لقاء معهم
ثائر مهنته العلم
شاعر الثورة
الرحالة العربي الثائر
أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة
أستاذ الشعراء يتيم
عندما غنى الشعب
مسرحيات شوقي
عالم في الذرة والموسيقى
أستاذ أجيال
شيخ الإسلام (ابن الباشا)
إحسان عبد القدوس
طه حسين يرميني في جنة الشوك!
الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
الساخر بالحياة
الدموع لا تكذب!
توفيق الحكيم
ذكرى ناجي
احتجاب الصحفيين
لغة الأغاني
مولد ووفاة!
قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
الإمام المراغي وحافظ إبراهيم
الغفران
توفيق الحكيم
فن سيد درويش
شعراء الوطنية
خليل مطران
المازني الساخر
أغاني أم كلثوم وأغاني عبد الوهاب
من هو ولي عهد شوقي
البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
شوقي وخصومه
يا صديق العمر تمهل
في الفن تقليد!
الكاريكاتير علمني!
دردشة مع طه حسين
الشاعر الطبيب
مدارس الأدب
حرية القافية
ساعات معها وأيام معه!
الفن والتعايش السلمي
التشاؤم والتفاؤل
لقاء معهم
ثائر مهنته العلم
شاعر الثورة
الرحالة العربي الثائر
أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة
أستاذ الشعراء يتيم
عندما غنى الشعب
مسرحيات شوقي
عالم في الذرة والموسيقى
أستاذ أجيال
شيخ الإسلام (ابن الباشا)
إحسان عبد القدوس
طه حسين يرميني في جنة الشوك!
الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
الساخر بالحياة
الدموع لا تكذب!
توفيق الحكيم
ذكرى ناجي
احتجاب الصحفيين
لغة الأغاني
مولد ووفاة!
قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
الإمام المراغي وحافظ إبراهيم
الغفران
توفيق الحكيم
فن سيد درويش
شعراء الوطنية
خليل مطران
المازني الساخر
أغاني أم كلثوم وأغاني عبد الوهاب
من هو ولي عهد شوقي
البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
شوقي وخصومه
يا صديق العمر تمهل
في الفن تقليد!
الكاريكاتير علمني!
دردشة مع طه حسين
الشاعر الطبيب
مدارس الأدب
حرية القافية
ساعات معها وأيام معه!
الفن والتعايش السلمي
التشاؤم والتفاؤل
زعماء وفنانون وأدباء
زعماء وفنانون وأدباء
تأليف
كامل الشناوي
لقاء معهم
في هذا الكتاب شخصيات التقيت بها، وعشت معها، بينها شخصيات اتصلت بها، وانعقدت بينها وبيني أواصر صداقة ودراسة، وبينها شخصيات أخرى كان لقائي بها من خلال آرائها وأفكارها وكتبها وتاريخ حياتها.
وليس ما قدمته هنا بحثا أو تحليلا، وإنما هو انطباعات لا تخلو من البحث والتحليل، والكشف عن حقائق مجهولة، وقد أغراني ذلك بأن أكتب هذه الصفحات، وأرجو أن يجد فيه القارئ ما يغريه بأن يقرأها!
كامل الشناوي
ثائر مهنته العلم
وهوايته تقطيع رقاب الملوك
الشرق، الشرق خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه، وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه، داء انقسام أهله وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد.
جمال الدين الأفغاني
هل نحن نعيش فوق الأرض، نمشي ونقف، نتحرك ونسكن؟! أو أننا مثل الأرض نلف وندور؟!
هل الزمن مسافات وأبعاد، أعوام وأيام، ماض وحاضر ومستقبل؟! أو أنه حلقة ليس فيها بدء حتمي أو نهاية حتمية؟ فبدايتها يمكن أن تكون نهاية، ونهايتها يمكن أن تكون بداية!
هل يستطيع الإنسان في هذه الحلقة المفرغة - التي نسميها زمنا - أن يتمرغ ويتدحرج، فيرجع إلى الماضي ويقفز إلى المستقبل؟
لا أدري! كل ما أدريه أني تدحرجت وتمرغت بخيالي ومعلوماتي خلال حلقة الزمن، وانتقلت من مكاني في عام 1961 إلى مجلس العالم الثائر المفكر! جمال الدين الأفغاني في عام 1879، ليلة نفيه من القاهرة، وقلت له وقال لي. •••
استيقظت القاهرة صباح يوم 22 أغسطس من عام 1879، ولا حديث للناس إلا عن جمال الدين الأفغاني، الرجل الذي عاش في مصر ثمانية أعوام، ينشر أفكاره الثائرة الحادة في الدين والاجتماع والسياسة بأسلوب جديد، تنطلق منه الكلمة كالقنبلة، تدوي وتنفجر!
وقد وقف إلى جانب الشعب يحضه على الثورة ضد الإقطاع والاستعمار، ووقف إلى جانب الدين يدرأ عنه الخرافات، ويحميه من جهل المنتسبين إليه، المتحدثين باسمه، الذين ظفروا بألقاب كبار العلماء، ومشايخ الإسلام، ومنعوا العلوم الحديثة من أن تدخل الأزهر الشريف؛ فالطبيعة والكيمياء كفر، والحساب والجبر زندقة، والفلسفة إفك و«سفه»! والاجتهاد في المسائل الدينية حرام، واشتغال رجال العلم بالأمور السياسية والاجتماعية بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!
ولكن تعاليم الأفغاني كانت تيارا قويا، سارت الأمة كلها في اتجاهه، كانت الكهرباء التي مست العقول والمشاعر فأيقظتها وأثارتها. وشنت الدوائر الرسمية على الأفغاني حربا شعواء، واستعانت عليه بعلماء الدين فاتهموه في عقيدته، وكانوا يسمونه «ضلال الدين الأفغاني»، ويحذرون الطلبة من الاتصال به أو الاستمتاع إلى آرائه.
وكان خطر الأفغاني أضخم من أن يقاومه جهل الخديو، وضعف الحكومة، وسذاجة أرباب العمائم واللحى في تلك الأيام!
وأدركت تلك الدوائر أنه لا جدوى من التغلب على الأفغاني بالتشويش والمهاترة وإطلاق الألسنة في شرفه وعقيدته، الشيء الوحيد الذي يقهر الأفغاني هو اختفاؤه حيا أو ميتا!
وانطلقت الإشاعات في هذا اليوم تؤكد أن الخديو توفيق سيقتل الأفغاني، أو يسجنه، أو ينفيه.
واتجه أبناء القاهرة إلى الحي الحسيني؛ حيث الأزهر الذي كان قلعة تحصن فيها أعداء الشيخ المفكر الثائر، وحيث خان الخليلي الذي اتخذ الشيخ من بيوته سكنا يجتمع فيه بتلاميذه وأنصاره.
اتجهت جماهير الشعب إلى هناك لتلقي آخر نظرة على الرجل الذي علمهم كيف ينظرون، واقتحمت على الشيخ مجلسه؛ كان حوله الوجيه سليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، والأديب عبد الله نديم، وشبان كثيرون عرفت منهم الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، ويعقوب صنوع!
وكان الشيخ ينفث دخان سيجارته بحدة وشغف، ولا تكاد السيجارة تنتهي حتى يكون تابعه «أبو تراب» قد لف سيجارة أخرى وقدمها إليه، وعلى مائدة الشيخ عدد كبير من أباريق الشاي، وكان يصب لضيوفه الشاي في الأقداح بنفسه، وهو يصغي لكل كلمة، ويجيب عن كل سؤال، والضجيج يملأ المقهى؛ ضجيج الباعة الجائلين ونداء الصبيان بالطلبات: «قهوة»، «نارجيلة»، «جوزة»، «شاي أحمر»، «شاي أخضر»، «شاي كشري» ... وقرقعة الطاولة، والمجاذيب الذين يصيحون: يا حي! ويهتفون بالصلاة على النبي! وزعيق الزبائن وهم خليط من المعممين، والمطربشين، ولابسي الجلابيب بلا جاكتات، وبينهم الشامي، والمغربي، والسوداني، والمصري، والحجازي، واليمني، والتركي، والعراقي، والإيراني، وفيهم أهل التقوى وأهل الفجور، والمسابح تتشابه في يد التقي ويد الفاجر! وبينهم شواذ يدخنون الحشيش في النارجيلة، ويجالسون الغلمان!
وبرغم هذا الجو كان مجلس الشيخ مهيبا يحترمه كل من يراه، حتى الضجة كانت تحتشم إذا ما اقتربت من مجلس الشيخ، فتسمع صوته عميقا، صافيا، هادرا، وهو يتحدث عن مشكلات العلم والدين والاجتماع والسياسة، بصراحة وتدفق، كانت كلماته واضحة كلون الشاي، متدفقة كإبريق الشاي، وكانت إشارات يديه معبرة، تكاد تسمع فيها رنين الكلمة! وهنا، أدركت لماذا وصفوا جمال الدين الأفغاني بأنه كان يصب الشاي بيد، وينثر الحكمة باليد الأخرى!
وكان علي مظهر شابا وديعا، يبدو من قسمات وجهه أن في عروقه المصرية دما تركيا، عيناه زرقاوان، وبشرته بيضاء، وقد امتد على فمه شارب جميل؛ حذاؤه اللامع، وطربوشه الملتوي المكتوي، المائل إلى اليمين فوق رأسه، وملابسه الأنيقة، تدل على أنه من أصحاب الثراء الذين لم يمارسوا العرق!
وكان يتابع حديث الشيخ برهبة وإرهاب، يصغي بأذنيه، يصغي بعينيه، يصغي بأطراف رأسه، لم يشترك في الأحاديث التي دارت بكلمة أو إشارة أو همهمة.
وكان طيلة الجلسة يطوق صدره بكلتا يديه، كأنما يخشى أن يسقط من صدره شيء وعاه من الشيخ وهو يتحدث!
واستأذن الشيخ في الانصراف إلى مسجد الحسين، وقال إنه عائد بعد ساعة.
ومشى الشيخ ومن ورائه محمد عبده، وعبد الله النديم، وسليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، وتابعه الخاص أبو تراب.
ووقف كل من في المقهى إجلالا للشيخ، بعضهم اتجه إليه وصافحه وقبل يده، أو حاول أن يقبلها، وبعضهم وقف مكانه وفي يده مسبحة أو فم نارجيلة، وكان أبو تراب خلال ذلك يبتسم للناس في نشوة، مؤكدا لهم بغمزات عينيه وتحريك أصابعه أن الشيخ سيعود بعدما يؤدي الصلاة.
وانتهزت هذه الفرصة، وخلوت بعلي مظهر وسألته لماذا لم يفتح فمه بكلمة عندما كان جالسا مع الشيخ؟! فقال: خشيت أن تفوتني منه فكرة أو تعبير أو تكشيرة أو ابتسامة؛ إن مولانا الأفغاني يعطينا الحكمة في كل حركاته وسكناته!
قلت له: ولماذا لم تصحبه إلى المسجد؟
فقال: اعتقدت أن عنده ما يريد أن يخص به الذين دعاهم للذهاب معه. - ومن هؤلاء الذين معه؟
قال: عبد السلام المويلحي وجيه كبير، وإبراهيم المويلحي أعظم كتاب هذا العصر.
قلت: ومن يكون عبد الله النديم؟
قال: هذا مفكر عصامي علم نفسه بنفسه، وتطور من «أدباتي» إلى أديب كبير ينظم الشعر والزجل، ويخطب وله تأثير شديد في تغيير أفكار الجماهير، ولا أحد يضارعه في الكتابة باللغة العامية، إلا يعقوب بن صنوع «أبو نضارة»، وهو يهودي.
قلت: النديم يهودي؟!
قال: النديم مسلم، اليهودي هو أبو نضارة يعقوب بن صنوع.
قلت: وما علاقة الأفغاني المسلم بهذا اليهودي؟
قال: إن مولانا يؤمن بتضافر العقليات الشرقية، سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية، للتحرر من الاستعمار الأوروبي، وطغيان الملوك على اختلاف أسمائهم؛ سلطان أو خديو أو شاه!
ثم مد يده مشيرا إلى أحد الشبان، وقال: أتعرف من هذا؟
قلت: رأيته في مجلس الشيخ.
قال: هذا شاب لبناني مسيحي اسمه أديب إسحاق، عرف مولانا مواهبه فأدناه منه، وعاونه على إصدار جريدة في القاهرة اسمها «مصر»، وكان السيد جمال الدين الأفغاني يشرف على سياستها، ويكتب فيها مقالات يوقعها باسم مستعار، هو «مظهر بن وضاح»، ثم أرسله إلى الإسكندرية حيث أنشأ جريدة يومية هي «التجارة»، وأغلقهما رياض باشا ناظر النظار!
قلت: وأبو نضارة هذا، هل هو صحفي؟
قال: إن يعقوب بن صنوع شاعر، وكاتب، وزجال، وابن نكتة، ويتقن عدة لغات، ويعرف التشخيص، ويفكر أفكارا هزلية، أما أبو نضارة فهو اسم المجلة التي عاونه مولانا على إصدارها في عهد الخديو إسماعيل، وكان مولانا يرى وجوب إنشاء مجلة تكتب للفلاحين بلغتهم، وقلنا له: وما الفائدة من ذلك ما دام الفلاح لا يعرف القراءة بلغته الفصحى؟
فقال: إن الفلاح يسمع ما في الجريدة، فإذا سمع لغة فصيحة لم يفهم بسهولة، وإذا سمع لغته الدارجة فهمها بسرعة، والأمة في حاجة إلى أن تفهم بسرعة!
قلت: ومن يكون سليم الحجازي؟
فقال: سليم باشا الحجازي رجل معروف، عندما زارنا الأفغاني لأول مرة كان الخديو إسماعيل قد نكب البلاد بالديون التي أخذها من الدول الأوروبية، وبلغ مجموعها 95 مليون جنيه أنفقها على نزواته ومظاهر أبهته، وتدخلت الدول الدائنة في شئوننا عقب وصول بعثة «كيف» إلى مصر عام 1875، وأنشئت مصلحة للرقابة على مالية مصر، وكانت هذه الرقابة تحكمنا وتتحكم فينا، وتستولي على أقواتنا، وتوجه سياستنا واقتصادياتنا.
وثار السيد جمال الدين الأفغاني على الحال التي آلت إليها مصر، وكان يقول: إني لأعجب منك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك باحثا عن رزقك، لماذا لا تشق بهذه الفأس صدور ظالميك؟!
وكان مولانا يحض على الخلاص من إسماعيل، ويصف حكمه بأنه هوان للشعب، وقهر، وظلم، وسخرة، وجسر يعبر فوقه الغزاة من المستعمرين، ليلووا رقابنا، ويحنوا ظهورنا، ويستنزفوا منا الدم والعرق والكرامة.
وأخذ سليم الحجازي يستمع إلى السيد الأفغاني في تأثر واستجابة، وبغتة وقف منتفضا وهو يقول: كفى يا مولانا، فإنك إذا لم تسكت فسوف أذهب الآن وأقتل الخديو إسماعيل.
قال الأفغاني: وما الذي يمنعك من قتله؟
قال سليم باشا: أخشى على ابني فؤاد، أخشى أن يثأروا منه.
فقال الأفغاني: إذا كان هذا هو المانع، فاقتل ابنك فؤاد، ثم اقتل الخديو إسماعيل! - وهل كان الأفغاني يكره إسماعيل إلى هذا الحد؟
قال علي مظهر: كان يكره الملوك إلى أقصى حد؛ لأنه يحب الشعب والحق والعدل.
وها هو ذا مولانا قد عاد ومعه تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، فاجتهد أن تخلو بالشيخ عبده وتسأله: كيف ذهب ليقتل بنفسه الخديو إسماعيل؟ - الشيخ عبده يقتل؟!
قال: اسأله وسوف يجيبك!
وساد أرجاء المقهى جو من الاهتمام.
وقف الجالسون، وأغلقت علب النرد (الطاولة)، وارتفعت أصوات الكراسي والجرائد وهي تبعد عن الزبائن لتتيح لهم فرصة استقبال جمال الدين وتحيته بلمسات الأيدي، أو بنظرات العيون.
وأقبل الشيخ يحف به محمد عبده، وأبو تراب، والعلم، والجلال، والمهابة، وهو يحاول أن يتوارى فلا يستطيع؛ وقار يريد أن يخف! وتواضع أشد سطوة من الكبرياء!
كان الذكاء والسحر والتمرد تشع من عينيه الواسعتين، ويعلو العينين حاجبان أشبه بخنجرين من شعر ناعم كثيف، يفصل بينهما أنف أشم، وعلى جانبي الوجه خدان بارزان، وقد غطى الشعر أذنيه، ووقف شاربه مؤدبا عند فمه، فبدت شفتاه المليئتان واضحتين تنطلق منهما الكلمة، والضحكة، والآهة الساخرة، والآهة الثائرة، ولم أر ذقنه، فقد اختبأ في لحية مستديرة جميلة!
الجبهة عريضة ، والرأس كبير، ولون البشرة قمحي، أما قوامه فقد حار بين الطول والقصر، والنحول والبدانة، ليس طويلا ولا قصيرا، لس ناحلا ولا بدينا، ولكنه على الحياد!
واتجه الشيخ إلى بيته القريب من المقهى، وبقي تلاميذه في انتظار عودته.
واقتربت من الشيخ محمد عبده، وسألته عما تردده القاهرة من إشاعات عن الإمام الأفغاني، فقال: كل شيء جائز! - هل يعتقلونه؟ هل يقتلونه؟ هل ينفونه؟
فقال محمد عبده: ربما، فهذا كله يحتمل أن يكون، ولكن الذي يستحيل أن يكون هو أن يعتقلوا أفكار جمال الدين، أو يقتلوا مبادئه، أو ينفوا تعاليمه. - وهل اقترف الأفغاني جريمة؟
وقال محمد عبده: المجرمون يريدون أن يعاقبوا الأفغاني على الجرائم التي اقترفوها هم. - لماذا إذن يحاربه كبار العلماء؟
وهنا قفز شخص لم أعرفه، وقال: لأنهم ليسوا كبارا، وليسوا بعلماء!
وسألت الشيخ محمد عبده: هل أستطيع أن أظفر بتوجيه بضعة أسئلة إلى السيد جمال الدين الأفغاني في مكان آخر غير هذا المقهى؟
وقال الشيخ محمد عبده: إنه لم يتعود الجلوس هنا إلا منذ أيام قليلة، فهو يعقد اجتماعاته في بيته، ومقهاه المختار هو قهوة البوستة بالعتبة الخضراء. •••
وفي هذه اللحظة وصل السيد جمال الدين الأفغاني، وجلس بين تلاميذه وأصدقائه، ودنوت منه وسألته في غباء: من أنت؟
فضحك وقال: أنا جمال الدين الحسني الأفغاني. - ما هو تاريخ مولدك؟
قال: في عام 1254 هجرية/1838 بالتاريخ الميلادي. - هل تنحدر من سلالة فارسية؟
قال: لقد تمت ولادتي في الأفغان، وأسرتي عربية مسلمة تنتمي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب. - وما هو سر اهتمامك ببلاد أخرى غير الأفغان؟
قال: لقد نظرت إلى الشرق وأهله، واستوقفتني الأفغان، وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجيران والروابط، فجزيرة العرب من حجاز ويمن ونجد، والعراق، والشام، والأندلس.
الشرق، الشرق، وقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله، وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فعملت على توحيد كلمتهم، وتنبيههم للخطر المحدق بهم. - هل مارست السياسة في بلد آخر غير مصر؟
قال: مارستها في بلدي، ووصلت فيها إلى مركز رسمي يماثل منصب الوزير، ولكن المناصب وسيلة وليست غاية، وقد حاولت أن أنقذ الأفغان من تدخل الدول الأجنبية، فلما لم أستطع توجهت إلى فارس، وهناك اختلفت مع الشاه؛ لأنه يريد أن يقيم عرشه على جماجم الشعب، كما هو الحال هنا وفي كل بلد يحكمه ملك. - ألا يمكن أن يكون الملك عادلا؟
قال: يمكن أن يكون عادلا إذا أصبح تاجه بلا رأس، أو أصبح رأسه بلا تاج! - كم سنة أقمت في مصر؟
قال: أكثر من ثماني سنوات، وكنت قد زرتها قبل ذلك، وأقمت فيها شهرين، ثم عدت إليها في أول المحرم عام 1288 (مارس 1871)، وظللت فيها إلى اليوم؛ يوم 23 أغسطس من عام 1879. - وما الذي جذبك إلى مصر؟
قال: ما جذبني إلى غيرها من بلاد تعاني شعوبها الظلم والعبودية، مثل: فارس، والهند، والحجاز، وتركيا ... وقد حاولت في تلك البلاد أن أغرس شجرة الإصلاح الديني والتحرر الاجتماعي والسياسي، ولكني لم أجد التربة والجو لنمو هذه الشجرة إلا هنا، في مصر. - وهل نمت الشجرة؟
قال: ستنمو حتما. - ما هو الإصلاح الديني الذي تنشده؟
قال: إعادة الصداقة بين العلم والدين، ولكي نصلح الدين يجب أن نعود إلى الأصل وهو القرآن والصحيح من الأحاديث، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه، وأن نفتح باب الاجتهاد، وأن نقضي على التفرقة بين أهل السنة وأهل الشيعة؛ فهذه التفرقة أحدثتها مطامع الملوك.
إن الأديان الثلاثة أساسها واحد، وقد وسع شقة الخلاف بينها تجارة رؤساء الأديان بها. - أظن أن هؤلاء التجار هم الذين يرمونك بالإلحاد.
قال: والجهلاء والحكام طغاة، والدول الأوروبية الطامعة في غفلة الشرق، إنني شديد الإيمان بديني، أومن بعقلي، وليس للعقل نهاية، وأومن بمشاعري إيمان تصوف، ينتهي بي إلى وحدة الوجود. - هل تنادي بحرية الرأي حتى «في المناقشات الدينية»؟
قال: هذا طبيعي، وفي بلادكم شبلي شميل يدعو إلى مذهب داروين، ويعبر عن آرائه الملحدة، وإني أحمل على هذه الآراء وأستهجنها، ولكني أقدر صبره على البحث وشجاعته في الجهر بما يعتقده، ولو كان فيه تحد لعقائد الناس. - هل يسمح الإسلام باعتناق المذاهب الاجتماعية المدنية، كالاشتراكية مثلا؟
قال: الاشتراكية كانت في الإسلام ملتقية مع الدين ملتصقة به، وباعثها حب الخير، أما الاشتراكية في الغرب فقد بعث عليها جور الحكام. - هل ترى المساواة بين الرجل والمرأة؟
قال: المرأة في تكوينها العقلي تساوي الرجل، والتفاوت بينهما إنما جاء من إطلاق سراح الرجل وتقييد المرأة بالبيت، ولكل وظيفته، وليس ثمة ما يمنع من أن تعمل المرأة خارج البيت، إذا اضطرتها الظروف إلى ذلك، ولا مانع من السفور، إذا لم يتخذ مطية للفجور. - لماذا لم تتزوج؟
قال: إن الزواج يتم به بقاء النوع واستكمال حكمة العمران، ويخطئ من يظن مع أبي العلاء المعري أنه جناية، أما أنا فإن معرفتي بما تتطلبه الحكمة الزوجية من معاني العدل، وعجزي عن القيام به؛ دفعاني إلى أن أتقي عدم العدل ببقائي عزبا. - ما هو الحكم المثالي للشعب؟
قال: أن يحكم نفسه بنفسه، ولن يأتي ذلك إلا إذا تعلم وعرف حقوقه وواجباته وحرياته، ومارسها وحرص عليها، وهذا هو سر الصراع القائم بيني وبين الحكام. - أليس الخديو توفيق صديقك؟
قال: كان كذلك قبل أن يتولى منصب الخديو؛ كان وليا للعهد، وكنت ألتقي به في المحفل الماسوني، ووجدت من تعلقه بي ما دفعني إلى أن أشرح له المبادئ السليمة، وقد اقتنع بها وأبدى حرصه عليها، ولكنه لم يكد يتولى منصب الخديو حتى أخذ يتنكر لهذه المبادئ، واستدعاني إليه وقال لي: إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح لأن يلقى عليه ما تقوله من الدروس والأقوال المهيجة.
وقد نصحته بالاعتماد على الشعب إذا أراد تثبيت حكمه، وخرجت من عنده لأستأنف الدعوة للمبادئ الإصلاحية بين الناس. - هل خدعك رياض باشا؟
فضحك في سخرية! - هل خدعك محمود سامي البارودي؟
فأطرق برأسه في حزن وقال: لقد هالني موقفه؛ فقد كان أشرف من عرفت من المسلمين. - ولماذا اختلفت مع المحفل الماسوني؟
قال: لقد رأيت أن أنضم إلى المحفل الماسوني الاسكوتلاندي ؛ لأنه يضم طائفة من المصريين والأجانب، وظننت أني أستطيع أن أنقل أفكاري إليهم، ولكن ظني خاب.
ثم قال: أول ما شاقني في «بناية الأحرار» عنوان كبير خطير، هو: «حرية، مساواة، إخاء»، وأن غرضها منفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق. وقد كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة عجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكن أن يدخل بين أعمدة المحافل الماسونية.
واستطرد يقول: إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون وفيها كل بان حر، وإذا كانت آلات البناء التي في يدها لا تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء، ومساواة؛ فلا حملت أيدي الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم قائمة! •••
وكانت الساعة قد أشرفت على الثانية صباحا، ورأيت أن أريح الشيخ مني، على أن يسمح لي بأن أتعبه مرة أخرى، فدعاني إلى مقابلته في داره غدا.
ولم أكد أخرج من المقهى حتى وجدت حي الحسين كله ساهرا بمقاهيه ودكاكينه، بالعربات المضاءة بالفوانيس تحمل الفاكهة والحلوى وشراب العرقسوس والخروب والتمر هندي، والليمون والشاي والقهوة ... بالدراويش يروحون ويجيئون، وفي أيديهم مجامر البخور، بصفوف كبيرة من الحمير والعربات الكارو، فهذه هي الوسائل الوحيدة لنقل الناس من مكان إلى مكان.
وضاع من رأسي كل أثر للإشعاعات، التي ملأت الأسماع عن التنكيل بجمال الدين.
وذهبت إلى بيتي وحاولت أن أنام، ولكن صوت الشيخ وصورته وأفكاره كانت تغريني بالسهر، كنت أحس أن سهري عليها أحلى من النوم! •••
وفي الصباح استيقظت مذعورا على أصوات غريبة تنطلق في الشارع، من الناس الذين يهرولون في غير قصد ولا هدى من الأبواب والنوافذ، من البيوت والدكاكين والمقاهي، كل الأصوات تصيح: أين جمال الدين الأفغاني؟ اعتقلوه؟ نفوه؟ قتلوه؟
واتجهت إلى الحي الحسيني، وكان الطريق المؤدي إلى الحي، والناس الذين امتلأ بهم الحي؛ أشبه بخلية نحل تطن بأسئلة ليس لها جواب!
وسهرت مع الناس في المقهى إلى اليوم التالي، وإلى اليوم الثالث؛ وفي هذا اليوم، بدأ بعض أصدقاء جمال الدين الأفغاني يظهرون في المقهى، ويتحدثون عن قرار الحكومة بطرد جمال الدين الأفغاني من مصر، لقد طردوا جسده ولم يطردوا أفكاره؛ لقد طردوا شخصه ولم يطردوا شخصيته؛ فما زال الشيخ جالسا، لا في مكانه من المقهى أو البيت، ولكن في كل مكان، وما زال اسمه يدوي اليوم وغدا، وسيظل كذلك أبدا.
وأقبل الشيخ محمد عبده وحاصره الناس يسألونه: ماذا جرى؟
وأخذ محمد عبده يروي ما كان من طرد أستاذه، وذكر أن الحكومة قبضت على السيد جمال الدين الأفغاني صباح ذلك اليوم المشئوم؛ يوم 5 أغسطس، وقاده جنودها بالقوة إلى محطة سكة الحديد، وأركبوه بالعنف القطار الذاهب إلى السويس، ولقيه قنصل إيران وبعض المصريين الأحرار، فعرضوا عليه مائة دينار ولكنه لم يقبلها.
قال لهم: أنتم أحوج إلى هذا المال.
وقال له أحدهم: أنت في حاجة إلى المال أكثر منا.
فقال: الليث لا يعدم فريسته أينما ذهب!
ومضى محمد عبده فقال: إن الانزعاج بنفي جمال الدين الأفغاني كان عاما، ولكن الخديو أبدى سروره بما فعل، وتحدث في محضر جماعته من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان، فأظهر الطرب للخديو من كان لا يعرف لنفسه قيمة في العلم والفضل في مجلس جمال الدين الأفغاني.
وقد حتمت الحكومة على الصحف نشر الأمر الصادر بنفي جمال الدين، بما في هذا البيان من تقريع شديد وتجريح جارح للرجل، فنشره البعض ورفضت إحدى الجرائد نشره؛ فصدرت التعليمات بتعطيلها!
واستطرد محمد عبده يقول: إن هذه الشدة لم تزد الأفكار إلا حدة، ولا الألسن إلا جرأة، ولا الإحساس بضرورة الإصلاح إلا نموا وظهورا، ولم تكن الحكومة كريمة في معاملة الأفغاني؛ فرمته بالزندقة، وسمته «ضلال الدين» الأفغاني الأفاق! وقالت في البيان الذي أصدرته إنها: أبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية، بأمر ديوان الداخلية، لإزالة هذا الفساد من البلاد؛ عبرة للمعتبرين، ولمن يتجاسر على مثل هذا من المفسدين البادي من أفعالهم الظاهرة أنهم لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة!
هكذا كانت عقلية الحكام، وهكذا كان أسلوبهم؛ كلمات تافهة مسجعة.
وكان من أثر الهزة التي أحدثها جمال الدين الأفغاني في مصر، أنه حرر العقول من الجهل والأوهام، ووجهها إلى التفكير والتأمل، وفتح فيها نوافذ تطل على الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وأقنعها بضرورة التعرف على مصدر قوة أوروبا الطامعة في الشرق، والعمل على أن نكون أقوياء لنواجه القوة بالقوة، ولم يقف عند هذا، بل أثر في أسلوب الكتابة، فكان ينادي بأننا لسنا في حاجة إلى الكلمات اللغوية، ولكننا في حاجة إلى الكلمة التي «تنقر حبة القلب».
وقبل إقامة الأفغاني في مصر كان الأدباء يحصرون مواهبهم في مدح الكبير، والتغني بمآثر الوزير، فإذا خرجوا من هذا النطاق نظموا الشعر الماجن، وتباروا في تبادل الهجاء بقصائد أو مقطوعات نثرية، تعتمد على التلاعب باللفظ والإغراق في المجون؛ ليضحكوا أرباب الجاه ويتلقوا منهم الهدايا!
وجاء الأفغاني فجعل للأدب هدفا، وحوله من تسلية وترف إلى تعبير عن آمال الشعب وانفعال بمآسيه، وجعل من الكلمة سلاحا ونشيدا وأغنية.
وكان الأديب المؤرخ اللبناني سليم العنجوري يقيم في مصر، وكان من أصدقاء الشيخ، وقد وصفه فقال: «كان جمال الدين الأفغاني يقطع بياض نهاره في داره، حتى إذا جن الظلام خرج متوكئا على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس في صدر جماعة تلتف حوله على هيئة نصف دائرة، ينتظم فيها اللغوي، والشاعر، والمنطقي، والطبيب، والكيماوي، والتاريخي، والجغرافي، والمهندس، والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، فيحل عقد أشكالها بلسان عربي مبين، لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، حتى إذا اشتعل رأس الليل شيبا قفل إلى داره، بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ماله في ذمة ذلك الجمع الأنيق.»
وكانت الحكومة قد خصصت للأفغاني عشرة جنيهات شهرية، ثم قطعتها عنه، فكان بعض الأعيان يمدونه بالمال، وهم يتوسلون إليه أن يقبله منهم، فكان يأخذ فقط القليل الذي يكفيه.
ويقول العنجوري: إن جمال الدين الأفغاني أخذ يقرب إليه العوام ويقول لهم: إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتسومكم حكوماتكم الحيف والجور ، وتستنزف عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون.
انظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بعظمة آبائكم وعزة أجدادكم، هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكراتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارا.
ويرى العنجوري أنه منذ ذلك الحين طارت شرارة الثورة العرابية.
وقد سجل جمال الدين الأفغاني في خاطراته التي جمعها المخزومي باشا، أنه ترك الحفل الماسوني الاسكوتلاندي وألف محفلا آخر تابعا للشرق، وسرعان ما بلغ أعضاؤه أكثر من ثلاثمائة عضو من نخبة المفكرين والناهضين المصريين، وكان جمال الدين في هذا المحفل مطلق الحرية، نظم فيه لجانا للأعمال المختلفة؛ بعضها للحقانية، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجهادية ... إلخ، وكل لجنة أو كل شعبة - كما كان يسميها - تدرس الشئون المختصة بها وتعرف وجوه إصلاحها، وما يقع من الظلم فيها، ثم تتصل بالوزير المسئول وتبلغه رغباتها.
بهذا التفكير المنتظم، وهذه العقلية النيرة، والروح الثائرة، استطاع جمال الدين الأفغاني أن يدخل الكهرباء في عقول الشعب ومشاعره، وكانت هذه المشاعر قبل ذلك ظلمات جامدة، تتعرض بين حين وآخر لشمعة أو ذبالة مصباح، فأشاع فيها الهزة، والحرارة، والضوء! •••
ونتابع جمال الدين الأفغاني بعدما رحل من مصر، فنراه في الهند يقيم في «حيدر أباد»، وكان قد أحدث فيها هزة فكرية دينية كبيرة، فلما قامت الثورة العرابية نقلته السلطات البريطانية في الهند إلى «كلكتا»، ووضعته تحت الحراسة، وعندما انتهت ثورة عرابي ودخل الإنجليز مصر، سمحت له السلطات البريطانية بمغادرة الهند إلى أي بلد غير شرقي!
وقد ذكر مستر بلنت في مذكراته أن جمال الدين غادر الهند إلى أمريكا، ولكن العالم المحقق الأستاذ أحمد أمين استبعد صحة هذه الواقعة.
ولقد أقام جمال الدين في لندن عام 1883، وأرادت السلطات البريطانية أن تكسب صداقته، فعرضت عليه عرش السودان، فسخر من هذا العرض وقال: إن عرش السودان للسودان، فليس لكم أن تعطوه أحدا!
ثم ذهب إلى فرنسا، ومن هناك اتصل في مصر بتلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، واتفقا على إصدار جريدة «العروة الوثقى» من باريس، وتعد مجموعة هذه الجريدة سجلا حافلا بآراء جمال الدين الأفغاني السياسية والدينية والاجتماعية، وكانت سوط عذاب يلهب ظهور الدول الاستعمارية، ورعشة تمشت في أذهان الشعوب الشرقية، فهبت لتدافع عن كرامتها وحريتها ودينها، وكانت مقالاتها تحمل أفكار الأفغاني، وأسلوب محمد عبده.
وفي باريس اشتبك الأفغاني في جدل علمي ديني مع الفيلسوف «رينان»، وقد لفت إليه أنظار المفكرين الإنجليز والأمريكان والمستشرقين، فكتبوا عنه وألقوا محاضرات عن آرائه وتعاليمه وشخصيته، ولم تستطع جريدة العروة الوثقى أن تستمر في الصدور. •••
وذهب محمد عبده إلى بيروت، وكان شاه إيران قد اتصل بالأفغاني، وأقنعه بالعودة إلى إيران فعاد إليها، ثم ما لبث أن تركها وسافر إلى روسيا، وأقام بها ثلاث سنوات، وقد سأله القيصر عن سر خلافه مع الشاه فقال: لأني أرى أن يكون الحكم شورى، أما هو فيرى غير ذلك!
قال القيصر: الحق مع الشاه؛ إذ كيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته؟
قال جمال الدين: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك، أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه، من أن يكونوا أعداء يترقبون له الفرص.
وغضب القيصر ونهض واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة! •••
وكان قد سافر إلى ألمانيا في طريقه إلى باريس، وتقابل مع ناصر الدين شاه إيران، واعتذر له الشاه، ووعده بتنفيذ تعاليمه الإصلاحية، وعرض عليه العودة إلى طهران.
