من مادة العلم والعرفان ما يبرز لهم الموضوع في مظهر آخر، وضياء جديد وشكل مستحدث، حتى تراه يفتن ألبابهم، ويسحر عقولهم، ويملؤهم دهشة وعجبا كما لو كانوا زمرة أطفال، فينسيهم أفكارهم القديمة في الموضوع، ويذهلهم عما كان يخالج نفوسهم فيه من فاسد الاعتبارات والأوهام، وكذلك ينتصر عليهم بقوة التكهن والتنبؤ، وقد كانوا يحسبون أنه لا يملك من سلاح الإقناع إلا تكرار البراهين المعروفة المتبذلة، والعبارات المرددة والكلام المعاد.
Shafi da ba'a sani ba