وبعد أن يبح النداء صوت الوقت، ويقطع الدعاء حنجرته تخور قوته، وتبيد منته ثم تنهار أركانه، ويتقوض بنيانه، ويعمه الفساد ويشمله التلف والخراب؛ وما ذاك إلا لأن البطل لم يدركه في ساعة محنته وبلائه، ولأن العظيم لم يكن إذ ذاك موجودا، ولم تكن القدرة الإلهية قد خلقته، وأرسلته هدى ورحمة للعالم.
والواقع أن غوائل التلف والفساد ما كانت قط لتصيب عصرا من العصور لو أنه أتيح له رجل عظيم يجمع بين العقل والعزيمة - بين عقل يعرفه حاجة العصر وعزيمة يستعين بها على قضاء هذه الحاجة - فيبلغ بعصره غاية الأمل والمنى، ويصل به إلى مدى الفوز والسعادة. فأما العصور الفاسدة الخربة - المصابة بداء الشك والحيرة والكفر والجحود - فهي في مذهبي أشبه شيء بأكداس الحطب اليابس الميت تنتظر من السماء شهابا يسقط عليها فيذكيها ويشعلها حريقا، وما الرجل العظيم يتاح من جانب الله لمثل هذه الأكداس الذابلة الميتة يحييها ويوقظها إلا ذلكم الشهاب الساطع يؤدي إلى العصر رسالته وينطق كلمته - فإذا فيها شفاء الغلة، وبرء العلة، واتحاد الآراء، واتفاق الأهواء، والتئام العقائد والمذاهب، وائتلاف المقاصد والمشارب - فما هو إلا أن يقع ذلكم الشهاب على تلكم الأكداس المكدسة من الحطب اليابس الميت حتى يتأجج سعيرا، وبعد ذلك يجيئك الجاهل السخيف الغبي، الجامد الطبع، المظلم الروح، الذي لا يفهم معنى العظمة، ولا يفقه سر البطولة؛ فيهزأ ويسخر من ذلك الشهاب الذي أشعل أكداس الحطب الذابلة بشعلة ذكائه الوقاد وجذوة عزمه المتسعر، فيزعم أن أكوام الحطب الميتة هي التي خلقت ذلك الشهاب وأوجدته من العدم، يا للسخف ويا للحماقة!»
ألا إنما يفهم الفضل ذووه ويفقه المروءة أهلها، والبطولة سر لا يدركه إلا من تعرف معناه في صميم قلبه، وتسمع نجواه في ثنايا ضميره. وقدما قيل: إن البطل لا يمكن أن يكون بطلا في عين خادمه، وليس اللوم في ذلك على البطل بل الخادم، ولو نظر الخادم إلى البطل بعين تستمد شعاعها من روح بطل لعرف بطولته، ولكنه ينظر إليه بروح خادم سوقي عامي من طائفة الطغام والغوغاء. ولهؤلاء مذهب آخر في البطولة يتفق مع نذالتهم ولؤمهم ودقتهم، ومع سفالهم وضعتهم وخستهم، ولهؤلاء أيضا أبطالهم وعظماؤهم الذين يأتون من الأعمال والوقائع ما يعجب نفوسهم الخبيثة وأرواحهم القذرة، فأولئك في نظرهم هم الأبطال والعظماء حقا، ولا بطولة إلا بطولتهم، ولا جرم، فمن ذا الذي قال إن الحشرات تطربها نغمات موسيقى الطبيعة، أو يروعها سنا بهجة النيرات في أبراجها والكواكب في أفلاكها؟ بل الله وعلماء الحشرات أعلم بالذي يطرب تلك المخلوقات من دقيق الأشياء وحقيرها مما لا تراه العين إلا بالمجهر لفرط ضؤلته وخسته.
أما أنه ما بلي جيل من الأجيال، ولا نكب عصر من العصور بآفة هي أنكر وأنكى، وأمر وأدهى من آفة التكذيب بعظمة الأبطال وجلالهم، والكفر بحسناتهم وآلائهم.
أما أنه ليس شيء أدل على سفالة الأفراد والمجاميع، ولا أشهد على لؤم غرائزهم ودقة أخلاقهم وخسة طباعهم، ولا أنم على غباوتهم وجهالتهم وسخفهم وخرقهم من إنكارهم قوة البطل ومقدرته، وإقرارهم للجماهير والجماعات الاعتياديين بالفضل العظيم والعبقرية، من كفرهم بالبطل الفذ النادرة وإيمانهم بالعامة والدهماء، من عماهم عن نور الله المقدس، عن الشهاب الساطع واعتقادهم في أكداس الحطب اليابس الميت؟!