ولما وصل إلى طهران، لقي حفاوة كبيرة من الشعب ورعاية من الشاه، ولكن الصدر الأعظم نبه الشاه إلى خطورة ما يدعو إليه جمال الدين، وبغتة أمر الشاه بالقبض على الأفغاني، فأسرع الأفغاني واحتمى في مقام سيدنا «عبد العظيم»، وهو مقام يقدسه أهل فارس، ولكن الشاه أرسل إليه خمسمائة جندي مسلحين، وانتزعوه من المقام المقدس.
ويصف جمال الدين ذلك فيقول: «سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة، ثم حملني زبانية الشاه - وأنا مريض - على دابة مسلسلا بين الثلوج والرياح.»
وبعد ذلك سافر إلى لندن، واشترك في إصدار مجلة شهرية اسمها «ضياء الخافقين»، وكانت تصدر باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد صب فيها جام غضبه على الشاه.
وطلب منه سفير فارس أن يكف عن الطعن في الشاه، وعرض عليه أموالا طائلة، وقد احتقر جمال الدين الأفغاني الطلب والعرض، وقال للسفير: لن أسكت عن الشاه حتى يلقى ربه!
وتوسل الشاه إلى السلطان عبد الحميد أن يتوسط لدى جمال الدين الأفغاني ليصلح بينهما، فدعاه عبد الحميد إلى زيارة الآستانة، ولما استقبله مندوبو السلطان في الميناء، سألوه عن حقائب ملابسه وصناديق كتبه، فقال: ملابسي على بدني وكتبي في صدري! ولم يكن معه حقيبة أو صندوق!
واستقبله عبد الحميد أحسن استقبال، وأمر بصرف مكافأة شهرية له قدرها 75 ليرة، وأنزله بيتا أنيقا يقع قرب قصر يلدز، وخصص له عربة وخدما وجواسيس! وعرض عليه السلطان عبد الحميد منصب مشيخة الإسلام، ولكنه رفض المنصب إلا إذا قبل السلطان تنفيذ آرائه الإصلاحية.
واشتبك في معارك مع رجال الدين الجامدين في تركيا، ومع «أبو الهدى» الصياد جلاد الفكر، وجاسوس السلطان المعروف.
وساءت العلاقة بينه وبين السلطان، أخذوا عليه أن السلطان عندما طلب منه أن يترك مهاجمة الشاه، أجابه قائلا: من أجلك قد عفوت عن الشاه.
وقالوا: كيف يعفو أحد الرعية عن ملك!
وأخذوا عليه أنه كان في حضرة السلطان، وظل يلعب بحبات مسبحته، وبعدما خرج نبهه رئيس الديوان إلى أن اللعب بحبات المسبحة لا يجوز في حضرة السلطان، فقال جمال الدين: إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بمسبحته كما يشاء؟!
وظل جمال الدين الأفغاني يعاني الضيق والكبت والعزلة عن الناس طيلة إقامته في الآستانة، فقد تحول بيته إلى معتقل، وأصبح رواد مجلسه جواسيس. وفي هذه الفترة كان ناصر الدين يزور أوروبا، وقابله أحد تلامذة جمال الدين، وطعنه بخنجر في صدره فأرداه قتيلا، وقال وهو يطعنه: «خذها من يد جمال الدين.»
وبلغ الخبر السلطان عبد الحميد، فضيق الخناق على تحركات جمال الدين الأفغاني، ومنعه من مغادرة تركيا، وقد وصف جمال الدين الأفغاني إقامته في الآستانة، فقال: إن البيئة هناك أثرت في عقله وفكره وقلبه، وإن ذهنه كان ممسوحا كأن لم يكن فيه شيء من العلوم والآراء!
وبقي جمال الدين الأفغاني في تركيا حبيسا - كما قيل - في قفص من ذهب، كان يتردد عليه بعض زائري الآستانة من أحرار المسلمين مثل الأمير شكيب أرسلان وعبد الله النديم، وكان النديم يغار من حب جمال الدين الأفغاني لمحمد عبده، ولما غضب جمال الدين الأفغاني على الشيخ محمد عبده؛ لأنه ينشر مقالاته بدون توقيع، أرسل إليه يلومه على ذلك ويقول: «لماذا تكتب ولا تمضي؟ ولماذا تعقد الألغاز؟ أمامك الموت ولا ينجيك الخوف، فكن فيلسوفا يرى العالم ألعوبة، ولا تكن صبيا هلوعا.»
وانتهز عبد الله النديم هذه الفرصة، وقال لجمال الدين الأفغاني إنك لا تزال تصف الشيخ عبده بأنه صديقك، وما زلت تسرف في الثناء عليه كأنه لم يكن لك صديق غيره! فضحك الأفغاني وقال له: وأنت يا عبد الله صديقي، ولكن الفرق بينكما أنه كان صديقي في الضراء، وأنت صديقي في السراء!
وعندما تلقى الشيخ عبده رسالة جمال الدين، تملكه الحزن وكرر حكمته المأثورة: هذا رجل يهدم بالحدة ما يبنيه بالفطنة. •••
ومرض الأفغاني في الآستانة، وأرسل إليه عبد الحميد طبيبه الخاص، فغمس لسانه في ميكروب فأصيب بمرض عضال، ومات في عام 1897، وأمر السلطان بدفنه على عجل.
مات الأفغاني شخصا؛ ليحيا أفكارا، ومشاعر، وثورات، ويعيش في كل عقل وكل قلب وكل زمن!
شاعر الثورة
رأت عيناه النور في أرض مصر حوالي عام 1840، وكانت بيئته وأسرته والظروف السياسية والاجتماعية كفيلة بأن تجعل منه أداة تعذب بها نفوسنا، التي قهرها الطغاة والظالمون والغزاة، الذين اغتصبوا حقنا في أن نعيش أحرارا، فهذا الطفل الصغير، الناعم البشرة، الأبيض، الوسيم الملامح، يجري في عروقه دم تركي ودم شركسي، واللغة العربية غريبة في بيته، واللهجة المصرية لا يكاد يسمعها، فالخادم من الحبشة، ومربيته شركسية، والبواب أرناءوطي!
وقد دخل المدرسة العسكرية ليكون ضابطا في الجيش الذي استأثر الشراكسة والأتراك بقيادته وأعلى مناصبه، وربما راوده الأمل في أن يصبح ذت يوم أحد أعوان الخديو في الجيش، ولم لا؟ إنه مثل هؤلاء الضباط الأتراك والشراكسة أناقة ورشاقة وانتسابا على نحو إلى الترك والشراكسة.
ولقد صار ضابطا كبيرا ووزيرا للحربية ورئيسا للوزارة، ولكنه لم يكن - كما ظن الحاكمون - عدوا للشعب، وإنما كان واحدا من الشعب، فإن ملامحه فقط كانت تركية شركسية، أما روحه فإنها مصرية عربية.
كان لسانه يرطن أحيانا بلغة الأتراك، وينطق دائما باللغة العربية شعرا ونثرا.
وكانت كل الملابسات التي أحاطت به، توحي بأنه لن يكون مصريا بتفكيره وتعبيره، فقد عرفنا أن الجو العائلي الذي تنفس فيه كان جوا غير مصري.
ولم يكن الجو العام خيرا من ذلك الجو الخاص؛ فقد كانت مصر ترزح في قيود سطوات أجنبية متعددة؛ سطوة المماليك، ثم الغزو الفرنسي بقيادة نابليون، ثم سيطرة الدولة العثمانية وحكم محمد علي وأسرته من بعده وامتلاكهم مصر، أرضا وشعبا وثروة وعرشا. وعندما كان محمد علي واليا، تمت ولادة محمود سامي البارودي، وقد عاصر البارودي عباسا الأول والخديو إسماعيل والخديو توفيقا، ومات في عام 1904، في عصر عباس الثاني.
ولكن البارودي - الذي تآمرت ظروفه الخاصة وظروفه العامة على تكوينه في صورة خائن للشعب - وقف إلى جانب الشعب وكان بطلا، وخاض مع الزعيم العظيم أحمد عرابي، معركة الحرية والشرف والحياة ضد الخديو توفيق، أو ضد الإنجليز الذين استنجد بهم الخديو الخائن وغزوا بلادنا عام 1882.
وقد دفع ثورته وبطولته عذابا شديدا في المنفى سبعة عشر عاما، فعانى في «سرنديب» المرض والحنين إلى وطنه وأبنائه، وبكى شريكة حياته التي ماتت وهو بعيد عنها.
ولما أصيب بالعمى، سمحت الحكومة البريطانية بعودته إلى بلاده، فظل حوالي خمس سنوات قعيد بيته، وفي 12 ديسمبر سنة 1904 لفظ آخر أنفاسه.
وإذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية لا تسمح لمثل البارودي أن يكون ثائرا، فإن الظروف الثقافية ما كانت لتسمح للبارودي بأن يكون شاعرا عربيا من طراز الشعراء الفحول.
فقد كان عصر البارودي يمثل آخر ما وصل إليه الشعر والأدب من هبوط في الشكل والمضمون، فليس للشعر ولا للكتابة، والأسلوب السائد في الشعر والنثر معا يعتمد على الجناس الرخيص، والتلاعب بالألفاظ والركاكة في التعبير، والزخارف التافهة التي تشبه ألوان الحناء والهباب!
وفجأة، ظهر في مصر شاعر فحل، يتحدى بجزالة لفظه ومتانة عبارته أشهر الشعراء القدامى، فمن أين له هذا؟! إنه لم يدرس الأدب في الأزهر، ولم يدرسه بطبيعة الحال في المدرسة الحربية، ولكنه كان موهوبا، وقد صقل موهبته بذاكرته القوية، التي وعت عشرات الألوف من قصائد شعراء الجاهلية والإسلام، وكانت له أذن موسيقية أثرت في صفاء الديباجة ورنين الجملة الشعرية.
وأكثر شعر البارودي ينطوي على محاكاة قصائد من سبقوه من الشعراء، ولكن هذه المحاكاة اختفت في عدة قصائد تجلت فيها أصالة الشعر، وتحددت فيها شخصيته الفنية.
ويرى البارودي أن خير الكلام، ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف، بعيدا عن نزوة التعسف، غنيا عن مراجعة الفكرة؛ ويرى أن هذه هي صفة الشعر الجيد، وهذا الرأي يحتاج إلى تمحيص شديد، ولكنه على كل حال يغري بتقدير الشاعر والإشادة بمكانته، وبخاصة إذا عرفنا أن الباوردي كان الجسر الذي يمر عليه الشعر العربي من مرحلة التفاهة والهبوط إلى المراحل التي وصل إليها بعد ذلك.
وقد ذكر أستاذه الشيخ حسين المرصفي، أن الباوردي لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد في طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، وكان يستمع لبعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ وهو بحضرته، حتى تصور في برهات يسيرة هيئات التركيب العربية، فصار يقرأ وهو لا يكاد يلحن.
ويبدو مما ذكره الأستاذ المرصفي أن البارودي كان موهوبا في حفظ الشعر وفهمه ونظمه، وأنه لم يتعلم أصوله، بل لم يدرس كتابا في الأدب، ونحن لا نستطيع أن نستهين برأي المرصفي؛ فهو أستاذ البارودي، ولكن لا ينبغي أن نسلم بهذا الرأي على إطلاقه، فإن شعر البارودي ينم على تجارب ذاتية وتجارب ثقافية، ولعله اكتسب هذه التجارب الأخيرة من أساتذة غير أستاذه المرصفي، وقد أفاد ولا شك من احتكاكه بالمصلح الثائر جمال الدين الأفغاني، وتلامذته الذين كانوا يمثلون اليقظة الذهنية التي أشعلت الثورة السياسية والثورة الفكرية، وكان البارودي قبل الثورة العربية ينظم قصائد يحض فيها على التخلص من الظلم، ويهدد المالكين بزوال ملكهم، يقول:
يأيها الظالم في ملكه
أغرك الملك الذي ينفد
اصنع بنا ما شئت من قسوة
فالله عدل والتلاقي غد
وشعره في المنفى ينبض بالحنين إلى زوجته وبيته وبلده، ومن شعره الرقيق وهو في المنفى هذه القصيدة:
كيف لا أندب الشباب وقد أص
بحت كهلا في محنة واغتراب
أخلق الشيب جدتي وكساني
خلعة منه رثة الجلباب
ولوى شعر حاجبي على عي
ني حتى أطل كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلا
كخيال كأنني في ضباب
وإذا ما دعيت صرت كأني
أسمع الصوت من وراء حجاب
لم تدع صولة الحوادث مني
غير أشلاء همة في ثياب
ويصف أباريق الشاي وكئوس الشاي فيقول:
في أباريق كالطيور اشرأبت
حذر الفتك من صياح البزاة
حانيات على الكئوس من الرأ
فة يرضعنهن كالأمهات
ويقول متغزلا:
تركتني من غمرات الهوى
في لج بحر بالردى زاخر
أسمع في قلبي دبيب المنى
وألمح الشبهة في خاطري
فتارة أهدأ من روعتي
وتارة أفزغ كالطائر!
الرحالة العربي الثائر
جاء مصر وأدى رسالته، ثم مات في ظروف مريبة!
استيقظت القاهرة في ساعة مبكرة من الصباح، على نبأ هزها من الأعماق، وأثار الحزن والدهشة، وفتح باب الريبة والشك على مصراعيه.
كيف مات العالم المفكر الثائر هكذا بغتة؟! وقد كان إلى ما بعد منتصف الليل يجلس في مقهى يلدز بالقرب من حديقة الأزبكية، وحوله أصدقاؤه من الثائرين والمفكرين وقادة الرأي، يتناقشون في السياسة والعلوم وفنون الأدب، وكان يشترك في المناقشة بصوت هادئ وابتسامة حذرة، فقد جاء إلى مصر موئل الأحرار ليقول كلمته ضد الاستبداد عامة، وضد استبداد الدولة العثمانية بوجه خاص، واستطاع أن يؤدي رسالته بشجاعة وجرأة وصلابة استفزت غضب السلطان عبد الحميد، ولقيت تجاوبا جارفا من الشعب العربي، وأرضت شعور الخديو عباس، فقد كان مختلفا مع السلطان!
وفوجئ الناس بنبأ وفاة عبد الرحمن الكواكبي صباح يوم الجمعة 15 يونيو من عام 1902، وكان إلى ما قبل ساعات يتحدث ويبتسم، ومخايل الصحة بادية عليه، وامتدت الأصابع إلى الخديو عباس منوهة بأنه هو الذي قتل الكواكبي!
ولكن متى استطاع عباس ذلك، وقد ظل الكواكبي مع أصدقائه في المقهى إلى ما قبيل الفجر، وذهب إلى البيت في صحبة ابنه كاظم؟ وكيف يقتل الخديو عبد الرحمن الكواكبي وكان موضع إكرامه، وقد اختار الكواكبي لنشر مقالاته عن «طبائع الاستبداد» في جريدة المؤيد، التي كانت اللسان المدافع عن عباس ضد جميع أعدائه في الداخل والخارج.
إن الذين تناولوا حياة الكواكبي بالبحث الموضوعي أو الدراسة الجانبية، بينهم معاصرون له أمثال رشيد رضا، ومحمد كرد علي، وأحمد شفيق، وبينهم من تعمقوا في تحليل اتجاهاته السياسية وفلسفته في إصلاح الأمة وتدعيم قوة الإسلام، مثل الأساتذة: أحمد أمين وعباس محمود العقاد وسامي الدهان، وقد سلطوا الضوء العالي على حادثتين هامتين في تاريخ الكواكبي: حادثة وصوله إلى مصر خلال فترة تأزمت فيها الأمور بين الخديو والباب العالي في الآستانة، وحادثة وفاته في ظروف غامضة.
ولكي لا يتوقف القراء وهم يتابعون هذا الكلام عن عبد الرحمن الكواكبي، يجب أن نعقد بينهم وبين الكواكبي علاقة شخصية تقربه إليهم، بحيث يرونه كائنا حيا ما زال يعيش بينهم.
كان مولد الكواكبي في مدينة حلب عام 1848، ومات في القاهرة عام 1902، وقد تعلم في بلده، وأتقن اللغتين الفارسية والتركية، واعتمد في صقل مواهبه وتنمية ثقافته على الكتب التي تصدر بهاتين اللغتين، وعلى الكتب العربية، وأفاد من احتكاكه بالمناقشة والجدل مع المتابعين للثورة الفكرية في أوروبا، وقد تلقى من هؤلاء معلومات فتح بها آفاقا جديدة لدعوته التي حددها في نقطتين: رفع كلمة الأمم الإسلامية، وتقويض دعائم المستبدين، وبخاصة دولة آل عثمان.
وقد بدأ حياته صحفيا في جريدة تصدر باللغتين العربية والتركية اسمها «فرات»، ثم أصدر بضع صحف في حلب، وكان يهاجم فيها السلطان وأعوانه، ويدعو إلى قيام خلافة روحية «قرشية»، واتهمه خصومه بأنه يريد أن يكون هو خليفة المسلمين، وأكدوا اتهامهم هذا بحرص الكواكبي على توضيح انتسابه إلى قريش، واعتزازه بمجد الآباء والأجداد.
ولم يتمكن الكواكبي من أن يرفع صوته في حلب، إلا بقدر ما نشر من مقالات «أم القرى»، التي دعا فيها إلى قيام جامعة إسلامية.
وكان على الرغم من حدته في التعبير عن آرائه يتهيب سطوة القانون، فلم يحض على ثورة دموية كما كان يعمل المصلح الثائر المفكر جمال الدين الأفغاني؛ كان حريصا في مهاجمة الاستبداد على أن تكون المهاجمة في إطار «قانوني»، فلا يتهم مستبدا بعينه، ولا يحدد شخصيات بالذات.
وعندما أقام في مصر ونشر مقالاته عن «طبائع الاستبداد»، لفت إليه الانتباه من المفكرين والثائرين وكسب احترامهم ومودتهم، ومع ذلك كان يجالسهم في حذر، ويناقشهم في حذر؛ فقد يكونون جميعا من الأحرار الثائرين، ولكن مفاهيمهم للحرية والثورة كانت مختلفة متباينة، ففيهم الثائرون على كل شيء، وفيهم الثائرون على شيء والراضون عما عداه من الأشياء!
وهؤلاء لا يريد أن يغضب أحدا منهم، فليس من السياسة أن يعادي من يحتفون به، وقد كان - بتكوينه الذهني وبحكم التجارب التي تمرس بها - شخصية سياسية من طراز ممتاز.
وكانت مصر في تلك الأيام نهبا لتيارات فكرية ثورية ضد الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وضد الخديو، وضد الخليفة السلطان عبد الحميد، الذي استعبد المسلمين عندما كانت دولته قوية، وتعقب أحرارهم بالدسائس والاغتيالات، بعدما صارت الخلافة والسلطنة ودولة آل عثمان عناوين ضخمة ليس لها موضوعات!
وكان من يحارب الإنجليز يتحالف مع الفرنسيين أو مع الخديو أو مع السلطان، ومن يحارب واحدا من هؤلاء ومن الأعداء يتحالف مع عدو آخر، أو يتحالف مع بقية الأعداء.
وكانت مصر مركز إشعاع للفكر الثوري المتمرد على الاستعباد بكل أنواعه وأوضاعه، فهذا البلد الجذاب بآثاره وتاريخه، بلد سياحي يستقبل السياح العاديين ويودعهم بحفاوة أو بغير اكتراث، فإذا زارته عبقرية فذة، أصبح البلد السياحي مقرا دائما للعبقرية الفذة، ووطنا أصيلا لصاحب العبقرية.
ولقد كان عبد الرحمن الكواكبي عبقريا طاف بكثير من البلاد، ولم تطل إقامته فيها، ولم يجد في أي بلد طاف به ظروفا تسمح له بتأدية رسالته، فلما طاف بمصر، أحس أنها الحرم الآمن الذي يفتح له رحابه؛ ليذكر كما يشاء ويعتبر كما يشاء.
وقد وفد إلى مصر عام 1899، ولقي ربه فيها عام 1902، وخلال هذه الفترة قام برحلتين إلى بلاد كثيرة، وفي ذلك يقول السيد رشيد رضا: «إنه وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين؛ ليسعى في الإصلاح على بصيرة، فبعد اختباره التام لبلاد تركيا والأرمن، والأكراد، ومصر، والسودان، وسواحل أفريقيا الشرقية، وسواحل آسيا الغربية؛ اختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله، فدخلها من سواحل المحيط الهندي، وما زال يوغل بها حتى وصل إلى سوريا، واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل، وعرف استعدادهم الحربي والأدبي وحالة البلاد الزراعية، ودرس كثيرا من معادنها وأحضر منها نماذج.»
ويستطرد السيد رشيد رضا فيقول: «إن الكواكبي انتهى في رحلته الأخيرة إلى «كراجي» من موانئ الهند، وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية، فطافت به سواحل بلاد العرب وسواحل أفريقيا الشرقية، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق به الإفرنج.
وكان ينوي أن يقوم برحلة إلى أوروبا، لولا أن المنية عاجلته.»
ولكن القراء ما زالوا يعرفون الكواكبي برحلاته وأفكاره، ودعوته الإصلاحية في سبيل الإسلام، وضد الاستبداد، ولم يعرفوه بعد كإنسان له صوت وملامح. فكيف كان الكواكبي؟
يقول صديقه الأستاذ كامل التعزي: «كان مربوع القامة، حنطي اللون، مستدير الوجه، خفيف العارضين، أقنى الأنف، واسع الجبين، ذا عينين زرقاوين، معتدل المقلة، لا غائرة ولا جاحظة، معتدل فتحة الفم، أزج الحاجبين، صغير الأطراف، معتدل الجسم بين السمن والهزال، أسود الشعر قد وخطه الشيب حين فارق حلب إلى مصر.»
ويقول صديقه الأستاذ إبراهيم سليم النجار: «وإنه كان أبيض الوجه بياضا مشربا بشيء قليل من الحمرة، شأن سكان البلاد الحارة، وقد أحاط خديه بلحية قصيرة كانت كالإطار لوجهه، ومد فيها الشيب خيوطه.»
ويقول ابنه الدكتور أسعد الكواكبي: «كان ربعة إلى الطول أقرب، قوي البنية، صحيح الجسم، عصبي المزاج، أشهل العينين، أزج الحاجبين، أبيض اللون، واسع الفم، عريض الصدر، أسود شعر الرأس والذقن، يتأنق في لباسه، يتكلم بجهر هادئ وسلاسة وابتسام، يحسن السباحة والصيد والفروسية.»
وهكذا يستطيع القارئ أن يرنو بعينيه فيرى أمامه عبد الرحمن الكواكبي من خلال هذه الأوصاف، وإن كان سيلاحظ اختلافا ملموسا بين من وصف فتحة فمه بالاعتدال، ومن وصف الفم بالاتساع، وبين من قال إن لونه قمحي، ومن قال إنه أبيض البشرة.
وقد سجل الأستاذ العقاد في كتابه عن الكواكبي هذه المعلومات:
سمعنا وصف سجاياه وملكاته العقلية ممن عاشروه، كما قرأنا هذا الوصف بأقلام مترجمة، فرأيناهم يتفقون على سجايا خلقه وملكات عقله، اتفاقهم على سماته وتكوين جسده، كأنهم ينظرون إلى ملامح محسوسة، لا تخطئ العين رؤيتها ولا يختلف الناظرون إليها في وصفها، فما من ترجمة له لم تبرز في الكلام عليه صفات الوقار والحلم والنجدة، وعفة اللسان وحسن الملاحظة وصدق الإرادة، وكأنما تثبت هذه الصفات في نفوس عارفيه؛ لأنها جاوزت أن تكون صفات مقدورة، وأصبحت أعمالا متكررة يؤيد بعضها بعضا، فلا ينساها من رآها وسمع بها وبآثارها.
ونعود إلى الحادثتين الهامتين في حياة الكواكبي، وهما حادثة وصوله إلى مصر، وحادثة وفاته، وكلتاهما ترتبط بالأخرى في مجال اتهام الخديو عباس بدس السم للكواكبي في الطعام.
فقد جاء الكواكبي إلى القاهرة والأزمة على أشدها بين قصر عابدين وقصر يلدز، وأضفى عليه عباس ثوب الرعاية، وكان متحفظا في علاقته بأصدقائه من أعداء الخديو، مثل الإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا وغيرهما، وكان متحفظا كذلك في علاقته بأصدقاء الخديو؛ فهو لا يؤثرهم بمودته، حتى لا يثير حوله شبهة تبعيته للخديو.
وقد ذكر الأستاذ محمد كرد علي، وهو صديق الكواكبي، هذه الرواية: «جاءني الكواكبي ذات ليلة ليستشيرني في أمر عظيم، فقال إن الخديو عباسا عرض عليه أن يصحبه إلى الآستانة ليقدمه إلى السلطان العثماني ويستجلب رضاءه عنه، وبذلك تنحل المشادة ويطمئن خليفة الترك إليه.»
ويمضي كرد علي، فيذكر أنه صعب عليه وعلى صديقه رفيق العظم، أن يبديا رأيهما في موضوع خطير كهذا؛ لأن السلطان العثماني لا تأخذه هوادة فيمن خرجوا على سلطانه، وخشيا أن تكون هناك دسيسة يذهب الكواكبي ضحيتها.
ويستمر كرد علي في روايته فيقول: «إن الكواكبي أخبره هو وصديقه العظم، أنه حائر في أمره بين القبول والرفض، وأنه شعر بالأمس بوجع في ذراعه وما عرف له تعليلا، وانفض المجلس وذهب السيد الكواكبي إلى داره، فما هي إلا ساعة وبعض ساعة، حتى سمعنا ابنه كاظم في الباب يبكي وينوح ويقول: «قم يا كرد علي، فإن صديقك أبي قد مات».»
وروى أحد أصدقائه أنه ذهب إلى الإسكندرية، بدعوة من الخديو عباس لبضعة أيام.
والذين أشاروا إلى الخديو بقتل الكواكبي لم يؤيدوا اتهامهم بصراحة، وإن كانت الظروف والملابسات التي أحاطت بوفاة الكواكبي تكاد تثبت الاتهام، مثل: التعجيل بدفنه، والحرص على التأكيد أنه مات بالذبحة الصدرية، واهتمام بعض الصحف بنشر أعراض الذبحة وتطبيقها على ما شكا منه الكواكبي ليلة وفاته.
وهكذا عاشت أفكار الكواكبي في مصر، وانطلقت من مصر، وقد جذبته مصر وهو حي، فأدى فيها رسالته، وجذبته وهو ميت، فكان مقره الأخير فيها.
أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة
امتلأت حديقة الدار بزعيق صاخب، اختلطت فيه لهجة السفرجي النوبي، وصوت البواب الصعيدي، ونبرة الجنايني الريفي، ونباح الكلاب الضخمة التي تحرس الدار القائمة وحدها في شارع الهرم، لا شيء قبل هذه الدار، ولا شيء بعدها إلا فندق مينا هاوس والأهرام وأبو الهول!
وأطل صاحب الدار من نافذة الطابق الأول، فرأى شجارا عنيفا اشتبك فيه زائر ببذلة سوداء وطربوش أحمر، والتف حوله الخدم، ينهرونه بالعبارات الصارخة، ويدفعونه بالأيدي، ويجذبونه من كتفه ليخرجوه من البيت!
وكان الزائر يصيح: أريد أن أقابل سعادة المستشار! قال أحد الخدم: إن سعادة البك لا يقابل أحدا في منزله. وقال له خادم آخر: أنت كذاب، إنك لم تطلب مقابلة المستشار، ولكن طلبت مقابلة الست الكبيرة!
وقال له خادم ثالث: أنت رجل وقح، ولا بد من ضربك!
وكان المستشار قاسم أمين عندما أطل من النافذة قد سمع هذا الحوار، ورأى المشاجرة الحامية بين خدمه والزائر الغريب؛ فأمر الخدم أن يكفوا عن الضجيج، وسأل الزائر: هل تريد مقابلتي لأمر يتعلق بقضية من القضايا؟
وقال الزائر: لا. - لو حدثتني عن قضية فسوف أدعو النيابة إلى التحقيق معك، وقد ينتهي التحقيق بالقبض عليك.
الزائر: ليس لي قضية عندك ولا عند سواك من المستشارين؟ - هل تعلم لماذا اخترت هذا المكان النائي لأسكن فيه؟
الزائر: لا أعلم! - لأكون في عزلة عن الناس. إن المتقاضي يختلف عن المريض في شيء واحد؛ المتقاضي يطمئن إلى قاضيه إذا كان القاضي بعيدا عنه وعن خصومه، والمريض لا يطمئن إلى طبيبه إلا إذا كان قريبا منه!
الزائر: أريد مقابلتك لشيء آخر. - تفضل.
ومشى الزائر، وقد تقدمه السفرجي ليدله على باب الغرفة التي كان قاسم أمين يتحدث من شرفتها، ورحب قاسم بالزائر، وسأله هل يشرب قهوة أو شايا أو عصير ليمون؟
وفتح الزائر فمه بكلمة، والتفت قاسم أمين إلى السفرجي، وقال له: قهوة سادة يا حسن!
ومرت لحظة صمت، كان الزائر خلالها يتأمل في هذا المستشار الذي اكتسب سمعة طيبة في نزاهته وعدله، وكفايته القضائية، واكتسب سمعة أخرى سيئة في أفكاره! فهو في نظر الجمهور إباحي فاسق فاجر! وهل هناك دليل على الإباحية والفسق والفجور، أكثر من أن ينادي رجل بأن تخلع المرأة برقع الحياء، وتمشي في الطريق بوجه مكشوف، وليس هذا فحسب، بل إنه يريد للمرأة أيضا أن تختلط بالرجال، وتمارس أعمالهم، وحقوقهم، وواجباتهم، وهكذا تتساوى المرأة بالرجل، وتنقلب من مجرد متعة أو قطعة أثاث في البيت، إلى إنسان له رأي وإرادة وتفكير.
أية جريمة نكراء تنطوي عليها تلك الدعوة الجريئة؟ وبماذا تصف رجلا يرتكب مثل هذه الجريمة؟ إن أقل ما يوصف به أنه زنديق، كافر، متساهل في عرضه وشرفه!
ومع ذلك، ويا للعجب! يضرب أصدقاؤه بعدالته الأمثال، ويتكلمون عنه كما يتكلمون عن رجل شريف!
وجاءت القهوة، والتفت الزائر حوله، فلم يجد في الغرفة غير قاسم أمين ومكتب صغير، وبعض الكتب والمقاعد، فدنا منه وقال له: أنا عاوز الست بتاعتك!
وقال قاسم أمين في هدوء: عاوزها في إيه؟
قال الزائر: ألست تدعو إلى اختلاط المرأة بالرجل، والقضاء على الحجاب؟ أعطني امرأتك لأخرج معها!
وابتسم قاسم أمين في مرارة وقال للزائر: إن الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب، وإعطاء المرأة حقها كإنسانة لا يعني تحويلها من متاع خاص للزوج، إلى متاع عام للناس! ودعوتي إلى تحرير المرأة من رق الحجاب، وسجن الحريم، هي في الوقت نفسه دعوة إلى تحرير الرجل من مفهومه للمرأة، ولن تتحقق حرية المرأة، إلا إذا تحقق تحرر الرجل من نظرته إلى المرأة!
قال الزائر: ولكنا لم نفهم هذا من نظريتك التي تنادي بها!
وقال له قاسم أمين: لن تفهم النظرية حتى تتحرر!
قال الزائر: إلى حرية الرجل تدعو، أم إلى حرية المرأة؟ - أنا أدعو إلى تحرر الإنسان، والإنسان رجل وامرأة!
وبكى الزائر المجهول، وأصر على أن يقبل يد قاسم أمين، فرفض قاسم وقال له: لا تمنح قبلتك إلا لامرأة؛ زوجتك، أمك، أختك، فإذا كانت المرأة التي تقابلها ليست الزوجة ولا الأم ولا الأخت، فمن حقك، بل من واجبك، أن تقبل يدها! وهذا هو الفرق في معاملة الرجل والمرأة!
كان ذلك في عام 1907، وكانت دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة قد لقيت ضجة في الرأي العام، وقد تحمس المتزمتون لمحاربة الثائر المفكر المصلح، واتهموه بشر التهم، وحمل عليه رجال الدين حملة شعواء، وتصدى للرد عليه في كتاب خاص شاب أصبح فيما بعد من أكبر الشخصيات العظيمة التي بنت اقتصادنا، وساهمت في تصنيع بلادنا؛ وهو طلعت حرب باشا!
وقبل أن يموت طلعت حرب، كان بين موظفي البنك الذي أنشأه بضع فتيات، ورفعت ابنته الحجاب، وأعطاها والدها حق الموافقة على الزواج من خطيبها محمد رشدي، الذي صار رئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد.
وكان أصحاب الرأي، وقادة الفكر، يكتمون إعجابهم بشجاعة قاسم أمين، وبرغم ما يربطهم به من صلات الصداقة والزمالة، لم يستطيعوا أن يجازفوا بتأييده في دعوته الخطيرة؛ خوفا من أن تنالهم ألسنة السوء!
أيد لطفي السيد قاسم أمين بتحفظ وحذر، التزم سعد زغلول الصمت، فلما أصبح زعيما للبلاد في عام 1919، شجع حركة السفور التي قامت بها في تلك الأيام هدى شعراوي وأم المصريين !
ولكن هذا التأييد وهذه الحركة جاءا بعد وفاة قاسم أمين بحوالي أحد عشر عاما!
وما دعا إليه قاسم أمين في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، قد يبدو الآن أمرا عاديا، ولكنه في تلك الأيام كان ثورة اجتماعية عميقة، زلزلت الأفكار والآراء.
وإذا كانت الثورات تستمد قوتها ونماءها من اندلاعها ساعة وقوعها، فإن الثورة التي قام بها قاسم أمين لم تشتعل عندما حدثت، فقد قاومها العرف والتقليد، والمتصدون للدفاع عن الأديان والعقائد، قاومتها جمهرة الشعب؛ لأنها لم تكن قادرة على فهم الدعوة، وقاومها الحكام والإقطاعيون ليحتفظوا بمظاهر الجاه المتمثلة فيما يملكونه من حريم! وقاومها الاحتلال البريطاني خوفا من أن يرميه الشعب بمساعدة الداعين إلى خرق العادات والتقاليد!
ولقد قدر قاسم أمين ما ستثيره دعوته المضنية من النفور والخوف والفزع، ولكنه لم يبال ذلك، في سبيل ما يؤمن بأنه حقيقة، ولقد مهد لكتابه «تحرير المرأة» بمقدمة قال فيها:
هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم، شغلت فكري مدة طويلة، كنت خلالها أقلبها، وأمتحنها، وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ، استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني، وتنبهني بمزاياها، وبالحاجة إليها؛ فرأيت أن لا مناص من إبرازها!
ولم يكد كتاب «تحرير المرأة» يخرج من المطبعة، حتى هبت عواصف السخط والنقمة على قاسم أمين.
ولم يهتز قاسم للعواصف الحمقاء؛ فقد كان يدعو إلى فكرته بمنطق ووعي وإيمان، وكان الضمير هو القوة الوحيدة التي يعتمد عليها، والقوة الوحيدة التي يخشاها.
فهو صاحب سلوك خاص مستقل، في أفكاره ومشاعره ونظرته العامة إلى الأمور، وقد يرضى المجتمع عن هذا السلوك وقد يثور عليه، ولكن قاسم أمين لا يبالي الرضا ولا يبالي الغضب، إن كل ما يباليه هو أن يتمشى سلوكه الذهني والعاطفي والاجتماعي، مع فسلفته القائمة على تنمية الحياة بالحب والخير والحرية والجمال ونقاء الضمير.
ويبدو هذا واضحا في أحكامه القضائية، وفي سعيه إلى إنشاء الجامعة المصرية، وفي مطالبته بتحرير المرأة، وفي دعوته إلى تيسير قواعد اللغة، حتى يستطيع الناس أن يقرءوا ليفهموا، لا أن يفهموا ليقرءوا.
كان قاضيا رحيما، وكانت أحكامه تتعارض أحيانا مع حرفية القانون، ولكن الأسباب التي يشرح بها ما يصدره من أحكام، لفتت إليه انتباه المشتغلين بالفقه والقانون وكبار رجال القضاء، ورأوا في هذه الأسباب نظريات قانونية أكثر عدالة من القانون نفسه؛ ولهذا شق طريقه في السلك القضائي، حتى وصل إلى منصب المستشار وهو في حدود الأربعين، وكانت هذه السن تعد طفولة بالنسبة إلى قاض عادي، فضلا عن مستشار في محكمة الاستئناف!
