Chefs, artistes et littérateurs
زعماء وفنانون وأدباء
Genres
قال: أية تعاليم؟ إنني لم أفعل شيئا! كل ما هنالك أني ساهمت في الحركة التي قام بها بعض المصلحين من أبناء زماني، أمثال سعد زغلول وحسين رشدي وعبد الخالق ثروت وقاسم أمين وعلي شعراوي ومحمد عبده، وكانت مهمتنا - أقصد مهمتهم - صعبة جدا؛ كنا نحاول أن نشق للشعب طريقا في جبل شامخ له ذروتان؛ إحداهما ذروة الخديو، والأخرى ذروة الإنجليز، كنا نطالب الخديو بدستورنا ونطالب الإنجليز بحريتنا.
إلى أن كانت ثورة 1919، وفي هذه الثورة وحدها استطاعت الأمة أن تعبر عن إرادتها، تجاهد وتصمد في جهادها، والفضل في ذلك يرجع إلى الإنجليز! لا تدهش، إنهم هم الذين أوقدوا نار الثورة برعونتهم وتصرفاتهم الطائشة، ولست أقول ذلك الآن فقط.
في سنة 1919 نفسها سأل «كيرزن» قائلا: أريد أن أعرف من هو المسئول عن هذه الثورة؟
فكان جوابي: أنتم المسئولون عن ثورة المصريين، إن احتلالكم وحماقاتكم المتكررة مع الشعب كانت وقود النار، وعود الثقاب.
قلت: إن هذا تاريخ حافل، وأنت قد عشت ذلك التاريخ، بل لقد صنعته، فأين مذكراتك عنه؟
فقال: مذكراتي؟ لقد أحرقتها!
قلت: إنها تاريخ بلادك، فكيف أحرقتها؟
قال: في يوم من أيام سنة 1919 عندما نفي سعد زغلول، ولا أذكر الشهر تماما، كنت جالسا مع علي شعراوي في بيته، وكان معنا عبد العزيز فهمي، وجاء يوسف نحاس وأخبرنا أنه علم أن الإنجليز قرروا أن يلقوا القبض على أربعة من أعضاء الوفد، ويجردوهم من أموالهم ويعدموهم رميا بالرصاص، ثم قال معقبا: إنه لا يستبعد أن نكون نحن الثلاثة في مقدمة هؤلاء الأربعة، ولما سمعت هذا النبأ لم أستغرب وقوعه؛ فإنه ليس إلا حلقة من سلسلة الحماقات التي ارتكبتها بريطانيا معنا، ولم يكن يؤلمني أن أموت رميا بالرصاص أو شنقا؛ فالموت حقيقة لا بد من مواجهتها، مهما طال اختباؤها في السنين، ولم يكن يهمني حرماني من مالي؛ فليس للمال مكان بين القيم التي أعتز بها، ولكن خشيت من أن تهاجم السلطات البريطانية بيتي، وتفتشه وتعثر على مذكراتي السياسية، وقد دونت فيها جميع الحقائق، وكان بعضها حلوا وكان بعضها مرا، وفي المذكرات الخاصة يسجل الإنسان كل صغيرة وكبيرة، وقد كانت الصغائر التي تمس حركتنا كثيرة جدا، كنت أسجل في مذكراتي رأي سعد زغلول في ثروت ورشدي وعدلي، ورأي ثروت وعدلي ورشدي في سعد زغلول وهكذا، وكانت المذكرات تتضمن أسرارا خطيرة إذا اطلع عليها الإنجليز استطاعوا أن يؤذوا الحركة إيذاء شديدا.
ولهذا لم أكد أسمع النبأ الذي ألقاه يوسف نحاس، حتى بادرت بالذهاب إلى بيتي في سيارة علي شعراوي، وكان البيت في المطرية، وعقب وصولي إليه اتجهت إلى مكتبي وأخرجت كل ما في الدولاب من الأوراق والمذكرات والوثائق وأمرت الخادم أن يضعها في الحمام، ثم أشعلت فيها النار.
ولا أكتمك أني حزنت، لقد أحسست أن النار تحرق أفكاري وآرائي، وحقبة مهيبة من تاريخ بلدي.
Page inconnue