هذا وايم الله الغفلة التامة والجهل المطبق، والخسة والدناءة، ومنتهى الحمق والبلادة، وأقصى غاية الكفر والجحود. فهلا علم أمثال هؤلاء أن الرجل العظيم ما زال منذ بدء الخليقة كوكب الهداية في الظلمات، وزورق النجاة في الغمرات، وسهم الرشد مسددا إلى كبد الغواية، وسيف الحق مجردا على هامة الضلال والعماية، وأنه الشهاب الذي لولاه ما شبت النار في الهشيم، ولا تأجج الحطب ضراما؟ أليس البطل هو مصدر النور تنعكس أشعته على الأجرام المعتمة، وينبوع الحياة تفيض أنفاسه في الأشباح الخاوية المعدمة؟ وهل تاريخ العالم إلا سلسلة حلقاتها نوابغه وأبطاله؟
ولا يسعنا الآن في مقام وصف الأبطال والبطولة إلا التنويه بذكر بطل من أعظم أبطالنا، وزعيم من أكبر زعماء نهضتنا، وأمهر قواد حركتنا، ذلك هو دولة الرئيس الجليل حسين رشدي باشا، وكيف يتصدى امرؤ للكتابة عن أبطال النهضة الحالية، ثم لا يدفعه الشعور والواجب إلى وضع صورة هذا البطل العظيم في متحف المجد القومي، ونصب تمثاله في هيكل الوطنية المقدس؟ أو لم يكن في كل شوط من أشواطه الطرف الأغر في حلبة الجهاد والفارس المعلم في كتيبة الكفاح والجلاد؟ أم هناك من ينكر أنه ما زال الجوهرة الكريمة في قلادة مآثرنا، والدرة اليتيمة في تاج مفاخرنا؟
إن أول ما يروع المشاهد المتأمل من مناقب رشدي باشا ومحامده الجمة العديدة هو ذلك الإخلاص الحار والغيرة الملتهبة، وما لي لا أقول إن ذلك البطل العظيم إنما هو جذوة حمية متقدة وجمرة إيمان متأججة؟ أو لم نره في مواقفه العديدة في حومة النضال عن حقوق وطنه كيف كانت أنفته وإباؤه وشممه وكبرياؤه، وكيف كانت عواطف الوطنية الحادة إذا ثارت في جنانه، وجاشت في وجدانه فتألق وهجها في حر وجهه الكريم، ولمع شعاعها في عينه الصريحة، قذف بها منطقه الشريف في وجه الخصوم جهارا كلمات صدق، وآيات حق لا تسد سبيلها حجب المداجاة والمواربة، ولا تقوم من دونها حوائل المداراة والمصانعة، شأن الذي لا حد لصراحته وإخلاصه. وقدما كان الإخلاص عنصر البطولة وأساسها. أجل، إن الإخلاص الشديد العميق هو - كما قال «كارليل» - أس فضائل الرجل العظيم، ولا نعني إخلاص من لا يزال يعجز أمام الناس بإخلاصه؛ فإن ذلك - وايم الله - عيب ومنقصة، وهو إخلاص سطحي حقير وقح، بل غرور وسفاهة. إنما الإخلاص إخلاص من كان - مثل رشدي - لا يباهي به ولا يفاخر، ولا يكاد يحسه أو يشعر به، إذ كان في نفسه فطريا غريزيا، فهو معدن روحه وجوهر نفسه.
إن ما يبدو لنا صريحا من فرط إخلاصه وعطفه وحبه لأبناء وطنه، وعطفه على أمانيهم، وغيرته على مصالحهم هو ذلك الذي يدنيه منا، ويصل ما بين قلوبنا وقلبه الكبير بأمتن روابط الحب، وأسلاك كهرباء الشعور المتجاوب والإحساس المتبادل، فعينه تنم عن نجوى ضمائرنا ومكنون سرائرنا، وفؤاده يخفق على دقات أفئدتنا ونبضات قلوبنا ، والرجل المخلص الغيور يراه الشعب فيعرف لأول وهلة أنه فتاه وبطله وبغيته وضالته، وما زال الرجل العظيم يحقق الظنون ويصيب مكانه ومركزه من زعامة الشعب وقيادته؛ إذ يكون مجرد ظهوره كفيلا أن يفسح له المكان اللائق به، ويجذب إليه الأنصار والأعوان، ويخلق له الأسباب والوسائل والعدد والذخائر، فهو في ذلك كالجدول الفياض يخلق بذاته لذاته ضفافه الخصبة المريعة المنتجة المثمرة حيثما جرى وتسلسل.
لقد جاهد رشدي في سبيل الوطن حق جهاده، وأبلى في الدفاع عن القضية أحسن البلاء، وكان في طليعة من عملوا على تحقيق ما قد تم لنا من الفوز والنجاح، وحسبه فخارا أنه أهدف صحته النفيسة الغالية في سبيل بلاده لسطوة المرض، وأبلى في محبة وطنه سربال عافيته العزيزة على جميع مواطنيه، وإن ارتخصها هو - سلمه الله وعافاه - وامتهنها في خدمة مصالحهم، وقد ثبت في الميدان ثبات الصناديد على رغم ما كان يقاسي من برحاء العلة، شأنه في ذلك شأن الفارس المغوار لا يثنيه عن الكر في حومة الوغى ما قد أصابه من طعنات الأعداء، دأبه ذلك إلى أن خرج من المعركة أغر أبلج وضاء الجبين يحمل علم العزة والنصر وما هو أشرف من ذلك وأنبل، أعني جرحه الدامي الأليم.
Shafi da ba'a sani ba