وقد ساعده على انطلاق تفكيره في حرية، وإبداء رأيه بشجاعة، ثقافته الواسعة، واستقامة خلقه، فهو يعتز بكرامته إلى أبعد حد، ولا يتملق الحكام وأصحاب السلطان، ولا يمارس من العادات والهوايات ما يثير شكا أو ريبة، وكان يقضي أكثر وقته في بيته المنعزل عن ضوضاء المدينة، يعكف على دراساته القضائية، والأدبية، والعلمية، والاجتماعية. وهذه الشخصية المهذبة المترفقة، ليست وليدة أسرة غنية ذات جاه؛ فقاسم أمين من عائلة متوسطة الحال، أبوه مصري، وجده أمير كردي، ولكن إمارة الجند انتهى ثراؤها بوفاة صاحبها! شخصية قاسم أمين إذن نبعت من نفسه، وصقلها العلم والخلق ونفسيته الطيبة المتحررة المشغوفة بالجمال.
وقد درس في فرنسا، وعاد إلى مصر في عام 1885، وشغل إحدى الوظائف القضائية، وظل منذ ذلك التاريخ يسير في الحياة على منهجه المستقيم؛ زوج مثالي، أب مثالي لابنة وحيدة، قاض مثالي، مفكر مثالي، مصلح اجتماعي مثالي.
وكانت رياح الغضب تهب عليه من الرأي العام، فلا تؤثر في آرائه، ولا تزعزع عقيدته، ولا تثير أعصابه، فقد كان هادئا وديعا، وكان يؤمن بالحرية إيمانا مطلقا، يدافع عن حريته، ويدافع عن حرية مخالفيه، ولو كانت طريقتهم في الجدل تنم عن الجهل والتعصب، ورميه بأقذع الشتائم والسباب.
إن القاضي قاسم أمين، لم يصدر حكما واحدا بالإعدام على أحد من المجرمين؛ لأنه يرى - منذ ستين عاما - أن الإعدام عقوبة لا يمكن علاجها إذا ثبت خطأ القاضي.
ومن أقواله المأثورة: «إن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب، ومعاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر.»
وهو صاحب الكلمة المعروفة: «أعرف قضاة حكموا بالظلم، ليشتهروا بين الناس بالعدل!»
هذه الآراء كانت كفيلة في تلك الأيام، أن تسوقه إلى المحاكمة، أو تقصيه عن مركز القاضي، ولكنها لم تنل من مكانة قاسم أمين؛ لأن إيمان الرأي العام بنزاهة قاسم، وعمق تفكيره، وإخلاصه في رأيه، كان أقوى من غضب الرأي العام نفسه على ما يرى في هذه الآراء من شذوذ وجنوح عن المألوف.
وقد فكر جماعة من المفكرين في إنشاء جامعة مصرية، وكان بينهم زعماء معروفون، وأصحاب نفوذ سياسي، وخطباء يلهبون مشاعر الجماهير بالعبارة الرنانة أو الكلمة الساحرة مثل سعد زغلول، وكان قاسم أمين واحدا من هؤلاء المفكرين، ولكنه لم يكن زعيما، أو سياسيا، أو خطيبا، ومع ذلك تولى مهمة إقناع الناس بالفكرة.
كان يطوف بالأقاليم، ويعقد الاجتماعات، ويشرح الهدف من إنشاء تعليم جامعي، فنظام التعليم القائم لم يكن يهدف إلى رفع مستوى العقل، وتحرير الفكر من ربقة الجهالة، وإنما كان هدفه ملء الوظائف الحكومية بأصحاب مؤهلات خالية من الثقافة العلمية! وكان من يشغل وظيفة ينقطع عن متابعة الدرس والبحث، ويتفرغ لمتابعة الترقي من درجة إلى درجة!
وكان قاسم أمين وزملاؤه يرون أن التعليم لا ينبغي أن يكون وسيلة لوظيفة، وإنما يجب أن يكون وسيلة وغاية للإنسان، وفي ذلك يقول: «نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة، أو الالتحاق بوظيفة، بل نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبا للحقيقة، وشوقا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم، نود أن نرى من أبناء مصر - كما نرى في البلاد الأخرى - عالما يحيط بكل العلم الإنساني، واختصاصيا أتقن فرعا مخصوصا من العلم، ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفا اكتسب شهرة عامة، وكاتبا ذاع صيته في العالم، أمثال هؤلاء هم قادة الرأي عند الأمم الأخرى، والمرشدون إلى طريق نجاحها، والمدبرون لحركة تقدمها.
إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم، هو عيب عظيم يجب أن نفكر في إزالته، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا، فأصبحنا ماديين لا نهتم إلا بالنتائج، في جميع أمورنا، حتى في الأشياء التي يجب بطبيعتها أن تكون بعيدة عن الفوائد، كعلاقات الأقارب والأصحاب ...»
ويقول: «إن الارتقاء في الإنسان تابع لإحساسه، وإن أكثر الناس استعدادا للكمال هم أصحاب الإحساس، الذين تهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث، وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغا عظيما، فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء الأشقياء، الذين يتمتعون ويتألمون، أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم، يتنافسون في مصادمة كل صعوبة، من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم، وتوحي إليه بأسرارها فيصير شاعرا بليغا، أو عالما حكيما، أو وليا طاهرا كريما!»
ثم يقول: «ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببا في ظهور شبيبة هذا الجيل وما يليه على أحسن مثال.»
بهذا الوضوح، وهذا الفهم العميق، وهذا الاقتناع بالفكرة، استطاع قاسم أمين أن يقنع الشعب، بوجوب إنشاء تعليم جامعي، ولم يكن قاسم أمين خطيب جماهير، ولكنه كان أستاذا محاضرا، يستخدم المنطق والنظريات، ويعبر بأسلوب سهل متحرر من الركاكة والاعتماد على انتفاخ اللفظ وفراغه من أي معنى، وكان صوته المدوي لا ينطلق من حنجرته، ولكن ينطلق من نبض أفكاره ومعانيه.
وقد سجل الدكتور محمد حسين هيكل باشا في كتابه «تراجم مصرية وغربية»، أن قاسم أمين ظل عاملا مع أصحابه مجدا، يستنهض الهمم ويجمع الأموال، ويهيئ كل أسباب نجاح الجامعة، وأنه بين فكرته عنها في خطاب ألقاه بمنزل المغفور له حسن باشا زايد بالمنوفية لمناسبة وقفه خمسين فدانا للجامعة، فماذا قال قاسم أمين عن هذا التبرع أو هذه الأريحية؟ هل خلع على صاحبها صفات الكرم والسخاء التي كان الناس يخلعونها على من يتبرع بخمسة جنيهات لمشروع خيري؟ كلا، ولكنه قال: «إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرا ولا تعلن عن نفسها، عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم وخدموا بلادهم، وحاربوا الأمم، وفتحوا البلاد، ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم، فيحسن بنا أن نقتدي بهم، فنهجر العقول، ونعتمد على العمل.»
إن قاسم أمين المصلح المفكر، ينتهز كل فرصة ليقيم مفهوما جديدا صحيحا للمعاني والتصرفات، فتبرع الناس لإنشاء جامعة ليس تضحية منهم، ولكنه واجب يؤدونه لوطنهم، والوطنية شعور غريزي لا تصح المباهاة به أو الإعلان عنه!
وتأمل قاسم أمين في اللغة التي نعبر بها، فوجد أننا نؤلف الحروف والألفاظ، ولا نؤلف جملة! أما إذا استخدمنا تعبيرا تعلمناه عن الأقدمين فيجيء أصم غامضا، باهتا أو فارغا، يحدث رنينا ليس له معنى!
فكان يبحث دائما عن الجملة المعبرة التي نسمع لها فرقعة، وكان يحس الحسرة كلما وجد أننا لا نستطيع أن نقرأ لغتنا قراءة صحيحة؛ فنادى بتيسير قواعد اللغة، وغالى في ذلك، حتى إنه دعا إلى تسكين أواخر الكلمات.
ويقول: «لم أر بين جميع من عرفتهم شخصيا، من يقرأ كل ما يقع تحت نظره في غير لحن، أليس هذا برهانا كافيا على وجوب إصلاح اللغة العربية؟ لي رأي في الإعراب أذكره هنا بوجه الإجمال، هو أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل، بهذه الطريقة - وهي طريقة جمع اللغات الإفرنكية واللغة التركية أيضا - يمكن حذف قواعد النصب والجوازم والحال والاشتغال، بدون أن يترتب على ذلك إخلال باللغة؛ إذ تبقى مفرداتها كما هي.»
ويقول أيضا: «إن اللغة العربية مرت عليها القرون الطويلة وهي واقفة في مكانها لا تتقدم خطوة إلى الأمام، في حين أخذت اللغات الأوروبية تتحول وترتقي كلما تقدم أهلها في الأدب والعلوم، حتى أصبحت النموذج المطلوب في السهولة والإيضاح والدقة، والحركة والرشاقة، وصارت أنفس جوهرة في تاج التمدن الحديث.» •••
ولقد أحب قاسم أمين المرأة، ورأى فيها جوهر الحب والحنان، وكان يقول: «إذا كان المال زينة الحياة، فالحب هو الحياة بعينها.» ويقول: «كل عشق شريف، فإذا كان بين شريفين زاد في قيمتهما ورفع من قدرهما، وإن كان بين وضيعين ألبسهما شرفا وقتيا.»
وليس حبه المرأة هو الذي دفعه إلى العمل على تحريرها ورد حقوقها إليها، ولكن دعاه إلى ذلك عمق تفكيره في الحرية، واتساع نظرته إلى الإنسانية، وهو فيما دعا إليه قد تأثر ولا شك بتعاليم الثورة الفرنسية، وثورة جمال الدين الأفغاني وشخصية محمد عبده، وكان يمكن أن تموت صيحات قاسم أمين على فمه، لو لم يكن مقتنعا بها عن وعي وإيمان، ولكن صيحات قاسم أمين أصبحت سلوكا اجتماعيا ومناهج معترفا بها.
فقد صار لنا تعليم جامعي، وتطورت لغتنا، واكتسبت الرشاقة والحركة، بدون أن تلجأ إلى ما دعا إليه من تسكين أواخر الكلمات، وقام من بعده زميل له هو عبد العزيز فهمي باشا يدعو إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وكانت دعوة عبد العزيز فهمي متأخرة أربعين عاما!
واتجاه قاسم أمين إلى إلغاء عقوبة الإعدام، أصبح اتجاه كثيرين، أو موضع مناقشة الكثيرين من المشتغلين بالفقه والقانون!
وتحرير المرأة من رق الحجاب والجهل، والانعزال عن المجتمع، لم يعد فكرة، بل هو أمر واقع، تجاوز ما أشار إليه قاسم أمين بمسافات كبيرة. •••
وعندما أصدر قاسم أمين كتابه «تحرير المرأة»، خرجت طالبات المدرسة السنية سافرات الوجوه، وسرن في شارع المبتديان، وكتبت الصحف في ذلك الحين أن الطالبات سرن كما تسير العاهرات، بلا حجاب! ومشى الناس وراءهن يرمونهن بالحجارة! •••
وفي مساء 23 أبريل من عام 1908، كان المستشار قاسم أمين، يحتفل في نادي المدارس العليا بوفد الطالبات الرومانيات اللائي يزرن مصر، وذهب إلى بيته واستقبلته زوجته وبنته، ولم يكد يأوي إلى فراشه حتى شعر بانقباض، ثم لفظ آخر أنفاسه؛ فقد مات بالسكتة القلبية.
وارتفع من هذا البيت لأول مرة صوت صاخب من سيدة تبكي زوجها أحر بكاء.
هذا البيت باعته أسرة قاسم أمين، وتحول فيما بعد إلى كباريه، حمل عشرة أسماء، وآخر هذه الأسماء هو «الأريزونا»!
أستاذ الشعراء يتيم
هل تعرف أستاذ الشعراء في مصر؟ لا تتعب ذاكرتك وتستعرض أسماء شعرائنا الأحياء! فإنه ليس واحدا منهم، لقد مات منذ حوالي أربعين عاما بعد أن عاش ثمانين سنة.
بدأ حياته في القاهرة طفلا يتيما، أبوه من غمار الناس، ثم دخل مدرسة المبتديان، ومدرستي التجهيزية والإدارة ، والتحق ببعثة رسمية إلى فرنسا، فنال إجازة الليسانس في الحقوق من جامعة إكس ليبان، وعاد إلى مصر فتقلد فيها أكبر المناصب. كان أول نائب عام مصري، ثم محافظا للإسكندرية ووكيلا لوزارة الحقانية (العدل).
وفي عام 1907 أحيل إلى المعاش، وفي عام 1915 توقف عن نظم الشعر، وفي عام 1923 واجه الموت الذي طالما تساءل عن حقيقته في حيرة وفي إيمان أيضا.
فإسماعيل صبري باشا كان يشك أحيانا، ولكنه لم يكن ملحدا!
تعالى الله، لا يعل
م كنه الله إنسان
أتنكره؟ وأنت علي
ه - لو تعلم - برهان
ويخاطب ربه قائلا:
خشيتك حتى قيل لي: إني لم أثق
بأنك تعفو عن كثير وترحم
وأملت حتى قيل لي: ليس بخائف
من الله أن تشوي الوجوه جهنم
كان إسماعيل صبري رقيقا في حياته، تبدو رقته في معاملته للناس؛ فهو لا ينفر منهم ولا يجري وراءهم، وإذا عثر على صديق تعلق به في رقة، وإذا تصدى له عدو حاربه في رقة أيضا.
لم يكن أحد يعرف عن أبيه شيئا، وكان الناس في أيامه يفخرون بآبائهم، وقد نشأ يتيما، لم ير أباه؛ فلم يذكره، ولعله كان واحدا من الفقراء البسطاء الكادحين، والفقر والبساطة والكدح كانت في تلك الأيام مثار السخرية، وأحس إسماعيل صبري أنه بلا أسرة، فجعل الإنسانية أسرته يتجه إليها في تصرفاته، وينفعل بآلامها وأحلامها، وأحاط نفسه بسياج من دماثة الخلق والتشبث بالكرامة، والتجاوب مع بلاده في عواطفها وإرادتها وأمانيها، فلم يستطع أحد أن يتسلق هذا السياج وينال من كرامة إسماعيل صبري، أو يعيره بأنه ليس له نسب وحسب، ولقد أشار الشاعر الخالد أحمد شوقي إلى ذلك في قصيدته التي رثى بها صبري فقال:
قل للمشير إلى أبيه وجده
أعلمت للقمرين من أسلاف
شرف العصاميين صنع نفوسهم
من ذا يقيس بهم بني الأشراف؟
قامت الثورة العرابية، وجاء الاحتلال البريطاني ليحمي عرش الخديو توفيق في عام 1882، وكان إسماعيل صبري يشغل المناصب القضائية في المحاكم المختلطة، ولم نجد في ديوانه ولا فيما نقل رواته عنه كلمة تعرض فيها لثورة عرابي بخير أو بشر، وكان صبري مثل سائر الشعراء يرفع إلى الخديو قصائد المدح والتهنئة في المناسبات، ولكننا لم نعثر له على قصيدة واحدة من هذا النوع، خلال عامي 1882 و1883.
وبعد هذا التاريخ ظهرت قصائد يهنئ بها توفيقا في الأعياد والمواسم، وقد خلت قصائد التهنئة والمدح للخديو من أي تعرض بالثورة العرابية، واقتصرت على التعبيرات التقليدية التي ابتذلها الشعراء من كثرة ما رددوها في مثل هذا المجال.
وقصائد صبري في المناسبات الرسمية تهبط بمستواه في اللفظ والمعنى والذوق الفني إلى هاوية النظامين في عصور انحطاط الأدب العربي. أما قصائده العاطفية والقومية والقصائد التي بث فيها خواطره عن الحياة والموت، فإنها ترتفع به إلى ذروة الذوق والرقة والحساسية وحلاوة التعبير، وهو بهذه القصائد قد فرض أستاذيته على الشعراء، وصارت له شخصية فنية منفردة، تلمع فيها مخايل من خفة ظل الشاعر المصري البهاء زهير، ومن موسيقى الشاعر العربي القديم البحتري.
وقد عاصر صبري شاعرا كبيرا، هو محمود سامي البارودي، وكان البارودي قد بعث في الشعر العربي الجزالة والفحولة، بعد فترة طويلة ظل الشعر خلالها يرسف في المحسنات اللفظية الفارغة.
ولم يكن البارودي شاعرا فحسب، لكنه كان أحد زعماء الثورة العرابية، وفي عام 1909 أصدر كتابه «مختارات البارودي»، فقرظه صبري بقصيدة عبر فيها عن مفهوم الشعر عنده، فقال: «شعر الفتى عرضه الثاني.»
ولقد كان صبري يحافظ على أشعاره النابعة من نفسه محافظته على عرضه، كان يديم النظر إليها ويصقلها وينسقها، ويخشى أن ينشر القصيدة إلا بعدما يطمئن إليها اطمئنانا فنيا شاملا.
ولم يكن لصبري منهج مدرسي في الشعر، لكنه كان صاحب ذوق رقيق، وقد اكتسب رقة ذوقه مما قرأه للشعراء الفرنسيين والرومانسيين، والتقت طبيعته المصرية الحديثة الساخرة المرحة، بطبيعته المصرية القديمة الباحثة عن الروح والخلود، فكانت أشعاره تنبض بالفكرة، ولكنها لا تمس أعماقها، وكان مثل أهل عصره في كل مكان، لا يرى للفن وظيفة إلا الإمتاع والإثارة، وتشمل الإثارة ما يتعلق بالفكر والعاطفة معا.
وكان ولعه بالفنون محصورا في «الطرب»، فهو يحب الأصوات الجميلة، وينظم لها الأغاني باللهجة المصرية، مثل: «الحلو لما انعطف» و«خللي صدودك وهجرك».
وقد نظم هذه الأغاني لعبده الحامولي ومحمد عثمان، ويروي عنه أصدقاؤه أنه كان يهيم بجمال الكلمة واللحن؛ كان إذا أعجبه لحن، ظل يسمعه أو يردده حتى تنتهي السهرة، وإذا أعجبه بيت شعر أخذ ينشده ولا ينشد سواه إلى أن ينام. دخل عليه أحد زملائه وكان من رجال القضاء، فقال: السلام عليكم. ومد يده لمصافحته، وصافحه إسماعيل صبري، ولكنه لم يرد السلام، بل أخذ ينشد هذا البيت للبحتري:
ما أحسن الأيام لولا أنها
يا صاحبي إذا مضت لا ترجع!
وعقدت الدهشة ملامح زميله، فكان ينظر إليه في تعجب، ويقلب كفيه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وغادره وتوجه إلى أنطون الجميل وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكانوا يجلسون في أحد المقاهي، وأخبرهم أن إسماعيل صبري أصيب بجنون، وسألوه: كيف؟! فروى لهم ما حدث وتوقع منهم أن يحزنوا فإذا هم يضحكون، وأفهموه أن إسماعيل إذا أعجبه بيت من الشعر، ظل يردده حتى ينام، فقال: وماذا تسمون هذا؟ وقبل أن يجيبوا أجاب هو قائلا: هذا جنون! وتركهم غاضبا.
وكان واضحا في حياة إسماعيل صبري بغضه للاحتلال البريطاني، ومساندته للمعركة الوطنية الشعبية التي يتزعمها مصطفى كامل، وعندما كان صبري محافظا للإسكندرية، أراد الزعيم الوطني أن يعقد هناك اجتماعا عاما يلقي فيه خطابا سياسيا، فأرسلت نظارة الداخلية تعليماتها إلى المحافظة بإلغاء الاجتماع، واحتج إسماعيل صبري على هذه التعليمات، وقال: أنا المسئول عن الأمن في محافظتي، ورخص بعقد الاجتماع وألقى مصطفى كامل خطابه التاريخي، ولما مات مصطفى كامل رثاه إسماعيل صبري بقصيدة باكية.
وظل مصطفى فهمي باشا يرأس الوزارة حوالي سبعة عشر عاما، وكان مهتما بممالأة الاحتلال، فلما استقال عام 1908 نظم إسماعيل صبري أبياتا هجاه بها، وعدة مقطوعات تناولت بالتجريح كل الوزراء الموالين للاستعمار، كان يدعو الشعب إلى إقامة حكم نيابي، ويحمل على الاستبداد، وقد أشاد بآثار مصر وحث المصريين على لسان فرعون أن ينهضوا ويستعيدوا مجدهم، وذلك في قصيدته الكبيرة:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني
إذا ونى يوم تحصيل العلا واني
لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا
فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
وقد دعا إلى الوحدة بين الأقباط والمسلمين، وكان له دور كبير في القضاء على الفتنة التي اشتعلت عقب مصرع بطرس غالي باشا، وفي ذلك يقول:
دين عيسى فيكم ودين أخيه
أحمد يأمراننا بالإخاء
مصر أنتم ونحن إلا إذا
قامت بتفريقنا دواعي الشقاء
مصر ملك لنا إذا ما تماسكنا
وإلا فمصر للغرباء
وهو يحارب الزواج من اثنتين ويدعو إلى تعليم المرأة، وفي ذلك يقول: «نحن في حاجة إلى تعليم أبنائنا وبناتنا، بل إن حاجتنا إلى تعليم بناتنا أشد؛ لأن بنت اليوم أم الغد، وحضن الأم في نظر العاقل مدرسة أولية، يتلقى فيها الطفل المواد الأولى لغذاء جسمه وعقله؛ ولأن النساء نصف مجموع الأمة، وهيهات أن ينهض مجموع نصفه أشل.»
وهذه الآراء تتفق مع دعوة قاسم أمين، ومع ذلك لم يتعرض إسماعيل صبري في شعره مرة لقاسم أمين، ولا لدعوته، ولم يرثه عندما مات! وكانت تربطه بسعد زغلول علاقات غامضة! فلم يهاجمه عندما كان وزيرا في وزارة مصطفى فهمي، وداعبه بتجريح بعدما تولى وزارة المعارف في الوزارة، التي أعقبت وزارة مصطفى فهمي.
ولما قامت ثورة 19 بزعامة سعد زغلول كان إسماعيل صبري قد سكت عن نظم الشعر تماما، لا أحد يستطيع أن يعرف على وجه التحديد رأيه في الثورة ولا في الأحداث التي أعقبتها.
وكان صبري يقول: أحب التوحيد في ثلاثة: الله، والمبدأ، والمرأة. وأحب الحرية في ثلاثة: حرية المرأة في ظل زوجها، وحرية الرجل تحت راية الوطن، وحرية الوطن في ظل الله.
وبرغم ترفع إسماعيل صبري عن المهاترات، شارك في هجاء الكاتب الكبير محمد المويلحي، بعدما صفعه أحد الأعيان على وجهه عام 1902، وكان ينشر قصائده الهجائية باسم مستعار، وكانت جريدة المؤيد تنشر قصائد الشعراء ضد المويلحي؛ بدافع الخصومة القائمة بين صاحبها علي يوسف ومحمد المويلحي صاحب جريدة «مصباح الشرق».
وتتجلى العذوبة في الأشعار العاطفية التي نظمها صبري، يقول:
أترى أنت خاذلي ساعة التوديع
يا قلب في غد أم نصيري
ويك! قل لي: متى أراك بجنبي
راضيا عن مكانك المهجور؟!
ويقول:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة
ولا بشافعة في رد ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا
حمل الصبابة فاخفق وحدك الآنا
وقد تضمن ديوانه مساجلة بينه وبين إحدى الأديبات، ولم نستطع أن نعرف من هي هذه الأديبة، إنها ليست الكاتبة «مي»؛ فلم تكن تنظم الشعر، وليست على ما نظن «باحثة البادية».
تقول الأديبة المجهولة:
فديتك يا هاجري
فهل ترتضي بالفدا؟
سهرت عليك الدجى
ونمت ولكن سدى!
ويقول لها صبري:
أهاجرتي أطفئي
لواعج لا تنتهي
مضت في هواك السنون
وما نلت ما أشتهي
وترد عليه:
زمانك قبلي انتهى
ولا يرجع المنتهى
فحسبي أن أزدهي
وحسبك أن تشتهي
وتحس المرارة في أشعاره التي يتحدث فيها عن الموت يقول:
إن سئمت الحياة فارجع إلى الأر
ض تنم آمنا من الأوصاب
تلك أم أحنى عليك من الأم
التي خلفتك للأتعاب
لا تخف فالممات ليس بماح
منك إلا ما تشتكي من عذاب
وحياة المرء اغتراب، فإن ما
ت فقد عاد سالما للتراب
وتلمس توجسه من الله خوفا، وهو يخاطبه قائلا:
يا عالم الأسرار حسبي محنة
علمي بأنك عالم الأسرار
وقد اشتدت عليه وطأة المرض، فزفر هذين البيتين:
يا موت ها أنا ذا
فخذ ما أبقت الأيام مني
بيني وبينك خطوة
إن تخطها فرجت عني
وفي يوم 21 مارس من عام 1923 خطا إليه الموت وأخذه، أخذه جسدا وأعطانا روحه وذوقه وفنه.
عندما غنى الشعب
الشارع يموج بالزحام والأنوار، وبأصوات متباينة يختلط فيها الزعيق والغناء والهتاف، وعزف الموسيقى، وتسمع من خلال الأصوات المدوية أبواق السيارات ورنين أجراس بسكليت أو عربة «حنطور» خاصة، وفرقعة السياط في أيدي سائقي عربات الحنطور العامة، أحيانا يلهبون بها ظهور الجياد، وأحيانا يلهبون بها ظهور الصبية المتعلقين بمؤخرة عرباتهم، وأحيانا أخرى يلهبون الهواء بسياطهم ليشقوا لهم طريقا للمرور!
إن الجماهير في هذا الشارع لا تمشي، ولكنها تدور وتتجمع، كل من في الشارع يترنح؛ الناس ، المقاهي ، الفنادق، دور السينما، الأضواء الملونة التي تغدقها المسارح والكباريهات على واجهاتها بكرم وحماقة.
إن الكلمات والقهقهات هي الأخرى تترنح، الذين يزعقون تخرج الكلمات من أفواههم مبتورة كالسيرة المعوجة أو السلوك السيئ، والذين يقهقهون تعلو قهقهاتهم وتهبط وتتقطع وتتمايل كسكران شرب زجاجة كاملة من خمر رديء! والشارع يبدو كما لو كان متدثرا في غطاء فضاؤه تغطيه البالونات، يمسك بخيوطها الصبيان والباعة الجائلون، وجدرانه تغطيها إعلانات الملاهي وصور المطربات والراقصات والمطربين. النساء والفتيات والشبان والكهول غطوا الرصيف والطريق. أزياء الرجال متعددة الأشكال؛ عمائم وطرابيش وقبعات وقفاطين وبذلات ومعاطف وجلابيب عادية، وجلابيب من الصوف أو الحرير تولى حياكتها أشهر الخياطين. النساء يرتدين الفستان أو الحبرة أو المعطف أو الملاءة اللف، أكثرهن سافرات الوجوه والأقلية منهن احتفظن باليشمك التركي، أو البرقع البلدي!
لا يوجد مقعد خال في مسرح أو في مقهى أو دار سينما أو كباريه، وعلى أبواب المقاهي يعرض الحواة ألعابهم العجيبة، يحشون صدورهم بالثعابين، ويأكلون النار، ويبلعون المسامير، وإلى جانبهم فرقة بمصاحبة البيانولا، بين أعضاء الفرقة من تخصص في المشي على يديه، ومن تخصص في حمل بقية أعضاء الفرقة فوق قدميه! وعند أبواب الكباريهات وقفت أكثر من غانية تعرض مفاتنها الرخيصة؛ وجه ملطخ بالأحمر والأبيض تحملق منه عين خائنة، وابتسامة وقحة، وذراعان تعرتا حتى الإبطين، وساقان عاريتان، وفستان قصير ضيق النطاق على الردفين، فتمرد الردفان على الفستان! ومن ناحية تنطلق أغان وألحان ينشدها المطربون والمطربات في المسرح، وترددها معهم الجماهير في الشارع الكبير.
هكذا كان شارع عماد الدين مساء يوم 31 ديسمبر من عام 1922، وكان صاحب هذه الألحان والأغاني يمشي في الشارع، ويستمع إلى الناس وهم يبدون إعجابهم به، فيأخذه الزهو، وتتملكه نشوة النجاح؛ لقد سبق زمنه في الكشف عن حقيقة الأغنية، ووظيفتها، ومفهومها، وسبق زمنه أيضا في الكشف عن مكانته وموهبته وعبقريته.
لقد أصبح صوت مصر، صوت عاطفتها ومرحها وألمها ونضالها، إنه صاحب كل هذه الألحان التي تعبر عن الحب، والحزن، والأمل، والتمرد على الظلم والاستغلال والاحتلال.
إنه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقايين، وغنى في وقت واحد: «ضيعت مستقبل حياتي»، و«شفتي بتاكلني أنا في عرضك»، و«فلفل فلفل اهري يا مهري»، و«زوروني كل سنة مرة»، و«بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، و«قوم يا مصري مصر أمك بتناديك»، و«اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم» ...
إنه سيد درويش، وكان في هذا العام قد بلغ من عمره الثلاثين، وبلغ في فنه قمة المجد والشهرة، إنه ابن كل شارع في مصر، واحد من غمار الناس، عاش مشاعرهم وتجاوب معهم، فجعل من فنه رئة يتنفسون بها.
وهو في هذا الشارع «شارع عماد الدين» سيده الأوحد؛ فهذا شارع المسارح والملاهي، وكل ملهى وكل مسرح يجري وراء سيد درويش؛ ليستأثر بإنتاجه الفني في الأغنية والأوبريت، وهو يرفض العروض ويقبلها، دون أن يعرف أحد لماذا يرفض ولماذا يقبل؟ اتفق مع علي الكسار، ونجيب الريحاني، ومنيرة المهدية، لم ينشب خلاف بينه وبين الكسار، ومع ذلك آثر عليه منيرة المهدية برغم اختلافه معها قبل اتفاقهما وبعد اتفاقهما. ولقد آثر نجيب الريحاني على الجميع، مع أن حدة الخلاف بينه وبين الريحاني لم تهدأ منذ أن عرفه إلى أن ترك الحياة؛ فهو يحب الريحاني ويؤمن بأنه فنان عبقري، ومن أجل ذلك غفر له ما لم يغفره لعلي الكسار أو لمنيرة المهدية، غفر له أن ينتقد بعض ألحانه! وكان سيد درويش يتهاون في أي شيء، إلا في المساس بلحن انتهى من صياغته.
كان يغار على تراثه الفني أكثر من غيرته على حياته؛ إنه يسمح لك أن تسرق ماله، ولكنه يقتلك إذا حاولت أن تسرق ألحانه!
ذات ليلة ذهب إلى مسرح الكسار وسمع أحد الألحان، ووجد اللحن مسروقا منه، فغادر صالة المسرح واتجه إلى الكواليس، واستدعى مؤلف اللحن المسروق ورحب به المؤلف، وكان اسمه «إبراهيم فوزي»، ومد ذراعيه في الهواء ليحتضن الشيخ سيد درويش، وإذا سيد درويش ينهال عليه بأقذع الشتائم، ويهدده بالقتل إذا لم يقلع عن السطو على ألحانه.
وفي شارع عماد الدين في ليلة رأس السنة، 31 ديسمبر سنة 1922 سار سيد درويش ومعه أصدقاؤه؛ زكريا أحمد وبديع خيري ويونس القاضي، وكان في طريقه إلى معهد الموسيقى الشرقي، وسأله زكريا ماذا ستصنع هناك؟ وقال سيد درويش: لقد اتصل بي مصطفى بك رضا، ورجاني أن أنضم إلى المعهد. وقال الشيخ زكريا: مصطفى بك رجل طيب ولكن ...
وقال الشيخ سيد: ماذا تعني؟
الشيخ زكريا: أعضاء المعهد لا يعترفون بموسيقاك، ومصطفى رضا أيضا لا يعترف بها.
وصاح سيد درويش: إذن، سأذهب إليهم وأتحداهم.
الشيخ زكريا: سأجيء معك.
الشيخ سيد: دعني وحدي.
وانطلق سيد درويش بأقصى سرعته حتى وصل إلى المعهد وحده، وهناك استقبل المعهد لأول مرة شابا رأسه متوسط الحجم، وشعره مبعثر نافر غزير خشن، متمرد على كل تسريحة، جبهته عريضة، وعيناه يمتزج فيهما الحنان بالقسوة والشهوة، الأنف يبدو كما لو كان مضغوطا، والفم واسع رقيق مطبق، والأذنان مرهفتان.
وكان قوامه فارعا طويلا، عريض المنكبين، رحب الصدر، نصفه الأعلى يميل إلى البدانة، وينتهي إلى بطن منتفخ. أما النصف الثاني فكان نحيلا، وكانت ساقاه اللتان تحملان جسده أشبه بساقي طائر، فهما رفيعتان نحيلتان.
ودخل الشيخ سيد مكتب مصطفى بك رضا، فاستقبله مصطفى بك بالترحاب هو ومن معه، ودار الحديث عن الموسيقى وتطورها.
وقال مصطفى رضا: إذا كان التجديد هو تقليد الموسيقى الغربية فما أسهله!
وثار الشيخ سيد ورد عليه: إنني لا أقلد أحدا، إنني أعزف مشاعري، أعبر عن انفعالي بأنغام لها وحدة وجود وهدف.
وسأله مصطفى رضا: هل سمعت شيئا من الموسيقى الغربية؟
وقال الشيخ سيد: سمعت.
وأخذ مصطفى رضا يعزف على القانون لحنا من أوبريت «كارمن» للموسيقار «بيزيه»، وقال للشيخ سيد: ما الفرق بين هذه الموسيقى وبين موسيقاك؟
فقال الشيخ سيد: هذه موسيقى «بيزيه»، أما موسيقاي فهي موسيقى سيد درويش.
فضحك مصطفى رضا، وفي هذه اللحظة كان الساعي يضع أمام الشيخ سيد فنجان قهوة، فتناول سيد درويش الفنجان بيده ورمى به فوق المائدة، احتجاجا على سخرية مصطفى رضا به، وقعت القهوة الساخنة على ركبة فتى صغير، كان يجلس بجوار مصطفى رضا فصرخ من الألم.
وكان هذا الفتى هو محمد عبد الوهاب!
وغادر الشيخ سيد معهد الموسيقى الشرقي غاضبا، وجرى خلفه محمد عبد الوهاب حتى لحق به وأخذ يسترضيه، وأقبل مصطفى رضا وحسن أنور وبعض أصدقاء المعهد، ووقفوا مع الشيخ سيد واعتذروا له، وعادوا به إلى المعهد ليناقشوه في هدوء.
ولم تجد المناقشة، قال لهم الشيخ سيد: أنتم تعيشون في الماضي، وتنظرون إلى الوراء، وأنا أعيش عصري وأنظر إلى المستقبل.
وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة مساء، فاستأذن الشيخ سيد في الانصراف، وذهب إلى مقهى في ميدان الأوبرا، ووجد الشيخ زكريا في انتظاره، فقال له: قم بنا نذهب إلى مسرح الأوبرا لنسمع أوبريت «كارمن»، ولما وصلا إلى باب المسرح وجدا المقاعد مشغولة كلها فعاد إلى المقهى، وتلفت الشيخ زكريا فوجد سيد درويش يرهف أذنه، وهو في حالة إصغاء تام.
فسأله: ماذا تصنع؟
فقال: أحاول أن أسمع، ثم قال: آه! هذه هي الموسيقى! إن الموسيقى ليست موهبة فقط، إنها موهبة وعلم، لا بد من أن أتعلم الموسيقى، سأسافر إلى إيطاليا في العام القادم، سأتلقى فن الموسيقى في بلد الموسيقى وأساتذة الموسيقى، وأخذ يبكي وينتحب.
وجذبه الشيخ زكريا من يده، وسارا معا إلى بيت في شارع محمد علي، كان يحلو للشيخ سيد درويش أن يمضي فيه سهرته.
إن سيد درويش شخصية فذة في تفكيره وشعوره والتصاقه بأرضه وتطلعه إلى التحليق في آفاق عالية سامية، إنه يبدو في تصرفاته وديعا إلى حد الضعف قاسيا إلى حد الضراوة! وهو يألف الناس بلا سبب، وينفر منهم بلا سبب! وربما كان مرجع ذلك إلى طبيعته «المينائية»، فأبناء البلاد ذات الموانئ يقيمون علاقاتهم بالناس، على أساس الشعور المفاجئ؛ لأنهم يعرفون الناس فجأة، يفاجئون بهم وهم قادمون، ويفاجئون وهم راحلون.
