Tragedy
وتهجيتها:
T r a g e d y .
6
وكان المعلم كرشة قد شغل بأمر هام، ومن النادر أن ينصرم عام من حياته دون أن يشغل نفسه بمثل هذا الأمر؛ على ما يسببه له من الكدر والتنغيص، بيد أنه كان رجلا مسلوب الإرادة، لم يترك له الحشيش من إرادته نفعا. ومع ذلك كان، على خلاف الأكثرية من تجار هذا الصنف، في حكم الفقراء، لا لأن تجارته غير نافقة، ولكن لأنه كان مبذرا - في غير بيته - يبعثر ما يربحه، وينثر المال بلا حساب، جاريا وراء شهواته، خصوصا هذا الداء الوبيل.
وعندما آذنت الشمس للمغيب غادر القهوة دون أن ينبئ سنقر عن طيته، مرتديا عباءته السوداء، متوكئا على عصاه العجراء، ينقل على مهل خطواته الثقيلة! ولا تكاد تدل عيناه المظلمتان المختفيتان تقريبا وراء جفنيه الغليظين على أنه يحسن رؤية طريقه، وكان قلبه يخفق! والقلب يخفق ولو شارف صاحبه الخمسين، ومن عجب أن المعلم كرشة قد عاش عمره في أحضان الحياة الشاذة، حتى خال لطول تمرغه في ترابها أنها الحياة الطبيعية. هو تاجر مخدرات اعتاد العمل تحت جنح الظلام، وهو طريد الحياة الطبيعية وفريسة الشذوذ، واستسلامه لشهواته لا حد له ولا ندم عليه ولا توبة تنتظر عنه. بل إنه ليظلم الحكومة في تعقبها لأمثاله، ويلعن الناس الذين جعلوا من شهوته الأخرى مثارا للازدراء والاحتقار، فيقول عن الحكومة: «إنها تحلل الخمر التي حرمها الله، وتحرم الحشيش الذي أباحه! وترعى الحانات الناشرة للسموم، في حين تكبس «الغرز» وهي طب النفوس والعقول.» وربما هز رأسه آسفا وقال: «ما له الحشيش!» «راحة للعقل وتحلية للحياة، وفوق هذا وذاك فهو مدر للنسل!» وأما شهوته الأخرى فيقول بقحته المعهودة: «لكم دينكم ولي دين!» ولكن إيلافه شهواته لا يمنع من أن يخفق قلبه كل مطلع هوى جديد. وقد سار متمهلا في الغورية ومستسلما لخواطره، يتساءل والأمل ملء فؤاده: «ماذا يا ترى وراءك أيها المساء؟» وعلى رغم انهماكه في خواطره كان يحس بالدكاكين على الصفين إحساسا غامضا، ويرد بين الفينة والفينة تحيات بعض أصحابها من معارفه. وكان يسيء الظن بهذه التحيات وأمثالها، ولا يدري إن كانت لمحض السلام أم أن وراءها من الغمز واللمز. فالناس لا يريحون ولا يستريحون، ويتلقفون المثالب بأفواه نهمة جشعة، ولطالما قالوا فيه وأعادوا، فماذا أفادهم التشهير؟ لا شيء! وكأنه ولع بتحديهم فراح يجهر بما كان يسره. وهكذا مضى في سبيله حتى اقترب من آخر دكان على يساره فيما يلي الأزهر، فاشتد خفقان قلبه وتناسى تحيات الناس التي أثارت سوء ظنه، وانبعث من عينيه المنطفئتين نور خافت شرير، وراح يدنو منه بفيه الفاغر وشفته المتدلية، وجاز عتبته. دكان صغير يجلس في صدره شيخ عجوز وراء مكتب صغير، ويستند إلى أحد رفوفه المكدسة بالبضائع، بائع متسربل بالشباب اليافع، ما إن رأى القادم حتى استقام ظهره، وتلقاه بابتسامة البائع اللبق، وارتفع الجفنان الثقيلان لأول مرة، واستقرت العينان على الشاب، ثم حيا برقة، ورد الشاب التحية في لطف، وقد أدرك لأول وهلة أنه يرى هذا الرجل للمرة الثالثة في ثلاثة أيام متتابعات، وقد تساءل: لماذا لا يبتاع ما يريد مرة واحدة؟!
وقال المعلم: أرني ما عندك من جوارب.
فأحضر الشاب أنواعا منها وبسطها على «طاولة» المحل، وأخذ المعلم يتفحصها وهو يخالس النظر إلى وجه الشاب، والشاب لا يخفى أمره عليه، وقد دارى ابتسامة كادت ترتسم على ثغره. وتعمد أن يطيل الفحص والتقصي، ثم قال للشاب بصوت منخفض: لا تؤاخذني يا بني فبصري ضعيف، هلا اخترت لي لونا مناسبا بذوقك الجميل!
وسكت لحظات يتفرس في وجهه، ثم أردف وهو يرسم ابتسامة على شفته المتدلية: كوجهك الجميل.
فأراه الشاب الجميل نوعا متجاهلا إطراءه، فاستدرك الرجل قائلا: لف لي ستة.
Page inconnue