فقالت عابسة: نعم، الجار يحمي جارته؛ لا أن يهاجمها!
فقال الشاب بصدق حار: أنا جار أعلم واجبات الجار، ولم يخطر ببالي قط أن أهاجمك - لا سمح الله - بيد أني أريد أن أحدثك، ولا عيب أن يحدث الجار جارته! - كيف تقول هذا؟! أليس من العيب أن تتعرض لي في الطريق، وتعرضني للفضيحة؟
فهاله قولها وقال بأسف: الفضيحة؟! .. معاذ الله يا حميدة. صدري طاهر، ولا يكن لك إلا الطهر وحياة الحسين، وستعلمين أن كل شيء سينتهي بما أمر به الله، لا بالفضيحة، فأصغي إلي قليلا، أريد أن أحدثك عن أمر هام، ميلي بنا إلى شارع الأزهر بعيدا عن أعين الذين يعرفوننا.
فقالت باستياء متصنع: بعيدا عن أعين الناس؟! ما شاء الله! .. دمت من جار طيب حقا!
وكان قد تشجع بمنازعتها إياه الحديث، فقال بحرارة: ما ذنب الجار؟ .. أيموت قبل أن يبوح بذات نفسه؟!
فقالت بسخرية: ما أطهر كلامك!
فقال عباس بلهفة وشت بإشفاقه من اقتراب الميدان المأهول: طاهر النية وسيدنا الحسين، لا تسرعي هكذا يا حميدة، ميلي بنا إلى شارع الأزهر، أريد أن أقول لك كلمة هامة، ينبغي أن تصغي إلي، أنت تعلمين ولا شك بما أريد أن أقوله، ألا تعلمين؟ ألا تشعرين؟ قلب المؤمن دليله!
فقالت كالغاضبة: لقد جاوزت حدك، كلا ... كلا ... دعني. - حميدة ... أنا أريد أن ... أنا أريدك ... - يا للعار! دعني وإلا فضحتني أمام الخلق.
وكانا قد بلغا ميدان الحسين، فمرقت من جانبه إلى الطوار الأيسر وحثت خطاها على عجل، ثم انعطفت إلى الغورية وهي تبتسم ابتسامة خفيفة. كانت تعلم ما يريد قوله كما قال، ولم تنس أنه الفتى الوحيد الصالح لها في الزقاق ، وقد قرأت في عينيه البارزتين آي الحب كما قرأتها مرارا من نافذتها في الماضي القريب، ولكن هل حرك ذلك جميعه قلبها الجحود؟ أما حالته المالية التي تعلم عنها الشيء الكثير فلا يمكن أن تحرك فيها ساكنا، وأما شخصه فوديع تنم عيناه عن القناعة والخضوع، مما يجعله خليقا بأن يرتاح إليه فؤادها المغرم بالسيطرة، بيد أنها وجدت نحوه - رغم ذلك - نفورا لم تدر له سببا. ماذا تريد إذا؟ ومن يرضيها إذا لم يرضها هذا الفتى الوديع الطيب؟! لم تهتد لجواب بطبيعة الحال، وقد عزت نفورها منه إلى فقره! والظاهر أن حبها السيطرة كان تابعا لحبها العراك لا العكس، فلم تهش للمسالمة، ولم تفرح بظفر هين سهل المنال. وكان قلبها ما يزال في غفوته لم يستبن بعد رغائبه، فملأها شعورها المبهم الغامض حيرة وقلقا.
ونكص عباس الحلو عن ملاحقتها خيفة الأعين، فتراجع مفعم الفؤاد خيبة وحسرة، ولكنه كان أبعد ما يكون عن اليأس. قال لنفسه وهو يسير متمهلا غافلا عما حوله: إنها بادلته الكلام طويلا، ولو قصدت صده ونبذه ما منعها ولا أعيتها الحيلة، فهي لا تكرهه، ولعلها تتدلل شأن الفتيات جميعا، ولعله الحياء الذي جعلها تقطع عليه سبيل التودد بالفرار. فكان أبعد الناس عن اليأس، بل راح يستسلم لمغازلة الأمل وتوثب للكرة التالية. وقد سكر قلبه برحيق نشوة ساحرة لم يكن له عهد بمثلها من قبل. كان محبا صادقا ملتهب العاطفة، وكان يشعر حيال نظرتها النافذة الجميلة بخضوع كلي، ولذة لا حد لها، وحب لا يبيد. أجل كان كأمثاله من الفتيان مولعا بالنساء عامة؛ ولكنه كان كالحمام يحلق في السماء ويطوف بأطرافها ثم يقع في النهاية على برجه ملبيا صفير صاحبه، فهي دون النساء جميعا أمله المنشود. أجل لم تعد مخاطرته خائبة، وتفتحت له أكمام الأحلام عن زهر الآمال؛ فعاد منتشيا مسرورا بحبه وبشبابه. ولما عرج إلى الصنادقية صادف الشيخ درويش قادما من ناحية الحسين، فالتقيا عند مطلع الزقاق، وأقبل على الشيخ يريد أن يصافحه تبركا، ولكن الشيخ أشار نحوه بسبابته محذرا، وحملق في وجهه بعينيه الذابلتين وراء نظارته الذهبية وقال: لا تمش بلا طربوش! احذر أن تعري رأسك في مثل هذا الجو، في مثل هذه الدنيا، فمخ الفتى يتبخر ويطير، وهذا أمر معروف في المأساة ومعناه بالإنجليزية
Page inconnue