كان سيد درويش يميل بقلبه إلى صديق لا يستحق الصداقة! ويهرب بقلبه وعقله من إنسان جدير بالصداقة! إنه في علاقاته مع الأصدقاء والصديقات لا يسير وراء المنطق ولكن يسير وراء الشعور.
ولقد خانه شعوره في صداقاته وعلاقات حبه، فكان يصادق بلا تمييز ، ويحب نساء تافهات بنهم وحرارة، حتى إنه يهبهن قلبه وفنه أيضا. ولقد انحرف بمزاجه في تيار البيئة التي كان يريح فيها تفكيره ويرهق نزوته. عرف الحشيش والكوكايين، وجميع ألوان الكحول، ولكن هذا التيار لم ينل منه كإنسان يحب وطنه، وكفنان يؤدي رسالته بفهم وإيمان.
إنه في هذا العام 1922 يرتدي البذلة كاملة، وقد علق في رقبته «بابيون»، ووضع فوق رأسه طربوشا طويلا؛ ولكي ترى سيد درويش قبل هذه السنة اخلع بذلته، واضغط قامته قليلا، ثم دعه يرتدي الجبة والقفطان والعمامة ذات الشال الأبيض الملفوف حول طربوش أحمر. لقد كان هكذا في الإسكندرية والقاهرة بضع سنوات، ولكن ماذا كان قبل ذلك؟ اخلع عنه الجبة والقفطان، ودع العمامة فوق رأسه وأبق على جلبابه الواسع، وهو طالب في المعهد الديني بالإسكندرية؛ حيث أمضى سنتين إحداهما في المسجد العباسي، والأخرى في جامع الشوربجي.
ولكن ما لنا نتراجع مع حياة الشيخ سيد إلى الوراء تراجعا متقطعا؟ لماذا لا نسير معه منذ ولادته في عام 1892، إلى أن مات في عام 1923.
تمت ولادة سيد درويش في حي كوم الدكة بالإسكندرية، وكان أبوه نجارا بسيطا، وكان برغم فقره موضع احترام أهل الحي، ومات الرجل الفقير وترك ابنه في السابعة من عمره فكفلته أمه، وكان إذ ذاك يتردد على كتاب يحفظ فيه القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة حسن حلاوة، ثم إلى مدرسة شمس المدارس، وكان بين مدرسي هاتين المدرستين الأستاذ سامي، وهو يهوى الموسيقى، فأنشأ فيهما فرقة للإنشاد، وخص الشيخ سيد برعايته بعدما أدرك مواهبه الفنية الفطرية، وتولى الشيخ سيد قيادة الفرقة عندما كان طالبا في مدرسة حسن حلاوة، وعندما صار طالبا في مدرسة شمس المدارس.
ولم يقف سيد درويش عند حد ترديد الأناشيد المدرسية، بل أخذ يحفظ أغاني الشيخ سلامة حجازي، وأدوار المطربين المشهورين في تلك الأيام، من أمثال محمد عثمان وعبده الحامولي وعبد الحي حلمي، وأتم حفظ القرآن وتجويده، وفي عام 1905 قدم إلى المعهد الديني في الإسكندرية طلب التحاق بالمعهد، نورد نصه عن كتاب «الموسيقار سيد درويش » لمؤلفه الأستاذ محمد إبراهيم، وقد سجل الكتاب طلب سيد درويش بالزنكوجراف كما يلي:
عرضحال بتاريخ 27 مارس سنة 1905 حضرة شيخ علماء إسكندرية فضيلتو أفندم، مقدمه لفضيلتكم سيد درويش البحر، من أهالي إسكندرية، ومقيم بكوم الدكة شياخة أحمد الضوي، وما نعرض عنه أفندم.
بحيث إني مشتغل بحفظ القرآن الشريف، وأروم من فضيلتكم بدرج اسمي مع الطلبة الموجودين تحت رياسة فضيلتكم، وعندي من العمر 13 سنة ثلاث عشرة، ومذهبي مالكي (وهنا حذف كلمة مالكي ووضع مكانه كلمة «حنفي»)، وإن قبلتم طلبي هذا أدعو لفضيلتكم بالعز والبقاء أفندم.
وأصبح سيد درويش طالبا بالمعهد، ووقع التعهد الذي يتحتم على الطالب الأزهري توقيعه، وينص البند الخامس من هذا التعهد على أن يحافظ الطالب على شرف العلم والدين، وأن يسير سيرة مرضية، وأن يتخلق بالأخلاق الكريمة، وأن يحافظ على جميع الواجبات المفروضة عليه بمقتضى الشريعة الإسلامية.
ومكث سيد درويش في المعهد الديني سنتين لم يستطع خلالهما أن ينفذ أي بند من بنود التعهد المطلوب من المنتسبين إلى المعهد؛ فقد أخذ يحفظ الألحان وينشد الأغاني، ويسهر في الحفلات التي يحييها المطربون والصبية والمقرئون المعروفون، كالشيخ أحمد ندا والشيخ حسن الأزهري، بل إنه لم يستطع خلال هذين العامين أن يرتدي الجبة والقفطان؛ فقد كان لا يملك ثمن الملابس الدينية، وفي إحدى الليالي كان الشيخ حسن غميض يحيي حفلة، وأخذ يرتل التواشيح الدينية، وبعده وقف الشيخ سيد وأنشد بعض الموشحات والأغاني بطريقة استهوت الآذان، واستخف الطرب بالموجودين، فجمعوا له نقطة اشترى بها عمامة وقفطانا وجبة.
وكان هذا أول عهد الشيخ سيد بالزي الديني، وآخر عهده بالمعهد الديني؛ فعقب ذلك قرر المعهد فصله لعدم مواظبته على حضور الدروس واشتغاله بقراءة الموالد في الأفراح.
وقرر الشيخ سيد أن يحترف الغناء والإنشاد، ولكنه اصطدم بعقبات شديدة؛ كانت أغلبية الجماهير لا تستسيغ أداءه، وكم أقام حفلات فلم تصادف أي إقبال من الجمهور.
وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، تزوج وصار مسئولا عن زوجته وأمه وطفله محمد البحر، فاشتغل في فرقة «جورج دخول» المعروفة بفرقة «كامل الأصلي»، وكانت تعمل في أحد المقاهي بكوم الناضورة، ولم ينجح في عمله، فترك الفرقة وأخذ يطوف بالمقاهي ينشد الأغاني، وكان ما يجمعه طول الليل والنهار، لا يزيد على بضعة قروش.
واضطر إلى أن يشتغل عامل بناء، فخلع عمامته وجبته وقفطانه، وارتدى جلبابا أبيض، وكان يعمل في إحدى العمارات مناولا، يصعد فوق السقالة ويناول البنائين المونة والبياض، وكان في أثناء صعوده وهبوطه يرفع عقيرته بالغناء، ويثير إعجاب العمال! وكان بجوار العمارة مقهى يتردد عليه أمين عطا الله وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل الصغير من مزايا فنية، واتفقا معه على أن يصاحبهما في رحلتهما إلى سوريا، وألحقاه بفرقتهما عام 1909، وقد أفاد سيد درويش من هذه الرحلة علما وثقافة وإلماما بالموسيقى الشرقية، ولكنه أخفق في عمله، وفي عام 1912 سافر مرة أخرى إلى سوريا مع فرقة عطا الله، ونجح في هذه المرة نجاحا نسبيا، ولما عاد إلى الإسكندرية بدأ يحدد اتجاهه الموسيقي، ويتجه إلى المفهوم الصحيح للأغنية، وأخذ يصارع الظروف المادية والفنية بقوة وصلابة، حتى ذاع اسمه وصار حديث الناس كفنان مجدد، وصاحب مدرسة في الأغنية المصرية.
في عام 1917 انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ومنذ ذلك التاريخ وقف تحت الأضواء العالية، وما أشد خوفه من هذه الأضواء! إنها ستظهره على حقيقته، وقد ينفر الناس من هذه الحقيقة، وقد يقبلون عليها، ولكن لا بد من أن تظهر حقيقة سيد درويش، إنه نفسه يريد ذلك، كان في هذا التاريخ قد اطمأن إلى موهبته، وكان إنتاجه الفني غزيرا، كانت الفكرة تنبض في رأسه وتخرج فورا؛ لأنها ترتطم بأفكار أخرى؛ فإن موهبته أكثر من معلوماته.
وفي القاهرة لازم الشيخ سلامة حجازي، والتحق بفرقته، وغنى بين فصول المسرحيات، ولكن الجمهور انصرف عنه.
ولم ييئس سيد درويش من فنه، بل لم ييئس من صوته، كان يؤمن بأن فنه قيم، وأن صوته إذا لم يكن جميلا، فهو قادر على الأداء الصحيح، وأجرى جراحة في أنفه لاستئصال «اللحمية»، ولكن صوته ظل كما كان قبل هذه الجراحة.
اتجه إلى التنويع في الألحان، إنه لا يلحن للحناجر الجميلة، إنه يلحن للشعب، يريد من الشعب أن يغني بجميع الأصوات ومن جميع الطبقات.
وانتشرت ألحانه على ألسنة الناس ودوت في آذانهم، وهمست مشاعرهم.
واهتدى سيد درويش إلى نفسه، إنه يعبر عن مشاعره كإنسان ومشاعره كمواطن، فقد تمت ولادته بعد أن احتلت بريطانيا مصر بعشر سنوات، وكان يرى في كوم الدكة طابية محطمة، وسأل عن تاريخها وعلم أن الإنجليز ضربوها بالمدافع عندما دخلوا الإسكندرية في أثناء ثورة عرابي.
وعرف أن لبلده عدوا مقيما، وشعر بالنقمة على هذا العدو، أراد أن يعبئ الشعور ضد العدو بالكلمة، فوجد أروع الكلمات تنطلق من فم مصطفى كامل، ثم من فم سعد زغلول، أراد أن يعبر بالصوت الحلو؛ فوجد أحلى الأصوات تخرج من حناجر أخرى جميلة، فاتجه إلى تنقية موسيقاه من البطء والفضول والتكرار، وحولها من وسيلة لتزجية الفراغ والانجذاب والتطريب إلى حافز يهز المشاعر ويلهب العواطف، وهو يحدد مفهومه للألحان، ويحاول أن يضع كتابا عن الموسيقى، ويبدأ في تأليف الكتاب، وينشر منه أربعة فصول في مجلة النيل عام 1921، وفي رأيه أن الموسيقى أصوات متآلفة تحدث أنغاما بوساطة اهتزازات تنجذب لها الأفئدة كما ينجذب الحديد للمغناطيس، وكان يوقع هذه الفصول بإمضاء: «خادم الموسيقى سيد درويش.»
ظل سيد درويش موضع اهتمام مصر والعالم العربي طيلة السنوات الخمس التي سبقت وفاته، ثم أصبح مادة وموضوعا عقب وفاته، وقد سمعت عن سيرته الفنية وسيرته الشخصية قصصا كاملة من شاعرنا الخالد أحمد شوقي، وحدثني عنه عندما لحن له سيد درويش النشيد القومي: «بني مصر مكانكمو تهيا.»
وسمعت مئات القصص من بيرم التونسي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، واطلعت على ما نشرته الصحف عنه من آراء النقاد والأدباء؛ أمثال الأستاذ الكبير عباس العقاد، والدكتور حسين فوزي، والأستاذ محمد علي حماد، وقرأت كتابين عن سيد درويش؛ أحدهما للأستاذ محمد إبراهيم، والآخر للأستاذ محمد محمود دوارة، وكل ما قرأته وما سمعته لم يهزني كما هزني أن سيد درويش الذي صنع أكثر من مائتي لحن وأوبريت مات في الثلاثين من عمره!
وفي شهر سبتمبر من عام 1923 أعد سيد درويش نشيدا وطنيا، ليغنيه مع المجموعة في حفل استقبال الزعيم سعد زغلول لمناسبة عودته من الخارج، وسافر سيد درويش إلى الإسكندرية، وأقام مع شيقيقته في حي محرم بك، وفي اليوم المحدد للاحتفال وهو يوم 15 سبتمبر كانت المجموعة قد حفظت النشيد في الصباح، وانتظرت سيد درويش، ولكنه لم يحضر، ولم يعجب أحد لذلك؛ فقد كان الشيخ سيد لا يلتزم بأي موعد!
وظهر سعد زغلول في الاحتفالات وعزفت المجموعة نشيد: «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، ورددت الجماهير هذا النشيد بقوة وحماسة، وأبدى سعد زغلول إعجابه باللحن الشعبي العظيم، وسأل من الذي وضع هذا اللحن؟
وقيل له: سيد درويش.
فقال: أين هو لأحييه؟
وقيل لسعد زغلول: لقد مات.
اليوم مات سيد درويش!
مسرحيات شوقي
وهل هي لشوقي؟
هل مسرحيات شاعرنا الخالد أحمد شوقي من صنعه وحده؟
إن شعر المسرحيات من نظم شوقي؛ فلا أحد سواه يستطيع أن يصل إلى هذه القمة العالية في جزالة الأسلوب، ووضوح المعنى، وفخامة الكلمة، وموسيقية التعبير.
ولكن البناء المسرحي لهذا الشعر من الذي أقامه؟ هل أقامه شوقي وحده، أو أنه استعان بمهندس؟
لقد استعان شوقي فعلا في بناء مسرحياته بمهندس فني!
وهذا المهندس ليس شاعرا، ولا ممثلا، ولا مخرجا مسرحيا، ولكنه طبيب، هوايته الشعر والمسرح، وقبل أن أذيع اسم المهندس الفني لمسرحيات شوقي، أبادر وأذكر أن تصميم المسرحيات وأساسها وفكرتها ومادتها الشعرية قام بها شوقي.
وكل ما صنعه المهندس هو أنه أعاد النظر في الحوار، وفي ترتيب الفصول، وتولى تنسيق الإطار الفني الذي ظهرت فيه المسرحيات.
وقد نجحت المسرحيات بقوة الشعر وقدرة الممثلين على الأداء، ولكنها لم تنجح فنيا، ولقد أجمع النقاد على أن شعر شوقي القمة، وأن البناء المسرحي يحتاج إلى تعديل قد يتطلب التصرف في هذا الشعر البديع.
فأين الشاعر الذي يستطيع أن يصل إلى قمة شوقي؟
وإذا وجدنا ذلك الشاعر، فكيف يمكن أن نتصرف في شعر شوقي بالحذف أو الإضافة، دون أن نرتكب جريمة في حق التاريخ؟
لست من هذا الرأي، ولكنني غير بعيد عنه، فأنا أرى أن تعديل مسرحيات شوقي لا يتنافى مع الأمانة التاريخية، إذا اقتصر التعديل على الحذف، ولم يتناول إضافة شعر آخر إلى شعر شوقي، ربما قيل إن التعديل الفني قد يحتم وضع شعر جديد يقتضيه الجو والملاءمة والسياق، فماذا نصنع؟
إذا اصطدمنا بهذه العقبة، فمن الممكن تذليلها بوضع كلمات غير منظومة، وبذلك تكون الكلمات حركة إخراجية مكتوبة أشبه بحركات الإخراج على المسرح.
كان شوقي ينقد مسرحياته، ويعيد النظر فيها، وكلما شهد مسرحية أجرى عليها تعديلا، وقد عرفته في أخريات حياته، وحضرت معه مسرحية «مصرع كليوباترا»، وكنت أحفظ أشعاره، وفي إحدى الجلسات أبديت له ملاحظة على الحوار الذي دار بين أنوبيس وكليوباترا؛ جو الموقف يقتضي أن يهون أنوبيس من خطر الموت، حتى يغري كليوباترا أن تنتحر دون أن تخاف، كانت تسأله ماذا سيفعل الموت بها، وما هو الموت؟
تقول له: وما الموت؟
أنوبيس: ماذا أقول!
كليوباترا: تمثله لي كأن قد حضر.
أنوبيس: زعمت ابنتي الموت شخصا يحس، وعظمت من أمره ما صغر.
ويستطرد فيقول:
وما هو إلا انطفاء الحياة
وعصفت الردى بسراج العمر
وقلت لشوقي: إن هذا ليس تهوينا من شأن الموت، ولكنه تجسيم لرهبته.
فأطرق شوقي وقال: لو أبديت هذه الملاحظة قبل طبع المسرحية لحذفته منها.
وقلت له: عندي اقتراح.
فقال: ما هو؟
قلت: يبقى هذا البيت على لسان كليوباترا، وبدلا من أن يكون البيت:
وما هو إلا انطفاء الحياة
وعصف الردى بسراج العمر
يصبح البيت هكذا:
وهل هو إلا انطفاء الحياة
وعصف الردى بسراج العمر؟
فقال شوقي: إن هذا يقتضي أن يجري البيت التالي على لسان كليوباترا وليس على لسان أنوبيس، ويمكن تعديله على هذا النحو:
أليست له صورة في العيون
على قبح صورته في الفكر
فيقول أنوبيس:
وليست له صور في العيون
على قبح صورته في الفكر
إذا جاء كان بغيض الوجود
وإن جيء كان حبيب الصور
وسجل شوقي هذه الملاحظة في ورقة صغيرة، وقال إنه سينفذها في الطبعة الجديدة لمصرع كليوباترا، ويظهر أن الورقة التي دون فيها شوقي ملاحظته ضاعت منه، فقد صدرت بعد وفاته عدة طبعات لمصرع كليوباترا، ولكنها خلت من التعديل الذي اقتنع به شوقي.
ضربت هذا المثل لأبين حرص شوقي على الكمال الفني؛ فالفن انتقاء، وحذف، وإضافة، والانتقاء والحذف والإضافة لا ينبغي أن يتولاها إلا الفنان نفسه، ولكن إذا ذهب الفنان وكانت آثاره تحتاج إلى انتقاء وحذف وإضافة، فهل تهمل هذه الآثار؟ هل نتركها تخفق؟ أو أن الفن يقتضينا إجراء تعديل لها؟
أعتقد أن هذا السؤال يحمل الجواب الصحيح، وهو ألا نتردد في إجراء أي تعديل لا يمس جوهر العمل الفني، وما أنادي به بالنسبة لمسرحيات شوقي، حدث بالنسبة إلى مسرحيات شكسبير، وحدث بالنسبة إلى بعض ألحان سيد درويش، فإن أغنية «زوروني كل سنة مرة» التي تغنيها فيروز، في الإطار الذي رسمه لها أخوان رحباني، قد بلغت من النجاح الفني ما لم تبلغه وهي في إطارها الذي وضعه سيد درويش نفسه.
وهذا لا يغض من قدرة سيد درويش، بل يرفع قدره، ويثبت أن المعدن الفني الأصيل، إذا تشكل في أي قالب لا يفقد قيمته ولكن يزداد جمالا.
بقي أن تعرفوا المهندس لمسرحيات شوقي؛ إنه الدكتور سعيد عبده، ويمكن أن نستعين به في تعديل مسرحيات شوقي، إذا ما وجدنا بين المشتغلين بالمسرح من يجرؤ على وضع هذه المسرحيات في إطار يجعل قيمتها الفنية تتلاءم مع قيمتها الشعرية.
وطنية شوقي
زارني أحد خريجي كلية الآداب، ودارت بيننا مناقشة حول وطنية شاعرنا الخالد أحمد شوقي، وقال لي إنه يعد رسالة عن الشعراء الوطنيين في الخمسين سنة الماضية، وإنه لم يجد لشوقي قصيدة واحدة تدل على وطنيته وتجاوبه مع مشاعر الشعب.
وقلت للزائر الأديب: هل درست شوقي دراسة تستطيع معها أن تحكم على وطنيته؟
فقال: لقد كان شوقي مخالفا للحركة الوطنية التي تزعمها مصطفى كامل، كان في جانب، والشعراء كلهم في جانب!
ولم يسعني إلا أن أقاطعه وأنبهه إلى عجزه عن فهم العصر الذي عاش فيه شوقي، وكيف أن شوقي على الرغم من انتمائه للقصر، كان ينفعل بمشاعر الشعب، ويعبر عن الاتجاه الوطني في كثير من المواقف.
وسألني: أين قصيدة شوقي في حادث دنشواي؟ أين شوقي من حافظ؟
وقلت: إن حافظ هجا إبراهيم الهلباوي، المدعي العام، ولم يهج القضاة المصريين الذين اشتركوا في إصدار الحكم الجائر.
وقال: وهل هجا شوقي هؤلاء القضاة؟
وحكيت له القصة التاريخية المعروفة، وهي أنه عقب صدور الحكم في مأساة دنشواي عام 1906، صدر أمر بترقية أحمد فتحي زغلول إلى منصب وكيل وزارة العدل، وكان أحد قضاة المحكمة الظالمة، وأقيمت له حفلة تكريم في فندق شبرد، ودعي شوقي إلى الحفلة، فأرسل إلى المشرفين عليها هذه الأبيات:
إذا ما جمعتم أمركم وهممتمو
بتقديم شيء للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة
وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه
من الشعر حكم خطه بيمين
ولا تقرءوه في «شبرد» بل اقرءوا
على ملأ في دنشواي حزين!
شوقي وحافظ
أعتقد أني كنت واضحا عندما تكلمت عن موقف شوقي وحافظ من حادث دنشواي، فقد سجلت أن حافظا لم يتعرض في قصيدته للقضاة المصريين، وصب لعناته على إبراهيم الهلباوي المدعي العام، وأن شوقي هاجم القاضي المصري أحمد فتحي، وقال فيه أبياتا تنبض بالازدراء والمرارة.
ولم أقصد بذلك إلا أن أصحح ما رسب في الأذهان عن وطنية شوقي، فقد كان برغم وضعه من القصر، يعبر عن آمال الشعب وآلامه، وكانت ظروف وظيفته تقتضيه أن يستعمل الدبلوماسية والكياسة، حتى لا يحرج نفسه مع القصر، ولا يحرج القصر معه، وكان معروفا عنه أنه يكره الإنجليز والاحتلال، ويشايع الحزب الوطني.
وكان للوطنية في تلك الأيام أكثر من مفهوم؛ هناك من جاهر بمقاومة الاحتلال والتمسك بالولاء لآل عثمان، وهناك من دعا إلى التخلص من سيطرة آل عثمان والتفاهم مع الإنجليز على الجلاء، وهناك من تمرد على الاحتلال والقصر معا ونادى بالاستقلال التام.
وكان شوقي يكفر بالاحتلال، ويؤمن بالخلافة، وكذلك كان الحزب الوطني يوما ما.
وبعدما عاد شوقي من المنفى، ناصر الحركة الوطنية الشعبية، التي انبعثت من انتفاضة 1919 برياسة سعد زغلول، ولكنه كان غير متحزب في مناصرته للحركة، وكان يبث آراءه ونصائحه بدبلوماسية وكياسة. كان ضد طغيان الأقلية، وضد طغيان الأكثرية، ولم يقع حادث في بلادنا أو خارج بلادنا، دون أن يسجله.
وقد تلقيت من الأستاذ محمد الغزالي حرب، كلمة أشار فيها إلى وطنية شوقي، وأنكر الأبيات التي أوردتها في يومياتي، وقلت إن شوقي قالها بمناسبة حفلة تكريم فتحي زغلول.
وقال إنه يحفظ هذه الأبيات ولا يعرف أنها لشوقي، وإنه بحث عنها في الشوقيات فلم يجدها، وخشي على ذاكرتي أن تكون قد خانتني.
وأبادر فأذكر أن الأبيات الأربعة، تسابقت الصحف الوطنية في نشرها، ونسبتها إلى شوقي عام 1906، وقد نقلها المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الرحمن الرافعي من الصحف، وسجلها في كتابه «شعراء الوطنية» صفحة 79.
ويستطرد الأستاذ الغزالي فيسجل على شوقي، أنه قال قصيدته في دنشواي بعد وقوع الحادث بعام، ثم يسجل لشوقي أنه ليس أقل وطنية من حافظ، وأن ما يؤخذ على حافظ أفدح بكثير مما يؤخذ على شوقي، ويعزز رأيه بأبيات كثيرة للشاعرين.
وقد نقل من شعر حافظ بعض ما نظمه في الإشادة بعدل بريطانيا، وكيف كان حافظ يودع المندوب السامي القديم ويستقبل المندوب السامي الجديد، ويمجد العرش البريطاني ويقول مخاطبا الإنجليز:
أنتم أطباء الشعو
ب وأنبل الأقوام غاية
أنى حللتم في البلا
د لكم من الإصلاح غاية
ثم قارن بين قصيدة حافظ في وداع كرومر، وقصيدة شوقي في دنشواي بعد سفر كرومر، وذكر أن حافظا قال لكرومر:
سنطري أياديك التي قد أفضتها
علينا، فلسنا أمة تجحد اليدا
وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا
وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا
في حين يقول شوقي:
نيرون لو أدركت عهد كرومر
لعرفت كيف تنفذ الأحكام
ولشوقي قصيدة مشهورة في وداع كرومر، وفيها يقول:
لما رحلت من البلاد تشهدت
فكأنك الداء العياء وبيلا
وأذكر هنا للتاريخ أن شوقي نشر هذه القصيدة في الصحف بدون توقيع، وبعد ذلك سجلها في الشوقيات .
وأعود للأستاذ الغزالي، لأقتبس من مقاله هذه الفقرة:
لا ينبغي لأحد أن يسأل في مجال الوطنية: أين شوقي من حافظ، بل يجب أن يكون السؤال هو: أين حافظ من شوقي؟!
ولا شك أن فيما قاله الأستاذ الغزالي مغالاة؛ فكلا الشاعرين شوقي وحافظ له كثير نحسبه له، وكثير نحسبه عليه.
ذكريات عن الشاعر الخالد في يوم ذكراه
مرت ذكرى شوقي هذا العام في هدوء، فلم تحتفل بذكراه هيئة أدبية فنية، ولم تظهر عنه دراسة جديدة.
كل ما حدث أن التليفزيون أذاع برنامجا عن شوقي، أعده الأستاذ محمد علي حماد، واشترك فيه ابن شوقي الأستاذ حسين شوقي، والدكتور سعيد عبده، وأم كلثوم، وعبد الوهاب، وهو برنامج يتسم بالوفاء أكثر من أي شيء آخر.
ولكن هل معنى ذلك أن يد النسيان بدأت تمتد إلى اسم الشاعر الخالد؛ لتمحو منه بعض النقط، أو بعض الحروف؟ كلا؛ فقد ظللنا عدة أعوام لا نحتفل بذكرى شوقي على المستوى الذي يليق به، ثم احتفلنا - شعبا ودولة - بهذه الذكرى في مؤتمر استمر أياما، وساهم في المؤتمر ممثلو البلاد العربية، وكتب النقاد والمختصون دراسات جادة عن الشاعر، الذي تفجرت موهبته منذ سبعين عاما بشعر اختلف النقاد على شكله، ولكنهم أجمعوا على أصالة جوهره.
وجاء الزمن، فأثبت أن الشعر الصحيح لا يموت أيا كان إطاره وقالبه.
وقد لاقى شوقي في حياته هجوما عنيفا من خصومه، بعض هؤلاء الخصوم يحملون على شخصه، ولم يكن يحفل بهم، وبعضهم الآخر كان يحمل على طريقته وأسلوبه، وقد اهتم بهم، ولكنه لم يتول الرد عليهم، كان يرى أن الشاعر هو الشعر، فهل يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه؟ هل يستطيع إذا سئل ما هو أن يجيب ما هو؟
إن الشعر، والموسيقى، والنحت، والرسم، وكل الآثار الفنية مثل مفاتن الطبيعة لا ينبغي أن نسألها عن سر فتنتها؛ فالجواب ليس عندها، ولكن عندنا نحن الذين أخذتنا فتنتها وعبرنا عنها بقصيدة، أو لحن، أو تمثال، أو لوحة.
وفي المهرجان الذي بايعه فيه شعراء العرب بإمارة الشعر، قال شوقي يحيي من بايعوه:
إنما أظهروا يد الله عندي
وأذاعوا الجميل من إحسانه
ما الرحيق الذي يذوقون من كرمي
وإن عشت طائفا بدنانه
وهبوني الحمام لذة سجع
أين فضل الحمام في تحنانه؟
وتر في اللهاة ما للمغني
من يد في صفائه وليانه
إن شوقي في هذه الأبيات يرى أن الفن موهبة، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال.
هل تستطيع الموهبة وحدها أن تخلق عملا فنيا كاملا؟
في رأيي أن الموهبة التي لا يصقلها العلم والثقافة والدراسة قد تنطلق منها شرارة تلفت النظر، ولكن لا تندلع منها نار تثير الفكر، وقد كان شوقي موهبة صقلتها ثقافات متعددة، شملت السياسة، والتاريخ، والقانون، والآداب العالمية، والفنون، والأديان، وأصول اللغة ...
وإذا شبهنا الموهبة ببئر البترول، فإن الثقافة هي معامل تكرير البترول، وبغير هذا التكرير لا يمكن أن نستغل البترول في تسيير الطيارات والسيارات.
وقد حلقت طائرة شوقي بموهبته التي صقلها بالثقافة، سارت ببتروله الذي كرره بالعلم والمعرفة.
وكان شوقي يؤمن كما قلنا بأن الشعر هو الشاعر، والشعر لا يستطيع طبعا أن يرد على ناقديه، وكذلك الشاعر لا ينبغي أن يفسر أعماله أو يدافع عنها؛ فهذه مهمة الناقد.
ولكن شوقي على الرغم من إيمانه بذلك كان يضيق بهجوم النقاد، وكان يعبر عن ضيقه بأبيات، يبثها بين قصائد لا تمت إلى النقد بأية صلة.
كان الأستاذان الكبيران عباس العقاد وإبراهيم المازني قد أصدرا أول جزء من كتابهما الديوان، وفي هذا الجزء تناول العقاد قيمة شوقي، وهل هو شاعر خالق، أو أنه شاعر ينسج على منوال غيره من الشعراء القدامى؛ فهو يستخدم النماذج السابقة، والقوالب القديمة، وما يتجلى في شعره من بريق، ليس مبعثه شاعرية أصيلة، وإنما مبعثه ممارسة النظم فترة طويلة من الزمن.
وثار شوقي، وثار له كثيرون من الكتاب وردوا على العقاد، ولكن ردودهم لم تتضمن أكثر من كيل السباب للعقاد والمدرسة الحديثة، وإحراق البخور حول شوقي. كانوا يشيدون بشوقي ويسبون العقاد، وكان العقاد يدافع عن الشعر الحديث، ويسب شوقي عن علم وعن تعصب أيضا.
وفي هذه الأثناء نظم شوقي قصيدة استقبل بها أم الخديو عباس، وكانت ممنوعة من دخول مصر، وأذن لها الملك فؤاد بالدخول لدفن حفيدها، ومنعت الحكومة الناس من استقبالها، ومنعتهم من تشييع الجنازة.
وتحمس شوقي لاستقبال أم الخديو، وهاجم الذين منعوا الجمهور من استقبالها، وقال:
برئ الرفق من السيف الذي
منع الأم ملاقاة البنين
أقبلي كالشمس لم تجعل لها
موكبا أو تتخذ من حاشرين
أقبلي في بحرك الطامي إذا
عبث السيف بموج المحتفين
ثم قال يخاطب أم الخديو:
لا ترومي غير شعري موكبا
إن شعري درجات الخالدين
آب من قيمتك الدهر كما
رجع النقد من الشعر الرصين!
وهو في هذين البيتين إنما أراد أن يرد على من هاجموه.
وفي ذكرى الصحفي الوطني الكبير أمين الرافعي، أعد شوقي قصيدة.
وكان أستاذنا الدكتور محمد حسين هيكل رئيسا للجنة الاحتفال، وهو صديق لشوقي، وقد كتب مقدمة ديوانه، وأشاد بشاعريته، ثم حدثت بينهما جفوة شديدة، وليس هناك مجال للكشف عن أسبابها.
ورأى الدكتور هيكل أن يحتجز القصيدة إلى نهاية الحفلة حتى يربط الجمهور، وكانت الحفلة في دار الأوبرا، وقد تحددت لنهايتها الساعة الثامنة مساء، وقبل هذا الموعد، نهض الدكتور هيكل وأعلن أن الوقت لا يتسع لإلقاء قصيدة الشاعر أحمد شوقي بك، وأن اللجنة رأت أن تكتفي بنشرها في الصحف.
وعرف شوقي النبأ، وكان معتكفا في داره، واعتقد أن الدكتور هيكل أساء النية لسببين؛ هما: أنه أرجأ إلقاء القصيدة إلى آخر البرنامج، أما السبب الآخر فهو أنه لم يطلق عليه لقب أمير الشعراء، واكتفى بأن خلع عليه وصف الشاعر فقط.
وغادر شوقي داره، وطاف بالصحف التي أعدت القصيدة للنشر، وأضاف إلى قصيدته هذين البيتين:
إن يفت أمس منبر القول شعري
إن لي المنبر الذي لن يزولا
جل عن منشد سوى الدهر
يلقيه على الغابرين جيلا فجيلا
لا أريد بهذه الكلمات أن أحيي شوقي، ولكن أريد فقط أن أضع على قبره زهرة صغيرة في يوم ذكراه.
شاعرنا الخالد في حديقة الخالدين
ما أكثر الذين خطر لهم أن شاعرنا الخالد، لم يكن يتصور أنه بمرور أكثر من ثلاثين عاما على وفاته، سيتحدث الناس عنه كما لو كان حيا؛ فيناقشون آراءه، وأسلوبه الفني، وسلوكه الاجتماعي، هل كان شجاعا؟ هل كان جبانا؟ هل كان مع الشعب؟ هل كان مع الملوك الذين ولدته أمه وهي وصيفة في قصورهم؟ هل كان يتملق الطغاة؟ ما قيمته كشاعر؟ هل له شخصية منفردة، أم هو فنان خالق، أم أنه صانع يتقن صناعة الشعر؟
وقد أجاب المؤمنون بالشاعر عن هذه الأسئلة، وأصروا على أنه قمة، ولكن الإيمان مثل الحب يتدخل في الآراء فيضفي عليها ما يثير الظنون!
أما الزمن، فهو وحده القاضي الذي يفرض حكمه على القيم، ولا حيلة لأحد في أن ينقض هذا الحكم أو يلغيه!
ولقد حكم الزمن لشاعرنا العظيم أحمد شوقي، وفرض عبقريته وخلوده، وجعله حتى يومنا هذا إنسانا حيا يتحرك، ويتلفت ويتكلم، وينبري له النقاد، ويناقشون حركاته، والتفاتاته، وكلماته، كما لو كان يعيش معهم ويعيشون معه!
وبالأمس القريب تجدد الحديث عن شوقي، وتناثرت أسئلة أخرى حوله: هل كان شوقي يظن أنه سيأتي اليوم الذي يقام له فيه تمثال خارج بلاده؟ وأين؟ في روما! في حديقة الخالدين!
والذين عرفوا شوقي، ولو من خلال أشعاره، يستطيعون أن يقولوا، دون أن يتجاوزوا الحقيقة، إن شوقي كان يحس في أعماقه، أن التقدير الكبير الذي لقيه وهو حي، سوف يتضاعف بعدما ينتقل إلى العالم المجهول، ربما لم يدر في خياله أن روما ستسبق مصر إلى إقامة تمثال له، ولكن الشيء الذي كان على يقين منه هو أن وطنه سيقيم له التماثيل في الحدائق والميادين، بعدما يتحرر من جسده، ولا يبقى منه إلا الروح والشعر والفن!
ولكن الذي حدث أن إيطاليا سبقتنا إلى تكريم العبقرية العربية، فقررت أن تضع تمثال شوقي في حديقة الخالدين بروما، إلى جانب تماثيل عباقرة العالم، وأقامت لهذه المناسبة احتفالا رسميا، حضره وزير الثقافة الإيطالي، وعمدة روما، والفنانون، والعلماء، والشعراء، ورجال سفارتنا، وعشرات من مختلف البلاد العربية، بينهم الفنان المصري العربي جمال السجيني صانع التمثال، وتولى الوزير المصري العربي ثروت عكاشة إزاحة الستار عن تمثال العبقرية المصرية العربية، أمير شعراء العرب، وشاعر الإنسانية، الذي انفعل بحضارتها ومفاتنها ومآسيها، وكان شعره صدى للأحداث التي شهدها بنفسه، أو عاشها في التاريخ.
ولقد كرمت مصر شاعرها الأكبر بأساليب مختلفة، فأطلقت اسمه على الشوارع، ووضعت جوائز تشجيعية باسم أمير الشعراء، واحتفلت بذكراه، وأصدرت عدة دراسات عنه، وقررت إقامة أربعة تماثيل له؛ أحدها في الجيزة، والثاني في الإسكندرية، والثالث في مبنى مجلس الفنون الأعلى، والرابع في مدخل دار الأوبرا الجديدة، التي سيتم بناؤها في الحديقة المقابلة لحديقة الأندلس بجوار قصر النيل.
1
وشوقي لم يستمد مكانته الخالدة من أنه كان شاعر الأمراء، أو أمير الشعراء، وإنما استمد هذه المكانة لأنه كان شاعرا حقا، امتاز بموهبة صقلتها ثقافة متعددة الجوانب، وعقلية متفتحة واعية، وفن أصيل ينبض بالحياة والإنسانية، وتنبض فيه الحياة والإنسانية.
والأشكال ما هي إلا زخارف وألوان، وإنما الشاعر هو من تحس أنه خلق جوهرا، أو حقيقة، أو جوا، فإذا ارتبط هذا الخلق، بالشكل الذي يلائمه ارتباطا موسيقيا، في عمل واحد متكامل أو محاولة جديدة لم تتم؛ كان الشاعر جديرا بالبقاء.
وشوقي، مثل أي فنان، بدأ بمحاكاة غيره، وعاش فترة طويلة يستعمل الديباجة التي استعملها من سبقوه من الشعراء، وكان يجاريهم فيلحق بهم ويسبقهم ويتخلف عنهم، ثم عثر على نفسه فصار حرا، له شخصية فنية فذة، خلقت في الشعر العربي جوهرا، وحقيقة، وجوا، فشوقي عالج أحداث التاريخ بأسلوب جديد ساحر، وصنع لوحات وتماثيل رائعة لآثار قدماء المصريين، ووضع أول محاولة جادة للمسرحية الشعرية في الأدب العربي.
ولم يكن مجرد شاعر، ينسق الجملة تنسيقا موسيقيا، ولكن كان له إلهام، وهذا هو الفرق بين الشعر الصحيح، والشعر الزائف، فالشاعر الملهم يعتقد أن انفعالاته الذهنية والنفسية إنما هي وحي من قوة ذات قداسة، وليس من حقه أن يتصرف في التعبير عن هذا الوحي، فيضع كلمة غير الكلمة التي يجب أن يعبر بها عن الوحي، ولو كانت الكلمتان متشابهتين، بل يجب عليه أن يقول الكلمة ولو كلفه ذلك أن يعاني من الألم، والإرهاق، والعذاب، وما يفوق طاقته. وقد رأيت شوقي وهو يسجل خواطره، كان يخيل إلي أنه مجنون، أصيب بغتة بنوبة صرع، كان يجلس بيننا، ثم يقفز من مكانه إلى مكان آخر، ويخرج من جيب سترته علبة السجائر ويكتب فيها كلمات، ويعود إلينا أو نلحق به، والعرق يتصبب من جبهته وعيناه مغرورقتان في لمعان أشبه بالدموع، وأنفاسه لاهثة!
وكانت هذه الحالة تنتابه طيلة معاناته نظم إحدى قصائده، فإذا فرغ من تسجيل خواطره ساعة بساعة، ويوما بعد يوم، وضع رأسه بين كفيه وأملى القصيدة كاملة على أحد المقربين إليه، ثم عاد إلى مراجعة الأوراق والقصاصات التي سبق أن سجل فيها خواطر للقصيدة، فإذا ما أملاه عن ذاكرته لا يكاد يختلف عما سجله في بضعة أيام متفرقة، إلا في كلمة أو كلمتين! وقد كان شوقي مؤمنا بأنه شاعر أعماق وجذور، وكان مع ذلك يفزع من مهاجمة النقاد له، وكثيرا ما سئل: لماذا تخاف حملات النقد؟ فكان يقول إنه فنان، والفنان يسعده أن يقتنع جيله بعمله، فإذا ما استمرت حملات النقد، فقد يتأثر بها أبناء الجيل، وينصرفون عن الفنان وهو حي، ولا يقبلون عليه إلا بعدما يموت!
كان يؤمن بأنه سيعيش بشعره، سيعيش آلاف السنين، ولم يكن يخفي هذا الإيمان، بل لعله عبر عنه عشرات المرات في عدة قصائد، فعندما رثى الزعيم الوطني مصطفى كامل قال:
وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت
فتعود سيرتها إلى الدوران!
ولما منعت السلطات استقبال أم الخديو عباس، بعد خلعه عن العرش قال يخاطبها:
لا ترومي غير شعري موكبا
إن شعري درجات الخالدين
كل حمد لم أصغه زائل
خالد الحمد بما صغت رهين
هذه خواطر عن شوقي الذي احتفلت إيطاليا بإزاحة الستار عن تمثاله في حديقة الخالدين، وأنا بهذه الكلمة أحاول أن ألقي بعض الضوء عليه، ولكني أحاول من خلال خواطري أن أرى تمثاله القائم هناك في روما تحف به تماثيل زملائه من عباقرة الفكر والفن.
مؤلفات شوقي
تلقيت من الأستاذ الدكتور محمد صبري كلمة عن مؤلفات الشاعر الخالد أحمد شوقي، وكان أحد القراء قد سألني عن آثار شوقي، فأحلته على الدكتور صبري، وهذه هي الكلمة:
الشوقيات:
صدر الجزء الأول طبعة قديمة سنة 1898، ويشتمل على مقدمة لشوقي وقصائد من 1888 إلى 1898.
والواقع أنه يضم قصائد من 88 إلى 89، كما أن تاريخ صدوره الحقيقي في مارس 1900، وقد أعيد طبع هذا الجزء بنصه دون أي تعديل أو إضافة سنة 1930، وفي أكتوبر سنة 1932 مات شوقي، وفي سنة 1936 صدر الجزء الثالث «المراثي»، وفي سنة 1943 صدر الجزء الرابع على غير نمط الأجزاء السابقة التي أشرف شوقي قبل موته على إصدارها أو إعدادها.
وفي سنة 1933 صدرت في كتاب ملحمة شعرية تاريخية «دول العرب وعظماء الإسلام»، كان نظمها في منفاه بالأندلس.
الروايات:
رواية «علي بك أو ما هي دولة المماليك»، ألفها وهو نزيل باريس في أكتوبر سنة 1893.
وفي مارس سنة 1932 أعاد بناءها وأصدرها من جديد، فأصبحت رواية أخرى محت الأولى، فلم يعد طبعها. وفي سنة 1897 نشر رواية «عذراء الهند» - وهي رواية نثرية - في «الأهرام» من 20 يوليو إلى 16 أكتوبر، تحت عنوان «عذراء الهند أو تمدن الفراعنة»، وظهرت في كتاب في نوفمبر من السنة نفسها، كانت توجد منه نسخة في مكتبة طلعت بالقلعة، ولكنها أصبحت في حكم المفقودة، وفي 15 نوفمبر سنة 1898 صدر العدد الأول من مجلة «الموسوعات» لصاحبها حافظ عوض.
وقد ألحقت بهذا العدد الملزمة الأولى من رواية «لادياس»، وقد تمت وطبعت على حدة سنة 1899، وهي رواية نثرية؛ وفي العدد 13 من السنة الأولى «أبريل 99»، ظهرت الملزمة الأولى من رواية «دل ويتمان أو آخر الفراعنة»، وقدمت الرواية وطبعت على حدة في سنة 99 أيضا، وهذه الرواية لم يعد طبعها، وكان مصيرها مصير رواية علي بك القديمة؛ لأن شوقي أعاد بناءها من جديد شعرا لا نثرا هذه المرة، وعالج نفس الموضوع بعنوان «قمبيز» سنة 1931.
وفي سنة 1901-1902 نشرت «المجلة المصرية» لصاحبها خليل مطران، رواية نثرية «شيطان بنتاءور»، ولكنها لم تطبع على حدة وتجمع في كتاب إلا في سنة 1953. وفي سنة 1904 ظهرت رواية «ورقة الآس» - وهي رواية نثرية - ضمن روايات مسامرات الشعب ، وقد أعيد طبعها بعد موت شوقي.
وفي سنة 1929 ظهرت رواية «مصرع كليوباترا»، فكانت لها ضجة في عالم الأدب والتمثيل، وتبعتها قمبيز كما قلنا (1931)، و«مجنون ليلى» 1931، وعلي بك الكبير كما قلنا (مارس 1932)، و«عنترة» 1932 (بعد موت شوقي بأشهر)، وأميرة الأندلس (1932) وهي رواية نثرية، روى لي الدكتور سعيد عبده أن شوقي أتى بهذه الرواية من الأندلس في مجلدات وكانت مفككة، وأنه بعد نجاح «مجنون ليلى» و«كليوباترا» أخذ يعيد النظر في أميرة الأندلس، ولكنها أخفقت بعد تمثيلها نصف ليلة، وهي رواية ضعيفة كجميع رواياته النثرية القديمة، وقد طبعت «الست هدى» طبعة هزيلة، وهي رواية قديمة يرجع تأليفها إلى ما قبل سنة 1922، وقد نشرت «الرسالة» في سنة 1933 منظرا منها أعدنا نشره، وله أيضا رواية «البخيلة»، وهذه الرواية لم تتم ولم تطبع، وقد أعارنا الدكتور الأديب سعيد عبده «مخطوطة» الرواية، فنشرنا زبدتها (فصلا كاملا وقطعتين) في «الشوقيات المجهولة».
النثر:
ظهرت «أسواق الذهب» طبعة الهلال سنة 1932 - قبل موت شوقي فيما أعتقد - وأعيد طبعها سنة 1951، وأكثرها على أسلوب المقامات، بعضها قديم يرجع إلى أوائل هذا القرن، وبعضها جديد كتبه شوقي في المنفى.
وللأستاذ كامل الشناوي الحق أن يسأم أسلوب المقامات، ولكن وسط هذا الحصى المتراكم والصدف المبعثر نجد الدر اليتيم الذي يتألق بعبقرية أحمد شوقي!
الفنان الذي قال كلمته ولم يمش
كان المفكر الألماني نيتشه، يصرخ في الناس أن يقولوا كلمتهم ويتمزقوا دونها، وهناك مفكر عربي - لعله أمين الريحاني - همس في كل أذن بهذه النصيحة الوديعة: قل كلمتك وامش!
والفنان الصادق، هو الذي يستطيع أن يقول كلمته، ثم يتمزق، أو يقولها ويمشي في سلام!
وشوقي شاعر فنان، شق طريقه إلى الخلود؛ لأنه عرف كيف يقول كلمته، وهو لم يقلها ثم تمزق ولم يقلها ومشى، ولكن قالها وظل صامدا لها!
إن الظروف التي أحاطت بشوقي منذ فجر حياته، كانت كفيلة أن تطبق شفتيه في بعض المناسبات، وبرغم ذلك تحدى ظروفه وعبر عن خواطره وانفعالاته بقوة وطلاقة. لقد ربط مصيره بمصر، وطنه الذي ولد فيه، وآمن بمصر العربية، ومصر الإسلامية، ومصر القوية الفرعونية ذات الحضارة التي تتحدى الزمن، وتنحني لها هامة التاريخ.
ومصر التي عرفها، كانت تتنازعها سلطتان، إحداهما سلطة الاحتلال البريطاني والأخرى سلطة الخديو، وكان يعادي المحتلين؛ لأنهم يمثلون الغدر والعدوان، ويقف إلى جانب الخديو بوصفه الممثل الشرعي لخليفة آل عثمان، وكان شوقي يؤمن بالخلافة، ويراها رمزا للوحدة الإسلامية، واندفع في تأييدها برغم ما ارتكبه من خطايا في حق مصر، والعرب، والإسلام، وكان اتجاه شوقي متمشيا مع اتجاه الحزب الوطني وزعيمه مصطفى كامل، وتطورت نظرة الشعب المصري إلى التبعية العثمانية والاحتلال البريطاني، واختلف رجال الحزب الوطني مع الخديو عباس الثاني، بعدما تبينوا أنه لا يؤمن بالمبادئ الوطنية، ولكن يلعب بها ليستأثر باستغلال ثروات البلاد، ويستنزف دماء الفلاحين والكادحين، وقامت ثورة 1919، وتغير لقب الخديو فصار سلطانا، ثم ملكا، وطالب الشعب بجلاء القوات البريطانية، وكانت القوة الشعبية بطبيعتها تنفر من العرش، وكان العرش يفزع منها ويخشاها.
لم يعش شوقي فترة الثورة في مصر، فبعدما تم خلع الخديو عباس من منصبه، نظم شوقي قصيدة استقبل بها السلطان حسين، ورأت السلطات البريطانية في هذه القصيدة حضا على كراهيتها، وتمجيدا للخديو المخلوع، فقررت الحكومة البريطانية أن تنفي شوقي خارج البلاد، وظل بضع سنوات في إسبانيا، وفي أواخر عام 1920 عاد إلى مصر، فمجد الثورة وانفعل بها، وكان يتعقب الإنجليز في كل مناسبة بتجريحهم، وتأليب الرأي العام عليهم، وحرص على ألا يتوجه بقصائده إلى الملك فؤاد، الذي حل مكان السلطان حسين كامل، ولكنه لم يلبث أن أشاد به في بعض القصائد العامة، مثل قصيدة توت عنخ آمون، التي يشير فيها إلى سرقة جثة الملك الفرعوني، ويتهم الإنجليز بأنهم هم الذين سرقوا الجثة، ولا ينسى أن يبكي على الخليفة الذي خلعته بريطانيا من تركيا فيقول:
أمن سرق الخليفة وهو حي
يعف عن الملوك مكفنينا؟!
وعندما كان شوقي شاعر الأمير، وكان يشغل منصبا هاما في القصر، وقعت أحداث اهتز لها ضمير الشعب، مثل حادث دنشواي، وعزل كرومر، ووفاة مصطفى كامل، وجاءت وفاته عقب خصومته للخديو ، ولقد قال شوقي كلمته في مأساة دنشواي، وفي كرومر، ولكنه لم يستطع أن ينشر ما قاله بتوقيعه الصريح، ورثى مصطفى كامل بقصيدة عبر بها عن حزنه وحبه للزعيم الوطني بصدق وانفعال.
وقد نال شوقي في حياته شهرة ومجدا، وفي رأيي أنه ظفر بالشهرة قبل نفيه إلى إسبانيا؛ فقد كان شعره برغم جزالته وما يتميز به من إشراق في الديباجة، ونبض موسيقى لا يعلو على شعره غيره من كبار الشعراء المعاصرين؛ أمثال محمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري، وأحمد محرم، وحافظ إبراهيم، فلما عاد من المنفى، ظفر إلى جانب الشهرة بالمجد؛ فقصائده التي نظمها خلال الفترة من عام 1920 إلى عام 1932، تعد أضخم آثار شوقي وأكثرها أصالة وتألقا، وفي هذه الفترة بالذات كان شوقي يعبر عن آرائه في الأحداث بشعر اتخذ طابع الدبلوماسية، دون أن يضطر إلى التخلي على أسلوبه الفني الرفيع.
فهو يتعرض لتصريح 28 فبراير، وما ترتب عليه من وضع دستور 1923، وإقامة حياة نيابية بشكل ما، فلا يرى أن في ذلك خلاصا من القيد ويقول:
إلام الخلف بينكمو إلاما
وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وأين ذهبتمو بالحق لما
ركبتم في قضيته الظلاما؟
ثم يخاطب مصطفى كامل قائلا:
شهيد الحق قم تره يتيما
بأرض ضيعت فيها اليتامى
ويرثي سعيد زغلول القاضي، وهو أحد أقارب الزعيم سعد زغلول، فيلمح إلى الزعماء المختلفين جميعا ويقول:
أيهم من أتى برأس كليب
أو شفى القطر من عياء احتلاله
وهو يرى أن كل فرحة زائفة، ما لم يتحقق جلاء الإنجليز، ويقول:
والله ما دون الجلاء ويومه
يوم تسميه الكنانة عيدا
وكانت آراء شوقي في الأحداث الكبيرة تتسم بالعمق والوطنية والنفاذ إلى كشف الحقيقة، ما عدا حادثا واحدا هو حادث الثورة العرابية، وقد هاجم عرابي، وكان مفهوما أن هذا الهجوم بدافع علاقته بالخديو، الذي أرادت الثورة العرابية المجيدة أن تقتلع جذره من العرش، وتحرر المصريين من ربقة العبودية.
وفي هذه الفترة بالذات - من عام 1920 إلى 1921 - أخرج شوقي مسرحياته، التي تعد أول محاولة فنية جديدة للشعر المسرحي في اللغة العربية ؛ وهي : مجنون ليلى، وكليوباترا، وقمبيز، وعلي بك الكبير، والست هدى. والمعروف أن المسرحيتين الأخيرتين، كان شوقي قد نظمهما في صباه، ثم أعاد فيهما النظر ونقلهما من الظل إلى الضوء، بعدما لقيت مسرحياته إعجابا جارفا. •••
لقد تعودنا في كل عام أن نحتفل بذكرى شوقي، وكم صدرت عنه دراسات، وأقيمت حفلات وصنعت تماثيل، وأعتقد أن شوقي ثروة مصرية عربية، يجب أن نحافظ عليها وننميها، بترجمة بعض آثاره إلى اللغات العالمية، وإنشاء كرسي خاص به في كليات الآداب بجامعاتنا، وإقامة تماثيل له في عواصم المحافظات.
وما زلت أتمنى على أستاذنا الدكتور محمد صبري صاحب الشوقيات المجهولة، أن يتم عمله العظيم، بإعادة طبع دواوين شوقي، وشرح ما فيها من رموز لا يستطيع إدراكها إلا من عاشوا الأحداث التي عاشها شوقي.
وقد عاش الدكتور صبري هذه الأحداث ورعاها، وسلام على شوقي الفنان، الذي قال كلمته ولم يمش ولم يتمزق!
عالم في الذرة والموسيقى
وضعناه في أكبر المناصب ثم قتلناه
كنت كلما صافحته أحسست أني ألمس مجموعة من الأسلاك المكهربة، فلا أكاد أمد إليه يدي حتى تنتابني رعشة مبهمة، لعلها رعشة الإجلال له، أو النفور منه!
فقد كان شخصية جليلة مهيبة، وكان مبعث إجلاله ومهابته تبحره في علوم لا يدرك قيمتها إلا الأساتذة المتخصصون في هذه العلوم، التي كانت حدثا جديدا بالنسبة إلى العصر كله، ولغزا غامضا بالنسبة إلى البلاد المتخلفة، وكان بلدنا واحدا من هذه البلاد، عندما لقيت العالم المصري الذي اقترن اسمه بعدة أبحاث عن الطاقة الذرية، والنظرية النسبية لأينشتاين، وأصدر عدة كتب عن «الهندسة الوصفية» و«الميكانيكا العلمية والنظرية»، و«الهندسة المستوية الفراغية» و«النظرية النسبية الخاصة»، و«الذرة والقنابل الذرية»، و«العلم»، و«الحياة» ...
وكان أول من دعا إلى وجوب التعاون العالمي لتوجيه العلماء، ونبه إلى وجود معدن اليورانيوم في مصر.
إن الرجل قد سبق بيئته العلمية المحلية بكتبه ومحاضراته وأبحاثه ونظرياته، وهو يشغل منصبا جامعيا مرموقا، وقد اتسم بالجرأة والصراحة وشجاعة الرأي، وهذه صفات تجذبنا إلى احترامه، وهي في الوقت نفسه تدفعنا إلى النفور منه!
فلم يكن من اليسير على مجتمعنا المفتون بالسذاجة في الأدب، والمعرفة، والفن، والسياسة أن يتجاوب مع عالم يحلق بدراساته وبحوثه في أعلى الآفاق وعلى مستوى عالمي، فقد حاضر في منظمات علمية دولية، واحتل اسمه مكانا كبيرا بين علماء الرياضة العالميين، وصارت له نظرية خاصة في النسبية، يتعرض لها أساتذة الجامعات في أوروبا وأمريكا بالمناقشة والجدل، وكان يتبادل الرسائل مع أينشتاين.
وهذه العبقرية التي تمارس العلم بأستاذية كبيرة وسلوك شخصي مترفع، كانت إذا اختلطت بالناس بدت كشهاب هبط إلى الأرض ولم يحترق، كل من رآه يعجب به، ولا يجرؤ على الدنو منه، هكذا كان شعوري عندما تقابلت معه لأول مرة في دار المرحوم الأستاذ مكرم عبيد.
قصير القامة، ممتلئ الجسم في غير ترهل، تتجلى أناقته في حركاته، وإشاراته، وكلماته، وبذلته، وربطة عنقه، يحسن الحديث، ويحسن الإصغاء، يخيل لك أنه يهمس إذا تكلم، ويهمس إذا أصغى! فلا يرتفع صوته إلا بقدر ما يصل إلى جاره، ولا يميل بجسمه لكي يسمع، ولكن يرهف أذنيه برشاقة ووقار، وكنت أظن أن هذا العالم الغارق إلى أذنيه في المراجع الجافة، لا يتذوق الأدب والفن، ولا يتعرض للأوضاع السياسية، وأدهشني أنه وجه إلى مكرم عبيد ملاحظات هاجم بها الأحزاب كلها، وكان مكرم عبيد رئيسا لحزب الكتلة، بعدما اختلف مع مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، واضطره هذا الخلاف إلى أن يتعاون مع خصومه بالأمس من أحزاب الأقليات.
قال العالم الجليل لمكرم عبيد: إنه عمل عظيم أن تثور على فساد الحكم، وأن تمضي في ثورتك إلى أن تدخل السجن وتضحي بمكانتك في الحزب الذي ساهمت في بنائه، وتفضل أصدقاءك الذين شاركوك حياتك الحزبية، ولكن ما هو الهدف من هذا الموقف؟ هل الهدف أن تمنع حزبا من الفساد لتفسح المجال لأحزاب أخرى؟ وهل تعتقد أن هذه الأحزاب تستطيع أن تقاوم رغبة من يقف وراءها، ليهدم بها حزب الأكثرية ويتولى هو مقاليد الأمور فيطغى كما يشاء وينهب كما يشاء!
وقال مكرم: دعونا من الكلام في السياسة الآن ، فقد اجتمعت بكم الليلة للاحتفال بعيد ميلادي، وأريد أن أنسى السياسة ليلة واحدة كل عام!
وكان من بين المدعوين محام شاب، وأراد أن يحرج العالم الجليل فسأله: من الإنسان الذي يقف وراء الأحزاب ليجعل منها مخلب قط، ينهش حزب الأكثرية ثم يطغى هو وينهب كما يشاء؟
وقال العالم الجليل بكل هدوء: إنك تعرفه، لست أخاف من ذكر اسمه، ولكني لا أريد أن أحرج الرجل الذي يحتفل بعيد ميلاده!
وفهم الجميع أنه يعني الملك! وارتسم الذهول على وجوه الموجودين جميعا، فقد كان معروفا أن القصر وقف إلى جانب العالم الكبير أكثر من مرة، وسانده ضد حكومة الوفد وحكومات الأحزاب الأخرى، وقد نال رتبة الباشوية، ولم ينكر العالم هذه الحقائق ولكنه حللها بطريقته العلمية؛ رأى أن القصر لم يناصره إلا ليكيد للوزارات القائمة في الحكم، وبذلك يبدو أمام الشعب في صورة نصير العلم والعلماء!
ولم تمض هذه الليلة من عام 1948 حتى أصبح أستاذنا العالم المحلق في آفاق لا نعرفها، قريبا من نفسي، فقد انطوى حديث السياسة وأخذنا نستمع للفنان محمد عبد الوهاب، وهو يؤدي إحدى أغنياته بالعود، واتجهت بكل انتباهي واهتمامي إلى هذا الوقور؛ لأعرف هل يستمتع بالغناء مثلنا؟
كان رأسه يشبه بكرة من زئبق يختلج ويتوهج بحرارة وإشعاع، كان كل ما فيه لامعا؛ خاتمه، دبوس ربطة العنق، زرا كمي القميص، نظارته، ذكاؤه الحاد!
وكان يتابع النغمات بنقرات أصابعه على المقعد، وبضربات خفيفة بأطراف قدميه فوق السجادة!
وحسبت أن حركاته لا علاقة لها باللحن، ولما انتهى عبد الوهاب من الغناء، دنوت من العالم الجهير المهيب الأستاذ الكبير الدكتور علي مصطفى مشرفة، وسألته عن رأيه في الأغنية التي سمعها.
فقال: إن الأغاني المصرية تمشي في طريق التطور.
وعدت أسأله: هل تهوى الموسيقى؟
فقال: أهواها وأدرسها! - هل عندنا ألحان عالمية؟
قال: عندنا صوت عالمي، هو صوت أم كلثوم. - ولكنك عالم متخصص في أشياء لا تمت إلى الموسيقى بصلة.
قال: في أعماق كل عالم فنان، هذا إذا صح أني عالم!
وأخذت أتعقب تاريخ حياة هذه العبقرية الفذة، ووجدتني أعيش في جو ساحر يثير العجب والدهشة.
فالدكتور علي مشرفة فرض الحديث عنه في تلك الأيام من عام 1948؛ فقد أقام في مصر أول معرض علمي للطاقة الذرية، ولقي هذا المعرض اهتماما من الهيئات العلمية الدولية.
وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة، ولم يكن للجامعة مدير، فكان هو مدير الجامعة بالنيابة، ثم دب الخلاف بينه وبين الوزارة، فأقصته عن وكالة الجامعة، وظل محتفظا بمنصبه عميدا لكلية العلوم.
لم يكن الدكتور مشرفة يعبأ بأبهة المنصب، ولكنه شعر بمرارة في إقصائه عن إدارة الجامعة، وعانى شعوره المر في صمت وكبرياء.
وفي سنة 1950 وقع حادث خطير، لكن قبل أن نصل إلى هذه السنة يجدر بنا أن نرجع إلى الوراء أكثر من إحدى وخمسين سنة، لنمشي مع حياة مشرفة خطوة خطوة.
في يوم 11 يوليو من عام 1898 تمت ولادة علي مصطفى مشرفة، وفي عام 1914 حصل على البكالوريا «علمي» من المدرسة السعيدية، وكان أول الناجحين في جميع المدارس، وفي عام 1917 نال إجازة المعلمين العليا، وسافر في بعثة إلى إنجلترا، حيث التحق بجامعة توتنجهام، وتخرج فيها عام 1920 بعدما حصل على بكالوريوس العلوم، ثم التحق بالكلية الملكية بلندن، فحصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم عام 1923، وفي عام 1924 نال الدكتوراه في العلوم، فكان أصغر عالم حصل على هذه الدكتوراه في العالم.
اشتغل بالتدريس في مدرسة المعلمين العليا، وكان أول أستاذ مصري للرياضة في كلية العلوم، وظل في منصبه هذا عشر سنوات، وفي عام 1936 أصبح أول عميد مصري لكلية العلوم، وفي عام 1946 عين وكيلا لجامعة القاهرة، ثم أقصته الحكومة عن هذا المنصب سنة 1948، وظل عميدا لكلية العلوم.
وللدكتور علي مصطفى مشرفة خمسة وعشرون بحثا في نظرية «الكم»، ونظرية النسبية لأينشتاين، والطاقة الذرية.
وقد ألف وحده ومع آخرين ثلاثة عشر كتابا علميا، وهو أول عالم مصري دعته أمريكا رسميا إلى إلقاء محاضرات عن الذرة في جامعة برنستون، وأول عالم مصري يشترك في الموسوعة العالمية للشخصيات العلمية طبعة نيويورك وطبعة لندن، وكان عالما في الموسيقى؛ فهو أول من قام بدراسة مقارنة لاستخدام «الأوكتاف» والمقام، بين السلم الموسيقي الغربي والسلم الموسيقي الشرقي.
وكان رئيسا لأول جمعية مصرية لهواة الموسيقى والأغاني العالمية، وعضوا في المجلس الأعلى لشئون الموسيقى، واللجنة المصرية لتخليد ذكرى شوبان.
وفي 16 يناير من عام 1950 وقع الحادث الجلل، احترق الشهاب المشحون علما وذكاء وعبقرية؛ مات علي مصطفى مشرفة وفي رأسه كثير من العلم، وفي نفسه كثير من الألم!
فقد حزت في نفسه محاولة إذلاله بإقصائه عن منصب وكيل الجامعة، ومنعته كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية في هدوء، لفظ آخر أنفاس حياته في هدوء!
أستاذ أجيال
ما أشبه تاريخ أستاذنا أحمد لطفي السيد بتاريخ بلادي! كلاهما في حاجة إلى مؤرخ يعيد كتابته بفهم وعدالة، ولست هذا المؤرخ على أي حال!
عرفت لطفي السيد منذ ثلاثة وعشرين عاما، وكان في حدود السبعين، وكنت قد قرأت له ترجمة لكتابي أرسطو: «السياسة» و«الكون والفساد»، فاستهواني أسلوبه الذي يتميز بالدقة والتركيز، والنفور من فضول السجع والمترادفات، وأغراني أسلوب لطفي السيد بأن أعكف على قراءة مجموعة «الجريدة»، التي كان يرأس تحريرها عام 1907، وقرأت له مقالات نشرها في تلك السنة وما بعدها من سنوات، لا أذكر الآن عددها، وقد أذهلتني أفكاره، وتعبيراته، ومجادلاته المنطقية، ولم أهتم بأن أعرف حقيقة «حزب الأمة» الذي كان لطفي السيد ينطق بلسانه، وهل كان يناوئ الخديو وحكم الأتراك لحساب الإنجليز، أو أنه كان يتهاون مع الإنجليز ليخلص البلاد من ولاية تركيا وأسرة محمد علي، ثم يتفرغ بعد ذلك لمحاربة الاحتلال، كما يؤكد بعض الذين أصابهم رشاش من انتمائهم لحزب الأمة؟
كان في استطاعتي إذ ذاك أن أناقش لطفي السيد نفسه في هذا الموضوع الشائك، وأنا واثق من أن الرجل لن يجد حرجا في أن يقول الحقيقة، ولو اقتضاه ذلك أن يدين نفسه؛ فقد كان لا يهرب من الحقيقة، وكانت شجاعة الرأي من أبرز مزاياه.
ولكني لم أفعل، فقد فتنتني شخصية لطفي السيد المفكر، وطغت على شخصية لطفي السيد السياسي، كنت أجد متعة غامرة في الإصغاء إليه وهو يتحدث عن الأدب، والشعر، والفن، والجمال، والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة، وكان بارعا في سرد الحكايات، يحسن رواية الدعابات، ويحسن أيضا الإصغاء إليها بأذنه، وبابتسامته التي تتحول أحيانا إلى شبه قهقهة!
وقبل ثورة 23 يوليو من عام 1952 التقيت به في فندق سيسل بالإسكندرية، وكان يقص علينا بصوت خافت ما يسمعه كل يوم من المهازل والمخازي، التي يرويها له أصدقاؤه عن الملك.
وفي أحد الأيام قابلته في الردهة الخارجية للفندق، وكان يجلس وحده، وناس كثيرون يملئون الردهة فأمسك بيدي، وقادني إلى أحد الصالونات، وهو يقول: إننا الآن نمشي في الطريق إلى مستشفى المجاذيب.
ولم أفهم ما يعنيه بهذه الكلمة، ولما جلسنا في الصالون روى لي قصة الصفقة التي عقدها عبود مع فاروق لإقالة وزارة الهلالي وتأليف وزارة برياسة حسين سري، وكيف أن الملك تقاضى من عبود نصف مليون جنيه!
وعقبت قائلا: عندك حق، هذا تصرف مجانين!
فقال: إنك لم تفهم ما أعنيه بالطريق إلى المستشفى المجاذيب؛ لقد قصدت أن أبصرك بأن الأوامر صدرت بأن يساق إلى هذا المستشفى كل من يتناول الذات الملكية بالعيب أو التجريح!
واستطرد يقول: لقد كثرت قضايا العيب في الذات الملكية؛ فرأى القصر أن تحفظ النيابة هذه القضايا، بعد أن يعتذر المتهمون ويسجلوا ولاءهم للملك «منعا للشوشرة»، وفي يوم الجمعة الماضي وقف أحد الشبان في المسجد ومنع الخطيب من مغادرة المنبر، وخاطب المصلين قائلا: من كان منكم حريصا على دينه، فليعلم أن صلاته وراء هذا الرجل باطلة؛ لأنه يدعو لملك فاجر فاسق، صلوا ورائي، وصلى الناس وراء الشاب وتركوا خطيب المسجد يصلي وحده!
وقبض البوليس على الشاب وساقه إلى النيابة، وقال له وكيل النيابة: إنني لا أرضى لك أن تذهب إلى السجن؛ ولذلك سأسألك هل قلت هذا الكلام؟ وما عليك إلا أن تنكره وتؤكد ولاءك لمولانا الملك، وعندئذ أطلق سراحك فورا.
والتفت وكيل النيابة إلى الكاتب، وقال له: افتح المحضر. وبدأ يقول للشاب: أنت متهم بأنك تفوهت بكلمات تمس الذات الملكية، فهل هذا صحيح؟
وقال الشاب: نعم! هذا صحيح!
وقال وكيل النيابة: أنت طبعا لا تقصد جلالة الملك مولانا الذي نكن له جميعا صادق الولاء؟
فقال الشاب: أنا لا أقصد سوى هذا الملك الفاسق العربيد!
وأسقط في يد وكيل النيابة، وأسرع فقابل النائب العام وعرض عليه المشكلة، واتصل النائب العام بالقصر وأبلغ المسئولين بما حدث وسألهم: ماذا نصنع إزاء هذا الموقف الغريب؟ فطلبوا منه أن يسوق الشاب وأمثاله إلى مستشفى المجاذيب!
وضحك لطفي السيد وقال: وهكذا أصبح كل من يقول كلمة عن الملك معرضا لدخول مستشفى المجاذيب!
ولطفي السيد الكاتب المفكر المؤمن بالحريات ذو العقلية الفلسفية، كان يؤيد دعوة قاسم أمين إلى مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، وكان أحد ثلاثة بذلوا جهودا شاقة لإنشاء جامعة أهلية مصرية، أما زميلاه في هذا العمل العظيم، فهما سعد زغلول وقاسم أمين، وعندما أصبحت الجامعة الأهلية جامعة رسمية، كان هو أول مدير لها، وقد أرسى فيها قواعد البحث العلمي الأكاديمي، وحمى استقلالها، واستقال احتجاجا على إقالة الدكتور طه حسين من عمادة كلية الآداب.
والحق أن لطفي السيد باتجاهاته المتنوعة واتساع آفاق تفكيره، وإيمانه المطلق بحرية الرأي والعقيدة، كان جامعة قبل إنشاء الجامعة، وقد تخرج في الجامعة أساتذة كبار تأثروا به، وأخذوا عنه تقاليده في التلقين والمحاضرة والجدل، وكان على رغم ثقافته الفلسفية والقانونية، مشغوفا بالآداب العالمية وله ذوق رفيع في الشعر العربي، وقد أبدى لي إعجابه بشعر ديوان الحماسة والمتنبي والمعري والشريف الرضي، وكان يترنم بكثير من أشعارهم.
عندما سمعت أن لطفي السيد لفظ أنفاسه الأخيرة، خيل إلي أن هرما عاليا من الفكر والثقافة قد توارى في التراب، وأحسست أني أبكي، لم تبك عيناي، ولكن عقلي أجهش بالبكاء!
يحرق مذكراته
منذ تسعة عشر عاما قابلت لطفي السيد، وسجلت هذه المقابلة في حديث صحفي، قلت فيه:
اسم عادي لشخص غير عادي، عقل وخلق وضمير، صوت قوي عذب، ظل يغني لجيله المعرفة والثقافة والفلسفة، ولكن جيله كان بلا آذان، فما زال به حتى جعل له أذنين، ولسانا وشفتين، فسمع الجيل، ووعى، وفكر، وتكلم!
وقد بدأ أستاذ الجيل يؤدي رسالته منذ ستين عاما، كانت مصر في حالة انحلال، كان احتلال بريطانيا ونفوذ تركيا يجثمان فوق صدرها، كان الجهل والعبودية يتنازعان عقلهما ونفسهما، وهبط إلى مصر رجل لفت الأنظار، وجذب القلوب، وأثار الحماسة والتحرر!
كان هذا الرجل هو جمال الدين الأفغاني، المصلح الإسلامي الثائر، والتف حوله الشباب، وتأثروا بتعاليمه وآرائه، وكان يدعو إلى الإطاحة برءوس الطغاة والحاكمين العابثين بمصالح الشعب.
وكان الشيخ الأفغاني يؤثر في شباب مصر، ومن بينهم أحمد لطفي السيد، ولكن تأثر لطفي السيد لم يدفعه إلى أن يهم بقتل أحد، وإنما دفعه إلى أن يقاتل السخافات والخرافات والجهل، فحمل قلمه وجاهر به واستطاع أن يقتل ويغتال، قتل الأوهام وأحيا الحقائق، واغتال الظلام وأشعل المصابيح.
أرأيت لطفي السيد في أواخر أيامه؟
قوام مستقيم، وخلق مستقيم، عينان نفاذتان وعقل نفاذ، جبهة عريضة، وجاه عريض.
ولكنك لم تر لطفي السيد منذ ستين عاما أو أكثر، فلنطو السنين القهقرى معا؛ لنرى لطفي السيد يغادر مدرسة الحقوق، هو وزملاؤه عبد الخالق ثروت وإسماعيل صدقي وعبد العزيز فهمي.
صوب نظرتك إليه اليوم، صوبها جيدا، واقترب من القوام الفارع، وقوام انحناءته الخفيفة، وأمسك بالوجه بين يديك، وامسح تجاعيده، وافتح العينين واسكب فيهما كثيرا من الومض الذي اختفى، والتقط بأصابعك الشعرات البيض في رأسه وفي حاجبيه، ثم اطو السنين الستين التي مضت، يبد لك لطفي السيد كما كان في سنة 1898.
لقد لمع اسمه في ذلك الحين شابا مفكرا، يتحدث عن أرسطو وأفلاطون والفارابي والغزالي، وكان زملاؤه يتحدثون عن الحريري وبديع الزمان الهمذاني وابن نباتة المصري!
واشتغل لطفي السيد مساعد نيابة ولبث في الوظيفة سنتين، ثم غادرها إلى المحاماة. لم يكن مكتبه حافلا بالزبائن ولم يكن هو في حاجة إليهم، إن أباه السيد باشا أبو علي قد كفاه مشقة السعي المادي للحصول على حاجات الحياة.
وفي يوم 13 يونيو سنة 1906 وقع حادث دنشواي، الحادث الذي اهتزت له البلاد وارتكبت فيه بريطانيا أشنع جرائم العسف والظلم والطغيان، واشترك لطفي السيد مع زملائه المحامين عن المتهمين في دراسة القضية، وقد كانت له طريقة خاصة في المرافعة.
كان المحامون يترافعون فيخطبون ويصيحون ويهتفون، أما هو فكان يتكلم كأنه يكتب، كان في مرافعته يفكر بصوت مسموع!
هذا الرجل الشجاع المفكر لا بد له من مجال، تظهر فيه آثار حريته وشجاعته وفكره.
إن الصحافة هي هذا المجال، ولكن صحف ذلك العهد كانت تتسع للألفاظ وتضيق بالمعاني، وهو رجل كله معان.
كانت تدعو إلى التحرر من احتلال بريطانيا، وإلى الولاء لسلطان تركيا، وهو رجل يريد لبلاده أن تتحرر من بريطانيا وتركيا معا، فلينشئ صحيفة جديدة إذن! وأنشأ «الجريدة» وساعده على إنشائها حزب الأمة، وبدأ الأسلوب العربي الجديد يشق طريقه إلى الأذهان. إن أسلوب لطفي السيد اليوم هو أسلوبه بالأمس؛ أسلوب المسدس، تنطلق الكلمة كالرصاصة، والرصاصة تصيب الهدف، وكان الأسلوب العربي إذ ذاك أشبه بالسيف، يدور في اليد ويلف ويهبط إلى تحت ويصعد إلى فوق، ثم لا يصيب الهدف!
نحن الآن في 1949 في منتصف القرن العشرين، فلنمض لحظات مع الرجل الذي هدم خرافات القرن الماضي، واشترك في بناء القرن الجديد! دخلت عليه في محرابه في مكتبة داره بمصر الجديدة. إن الذين يقابلهم في هذا الركن هم أعز أصدقائه وأحبابه؛ أرسطو وأفلاطون وأناتول فرانس وأبو العلاء المعري والغزالي، وأحيانا شوقي والمتنبي!
كان متعبا، لأول مرة أشعر بوطأة السنين تضغط قوامه، كانت الأيام من قبل تمشي في عظامه بخطى متئدة، ولكني أراها الآن وكأنها تثب وتعدو. عرفته دائما منتصب القامة، ولكنه في هذه المرة اضطر - لكي يسمعني - إلى أن يحني هامته ويمد رقبته قليلا إلى الأمام، ويصوب أذنه نحو فمي!
كان في دور النقاهة، وقال لي: تحدث أنت؛ فإن الكلام أصبح يرهقني، ولولا أني لا أحسن الشكوى، لشكوت من زمان طويل!
قلت: إن الجيل الجديد كله في حاجة إلى حياتك وإلى شيخوختك، إنك المثل الحي للحرية والاضطهاد، ولقد استطعت بحريتك أن تنتصر على مضطهديك! فطغى أسلوبك وانتشرت تعاليمك السامية.
قال: أية تعاليم؟ إنني لم أفعل شيئا! كل ما هنالك أني ساهمت في الحركة التي قام بها بعض المصلحين من أبناء زماني، أمثال سعد زغلول وحسين رشدي وعبد الخالق ثروت وقاسم أمين وعلي شعراوي ومحمد عبده، وكانت مهمتنا - أقصد مهمتهم - صعبة جدا؛ كنا نحاول أن نشق للشعب طريقا في جبل شامخ له ذروتان؛ إحداهما ذروة الخديو، والأخرى ذروة الإنجليز، كنا نطالب الخديو بدستورنا ونطالب الإنجليز بحريتنا.
إلى أن كانت ثورة 1919، وفي هذه الثورة وحدها استطاعت الأمة أن تعبر عن إرادتها، تجاهد وتصمد في جهادها، والفضل في ذلك يرجع إلى الإنجليز! لا تدهش، إنهم هم الذين أوقدوا نار الثورة برعونتهم وتصرفاتهم الطائشة، ولست أقول ذلك الآن فقط.
في سنة 1919 نفسها سأل «كيرزن» قائلا: أريد أن أعرف من هو المسئول عن هذه الثورة؟
فكان جوابي: أنتم المسئولون عن ثورة المصريين، إن احتلالكم وحماقاتكم المتكررة مع الشعب كانت وقود النار، وعود الثقاب.
قلت: إن هذا تاريخ حافل، وأنت قد عشت ذلك التاريخ، بل لقد صنعته، فأين مذكراتك عنه؟
فقال: مذكراتي؟ لقد أحرقتها!
قلت: إنها تاريخ بلادك، فكيف أحرقتها؟
قال: في يوم من أيام سنة 1919 عندما نفي سعد زغلول، ولا أذكر الشهر تماما، كنت جالسا مع علي شعراوي في بيته، وكان معنا عبد العزيز فهمي، وجاء يوسف نحاس وأخبرنا أنه علم أن الإنجليز قرروا أن يلقوا القبض على أربعة من أعضاء الوفد، ويجردوهم من أموالهم ويعدموهم رميا بالرصاص، ثم قال معقبا: إنه لا يستبعد أن نكون نحن الثلاثة في مقدمة هؤلاء الأربعة، ولما سمعت هذا النبأ لم أستغرب وقوعه؛ فإنه ليس إلا حلقة من سلسلة الحماقات التي ارتكبتها بريطانيا معنا، ولم يكن يؤلمني أن أموت رميا بالرصاص أو شنقا؛ فالموت حقيقة لا بد من مواجهتها، مهما طال اختباؤها في السنين، ولم يكن يهمني حرماني من مالي؛ فليس للمال مكان بين القيم التي أعتز بها، ولكن خشيت من أن تهاجم السلطات البريطانية بيتي، وتفتشه وتعثر على مذكراتي السياسية، وقد دونت فيها جميع الحقائق، وكان بعضها حلوا وكان بعضها مرا، وفي المذكرات الخاصة يسجل الإنسان كل صغيرة وكبيرة، وقد كانت الصغائر التي تمس حركتنا كثيرة جدا، كنت أسجل في مذكراتي رأي سعد زغلول في ثروت ورشدي وعدلي، ورأي ثروت وعدلي ورشدي في سعد زغلول وهكذا، وكانت المذكرات تتضمن أسرارا خطيرة إذا اطلع عليها الإنجليز استطاعوا أن يؤذوا الحركة إيذاء شديدا.
ولهذا لم أكد أسمع النبأ الذي ألقاه يوسف نحاس، حتى بادرت بالذهاب إلى بيتي في سيارة علي شعراوي، وكان البيت في المطرية، وعقب وصولي إليه اتجهت إلى مكتبي وأخرجت كل ما في الدولاب من الأوراق والمذكرات والوثائق وأمرت الخادم أن يضعها في الحمام، ثم أشعلت فيها النار.
ولا أكتمك أني حزنت، لقد أحسست أن النار تحرق أفكاري وآرائي، وحقبة مهيبة من تاريخ بلدي.
وانتظرت إلى الساعة الثانية صباحا، فلما لم يجئ أحد دخلت غرفة نومي، وفي اليوم التالي انتظرت فلم يجئ أحد، وإلى اليوم لم يجئ أحد ولم أعدم رميا بالرصاص كما ترى، وكل ما هنالك أن مذكراتي هي التي أعدمت أو على الأصح أحرقت، وقد أحرقتها بنفس اليد التي كتبتها.
قلت: هذه خسارة كبيرة ولا شك.
فقال: لا أظن.
قلت: إنها تاريخ.
قال: وما قيمة التاريخ؟ لقد كان فلاسفة الهند وهم في أوج تفكيرهم، قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف سنة يصنعون المعجزات ولكنهم كانوا يعجزون عن أن يؤرخوا ما يصنعونه!
إن العبرة ليست بمقدمات التاريخ، ولكن العبرة بنتائج التاريخ.
قلت: وماذا ترون في نتيجة تاريخنا؟
قال: إن النتيجة عظيمة ولا شك. إن ما نقاسيه من عذاب وشقاء واضطراب يهون حتما أمام أننا أصبحنا أحرارا، وأننا رأينا الاحتلال البريطاني وهو يتقلص من المدن، وسيأتي اليوم الذي يزول فيه من بلادنا كلها.
لقد كنا في الماضي أكثر شجاعة، واليوم أصبحنا أكثر حرية.
قلت: والشجاعة؟
فقال: إنها لا تزال مع الأسف تعيش في الماضي فقط.
قلت: ولكن كيف؟! وقد أصبح لنا جيش حارب فعلا وأبدى ضروبا من الشجاعة.
فقال: لا أقصد شجاعة الجيش؛ فهذا فخر لا جدال فيه، ولكني أقصد شجاعة الرأي، وهذا ما لا نزال في حاجة إليه! •••
إن لطفي السيد لم يكن أستاذ جيل واحد، بل كان أستاذ ثلاثة أجيال؛ فقد عاش أكثر من سبعين عاما، ورأى بعينه بلاده وقد تحررت من الإنجليز ومن أسرة محمد علي.
شيخ الإسلام (ابن الباشا)
أستاذ فلسفة، وزير، فنان أحب المرأة، وعشق باريس!
احتدمت المناقشة بين أعضاء المؤتمر الوطني حول مساواة الرجل بالمرأة، وعندما تحتدم المناقشات، تتطاير الاتهامات من أفواه المتناقشين في حدة، كما تتطاير الكراسي في أثناء خناقة في حفلة زفاف شعبية أو في مقهى بلدي!
وكان الشيخ الغزالي - أحد رجال الأزهر - طرفا في المناقشة، يدرأ عنه اتهامات خصومه، وقال: إن الدين الإسلامي رد للمرأة اعتبارها، والله سبحانه وتعالى قد اختار من بين أنبيائه سيدتين، ذكر إحداهما وهي مريم العذراء عليها السلام، ولم يذكر الأخرى، وثار الشيخ الغزالي في وجه معارضيه وصاح قائلا: إننا نحن الأزهريين نمثل الشعب الكادح المظلوم، فالأزهريون جميعا فقراء، ليس بينهم ابن باشا ولا ابن بك إلا واحدا. ولم يذكر فضيلة الشيخ الغزالي اسم هذا الواحد! فمن هو؟
إن ابن الأزهر هذا كان وزيرا قبل أن يكون شيخا للإسلام، أسرته غنية، وأخوه باشا، وأبوه باشا، وقد نال هو رتبة الباشوية.
وكانت حياته ظاهرة اجتماعية فكرية أثارت حوله غبارا كثيرا، ولكن هذا الغبار لم يعلق بثيابه الرشيقة النظيفة، ولقد كانت أفكاره ومشاعره وعقيدته وأخلاقه مثل ثيابه رشيقة نظيفة!
دفع به والده الثري الإقطاعي إلى الأزهر الشريف، ولم يكن يتردد على الأزهر إلا المساكين والفقراء والهاربون من السخرة التي يعانيها الفلاحون، وكانت للأزهر أوقاف ومخصصات لطلابه أو للمجاورين - كما كان الناس يسمونهم في تلك الأيام - وهذه الأوقاف والمخصصات تتحول إلى «جراية»، وهي كمية كبيرة من الخبز يتسلمها المجاور، فيسد رمقه ببعضها ويبيع بعضها الآخر بملاليم يسد بها نصيبه من إيجار الغرفة التي يسكنها مع زملائه.
وما يتبقى من الملاليم ينفقه على الوجبة اليومية الرئيسية، وهي مؤلفة من الفول أو العدس أو الطعمية، وثمن الوجبة مليم واحد.
وكانت الغرفة الواحدة تتسع عادة لخمسة أشخاص، ولم يكن إيجارها يزيد على ثلاثين قرشا في الشهر ، أي ... أي إن ما يدفعه الفرد بدل إيجار في اليوم الواحد لا يتجاوز المليمين.
ومن كان يستقل بغرفته يعد مجاورا غير عادي!
ولم يكن مصطفى عبد الرازق وأخوه علي عبد الرازق، من المجاورين العاديين، ولا من المجاورين غير العاديين، بل كانا من السراة الأماثل؛ فقد كانا يعيشان في قصر والدهما حسن عبد الرازق باشا في القاهرة، وكان الباشا عميدا لأسرة عبد الرازق، وهي أسرة تملك آلاف الأفدنة في محافظة المنيا، وتربطها علاقات نسب وقرابة بأكثر العائلات الغنية المنتشرة في هذه المنطقة بالذات.
كان الطالبان الأزهريان في عزلة عن زملائهما المجاورين، فهما يسكنان قصرا تتوافر فيه كل أسباب الرفاهية والراحة، ويأكلان أشهى وألذ أنواع الطعام، ويرفلان في أفخم الأثواب، وزملاؤهما يسكنون كل خمسة وأكثر، غرفة في «ربع» ليس فيها ماء ولا طعام، غير الخبز الجاف والبصل والملح، أجسامهم عليلة، وملابسهم متسخة رثة!
إن حلقة الدرس تجمع بينهم وبين الطالبين الثريين، فإذا انتهى الدرس انتهت علاقة الطالبين بزملائهما جميعا.
إن أحد الطالبين، هو علي عبد الرازق، ظهرت له بعدما نال شهادة العالمية، اتجاهات فكرية متحررة ضد الخلافة، وقد أخرجته اتجاهاته من زمرة العلم، وصدر قرار بفصله من منصب القاضي الشرعي، ودارت الأيام فرد إليه الأزهر شهادة العالمية، وصار هو الآخر وزيرا وباشا!
ولكن لندع علي عبد الرازق جانبا؛ فقد كان أصغر من مصطفى، وكانا يطلبان العلم في الأزهر، كان علي في أولى الدرجات، وكان مصطفى قد اجتاز بضع درجات في طلب العلم.
ولقد عاش مصطفى عبد الرازق في الأزهر فترة عصيبة، هي الفترة التي عاد فيها الإمام محمد عبده من منفاه وتولى منصب الإفتاء، وقاد حركة الإصلاح في الأزهر، وقد قامت بينه وبين الخديو حرب طاحنة، وهب كبار علماء الأزهر يدرءون خطر محمد عبده؛ فقد كان امتدادا لجمال الدين الأفغاني، كان يدعو إلى صداقة العلم والدين، ويطالب بفتح باب الاجتهاد، وينادي بأعلى صوته: «إن الشريعة الإسلامية - بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح - من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان ، وتجيز لكل ضرورة حكما يوافق مقتضى المصلحة والحال، مع اعتبار هذه القاعدة شرعا أيضا.» وقد دعا بإلحاح إلى دراسة أصل الشريعة؛ حتى تضع أحكاما توافق بين جوهر الدين وأحوال الزمان.
وثارت العواصف على الإمام محمد عبده، تتهمه بالإلحاد والكفر، وكادت تقتلعه من منصبه، بل كادت تقتلع مهابته عند عامة الناس، وكان طلاب الأزهر إذا رأوه هربوا منه لينجوا بدينهم؛ فقد سمم كبار العلماء أفكار الطلبة، وكانوا يخلعون عليه صفات الزندقة والمروق، ويتهمونه في شرفه ووطنيته، واستطاع الإنجليز أن يستغلوا الموقف، فساندوا الشيخ محمد عبده، ورأى هو أن هذه المساندة ستعينه على أن يهزم خصومه، وينفذ برنامج الإصلاح الديني والاجتماعي والعلمي، وكان قد اقتنع بأنه لا خلاص للأمة إلا عن طريق رفع مستواها دينيا واجتماعيا وعلميا، ولكن المساندة الإنجليزية للإمام ألقت على تصرفاته ظلالا كثيرة من الشبهات، وكان الذين يؤمنون بفكرته قلة، والذين يقفون في وجهه كثرة، وأين الطلبة من القلة والكثرة؟
إنهم يسمعون بالشيخ فيلعنونه، ويستمعون إليه فيرون ما يبهرهم، وبدأ الشيخ يغزو الأزهر بتلاميذه، الذين كانوا يتزايدون يوما بعد يوم، وكان مصطفى عبد الرازق يخاف على عقيدته من أن يرى الشيخ فضلا عن أن يتصل به أو يتلقى عنه درسا.
وفي ذلك يقول: كنت طالبا من صغار الطلاب، جاء الشيخ محمد عبده إلى الأزهر، وكان أساتذتنا - عفا الله عنهم - لا يفتئون يقدمون لنا الشيخ ويمثلونه خطرا داهما على الدين وأهله، فتتأثر بذلك عقولنا الطفلة، وكنت أفر بديني من أن ألقى الأستاذ أو أستمع لدروسه، مع أنه صديق لوالدي!
حضرت درسه مرة لأشهد كيف تشبه وجوه الملحدين، وتشبه معها عقولهم وقلوبهم، فلما رأيت الرجل بالرواق العباسي وسمعته يفسر كتاب الله، قلت في ذلك اليوم: اللهم إن كان هذا إلحادا فأنا أول الملحدين!
منذ ذلك الحين بدأ الطالب الأزهري مصطفى عبد الرازق يفتح نوافذ عقله، ويتطلع إلى آفاق لم يتعود أمثاله من الطلبة الأزهريين أن يتطلعوا إليها؛ فقد أفاد اتصاله بمحمد عبده، فأدرك أفكارا ثائرة، وعرف أن هذه الأفكار عاشها المفكر الثائر جمال الدين الأفغاني الذي زلزل قواعد الاستعمار، ودحرج التيجان وهز العروش.
ومضى يبحث وينقب عن الشرارة التي ألهبت ذهن الأفغاني، فوجدها في مبادئ الثورة الفرنسية، ثورة 1789، ثورة الإنسان لحقوقه، وقد اندلعت شرارتها في العالم، وكان الأفغاني أول زعيم في الشرق أضرمت المبادئ الإنسانية النار في دمه وعروقه، وقد انتقلت منه النار إلى تلامذته ومريديه في مخلتف البلاد الإسلامية.
وتطلع مصطفى عبد الرازق إلى فرنسا؛ البلد الذي شب منه هذا الحريق الفكري، إنه يريد بعدما نال شهادة العالمية من الأزهر، أن يتم تعليمه في فرنسا، ولكن كيف ذلك؟ وهل أعده أبوه للأزهر لكي يتحول من رجل دين إلى رجل دنيا كشقيقه الأكبر حسن؟
وأقنع أسرته بأن يتعلم في فرنسا، فالتحق بجامعة ليون عام 1913، وقامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وهو في فرنسا، وظل هناك إلى عام 1916 ثم عاد إلى مصر، وعندما اقترب الموكب من ميناء الإسكندرية خلع اللباس الإفرنجي، وارتدى الجبة والقفطان والعمة، وكان عندما استقل المركب إلى أوروبا يرتدي زيه الشرقي، وخلعه وهو في المركب!
وعقب عودته إلى مصر تقرر تعيينه سكرتيرا عاما لمجلس الأزهر، ثم مفتشا للمحاكم الشرعية، فأستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، وكان يرغب في أن يكون أستاذا للأدب، فهو تخصص في الأدب، وله منهاج خاص في أسلوبه في الكتابة يمتاز برشاقة فنية وجاذبية، وصحيح أن له ولعا شديدا بالفلسفة عامة، ودراسات عميقة في الفلسفة الإسلامية؛ المسلمين والفلاسفة خاصة، ولكن ولعه بالأدب كان أشد!
وكان مصطفى عبد الرازق رفيقا، أنيقا، متلائما في سلوكه مع نفسه وسلوكه مع الناس، كان يحب الحياة، وما الحياة؟ إنها عمل صالح وحق وخير وجمال.
وقد عمل صالحا فأصدر عدة كتب قيمة أهمها: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، و«فيلسوف العرب والمعلم الثاني»، و«سيرة الكندي والفارابي»، و«الدين والوحي والإسلام» و«البهاء زهير»، و«محمد عبده»، و«مذكرات مسافر»، و«مذكرات مقيم»، وله دراسات أدبية كثيرة لم تصدر في كتب بعد، وكان ينشر مذكراته في جريدة السياسة بتوقيع «الشيخ الفزاري».
هذه الحياة العريضة المليئة بالعلم والمعرفة كانت مليئة أيضا بالعواطف الجبارة، وكان وضعه الديني شكلا وموضوعا يقيد انفعالاته المتفجرة؛ فهو إذا ذهب إلى أوروبا يواجه الفتنة ويقاومها، يشاهد الرقص ويولع به، ويصفه بريشة رسام فنان.
وهو لا يقاوم فتنته بالنساء، ولكن يقاوم أيضا فتنة النساء به، قالت لي حرم أستاذي الدكتور محمود عزمي، وهي سيدة روسية مثقفة: إن الشيخ مصطفى كان يفتن عذارى باريس ويهرب بلباقة؛ ذكرت أن إحدى الفتيات ذهبت تبحث عنه في الفندق، فوجدت حرم الدكتور عزمي، فقالت لها وهي تبكي: ما كنت أظن أن هذا الإنسان المهذب، يحتل قلبي هكذا بوقاحة! وكان للشيخ مصطفى عبد الرازق علاقة عاطفية ناعمة بالكاتبة «مي»، ولعله العالم الأزهري الوحيد الذي نادى بحرية المرأة، ودعا إلى رفع الحجاب عن وجهها وعقلها، وكانت دعوته هذه في جريدة «السفور»، وقد فتنته باريس وكتب عنها يقول:
باريس موجود حي تنبعث الحياة من أرضه وسمائه ورجاله ونسائه، باريس عظيمة بكل ما تحمل هذه العبارة من معاني الحياة، والجلال، والجمال، والذوق، والفكر، والانسجام والخلود.
ليست باريس صنع شعب من الشعوب، ولا عمل عصر من العصور، ولكنها جماع ما استصفاه الدهر من نفائس المدنيات. باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس، وهل غير باريس للحور والولدان، والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟!
وينتقل إلى وصف المعالم التي زارها هناك، ومن بينها حديقة لكسمبرج التي تتوسطها بركة ماء يجلس حولها العشاق فيقول:
لمحت فتاة بيدها خطاب تقرؤه فيشرق وجهها بالسرور وتبتسم، وتلقاءها فتاة تكتب في صحيفة، وتتلو ما تكتبه فتنحدر عبراتها، وكم يأوي إلى تلك البركة من باك ومبتسم.
ليس ماء ذلك الذي يجري في بركة لكسمبورج، ولكنه ذوب ابتسامات ودموع.
رويدكم أيها الأطفال العابثون بذلك الماء!
ولم يكن الشيخ مصطفى بتكوينه الفكري والنفسي رجل سياسة، ولكن الظروف حتمت أن ينتمي إلى الحزب الذي كان أعضاؤه زملاء والده، ولقي فيه شقيقه الأكبر حسن باشا مصرعه؛ فقد اغتاله خصوم حزب الأحرار الدستوريين وهو يغادر جريدة «السياسة»، وأصبح مصطفى عبد الرازق حزبيا وسياسيا، ولكنه لم يمارس الحزبية ولا السياسة.
وفي عام 1938 تقلد منصب وزير الأوقاف، فكان أول وزير يرتدي العمامة.
وفي عام 1945 أصبح شيخا للإسلام وقد فاجأه النبأ، وأحس أن العبء أضخم من أن يتحمله اتجاهه الفكري وسلوكه الذهني.
وحاول عبثا أن يرفض المنصب، وقد بقي عاما واحدا. في عام 1946 قامت في الأزهر ثورة جامحة، بسبب تخطي الحكومة لخريجي الأزهر في بعض المناصب التي كانت تخصصها لهم، فأصبح ينازعهم فيها خريجو كلية الآداب وكلية دار العلوم.
وتهيج الطلبة على شيخ الأزهر والفنان الرقيق الخجول، وسمع بأذنيه أصواتا تهتف بسقوطه.
واتجه إلى بيته، وبعد الظهر ارتدى ملابسه، واستعد للذهاب إلى مكتبه في الأزهر، وقبل أن تجيئه السيارة ليستقلها كان الموت قد وصل إليه، فمات بالسكتة القلبية.
وذهب من الشيخ مصطفى عبد الرازق كل شيء، رجل الدين، وأستاذ الفلسفة، وبقي منه إلى اليوم وإلى الغد الفنان الذي منح اللغة العربية جديدا في التفكير الحر والأسلوب الساحر الأخاذ. •••
كنت أقلب في أوراقي الخاصة، فوجدت بينها ورقة تحوي هذه الكلمات: «قابلت اليوم مصطفى عبد الرازق باشا بنادي محمد علي، وأمضيت معه ساعة تحدثنا فيها عن وزارة الأوقاف والشاعر البهاء زهير.» والورقة لا تحمل تاريخا، وأرجح الظن أن تاريخها يرجع إلى عام 1941، حيث كان مصطفى عبد الرازق وزيرا للأوقاف.
وكان قبل أن يتقلد منصب الوزارة أستاذا في الجامعة، وقد ألف رسالة عن الشاعر العربي المصري الرقيق بهاء الدين زهير، وما أكثر وجوه الشبه بين مصطفى عبد الرازق والبهاء زهير، كلاهما كان يعيش دنياه، وكلاهما كان رجل دين ورجل سياسة.
أثارت هذه الورقة في ذهني ذكريات حية عن الأديب الفقيه الفنان مصطفى عبد الرازق؛ فقد عرفته من خلال ما نشرته له الصحف باسمه الصريح، أو باسمه المستعار، وكان لأسلوبه الجميل سحر وفتنة، وكانت آراؤه تسبق زمانه وتتحدى بيئته الدينية. كان يظاهر قاسم أمين في دعوته إلى سفور المرأة، وكان يدعو إلى تحرير رءوسنا من الأوهام؛ لكي تستطيع أن تفكر في حرية، وتتأمل في انطلاق.
كان يؤمن بالله ويؤمن بالإنسان، وكان من علماء الدين وكان من علماء الدنيا. كان مفتوح العينين والأذنين والقلب والدماغ فرأى الجمال، وسمع الموسيقى، ووعى الحكمة، وفكر في العلم والفلسفة والفن.
كان قصير القامة، مهيب الطلعة، أنيقا في حركته وسكونه ووقفته وجلسته، أنيقا في اختيار كلمته وابتسامته وملابسه.
صوت رقيق خاشع، وجه فيه طمأنينة وسماحة، عينان تشعان ذكاء وحياء، القسمات حلوة، والشمائل أحلى!
الرأس تحتشد فيه الأفكار، والتأملات، والعلوم.
هذا الرأس ارتدى من الخارج العمامة، والقبعة، والطربوش، وارتدى من الداخل عمامة الثقافة الدينية، وقبعة الثقافة الغربية، وطربوش المجتمع المصري القديم!
فقد كان مصطفى عبد الرازق عالما أزهريا، وأصبح شيخا للأزهر، كان خريج السوربون وأصبح أستاذا في الجامعة، كان أحد أقطاب المجتمع السياسي وأصبح وزيرا، عاش في مصر، وفي أوروبا، وارتدى البذلة الإفرنجية، والجبة، والقفطان، ولكنه في جميع أطواره لم يتنكر لتقاليد أسرته العريقة في المنيا، ولم يتخل عن لهجته الصعيدية في أحاديثه العادية، فكان ينطق العربية بأفصح لسان، ويتكلم الفرنسية برقة وطلاقة، ويستخدم «الجيم» مكان القاف، بوصفه واحدا من أبناء «أبو جرج»!
حمل لقب الباشوية، ولما صار شيخا للأزهر، نزل عن الباشوية واحتفظ بلقب الأستاذ الأكبر، ودخل التاريخ وهو الأستاذ الأكبر.
ولكن مصطفى عبد الرازق لم يكن أستاذا أكبر في العلوم الأزهرية وحدها، ولا في الثقافة الغربية وحدها.
لم يكن أستاذا أكبر في الفلسفة الإسلامية والفقه والتصوف فحسب، وإنما هو أيضا أستاذ أكبر في الأسلوب وطريقة الأداء؛ فقد كان في كتابته ينسج مشاعره وأفكاره برشاقة تثير النشوة وتخلب الألباب!
باريس
قال يصف بعض أيامه في باريس:
زرت الحي اللاتيني، مجمع الكوليج دي فرانس والسوربون والبانتيون، حي العلماء والطلاب، وحي الشباب، رعى الله الشباب!
طوفت حول الجامعة، فإذا طلاب وطالبات، برغم العطلة يغدون ويروحون، تفيض محافظهم بالكتب والأوراق، كما تفيض وجوههم الفتية بالنشاط والبشر، وإن علتها ملامح الجهد والتفكير هم من ألوان مختلفة وبلدان شتى، وأكثر الطلاب الأجانب جدا وعملا وانتفاعا بالمقام في أوروبا هم اليابانيون، فيما سمعت، وأكثرهم ترفا وانصرافا إلى اللعب وتضييعا للدرس هم الرومانيون.
أما المصريون فليسوا من خير الطلاب ولا من شرهم، لكنهم ممتازون بالتأنق والرشاقة وحسن البزة.
ولا يبدو على محياهم أثر للشحوب؛ فيقول قائلون: إنهم يرفقون بأنفسهم في الدرس رفقا يحفظ عليهم بهجة الراحة. ويقول قائلون: إن سمرة أديمهم تخدع الناظر عن سمات الجد والنصب، وآثار السهر الطويل في المذاكرة والتحصيل.
وكذلك الشأن في طلابنا في مصر نفسها، وكلا التأويلين محتمل في الجميع.
ختمت زيارة الحي اللاتيني بحديقة لكسمبورج، وهي روضة ذلك الحي، فيها جلاله وعليها طابعه؛ الأشجار العتيقة باسقة، فقد اسودت جذوعها، واخضرت أعاليها خضرة مشوبة باصفرار، وانشقت بين صفوفها مسالك تظللها الأغصان المتشابكة، كأنك بينها في سحر يتنفس صاحبه في أعقاب ليل، وكأنك في تجلي الأسحار وفي هدأتها.
وترى التماثيل البديعة في شعرها الصامت، منسجمة في ذلك الإطار البديع، وبين حنايا هذه الظلال تجد فنانا عاكفا على تصويره، ومفكرا مستغرقا في تفكيره، وشاعرا يستنزل الوحي من سماء الشعر، وعاشقا يبث غرامه، ثم تخرج إلى ساحة تبتسم الأنوار فيها والزهر، وتنحدر على درج إلى البركة ذات النافورة، مرتع الأطفال اللاعبين بمراكبهم الصغيرة في أمواجها، ومن حولها دكك متفرقة لمن ليسوا أطفالا.
إن عشرات من الخواطر، والمشاهدات، والمحاضرات العلمية والأدبية والفلسفية نشرتها الصحف والمجلات للأستاذ مصطفى عبد الرازق، وهي لا تزال حتى هذه اللحظة متفرقة مبعثرة، ألا يوجد بين تلامذة مصطفى عبد الرازق وزملائه، من يستطيع جمع هذه الآثار في كتاب؟
إن مثل هذا الكتاب سيضيف إلى مكتبتنا العربية ثروة ثقافية طائلة، ورصيدا كبيرا من الفن والجمال.
إحسان عبد القدوس
ثائر على النقاد!
رأيت اليوم إحسان عبد القدوس وهو يغلي من الغضب، وعندما يغضب إحسان تتقلص عضلات وجهه، وتتناثر الألفاظ من فمه كما لو كانت شظايا، وتصاب حروف الكلمات بانتفاخ شديد، فإذا الذال كالظاء، والسين كالصاد، والدال كالضاد وحرف الراء كحرف الغين!
قال إن النقاد يتعقبونه بالهجوم والتجريح، فهم يتهمونه بأنه يعمد في قصصه إلى الإثارة الجنسية، وأنه بهذه الطريقة استطاع أن يجمع حوله كل القراء المراهقين، وهؤلاء النقاد يكيلون له الاتهامات جزافا، فكثيرون منهم لم يقرءوا له عملا كاملا، ومع ذلك استباحوا لأنفسهم أن يرموه بشر التهم!
وقلت لإحسان: لا ينبغي للمفكر أن يضيق بالنقد، مهما يكن قاسيا، قال: إنني لا أبالي بالقسوة، ولكني أكره الظلم، والنقاد الذين تصدوا لأعمالي بالهدم لم يكونوا قساة، ولكنهم كانوا ظالمين! وضرب مثلا على هذا الظلم بما كتبه عنه الدكتور مندور، وقال: لقد سبق للدكتور مندور أن اتهمني بأني اقتبست قصتي القصيرة «دعني لولدي» من الكاتب العالمي ستيفان زفايج، وقد رددت على نقده بأسلوب اعتمدت فيه على المنطق، وكل الذين اطلعوا على ردي اقتنعوا بأني لم أقتبس القصة من أحد، وأن فكرة غيرة الطفل على أمه من عشيقها، وهي الفكرة التي عالجتها في قصتي، بعيدة في سياقها، وتفصيلاتها، وجوها، عن الفكرة التي عالجها زفايج، وقد اعترف مندور بأني تناولت الفكرة بأسلوبي الخاص، وطابعي الذي تميزت به؛ وما هو الفن؟ إنه أسلوب وطابع، والقصة الجديرة بالبقاء هي القصة القائمة على أساس فني صحيح، ولو تشابهت مع غيرها، والقصة التي لا تبقى هي القصة القائمة على أساس زائف، ولو احتوت على أشياء لم تخطر ببال أحد.
وقال إحسان إنه تحمس للرد على مندور، واعتزم أن يطالب الجريدة بنشر قصته وقصة زفايج في صفحتين متقابلتين؛ ليستطيع القراء أن يحكموا له، أو يحكموا لمندور، ولكنه وجد أن نقد مندور وإن كان ينطوي على تجن وتحامل، فهو أيضا ينطوي على تراجع وتأنيب ضمير؛ فقد أصر على اتهامه في صخب وضجة، ثم لم يلبث أن تراجع في هدوء وتحصن أمام قرائه بالعبارات التقليدية، مثل الإطار العام والطابع الخاص!
إن الدكتور مندور قد اقتنع بأنه ظلمني في الاتهام الذي وجهه لي، وكل ما في الأمر أنه عز عليه أن ينفي الاتهام أو يسحبه.
والشعور الذي ينتاب إحسان عبد القدوس من النقد، هو شعور أكثر المفكرين والفنانين؛ فهناك عداء طبيعي بين الناقد وبين المفكر والفنان، المفكرون والفنانون يرون أنهم لو لم يكونوا لما كان النقاد؛ فهم لا يخلقون الأثر الفني وحده، ولكن يخلقون الناقد أيضا! وإلا فكيف يوجد الناقد إذا لم يجد ما ينقده؟ ولهذا يؤلمهم أن يتعالى النقاد عليهم؛ لأنهم خالقون، والنقاد مخلوقون!
أما النقاد فهم يرون أنهم العلماء والمثقفون، وأن المفكرين والفنانين ليسوا إلا مواهب تحتاج إلى تبصير بالعلم والثقافة والتوجيه، وهي أشياء تفرغ لها النقاد، ولا يستطيع المفكرون والفنانون أن يجاروهم في العلم والثقافة؛ لأن هذه المجاراة لا تدع لهم وقتا للخلق والإنتاج!
ولا أنكر أن النقاد كثيرا ما يجنحون في نقدهم إلى القسوة والظلم والتجني، ولكن هذا الجنوح يفيد العمل الفني الأصيل، وكم نسمع من فنان أن النقاد تآمروا عليه وهاجموه، وعندي أن التآمر بالكلمة أهون من التآمر بالصمت!
وما تعانيه نهضة المسرح والسينما والشعر في بلادنا، ليس مبعثه هجوم النقاد عليها، ولكن مبعثه تجاهلهم لهذه النهضة، ومواجهتهم لها بالصمت العميق! وكيف يتكلمون وقد بلغت الحساسية بممثلينا وشعرائنا، حد البكاء والعويل من أي نقد، لا ينتهي بتضفير أكاليل الغار على كل مسرحية وكل فيلم، وكل ديوان شعر جديد!
وقلت لإحسان: لتكن لك أسوة في أستاذنا سقراط؛ لقد اتهمه حكام أثينا بإفساد الشباب بآرائه، وسقوه السم!
وقال إحسان: لقد كان سقراط فيلسوفا، وأنا لست بفيلسوف، إنني فنان أعيش بأعصابي، فدعوا لي أعصابي كي أعيش وأعمل، إنني أحب الفن وأكره الفلسفة، وعندما أصبح فليسوفا اشنقوني!
طه حسين يرميني في جنة الشوك!
لم أتصور أن الكلمة التي كتبتها عن الفقر الذكي والثراء الغني، ستثير السخط على شخصي بهذه الصورة؛ لقد اتهمني الأغنياء بتحريض الفقراء عليهم، واتهمني الفقراء بأني أحاول تخديرهم بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع!
أما أستاذنا الدكتور طه حسين، فهو الوحيد الذي برأني من التحيز للأغنياء، أو التعصب للفقراء، واكتفى بأن جعلني من إخوان الشياطين؛ تطبيقا للآية الكريمة التي تقول:
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين !
ولقد خصني بكلمة من كلماته اللاذعة التي اختار لها عنوان «من جنة الشوك»، وهذه هي الكلمة:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تقرأ ما كتبه الأستاذ كامل الشناوي في «الجمهورية » أمس ، وأنبأنا فيه بأن يده لا تمسك المال إلا كما تمسك الماء الغرابيل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو قد أكثر قراءة القرآن لصد عن ذلك صدودا، ولأنفق حين يحسن الإنفاق واقتصد حين يجب الاقتصاد.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما ذاك!
وقال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وأنت أيضا لا تقرأ القرآن، ألم تسمع قول الله عز وجل:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، وقوله عز وجل قبل هذه الآية:
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا .
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لقد هممت أن أذهب مذهب الأستاذ كامل الشناوي.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إياك أن تفعل فإن الله عز وجل قد وصف عباده الذين أخلصوا قلوبهم له، فقال في بعض وصفهم:
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، فاحرص جهدك على أن تكون من هؤلاء.
وقد كتب الدكتور طه على هامش كلمته، هذه العبارة: «لا تنشر وإنما تعرض على كامل الشناوي.»
ولكني لم أستطع أن أطوي الكلمة، وها أنا ذا أنشرها في اليوميات، لأتيح للقراء أن يروني، وقد أمسك بي الدكتور طه ورماني في جنة الشوك!
وكل ما قاله الدكتور طه لا يخضع للجدل، فهو من صميم القرآن الكريم الذي أحفظه وأومن به، وأعترف بأني أفهم بمنطق العقل مدلول ما ورد في كتاب الله عن التبذير والمبذرين، ولكن منطق العقل يتعارض أحيانا مع منطق السلوك!
ولقد قادني سلوكي بمنطقه الخاص إلى أن أبذر في إنفاق المال، وهو منطق يقوم على أن التبذير الذي يجعلني من الشياطين، أو إخوان الشياطين، ليس هو التبذير في المال بالإنفاق، ولكن التبذير في العمر بالحرمان من المتاع الحلال، والحرمان يقتضي التقتير في الإنفاق، وهكذا يصبح لرصيد الحياة، وهو شر أنواع التبذير والتبديد!
كان هذا منطق سلوكي في فهم التبذير، وهو منطق يتعارض مع منطق العقل، إن كان ذنبا فأنا التلميذ الفتى لم أقع فيه وحدي ، ولكن وقع فيه أيضا الأستاذ الشيخ!
وإلا فليقل لي أستاذنا وشيخنا طه حسين: ماذا جمع من المال؟ وماذا اقتنى غير البيت الذي يسكنه الآن، وكان إلى سنوات قليلة مضت يستأجر السكن وينفق عرق جبينه على الديون!
ماذا جمع طه حسين؟ ماذا جمع الرجل الذي ملأ الدنيا، وشغل العالم، وربح مئات الألوف من الجنيهات؟
وليسمح الدكتور طه أن أستعير أسلوبه في جنة الشوك، وأختم به كلمتي على هذا النحو:
قال التلميذ الفتى لأستاذه الشيخ: أليست هذه حقيقة، حقيقة تؤلمك؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنها لا تؤلمني، إنها تشرفني!
الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
مات الشاعر عبد الحميد الديب، فمن هو عبد الحميد الديب؟
كانت حياة عبد الحميد الديب ثورة على الحياة، وكان لهذه الثورة الفردية كل ما للثورات الجماعية من خصائص ومقومات.
أحس عبد الحميد الديب أنه مظلوم، فقد كان شاعرا، فنانا، مرهف الحس، ومع ذلك لم يستطع أن ينال حظه من العمل، كان يظل ليله ونهاره يبحث عن لقمة العيش، فإذا عثر عليها لم يجدها في وظيفة، أو صحيفة، أو مصنع يقدمها إليه لا تكريما لشعره، ولا إعجابا بمواهبه، ولكن شفقة على ما يعانيه من فقر وفاقة.
وجد المجتمع قد أغلق دونه الأبواب، فإذا طلبه يوما فمن الباب الخلفي، باب البؤس والشقاء والمرض.
كان بلا مأوى، بلا أهل، بلا عمل، كان - كما قلت يوم وفاته - يعيش في الزمان لا في المكان. كان ينام في الليل لا في فندق ولا في بيت، كان يعمل في النهار لا في مكتب أو مصنع!
وكما تتحول الثورة الجماعية من شعور إلى تمرد ومقاومة، تحولت ثورة عبد الحميد الديب إلى تمرد على المجتمع، ومقاومة له، فكان هذا الجنوح في عواطفه، وكانت هذه النظرة القاسية إلى الإنسانية كلها؛ لقد أحس أنفاسه تختنق بين براثنها ومخالبها.
وكان يحز في نفسه أن الناس لا يعطفون عليه لأنه شاعر، وإنما هم يعطفون عليه لأنه بائس، فقير مريض؛ ومن هنا كان يشعر بالمرارة إزاء الناس جميعا، سواء منهم من يبسطون أيديهم ليعينوه، ومن يبسطون أيديهم ليقتلوه.
وقد علل علماء النفس هذه الظاهرة الاجتماعية، ظاهرة العطف على الفقراء والمرضى، بأن النفس البشرية تفزع مما تعرض له، فهي تبذل البر والرحمة للفقير والمريض، فزعا من أن يصيبها الفقر والمرض.
وقديما سئل أحد حكماء اليونان: لماذا نعطف على الفقراء، ولا نعطف على أصحاب المواهب؟!
فقال: لأن الفقر مرض تنتقل عدواه إلى الناس، أما الموهبة فهي مرض لا تنتقل عدواه إلى أحد!
وهكذا كان الديب يشعر بأن الناس لا يعترفون بشعره أو مواهبه، وأنهم يعترفون فقط ببؤسه وشقائه.
وهم بين شامت به، ومشفق عليه، وهو ثائر على الشامت والمشفق معا.
وقد صور في إحدى قصائده، كيف دخل المسجد لينام لا ليصلي، وكيف غادره بعد صلاة الفجر إلى الشارع ومر بالمقهى، فأخذ الجالسون يرمقونه بنظراتهم، بعضهم يقول: عربيد، والآخر يقول: مسكين!
إذا أذنوا بالفجر طرت مسرة
إلى مسجد فيه أصلي وأضجع
أصلي بأذكار المرائي وقلبه
وبئست صلاة يحتويها تصنع
أمر على المقهى فأسمع شامتا
يمزق في عرضي وآخر يشفع
وقد ساء ظني بالعباد جميعهم
فأجمعت رأيي في العداء وأجمعوا
وهو ينطلق ليلا ونهارا يسعى إلى تحقيق أمله ورجائه، فيجد في كل طريق مصرعا لآماله وخيبة لرجائه فيصرخ:
أذله الدهر لا مال ولا سكن
فتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته
وإن أقام فلا أهل ولا وطن
ثيابه - كأمانيه - ممزقة
كأنها وهي حي فوقه كفن
كأنه حكمة المجنون يرسلها
من غير وعي فلا تصغي لها أذن
وينتهي به سعيه إلى غرفة يسكنها، وإذا هو وحده كل ما فيها من أثاث، ويناجي ربه بأبيات تنبض مرارة وثورة:
أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحد
ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد
لقد كنت أرجو غرفة فوجدتها
بناء قديم العهد أضيق من جدي
فأهدأ أنفاسي يكاد يهدها
وأيسر لمس في بنايتها يردي
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تساكنني فيها الأفاعي جريئة
وفي جوها الأمراض تفتك أو تعدي
تراني بها كل الأثاث فمعطفي
فراش لنومي أو وقاء من البرد
جوارك يا ربي لمثلي رحمة
فخذني إلى النيران لا جنة الخلد
وهو ينظر إلى أمته فيراها قد احتضنت الجاهل والدعي والمغرور، وتركته كما مهملا، بل وجدها لم تحسه ولم تشعر به، فيثور:
يا أمة جهلتني وهي عالمة
أن الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهل ولا سكن
كعيش منتجع المعروف أفاق
وليس لي من حبيب في دياركم
إلا الحبيبين أقلامي وأوراقي
لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم
لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي
بين النجوم رجال قد رفعتهم
إلى السماء فسدوا باب أرزاقي
وتتتابع الأيام وتجري وتركض، وهو واقف مكانه، يلهث إعياء وشظفا سواء عنده المواسم والمآتم، ويذهب في عيد الأضحى إلى بلدته في مديرية الغربية، وينزل في بيته القديم فيجده قد لقي المصير الذي لقيه الشاعر، لا شيء فيه إلا البؤس والشقاء والحرمان وذكريات غابرة، وظن من في القرية أن الديب المغترب قد عاد إلى بيته بالعز الغارب، وإذا هو يبكي، وإذا الدار تبكي معه:
مروا على الديار يوم العيد ضيفانا
يستمطرون نداها كالذي كانا
والدار لما رأتهم مقبلين لها
تعاورت في البكا أهلا وبنيانا
ليت العباد كلاب إن كلبتنا
لما تزل لحفاظ الود عنوانا
تحملت قسطها في البؤس صابرة
لم تشك جوعا ولم تستجد إنسانا
وقد قال في مثل هذه المناسبة يخاطب أهله:
يا معشر الديب وافى كل مغترب
إلا غريبكم في مصر ما بانا
ذبحتم الشاة قربانا لعيدكم
والدهر قدمني للبؤس قربانا
وظل عبد الحميد ثائرا على المجتمع يناصبه العداء، ويواجهه نقمة بنقمة.
وكانت ثورته تهدف إلى خلق مجتمع يحني رأسه للفنان، لا لصاحب السلطان، ويحنو على صاحب الموهبة، لا على صاحب العاهة!
الساخر بالحياة
وأخيرا مات برنارد شو بعد حياة دامت أربعة وتسعين عاما، وبرنارد شو كاتب في جميع اللغات، فقد انتقل أدبه الجميل إلى كل لغة حية، واحتل فيها مكانا مرموقا، وهو فنان موطنه الأصلي أيرلندا، وله بعد ذلك في كل بلد وطن، ومسرح ، وجمهور !
ولد برنارد شو في العام نفسه الذي ولد فيه أوسكار وايلدو، في البلد نفسه - إيرلندا - وكان كلاهما صاحب مذهب وصاحب أسلوب، وكانا صديقين برغم تباين نظرتهما إلى الحياة.
كان أوسكار مشغوفا بأن يحيا كل دقيقة بحدة وعنف، فعصفت به الحياة وهو في الرابعة والأربعين، وكان شو راغبا في الحياة ساخرا بها، هادئا في استقبال أيامها، فأعطته أربعة وتسعين عاما!
عاش أوسكار كل دقيقة من حياته القصيرة؛ عاش بالعرض.
وعاش برنارد بعض حياته المديدة؛ عاش بالطول!
ترى أيهما قد عاش حقا؟ وأيهما يا ترى سيعيش في التاريخ أكثر من صاحبه؟ أوسكار صاحب الأسلوب الحاد العنيف اللاذع الصريح في جرأة وطيش، أم شو صاحب الأسلوب الساخر الذي لا تعوزه الصراحة أحيانا، وتعوزه الجرأة والطيش في كثير من الأحيان؟!
كان شو ساخرا بالحياة، وما أكبر سخرية الحياة منه حين أعطته عمر القرون. لقد استوى الآن في مثواه مع من ماتوا في عمر الزهور!
قال له أحد الصحفيين: إنني أتمنى أن أعيش حتى أراك في سن المائة، فنظر إليه شو مليا ثم قال: ولم لا؟! إن صحتك على ما أرى تسمح بتحقيق هذه الأمنية!
وزار بعض المقابر فوجد على أحد الأضرحة هذه العبارة: هنا يرقد السياسي الشريف فلان. فقال: هل توجد أزمة مقابر حتى يدفنوا السياسي والشريف في قبر واحد؟!
واقترحت عليه إحدى السيدات أن يتزوجها، فإذا أنجبا طفلا ورث جمالها هي، وورث عقل شو.
فقال لها: وماذا نصنع إذا ورث رجاحة عقلك وورث جمالي!
كان شو يعتقد أنه سيحيا 300 عام، ما أكبر تواضعه! فسوف يحيا آلاف السنين لا في الدنيا، ولكن في التاريخ، وهذه هي الحياة!
الدموع لا تكذب!
أمضيت الليلة في قراءة أشعار نظمتها خلال عشرين سنة، كل مقطوعة من هذه الأشعار تمثل تجربة دخلتها وبقيت فيها، كنت ألمح خلال الكلمات كل ما رأيته، وعشته وأحسسته، عندما نظمت هذه المقطوعة أو تلك، بعضها استطاع أن يعبر بصدق عن شعوري، وبعضها عجز عن التعبير الصادق فانحرف عن الحقيقة تحت ضغط الوزن، أو حكم القافية.
ماذا أسمي هذه المقطوعات التي خانني فيها التعبير؟ هل أسميها شعرا عذبا تطبيقا للمثل العربي القديم «أعذب الشعر أكذبه»؟ ولكني لا أومن بصدق هذا المثل، بل إني أرى أن الشعر مثل أي فن؛ إذا لم يكن صادقا فهو هباء، هل أسميه نظما؟ ولكن ما قيمة النظم، إذا لم يكن له دافع وهدف من الواقع، والشعور، والتفكير؟ ما جدوى الاهتمام بإطلاق اسم عليه، أو الاحتفاظ به دون تسمية؟
ولم تكد هذه الخواطر تملأ رأسي حتى بادرت بتمزيق أشعاري الزائفة، وأبقيت على الشعر الذي أعرف أنه نبع من ذاتي، وتجاوب مع الواقع الذي عشته.
إن أكثر الشعر الذي احتفظت به يفيض بالدموع، ومن أجل هذا كان صادقا؛ فليس أصدق من الدمع، إنك تستطيع أن تقول كلاما جميلا مقنعا، منمقا، يشبه الصدق، وأنت كاذب، وتستطيع أن تخضع ملامحك، وإشاراتك، وحركاتك للحزن والأسى، وأنت لا تحس حزنا ولا أسى! وتستطيع أن تضحك ملء فمك وأنت حزين.
أما الدموع فهي لا تكذب، ولا تجاريك في كذبك، إنك لا تستطيع أن تسيلها من عينيك إلا إذا مس الحزن قلبك، والدموع يبعثها الألم، وهي وحدها التي تخفف الألم!
توفيق الحكيم
بقلم توفيق الحكيم
كان توفيق الحكيم فيما مضى معروفا بأنه عدو المرأة والفقر والبرد، وقد أصبح الآن عدو الفقر والبرد ليس إلا! ولأنه يخشى البرد تراه دائما يحكم إغلاق النوافذ والأبواب، ولا يعرض أي جزء من جسمه للهواء حتى في أشهر القيظ الشديد! ولأنه يخشى الفقر تراه دائما يحكم إغلاق جيوبه على ما فيها من دفاتر شيكات أو بوالص تأمين، وعلى ما فيها من محفظة نقود، وإن كانت هذه المحفظة خالية من النقود!
وليس معنى هذا أن توفيق الحكيم، لم يصب بالبرد في حياته، فما أكثر ما أصيب بالبرد، على الرغم من تدثره بالملابس الثقيلة صيفا وشتاء!
وليس معنى هذا أيضا أن توفيقا لم يتعرض للفقر وشظف العيش، فإن حياته حافلة بتجارب قاسى فيها الأهوال بسبب قلة النقود، هكذا هو يقول!
وذكر لي توفيق الحكيم أنه برغم شدة حذره من المرض يمرض كثيرا، وبرغم خوفه من الفقر ما زال فقيرا، ويسألني: ما رأيك في هذا؟
وقلت له: هناك حكمة تقول: الناس من خوف الفقر في فقر، وتستطيع أن تضيف إليها: والناس من خوف المرض في مرض، فلا تخش المرض تنج منه، وإذا أنت لم تخش الفقر تصبح غنيا! فضحك وقال: قصدك أصبح غني النفس؟ هذا الغنى موجود سواء كان المال موجودا أو غير موجود!
وكانت هذه الدردشة لمناسبة انقطاعه عن السهر في دار «أخبار اليوم»، وكان قد اعتاد أن يسهر معنا ليلة في الأسبوع، ثم انقطع عن السهر، وقال إنه أصبح لا يسهر إلا في النهار حتى لا يتعرض للبرد، وقد سهرت معه هذا النهار فعلا، في دار صديقنا محمد حسنين هيكل، وبعد انتهاء الجلسة أو السهرة النهارية، انطلقنا معا إلى الشارع وأخذنا نتحدث عن آثاره الفنية، وأبديت له إعجابي بكتابه زهرة العمر؛ لأن هذا الكتاب يرسم ملامح عبقريته، ويلقي الضوء على أصولها، ويحلل كل قطرة دم، ونبضة عرق، وخلجة نفس، والتفاتة ذهن في توفيق الحكيم الفنان، ووافقني على هذا الرأي، وأخذ يحلل كتبه وقصصه ومسرحياته، فرفع بعضها إلى القمة، وألقى ببعضها في الهاوية، وقال إن مصيبته الكبرى أن ما يعجب الناس من آثاره لا يعجبه، وما يعجبه لا يعجب الناس!
واقترحت عليه أن يقوم بتأليف دراسة عن آثار توفيق الحكيم، فيتناولها بالنقد والملاحظة، والهجوم، وستكون هذه الدراسة ولا شك عملا أدبيا ضخما، وأشرت عليه أن يسميها توفيق الحكيم بقلم توفيق الحكيم!
ولكن توفيق لم يتحمس للاقتراح، واكتفى بأن هز رأسه وقال: اقترح ذلك على طه حسين والعقاد؟
فقلت: هل أقترح عليهما أن يؤلف كل منهما كتابا في نقد توفيق الحكيم؟
فابتسم بصوت مسموع وقال: اقترح عليهما أن يؤلف كل منهما كتابا في تحليل آثاره هو؛ فتقرأ العقاد بقلم العقاد، وطه حسين بقلم طه حسين.
أنا شخصيا أتمنى ذلك!
ذكرى ناجي
لم أستطع أن أحضر الاحتفال الذي أقيم اليوم، تخليدا لذكرى الشاعر الدكتور ناجي، فقد اضطررت إلى مغادرة القاهرة لظرف خاص مفاجئ.
لا أدري ماذا حدث في الاحتفال، لقد قرأت البرنامج فوجدته عامرا بأسماء الخطباء والشعراء والمفكرين، ممن عرفوا ناجي الشاعر الإنسان وعاصروه، ودرسوا حياته الأدبية والاجتماعية، لا شك أنهم جميعا أجادوا في الإشادة بذكره، وشعره، ولا شك أنهم بكوه أحر بكاء، ولكن لا أدري هل وقفوا في تخليده عند هذا الحد، أو تجاوزوا ذلك إلى إجراءات عملية تخليد ذكرى هذا الشاعر الغنائي العاطفي؟
يجب لتخليد ذكرى ناجي جمع أشعاره كلها، واختيار الشعر الغنائي منها، وطبعه في ديوان مستقل؛ لأن هذا الشعر بالذات تفجر من قلب ناجي، وإنك لتلمح في كل قصيدة من قصائده الغنائية العاطفية، بصمة أعصابه، وتوقيع دمه!
أما أشعار التأملات والظنون والحيرة والرثاء، فتطبع على حدة في ديوان آخر.
لقد كان ناجي شاعرا ملتهب الأعصاب مشبوب العاطفة، يغني آلامه، ويشدو بأحزانه، وفي مجموعة شعره لوحات عاطفية، أحب أن أوجه إليها أنظار الملحنين.
ففي ملحمته «الأطلال» أكثر من عشر قطع تفيض شعورا وصورا وأخيلة.
اقرأ، بل اسمع:
أنت حسن في ضحاه لم يزل
وأنا عندي أحزان الطفل
وخيوط النور من نجم أفل
وبقايا الظل من ركب رحل!
واسمع:
أين مني مجلس أنت به
فتنة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم
وفراش حائر منك دنا
ومن الشوق رسول بيننا
ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة
لغبار آدمي مسنا!
وقد سبق أن قام المرحوم الدكتور إسماعيل أدهم بدراسة عن شعر ناجي، ويمكن إعادة طبع هذه الدراسة، وتأليف لجنة من الشعراء والكتاب تتولى وضع دراسة تحليلية شاملة للدكتور إبراهيم ناجي الشاعر والكاتب والطبيب، وتسجل قصة حياته منذ كان طفلا يترنم بالشعر في درس الحساب، فيضربه مدرس الحساب! إلى أن لفظ آخر أنفاسه وهو يكشف في عيادته الخاصة عن قلب أحد مرضاه، ومات الطبيب وعاش المريض!
احتجاب الصحفيين
الصحف في إجازة لمناسبة العيد، احتجبت عن الناس اليوم، وستحتجب غدا.
لماذا لا يحتجب الصحفيون أيضا، كما احتجبت صحفهم؟ لماذا لا يريحون الناس منهم، يوما أو يومين ؟
أعجبتني هذه الفكرة، واعتزمت أن أنفذها، فقررت ملازمة البيت طول النهار والليل.
تناولت غدائي، واستلقيت على الفراش، أتمطى، وأتثاءب، أطرد اليقظة باصطناع النوم، وأطرد النوم باصطناع اليقظة، ولم أحاول أن أقرأ أو أكتب أو أفتح الراديو، أو أتحدث في التليفون، وفجأة وجدتني أنظر إلى غير اتجاه، شارد الفكر، مفتوح الفم، أشبه بمجنون أو مجذوب أو مليونير سفيه! ولم أطق الجنون ولا الانجذاب ولا المليون جنيه التي تسبب السفه، فارتديت القميص والبنطلون، وأخذت أتمشى في البيت؛ لأشعر بأني لا أزال إنسانا عاقلا متحركا!
ودق جرس الباب، وقبل أن أنبه من معي إلى أني لست هنا كانوا قد استقبلوا الزائر الذي دق الجرس، وقالوا له إني هنا!
وكان الزائر كريما في تبذير وقته معي؛ فقد دامت زيارته أربع ساعات! كان يحدثني عن أشياء لا أفهمها؛ حدثني عن الزراعة وأثر تقلبات الجو في المحصول الزراعي، حدثني عن تربية المواشي وكيف يستطيع الإنسان بماشية واحدة أن يؤلف ثروة طائلة، حدثني عن عظمة مأمور المركز الجديد، وما يمتاز به من أخلاق كريمة، وأنه على عكس المأمور السابق الذي كان شرسا، ويحب الأذى!
والزائر الكريم يمت لي بصلة قرابة، وقد جاء القاهرة لتمضية يومين ابتهاجا بالعيد، وسألته: أين أمضيت اليومين؟
فقال: أنا جئت من القطار إليك، وسأبقى غدا لأزور المشايخ وأقرأ الفاتحة لأولادنا وأحبابنا، وبعد غد أعود إلى البلد بمشيئة الله.
وقلت له: ألم يكن في استطاعتك أن تقرأ الفاتحة وأنت في بلدك؟!
فقال: الحقيقة أن القاهرة أوحشتني، لي سنتان لم أرها، وكنت قبل ذلك أجيئها في العام مرتين.
وماذا كنت تصنع فيها؟
قال: كنت أزور المشايخ وأقرأ الفاتحة لأولادنا وأحبابنا.
وعقب قائلا: سمعنا ونحن في البلد أن القاهرة تغيرت كثيرا عن زمان، فهل هذا صحيح؟
وقلت له: إن القاهرة التي تعنيها وتحن إلى رؤيتها لا تزال كما هي، لم تتغير في شيء.
وحاولت أن أغريه بالانصراف، فأغمضت عيني وأطرقت برأسي إلى صدري كمن يريد أن ينام، فقال لي: أنت راح تنام والا إيه؟ الساعة لا تزال 10، والمعروف عندنا أن الصحفيين تعودوا أن يسهروا حتى الصباح.
وقلت له: إن الصحف في إجازة، ونحن نسهر لنعمل فيها، وما دامت الصحف لا تصدر، فإننا نمنح أنفسنا إجازة من السهر.
وفهمت منه أنه يريد أن يقضي معي أكثر فترة من الوقت، إلى أن يجيء موعد صلاة الفجر، فيؤدي الصلاة في سيدنا الحسين، ومن هناك يبحث عن سكن أحد أقربائه لينزل ضيفا عليه، وسألته لماذا لا يبحث عن سكن قريبه هذا منذ الآن، فقال: الصباح رباح، والنهار له عيون!
وقلت له: لماذا لا تذهب إلى فندق نوم، وحالتك تسمح بهذا والحمد لله؟
فضحك وقال: بعدما شبنا عاوزنا ننام في اللوكاندات والعياذ بالله! اللى ما عملناها واحنا شباب!
وعدت فمثلت دور النائم، فقال لي: أنت عامل نايم؟!
وقلت له: دانا عامل صاحي، أنا نايم فعلا!
ولما غادر البيت، لزمت غرفتي، وحاولت أن أنام، ولكن أحاديث الرجل وزيارته الكريمة، أطارت النوم من جفني، وظللت أقرأ حتى الصباح، وهكذا لم أستطع أن أمنح نفسي إجازة يوما واحدا، لا من الناس ولا من الأرق!
لغة الأغاني
سمعت للأستاذ الدكتور طه حسين حديثا في الراديو عن الشاعر المصري إسماعيل صبري، وقد أشار إلى ما في شعر صبري من رقة وعذوبة وجمال، وتمنى لو أن الملحنين المصريين التفتوا إلى هذا الشعر، وجعلوا منه مقطوعات غنائية، تحل محل السخف الذي نسمعه كثيرا أو قليلا في هذه الأيام!
وليس الدكتور طه وحده بالثائر الوحيد على لغة الأغاني، فكثيرون ثائرون على هذه اللغة، وهم يرمونها بالتبذل والإسفاف، وأحب - إنصافا للتاريخ - أن أقول في غير تحفظ، إن لغة الأغاني اليوم، أرقى وأسمى من لغة أغاني الأمس، بل يمكن أن يقال إن الأغنية الشعبية بلغت من حيث الصناعة الفنية والمضمون وطريقة نقاوة الموضوع، ما لم يبلغه الشعر الفصيح في أزهى عصوره، وأنا أطالب الدكتور طه وجميع الثائرين على لغة الأغاني، أن يتابعوا تطور الأغنية المصرية وكيف كانت تتضمن مثلا: «شفتي بتاكلني أنا في عرضك»، و«ميلتي بختي في الحب يا أختي »، و «قدك أمير الأغصان» إلى غير ذلك من عبارات سقيمة تافهة.
كانت هذه لغة أغانينا بالأمس، ولقد تطورت الأغاني حتى صارت مقطوعات شعرية، ترسم صورا فنية كاملة، تمتاز بالجمال والعذوبة والوضوح.
لست أزعم أن الأغاني كلها أصبحت كذلك، ولكني أقول - دون أن أتجاوز الحقيقة - إن تسعين في المائة من الأغاني التي ترددها مطرباتنا ومطربونا تمثل أرقى أسلوب للأغنية العاطفية.
ولكن الثورة على الأغاني لا تقف عند حد لغتها، بل هي تتجاوزها إلى الموضوع، وقد بدأ هذه الثورة الأستاذ سامي داود، وتابعها واستمر فيها الأستاذ حسن إمام عمر، وكلاهما يأخذ على الأغنية المصرية أنها لا تزال ترزح تحت عبء الذل والهوان، وتتحرك في إطار اللوعة والهوى، وأنا أوافق الصديقين على أن الأغنية المصرية يجب أن تعبر عن الحياة، وليس معقولا أن حياتنا كلها صبابة، وشكوى، وبكاء على الأحباب، ففي حياتنا تمرد على الفقر والحرمان، وفي حياتنا كفاح في المصنع والمزرعة، وفي حياتنا مقاومة للحروب واستجابة للسلام، وفي حياتنا كما في كل حياة، وفاء وغدر، وخير وشر، ونور وظلام، وأضواء وظلال، وثورة وهدوء.
ولكن من المسئول عن تقصير أغانينا؟ هل هم الشعراء؟ لا أظن؛ فنحن نقرأ لهم شعرا يمثل الحياة من جميع جوانبها وزواياها، ولا نسمع هذا الشعر يغنى إلا إذا كان يصور جانب الحب وزاوية الألم.
هل المطربون هم المسئولون؟ ولكن هؤلاء - في الغالب - لا يؤدون الأغنية إلا إذا كان لها مكان في الفيلم، أو في برنامج الإذاعة؟
المسئولون في رأيي عن هذا التقصير هم مخرجو الأفلام ومنتجوها ولجنة اختيار الأغاني في الإذاعة.
وأبادر فأقول إني لا أريد أن تصبح كل أغانينا صورا وصفية للمصانع والمزارع والشوارع، ولكني أريد أن تكون تعبيرا صادقا عن الكفاح في المصنع والمزرعة والشارع، وليس معنى ذلك أن تلغى الأغاني التي تعبر عن المشاعر الإنسانية الثابتة، مشاعر الألم والحب، فنحن في حاجة إلى هذه الأغاني حاجتنا إلى المصنع نفسه، والمزرعة نفسها!
مولد ووفاة!
كان رأسي يدور حول لا غاية ولا هدف، وأنا أمشي في فناء محطة القاهرة بين مئات دارت رءوسهم مثلي، كنا نودع صديقا من عالمنا ونشيعه إلى عالم آخر!
وانهالت انفعالات الحزن والحيرة والتساؤل على نفسي.
وتذكرت كيف احتفلنا منذ سنوات بعيد ميلاد صديقنا، وكيف نحتفل اليوم بوفاته؟
كان احتفالنا بعيد ميلاد حسن الأعور في الباخرة «أريبيا» عام 1946 أو 47 لا أذكر بالضبط، وكان قد أقام في الباخرة بضعة أيام، يلتمس الراحة والبعد عن جو البيت، وحل عيد ميلاده وهو في الباخرة، واقترح عليه أحد أصدقائه أن يقيم احتفالا، فقال: نحن صعايدة ولا نعرف مثل هذه العادات. وأقسم الصديق أن يقيم في الباخرة حفلة، لم يعرف مثلها أحد قبل حسن الأعور، وبر الصديق بقسمه؛ فقد حضر الحفلة عشرون من أصدقاء حسن بينهم الدكتور عبد الوهاب مورو، والدكتور حسين عرفان، والأساتذة توفيق الحكيم، وعبد الوهاب الشريعي، وقاسم الشريعي، والسيدة أم كلثوم، والأستاذ محمد عبد الوهاب، والمرحومة الآنسة كاميليا، وأشاع حسن الأعور بين الموجودين أني معجب بجمال كاميليا، وأخذ يداعبني بقفشاته، ويسخر من ذوقي، وأخرجني جو السهرة عن هدوئي، فنظمت أبياتا من الشعر وجهتها إلى كاميليا أذكر منها هذا البيت:
إن بعض الجمال يذهل قلبي
عن ضلوعي، فكيف كل الجمال
وتطوع توفيق الحكيم بترجمة أبيات الشعر إلى اللغة الفرنسية؛ لتتمكن كاميليا من فهمها وتذوقها، وتولى عبد الوهاب تلحين الأبيات وقد حفظتها أم كلثوم في الحال وغنتها، وظل عبد الوهاب ممسكا العود لأم كلثوم، وظلت أم كلثوم تغني حتى مطلع الفجر!
ما أكثر الابتسامات والضحكات، وانتفاضات المرح والنشوة التي بعثها فينا احتفالنا بعيد ميلاد صديقنا!
واليوم - بعد ثماني سنوات أو أكثر - استحالت هذه الابتسامات والضحكات دموعا حارقة، واستحالت انتفاضاتنا المرحة النشوانة صواعق انقضت على نفوسنا، ونحن نستقبل جثمان الصديق من القطار العائد من الإسكندرية، ونضعه في القطار الذاهب إلى المنيا؛ إلى العدم!
قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
كنت في طريقي إلى دار أحد أصدقائي في الزمالك، وكان معي الفنان محمد عبد الوهاب، فأشار إلى «فيلا» أنيقة وقال لي: هذه هي «الفيلا» التي كان المرحوم أنور وجدي قد اشتراها قبيل وفاته وأعدها لمسكنه، وقد مات - رحمه الله - قبل أن تطأها قدماه!
وفي المساء قابلت الأستاذ جليل البنداري أمام وزارة الأوقاف، وكان يحمل ورقة وقلما، فلما رآني أخفى الورقة في جيبه وصافحني بيده، وسألته عن الورق الذي أخفاه، وهل يتضمن أغنية جديدة، أو قصة سينمائية، أو عقدا بينه وبين فنانين أو مقالا صحفيا؟ فجليل البنداري مؤلف أغاني وقصصي ومنتج سينمائي ومحرر في دار «أخبار اليوم»، وانفتح فم جليل عن ابتسامة أو تكشيرة، لا أدري! فمن العسير أن تعرف تكشيرة جليل من ابتسامته، إلا إذا قال لك بصراحة: هذه تكشيرة، وهذه ابتسامة!
وفهمت مما قاله جليل أنه حزين، وروى لي أنه كان يسجل في الورقة التي دسها في جيبه معلومات عن أنور وجدي.
وأردت أن أضيف إلى معلوماته أن الفيلا التي بناها أنور ليسكنها لم يدخل بابها، فقال لي: بل إن هذه العمارة التي دفع فيها معظم ثروته، والتي جذبت إليه عيون الحاسدين لم يدخلها وهي كاملة البناء، ثم قال: هل تعلم أن أنور صاحب هذه العمارة وصاحب فيلا الزمالك، لم يجد بعد موته غرفة يبيت فيها جثمانه إلى الصباح؟! لقد ظل جثمان أنور فوق الرصيف في حراسة موظف عنده يدعى «ليون».
واستطرد يروي القصة: على إثر وصول الطائرة التي تقل جثمان أنور وجدي، وتقل قرينته السيدة ليلى فوزي تجمع الناس حول ليلى، وتركوا الجثمان في حراسة الخواجة «ليون»، وجاء أهل أنور وصحبوا ليلى معهم في عربة، وأخذوا يتحسسون جسدها بأيديهم للاطمئنان على صحتها الغالية، وأكدت لهم ليلى أنها لا تحمل مرضا، ولا تحمل لهم حقدا، ولا تحمل أي شيء!
وذهب ليون بالجثمان إلى مكتب أنور فوجده مغلقا، وذهب إلى البيت فوجده مغلقا، فبقي مع الجثمان فوق الرصيف حتى الصباح، ثم استقل عربة إلى المقابر، ولم يكد أهل الفقيد يصلون إلى المقبرة، حتى جاءهم من يقول إن مندوب إدارة التركات قد وصل إلى مكتب أنور، فترك أهله المقابر وعادوا إلى المكتب ليقابلوا مندوب التركات!
وتولى ليون وحده دفن الجثة هو وبعض أصدقاء أنور ممن ليس لهم في تركته أدنى نصيب!
كم لقي أنور وجدي من قسوة الحرمان! عاش يكافح الفقر والإخفاق، فلما أثرى ونجح أخذ يكافح المرض والموت إلى أن مات محروما.
العمارة التي شيدها لم يستمتع بها، والفيلا التي اشتراها لم يسكنها، والمال الذي جمعه بصحته وحياته لم ينفق منه إلا على مرضه وموته.
ما أعجب حكمة القدر! عندما نستطيع الحياة لا نجدها، وعندما نجدها لا نستطيعها!
الإمام المراغي وحافظ إبراهيم
حضرت الاحتفال بذكرى الإمام المراغي في داره بحلوان، لقد أحببت هذا الرجل بعقلي وقلبي، أحببته إنسانا وأحببته رجل دين.
كان زميلا لوالدي، فعرفته وأنا طفل صغير، وكانت طلعته تبهرني، وكنت أجد راحة كبيرة في الإصغاء إليه، وهو يتحدث في أشياء لا أفهمها ولا أعيها، كان صوته ساحرا جذابا.
ولما كبرت وأصبح في استطاعتي أن أدرك وأعي، تبدلت نظرتي إلى كثير من الناس والأشياء، ولكن نظرتي إلى الشيخ المراغي لم تتبدل، فظللت مبهورا بشخصيته، وكان صوته وهو يتحدث في المسائل العامة، أو يلقي أحاديثه الدينية، يأخذ أذني ويخطف سمعي.
وكان - كلما لقيني - يسألني عن آخر ما قرأته في الشعر العربي، ثم يعقب على ذلك بإنشاد أبيات لأبي العلاء أو المتنبي أو شوقي، ويقول: هل هناك ما هو أجمل من الشعر؟!
وقد كان المراغي أديبا يحب الشعر والشعراء، وقد تعلق به الشاعر حافظ إبراهيم تعلقا شديدا، وكان أجمل أوقات حافظ، هذه الساعات التي يقضيها مع الشيخ المراغي في داره بحلوان، يتناقش معه في المسائل الدينية والأدبية، وكثيرا ما كان حافظ يداعب الشيخ، وكان الشيخ يتقبل دعاباته ويحرضه على المزيد منها.
طلب حافظ وهو في دار المراغي زجاجة كولونيا، فأحضر له الشيخ زجاجة وقال وهو يقدمها إليه: خذها وأنت وبختك، يا ترى ماركة إي دي؟
فقال حافظ على الفور: لازم مية القسيس؟!
واشترى الشيخ المراغي خمسة من الديوك الرومي، ولم يكد الصباح يطلع عليها حتى ماتت، فأرسل حافظ إلى الشيخ كتاب تعزية قال فيه:
رحم الله خمسة من ديوك
للمراغي عوجلت بالفناء
فلو أن الأستاذ خير فيها
بين موت لها وبين فداء
لافتداها بخمسة من شيوخ
من أساطين هيئة العلماء
وكان المراغي في ذلك الوقت شيخا للأزهر، ورئيسا لأساطين هيئة العلماء! غفر الله لنا ولحافظ إبراهيم!
الغفران
كنا نتحدث عن الشاعر عمر الخيام، هل كان ملحدا؟ هل كان شاكا؟ هل كان متصوفا؟ هل كان عربيدا؟
وقلت: إن الخيام كان مؤمنا، وفغر الحاضرون أفواههم، وقالوا: هل يكون مؤمنا من يناقش الله ويعاتبه، ويقول له: كيف لا تغفر لي إلا إذا تبت عن ذنبي؟ إنك لست تاجرا حتى تعطيني غفرانا مقابل توبة، ولكنك إله تعطي بلا مقابل!
إن هذا تجديف.
قلت: إن هذا التجديف يدل على الإيمان أكثر مما يدل على الإلحاد؛ فالإيمان بالله هو أن تشعر به.
والخيام يخاطب الله كما لو كان - سبحانه وتعالى - كائنا حيا يرضى ويغضب، يقسو ويرحم، وهذا شعور عميق نافذ جارف بوجود الله.
ربما كان تصور الخيام خاطئا، ولكن الشعور صحيح، وإذا كان منطق الخيام ضعيفا أو تافها، فإن هذا لا يعني أنه غير مؤمن، وما أكثر المتصوفين والمنقطعين لعبادة الله، الذين خاطبوا ربهم، عاتبين ساخطين، وقد روت الأساطير القديمة أن أيوب، وهو نبي من أنبياء الله، ثار على ما امتحنه الله به، من موت زوجه وأبنائه، وإصابته بالجذام والبرص والطاعون، ولما زاره أصدقاؤه من الملائكة والرسل، وسمعوا صرخاته في وجه الله هربوا منه، فقال لهم الله: لماذا تهربون؟ لو لم يغضب من قسوتي لما استحق رحمتي!
وتطرق الحديث إلى الخيام، وهل هو فيلسوف؟!
وقلت إن الفيلسوف يحب أن يكون صاحب مذهب، والخيام صاحب خواطر وأفكار وانفعالات، فهو شاعر وليس فيلسوفا، ولقد تأثر بأبي نواس وبأبي العلاء المعري.
وقيل إن تأثره بأبي العلاء كان أكثر من تأثره بأبي نواس، وأبو العلاء كان فيلسوفا.
وقلت إن أبا العلاء لم يكن فيلسوفا لكن كان شاعرا، وما تصورناه فلسفة ليس إلا تفكيرا وتأملا، ولا يمكن أن نعد زهده في الحياة وعزوفه عنها مذهبا فلسفيا، وإنما هو نظام ربط نفسه به ولم يدع أحدا إلى انتهاجه.
وفي أثناء ذلك دخل الأستاذ الشيخ الباقوري، وقال: عم تتساءلون؟
قلنا: عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون.
وقال: أي نبأ وأي خلاف؟!
قلنا: نبأ الخيام، وهل هو ملحد؟ أو هو مذنب؟
وقال الأستاذ الباقوري: إن الخطيئة طبيعة في الإنسان، وعلى الإنسان ألا يجاهر بها، والله يغفر الذنوب لمن يشاء، وروى هذا الحديث الشريف، وهو: «كل أمتي معافى، إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل المرء بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، إني عملت كذا وكذا. فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه.»
وروى الأستاذ الباقوي حديثا قدسيا هذا نصه: «عبادي لا تيئسوا من رحمتي إذا أذنبتم، فوعزتي وجلالي، لئن لم تذنبوا لخلقت خلقا غيركم يذنبون فيستغفرون فأغفر لهم!»
توفيق الحكيم
في المجمع اللغوي
دخل توفيق الحكيم المجمع اللغوي، جلس في المقعد الذي تعاقب عليه واصف غالي وعبد العزيز فهمي، وكلاهما منح نفسه للحرية، ومنح الحرية لنفسه، كلاهما كان شجاعا حرا؛ فواصف غالي صاحب الكلمة المشهورة: إن في ميدان التضحية والمجد لمتسعا للجميع. وعبد العزيز فهمي هو الرجل الذي حرر عقله من نير الجمود، وثار في وجه الاستبداد الخارجي والاستبداد الداخلي، وفي آخر حياته ثار على الاستبداد اللغوي، ودعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية!
وقد أشار توفيق الحكيم في كلمته القيمة إلى سلفيه العظيمين، وقال إنه سيحمل من بعدهما راية الحرية في المجمع اللغوي، وإنه سيدعو إلى تسكين أواخر الكلمات، أخذا بقاعدة «سكن تسلم»!
وكان توفيق الحكيم يتحدث معنا قبيل الاحتفال باستقباله في المجمع، وشرح نظريته في تسكين بعض الكلمات والأسماء، وقال إن الإنسان في كل لغة إنسان، إلا في اللغة العربية فهو بهلوان! ولما سألناه كيف ذلك؟ قال: في اللغة الإنجليزية الرجل «مان»، إذا جاء فهو «مان»، وإذا رأيته فهو «مان»، وإذا التقيت به فهو «مان»، وفي اللغة الفرنسية الرجل «لوم»، إذا جاء فهو «لوم»، وإذا رأيته فهو «لوم»، وإذا التقيت به فهو «لوم».
أما في اللغة العربية فالرجل بهلوان؛ لأنك ترفعه وتنصبه وتجره، فتقول: رأيت رجلا، وهذا رجل، والتقيت برجل.
لست أدري هل أفرح لتوفيق الحكيم بدخوله المجمع اللغوي أو أشفق عليه؟ إني أفرح للمجمع اللغوي ولا شك، فتوفيق الحكيم يفخر به أي مجمع، في أي بلد، في أي عصر، ولكني أخشى على توفيق الحكيم من مجمعنا، أخشى عليه أن يصيبه ما أصاب فنانا آخر هو الأستاذ محمود تيمور، فقد كان خارج المجمع كاتبا تمتاز عباراته بالنبض وبعض الخطأ اللغوي، فلما دخل المجمع صارت عباراته تمتاز بالهمود وكل الصواب اللغوي.
نريد لتوفيق الحكيم أن يظل في المجمع اللغوي كما كان خارج المجمع اللغوي، فإن توفيق الفنان الذي قد يبعده الفن عن روح اللغة أبقى على الدهر من توفيق اللغوي، الذي قد تبعده اللغة عن روح الفن!
فن سيد درويش
الرسام الفنان «رخا» مشغول في هذه الأيام بألحان سيد درويش، وقد قام على صفحات «الجيل الجديد» بالدعوة إلى تسجيل هذه الألحان بصوت محمد عبد الوهاب، وقال عبد الوهاب إنه يسره أن يؤدي هذه الألحان بصوته، ويسجلها كلها، ولكنه يخشى مما قد يثيره التسجيل من تنازع ورثة سيد درويش على ثروته الفنية والمادية، وهل لعبد الوهاب الحق في أن يسجل ألحان سيد درويش؟ ومن الذي يجني ثمار هذا التسجيل؟ وربما انتهى الأمر إلى مطالبته بتعويض؛ لأنه سجل الألحان بدون إذن منهم!
وأنا أعذر عبد الوهاب في تخوفه وحذره، فقد سبق أن اعتزمت إصدار كتاب عن عبد الحميد الديب، وأخذت أجمع شعره من أصدقائه وتلامذته ومريديه، ولم أكد أبدأ في ترتيب مواد الكتاب حتى انهالت علي إنذارات من أقارب عبد الحميد الديب، وكل منهم يطالب بنصيبه في الربح، ويحتفظ بحقه في مقاضاتي إذا أنا أصدرت الكتاب بدون إذن خاص منه!
وبرغم يقيني من أن القانون لا يعطي هؤلاء الورثة أو المدعين أنهم ورثة، أي حق في مطالبتي بتعويض، فقد تراجعت عن تأليف الكتاب حتى أريح أعصابي ودماغي.
ربما كان الوضع مختلفا بالنسبة إلى سيد درويش، وعبد الحميد الديب؛ ولذلك أرى أن يتولى عبد الوهاب تسجيل ألحان سيد درويش بصوته؛ ولكي يتفادى الدخول في معركة مع ورثة سيد درويش، أقترح على الدولة تكليف عبد الوهاب رسميا أن يسجل ألحان سيد درويش.
إن سيد درويش ثروة فنية قومية، ومن حق الدولة، بل من واجبها، أن تحافظ عليها وترعاها، وتسجيل ألحانه بصوت عبد الوهاب يكفل لها الحفظ والرعاية.
شعراء الوطنية
قرأت اليوم آخر كتاب للأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي، وهو كتاب شعراء الوطنية، وقد استرعى انتباهي أن يخلو الكتاب من اسم شاعر حر، هو ولي الدين يكن الذي قضى حياته منفيا مشردا، مكافحا ضد طغيان السلطان عبد الحميد، ولما استقر به المقام في مصر، أمضى البقية الباقية من حياته مريضا، ثم مات ضحية الأمراض التي عاناها في النفي والسجن.
وكان ولي الدين يكن إلى جانب دفاعه عن حريته السياسية، مناضلا في رفع راية الحرية الفكرية، وقد كان نزاعا إلى التجديد في الشعر، وكان أسلوبه في الكتابة أسلوبا قويا، يمتاز بالنبض والحرارة والقوة والسهولة، وهو بلا شك يعد في طليعة المجددين في الأدب العربي، وقد نشبت بينه وبين المرحوم الشيخ رشيد رضا معركة قلمية عنيفة، ومن عباراته الساخرة التي سارت مجرى الأمثال هذه الكلمة: إني أكره شيئين في اللغة العربية: «أيضا، والشيخ رشيد رضا»! وكان ذلك منذ أربعين عاما!
ولما سقط السلطان عبد الحميد بأيدي الثوار في تركيا، نظم شوقي قصيدته الشهيرة:
سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور
ورد عليه ولي الدين بقصيدة من نفس الوزن والقافية، قال في مطلعها:
هاجتك خالية القصور
فبكيت بالدمع الغزير
وذكرت سكان الحمى
ونسيت سكان القبور
واسترعى انتباهي أيضا أن يخلو الكتاب من اسم المرحوم مصطفى صادق الرافعي صاحب نشيد «اسلمي يا مصر إنني الفدى»، واسم الشاعر الكبير عباس العقاد صاحب النشيد القومي وفيه يقول: «إن رفعنا الرءوس، فليكن ما يكون، ولتعش يا وطن.»
واسترعى انتباهي كذلك ألا تجيء إشارة إلى الشاعر مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي خاطب الخديو عباس عقب عودته من الحج فقال:
قدوم ولكن لا أقول: سعيد
وملك وإن طال المدى سيبيد
وقد حكم على مصطفى لطفي المنفلوطي بالسجن ستة أشهر، وصحت نبوءة المنفلوطي فباد ملك عباس، وبادت أسرة محمد علي برمتها!
ولم أجد في الديوان بيتا واحدا من الشعر الوطني الحديث، ولست أدري كيف نذكر الشعر الوطني دون أن نذكر مثل هذه الأبيات التي قيلت في معركة القتال:
أنا إن سقطت فخذ مكا
ني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يرع
ك دمي يسيل من السلاح
وانظر إلى شفتي أط
بقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عيني أطب
قتا على نور الصباح
أنا لم أمت أنا لم أزل
أدعوك من خلف الجراح!
وكيف نذكر الشعر الوطني دون أن نذكر هذه الأبيات في ثورة 23 يوليو:
بلدي لا عشت إن لم أفتدي
يومك الحر بيومي وغدي
نازفا من دم أعدائك ما
نزفوه من أبي أو ولدي
آخذ حريتي من غاصبيها
سالبيها وبروحي أفتديها
يحضرني الآن عشرات الأمثلة من الشعر الوطني الحديث، وهو شعر يعد من الناحية الفنية أقوى من شعر كثيرين، عني الأستاذ الرافعي بسرد أشعارهم وتاريخ حياتهم.
إن هذه الملاحظات السريعة لا تغض من قيمة الجهد الذي بذله أستاذنا الرافعي في كتابه شعراء الوطنية، ولا أريد بما أبديته من ملاحظات أكثر من أن أحقق رغبته، التي عبر عنها في مقدمة كتابه بهذه الكلمات:
إذا نبهني القارئ إلى شاعر فاتني الحديث عنه، ضمن شعراء الوطنية، فإني على أتم الاستعداد لتدارك هذا النقص في الطبعة التالية من الكتاب.
وهذه العبارة القصيرة، تنم على خلق عبد الرحمن الرافعي، خلق العالم الذي يبحث عن الحق والحقيقة، وقد تجلى هذا الخلق في جميع المؤلفات التي أصدرها الرافعي، وفي مقدمتها «حقوق الشعب» و«الجمعيات الوطنية»، وتاريخ الحركة القومية، وعصر محمد علي، وعصر إسماعيل، والثورة العرابية، ومصر والسودان، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وثورة 1919، وفي أعقاب الثورة المصرية.
خليل مطران
حرصت على أن أستمع إلى محاضرة الأستاذ موريس أرقش المحامي في النادي الشرقي، وكان موضوعها «خليل مطران شاعر الأقطار العربية »، وقد عرض لي ما عاقني عن الاستماع إلى هذه المحاضرة.
وأحسست أن شيئا كثيرا قد فاتني، فإني أحب خليل مطران، أحبه إنسانا وأحبه شاعرا.
والأستاذ أرقش في طليعة الذين يستطيعون أن يتحدثوا عن مطران، فيطيلوا الحديث ويحسنوه.
ولقد عرفت خليل مطران في عام 1940، عرفني به أنطون الجميل (باشا) وجبرائيل تقلا (باشا).
وكان أنطون الجميل يحب مطران الشاعر الإنسان، وكان جبرائيل تقلا يحب مطران الكاتب الإنسان، وكنت إذ ذاك أشرف على الصفحة الأدبية في «الأهرام»، وكان أنطون (باشا) يشجعني على إفساح الصفحة لقصائد الشعراء، وكان تقلا (باشا) يقول لي إن الصحف اليومية لا ينبغي أن يكون فيها مجال للقصائد، واحتكمت إلى خليل مطران، وأنا واثق من أنه سيكون في صف أنطون الجميل، وإذا هو يقول: جبرائيل تقلا عنده حق، ولم يكن تقلا (باشا) حاضرا معنا، وسألته: كيف تقول ذلك وأنت أبو الشعر والشعراء؟
فقال: إن الشعر فن جميل، وإذا لم يوضع في الإطار اللائق به، ذهب رونقه وأصبح مادة عادية، مثل بقية المواد التي تنشرها الصحف اليومية، وصار أشبه بباب الرياضة والبورصة والوفيات!
وخليل مطران كان معروفا باسم شاعر القطرين، أي: القطر المصري وقطر الشام، وبعدما أصبحت الشام أقطارا أطلق عليه اسم شاعر الأقطار العربية.
وهو في رأيي، أستاذ المدرسة الحديثة في الشعر العربي، فقد كان الشعر قبله ألفاظا ومعاني، فجاء مطران ونظم قصائد كل منها تمثل بناء قائما بذاته، أو كائنا حيا له رأس وقدمان ويدان ولسان، وفكر وشعور وهدف!
وقد بدأ محاولاته الشعرية الأصيلة في أواخر القرن الماضي.
وفضل مطران على الشعر العربي من الناحية الفنية، لا يقل عن فضل محمود سامي البارودي من الناحية اللفظية.
ولقد نشأ شعراء كثيرون بعد مطران، وربما تفوق عليه شاعر أو أكثر، ولكنه تفوق التلميذ على الأستاذ.
ولقد شهد مطران تكريم الأدب له في أخريات حياته، فقد تألفت في عام 1944 لجنة ضمت أدباء العروبة وعلماءها وفلاسفتها، وكان اسمها لجنة تكريم خليل مطران، وقامت اللجنة بطبع ديوانه في أربعة أجزاء كبيرة، وأقامت حفلة في دار الأوبرا تكلم فيها عشرون شاعرا وخطيبا، وحضرها الساسة والوزراء وأساتذة الجامعات، وقام خليل مطران وألقى أبياتا بصوت ضعيف خافت عبر فيها عن شكره، وبعد عام على ما أذكر، سكت هذا الطود ليدوي دائما في تاريخ الشعر العربي الحديث.
المازني الساخر
اختفى من دنيانا إبراهيم عبد القادر المازني، مات في المستشفى وكان قد دخله لإجراء عملية جراحية بسيطة، قبل وفاته بساعتين كتب مقالا «لأخبار اليوم» وكان أحد كتابها.
وهكذا انتهت حياة المازني كما بدأت؛ كفاحا وكدحا وعملا وإنتاجا وتأملا وتفكيرا، واضطلاعا بالمسئولية من أول رمق إلى آخر رمق، فقد واجه المازني أعباء الحياة وهو طفل صغير؛ مات أبوه وهو في السادسة من عمره، وتولت والدته تربيته، وأدرك في طفولته ما تعانيه أمه في سبيله، فتحمل معها المسئولية بقوة وشجاعة، فكان لا يكلفها شيئا فوق طاقتها، تعطيه مصروفه اليومي فيأخذه ثم يرده إليها كاملا في نهاية الأسبوع، تقدم له كل يوم ثلاث وجبات من الطعام فيكتفي بوجبتين فقط، تشترى له بدلتين فيستعمل بدلة واحدة، فلما كبر وأصبح قادرا على الكسب، حمل أمه فوق كتفيه وأكرمها، وكان رب أسرة ممتازا، فهو يعيش لأبنائه وزوجته، يشقى ليسعدهم، ويتعب ليريحهم، وقد عانى في حياته إرهاقا كثيرا، تخرج في مدرسة المعلمين العليا عام 1909، واشتغل بالتدريس في وزارة المعارف، واستقال ليشتغل في المدرسة الإعدادية وهي مدرسة أهلية، وكان يدرس معه الأستاذان عباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات، ثم ترك مهنة التدريس واشتغل بالصحافة، وقد عمل مع أمين الرافعي في الأخبار، ومع عبد القادر حمزة في البلاغ، ورأس تحرير جريدة الاتحاد، واشتغل في صحف دار أخبار اليوم.
والمازني كاتب كبير صاحب أسلوب فذ في الكتابة والنقد.
وقد كان برغم عنفه في مهاجمة خصومه ودفع عداونهم عليه، مهذب اللفظ، عفا، مؤدبا ينأى عن الصغائر، ويترفع عن التجريح، وكان يحمل في رأسه عقل فيلسوف، ويحمل في ضلوعه قلب فنان، وكان شجاعا في إبداء رأيه، وفي العدول عن هذا الرأي، إذا ما تبين أنه كان مخطئا؛ هاجم شوقي الشاعر ووصفه بأنه قطعة متلكئة من قديم الزمن، فلما مات شوقي وقال إنه ظلمه حين جرده من مكانته، ووصفه بأنه شاعر عظيم، وأن فقده خسارة لا تعوض.
وقد كان المازني على حبه للحياة، يسخر منها ولا يباليها، ويراها ثوبا يجدر بالأحياء أن يخلعوه، وقد عبر عن هذا الشعور في كتابه حصاد الهشيم، فهو يقول:
إن الحياة شيء حسن، له فضله ومزيته، ولكنه على ذلك ثوب يحسن أن يخلعه المرء، إذا شاء أن يفوز بحقه!
أغاني أم كلثوم وأغاني عبد الوهاب
قال لي أستاذ جليل إنه شديد الإعجاب بأم كلثوم وعبد الوهاب، وإنه قد استمع أخيرا لأغنية عبد الوهاب:
الكأس بين إيدي
والشوق بين عيني
وأنت فين عيونك يا حبيبي
واستمع لأغنية أم كلثوم:
وقى الأرض شر مقاديره
لطيف السماء ورحمانها
فتمنى لو أن عبد الوهاب هو الذي طلب إلى لطيف السماء ورحمانها، أن يقي الأرض شر مقاديره، وتمنى لو أن الكأس كانت بين يدي أم كلثوم، والشوق بين عينيها، وأنها هي التي تتساءل: فين عيونك يا حبيبي!
ومضى الأستاذ الجليل يقول: لقد لاحظت أن بعض أغاني أم كلثوم فيها رجولة عبد الوهاب، وأن بعض أغاني عبد الوهاب فيها رقة أم كلثوم، وكنت أتمنى أن تعبر أم كلثوم عن طبيعتها، وأن يعبر عبد الوهاب عن طبيعته!
قلت إن سر ذلك يرجع إلى أن عبد الوهاب وأم كلثوم ظلا فترة طويلة يتنافسان على عرش الغناء، وكان كل منهما يحاول أن يجذب إليه جمهور الآخر، فغنت أم كلثوم للجنس الخشن، وغنى عبد الوهاب للجنس الناعم!
قال الأستاذ الجليل: إن الفن الصحيح هو التعبير عن الحياة، وإن عبد الوهاب أو أم كلثوم لا ينقصه التعبير، ولكن ينقصه إحداث انقلاب كبير، انقلاب تنساب فيه أغاني عبد الوهاب من شفتي أم كلثوم، وتنطلق أغاني أم كلثوم من فم عبد الوهاب!
من هو ولي عهد شوقي
ظهر في لبنان ديوان شعر باسم «دفتر الغزل» للشاعر أمين نخلة، وقد سجل الشاعر في دفتره أبياتا لأحمد شوقي، نظمها عندما زار لبنان قبيل وفاته، وقال فيها عن الشاعر أمين نخلة:
هذا ولي لعهدي
وقيم الشعر بعدي
فكل من قال شعرا
في الناس عبد لعبدي
وقد قرأت في مجلة الآداب اللبنانية مقالا طريفا بقلم مارون عبود، نقد فيه دفتر الغزل وحلله، وداعب الشاعر برأيه فيه، فقال إنه «شاعر كبير وكاتب كبير!» واتهمه بالاعتماد على الدعاية في ترويج بضاعته، ودلل على ذلك بأنه قدم ديوانه بأبيات شوقي، التي أعلن فيها أن نخلة أمير الشعر بعده، وبأبيات أخرى لشاعر يوناني اسمه «بابادي باناتوس»، أثنى فيها على شاعرية أمين نخلة، وقد أطلق نخلة على باناتوس هذا لقب شاعر اليونان!
وقد تساءل مارون عبود: «ترى من قال لشوقي إننا نعترف بولايته حتى ينصب ولي عهد؟ فكل شيء يورث إلا العلم، ومتى كان الشعر وقف ذرية حتى نجعل له قيما؟»
إنني متفق مع الأستاذ عبود في أن العلوم والفنون لا تورث، وفي رأيي أنه لا يصح أن يكون للشعر أمير أو ملك، ولكن هذا لا ينفي حقيقتين، إحداهما أن شوقي كان شاعرا عظيما، وأن محاولاته في الشعر التمثيلي ارتفعت به إلى القمة والصدارة في تاريخ الشعر العربي، أما الحقيقة الأخرى فهي أن شعراء العرب في عهد شوقي اعترفوا بإمارته للشعر، بل إنهم بايعوه فكان في وقت واحد ملكا ورئيس جمهورية!
وقد تمت هذه المبايعة في مهرجان أقيم بالقاهرة عام 1926، واشترك فيه شعراء لبنان والعراق وسوريا وفلسطين والحجاز واليمن، وقال حافظ إبراهيم يخاطب شوقي:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ولكن هذه المبايعة وما أحيطت بها من ضجة وبهرج، لم تمنع كثيرين من استنكارها مع اعترافهم بمكانة شوقي وشاعريته الفذة، وقد أعدت جريدة السياسة الأسبوعية عددا خاصا عن شوقي، امتلأت صفحاته بحملات شديدة تناولت شعر شوقي، وتصرفاته، وأخلاقه، وصدر العدد الممتاز في أيام المهرجان!
وغضب الشاعر محمد الهراوي؛ لأن لجنة المهرجان تجاهلته ولم تدعه لإلقاء قصيدة، وكان من المعجبين بشوقي، فثار عليه ونظم أبياتا قال فيها:
هو في أعينكم
ملك لعله
وهي جمهورية
لا ترى محله
ليس منا شاعر
لم يكن أجله
غير أنا معشر
ليس يرضى ذله
كيف نلقي هامنا
حيث يلقي نعله
وهكذا تمت مبايعة شوقي أميرا للشعراء أو ملكا أو رئيس جمهورية في جو مشحون بالحب والبغضاء، والرضا والغضب.
وقد فرح شوقي بهذه المبايعة، فمن عيوبه أنه كان مولعا بالقشور، يحب الثناء ويخاف من النقد، ويستهويه إطراء شعره، وتلقيبه بأمير الشعراء، ومناداته بيا «باشا»!
وهي عيوب بيضاء، قد تنال منه كإنسان، ولكنها لن تنال منه كشاعر عظيم عبقري!
أما أبياته التي قال فيها عن أمين نخلة: هذا ولي لعهدي، فيخيل لي أنه أراد أن يداعب بها أمين نخلة، ومن يدري لعل أمين نخلة هو الذي أراد أن يداعب القراء!
البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
البلبل الصغير!
هكذا كانوا يسمونه منذ ثلاثين عاما، وقد ظل خمس سنوات يحمل لقب بلبل، ثم لقب بلبل صغير ثم لقب مطرب الملوك والأمراء، وأخيرا تنازل عن جميع هذه الألقاب، واحتفظ منها بلقب واحد، هو لقب الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب!
لمع نجم عبد الوهاب لأول مرة خلال الفترة بين عامي 1921 و1926، وكان شوقي قد سمعه فأعجب به وتحمس له، وأخذ يمهد له طريق المجد، فلا يمر يوم دون أن يطالع القراء صورته في المجلات الفنية والأدبية مقترنة بكلمة أو مقال أو قصيدة في التغني بصوته، والإشادة بموسيقاه.
وكان شوقي يتراءى من خلال ما تكتبه الصحف عن عبد الوهاب، فقد أعجب بعبد الوهاب، وشغف بصوته حبا، وكانت المعركة على أشدها بين شوقي وخصومه، وظهر في ذلك الحين كتاب الديوان للكاتبين الكبيرين العقاد والمازني، وقد تناول هذا الكتاب شعر شوقي وشخصه وتاريخه وحياته بالهجوم والنقد والتجريح، وانقسمت الصحف إلى معسكرين؛ أحدهما يدافع عن شوقي ويهاجم العقاد والمازني، والآخر يهاجم شوقي ويشيد بأدب العقاد والمازني.
وكان أنصار شوقي يتعصبون له ضد خصومه، فكل ما يصدر عن خصومه سخيف حقير مبتذل سواء كان أدبا أو فنا أو مذهبا سياسيا؛ وكان خصومه يتعصبون ضده، فالحسن عنده قبيح عندهم، وما يراه صوابا يرونه خطأ ، والبلبل الصغير ليس إلا غرابا!
وأخذ المازني - رحمه الله - يهاجم عبد الوهاب في جلساته الخاصة، ويقول إن صدر عبد الوهاب ضيق، فهو لا يصلح أن يكون مغنيا ولكن يصلح أن يكون مريضا!
وكان المازني لم يسمع عبد الوهاب بعد، ورأى أحد أصدقاء عبد الوهاب أن يحميه من هجوم المازني عليه، فأقام حفلة في داره دعا إليها المازني والعقاد، وغنى عبد الوهاب في الحفلة، وأبدى العقاد إعجابه بصوت عبد الوهاب، وقال إنه لا عيب فيه إلا إعجاب شوقي به! ولما سئل عن رأيه في عبد الوهاب قال: صوته قوي عذب جذاب، واستعداده الفني عظيم، وقيل له: هل تمنعك خصومتك لشوقي من أن تقول كلمة عن عبد الوهاب؟
فقال: كلا، وسأنظم قصيدة.
ونظم أبياتا قال فيها:
إيه عبد الوهاب إنك شاد
يطرب السمع والحجا والفؤادا
وقد سمعناك ليلة فعلمنا
كيف يهوى المعذبون السهادا
ونفينا الرقاد عنا؛ لأنا
قد حلمنا وما غشينا الرقادا
بارك الله في حياتك للفن
وأبقاك للمحبين زادا
وكتب المازني يصف الليلة التي غنى فيها عبد الوهاب، فقال:
ومن أمتع ما مر بي في هذه الحياة - التي لا أراها ممتعة، ولا أحب أن تطول أو تتكرر - ليلة قضيتها بين شراب وسماع، فأما الشراب فلعل القارئ أدرى به! وأما السماع فقل من شجي به، كما شجيت في تلك الليلة، إي والله، وما زلت إلى الساعة - كلما خلوت بنفسي - أغمض عيني وأتسمع، وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع، الذي هاجني إلى ما بي كما لم يهجني صوت سواه، وقد أعجب لما يصب في الأذن أين يذهب؟ وربما أثارني هذا العجز عن إحياء صوت أكثر من تصوره في ضمير الفؤاد، وقد أغالي في إكبار هذه الثروة الصوتية، وأتمنى لو رزقت شيئا منها بكل مالي - لو أن لي شيئا! - ثم أعود فأسخر من نفسي، وأضحك من أمنية يستخفني إلى إنشائها الطرب العارض.
ثم أسخر من سخري وأقول لنفسي في حدة: أولا يسر الإسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلي عن نصف ما أحرزوا من مجد ، لو أنه وسعني أن أخول كلا منهم ليلة واحدة كهذه الليلة التي نعمت فيها!
كأني لم أكن أسمع بل أسقى من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغا من شجا القلوب، بل من شعاع العقول.
وهكذا أمتعنا عبد الوهاب بغبطته في ليلة كانت كلها سحرا، وردني بعدها بغير ذي أذن إلى كل نغمة من سواه، وغير ذي صور إلا إلى فتنة من هوى فنه وشجاه، ولولا أن يعد ذلك جحودا ولؤما لتجاوزت عن ذكر اسمه، فإنه أحلى عندي وأوقع في نفسي أن أجرد غناءه من صورته الآدمية على حسها النرجسي، وأن أتصوره أبدا هوى سابحا، وروحا هائما، وصوتا صافيا.
هذا بعض ما كتبه المازني عن عبد الوهاب.
وقد فرح شوقي بما نظمه العقاد في عبد الوهاب، وما كتبه المازني عن عبد الوهاب، واعتبر ذلك نصرا شخصيا له، فقد كان حبه لعبد الوهاب عنيفا جارفا.
وكان عبد الوهاب عاطفة في قلبه، وفكرة في رأسه، ونورا في عينيه.
ولكن بعض أصدقاء شوقي أفهموه أن كتابة المازني والعقاد عن عبد الوهاب ستجعله ينضم إليهما، وأفهموه أن بلبله الصغير قد بنى له عشا في قلب المازني وقلب العقاد، واقتنع شوقي بذلك، وإذا به يسلط بعض الصحف على العقاد والمازني؛ لتجامعهما في موضوع عبد الوهاب بالذات، فكتب المرحوم حسين شفيق المصري مقالا نقد فيه قصيدة العقاد، وقال: هل أراد العقاد أن يمدح عبد الوهاب أو أراد أن يذمه؟ إنه يقول:
قد سمعناك ليلة فعلمنا
كيف يهوى المعذبون السهادا
إذن لم تكن ليلة طرب بل كانت ليلة شقاء، إن عبد الوهاب لم يشج الشاعر ولكن أشقاه، وسامه سوء العذاب!
وكيف يتفق هذا الشقاء والعذاب، مع وصف الشاعر للمغني بأنه أطرب السمع والحجا والفؤاد؟
وكتبت جريدة الكشكول كلمة تحت عنوان «هجاء في مدح»، قالت فيها:
سأل أعرابي أحد المغنين ما الغناء؟ فأراد المغني أن يري الأعرابي كيف يكون الغناء، فأخذ يتغنى بأبيات من الشعر، ويهتز، ويلقي برأسه إلى الوراء، ثم يعتدل، ويتجعد وجهه، وتلعب عيناه ، فقال له الأعرابي: «والله يا أخي ما يفعل بنفسه هكذا عاقل!»
وقد صدق، ولم نر من استملح هذه البشاعة من المغنين غير المازني، فقد كتب فصلا عن المغني النابغة محمد أفندي عبد الوهاب، قال فيه إنه إذا تناول العود وأصلحه واستعد للضرب عليه، يرفع رأسه حتى يكاد يمس به ظهر الكرسي، ويرسل طرفه إلى الفضاء، وتلك أوصاف مفتراة، ظنها المازني مما يحمد من المغنين، فوصف بها عبد الوهاب، وعبد الوهاب براء منها!
ثم قالت:
ولا نرى المازني أخزاه الله يصف مغنيا، ولكنه يصف قردا، وخيل إليه أنه يمدح وهو يهجو، ولا شأن لنا به.
فلينظر عبد الوهاب كيف جزاء من يطرب الحمقى والجهال، فلا يكافئونه إلا بإلحاقه بالقرود.
ولما ظهر الكشكول وفيه هذه الكلمة، أخذ شوقي يبدي إعجابه بالكاتب متسائلا: يا ترى من يكون؟ إنه ليس أديبا فقط، ولكنه أديب وموسيقي ويفهم في علم النفس. وكان يقول هذه الكلمات على مسمع من عبد الوهاب.
كان كاتب هذه الكلمة هو شوقي نفسه، وقد نشرها غفلا من الإمضاء!
وقد نجح شوقي في إقصاء عبد الوهاب عن العقاد والمازني، وظل المازني حانقا على عبد الوهاب إلى قبيل وفاته بسنتين.
أما العقاد فقد نشر قصيدته عن عبد الوهاب في البلاغ، ولما تغير رأيه في عبد الوهاب رفض تسجيل القصيدة في أي ديوان من دواوين شعره.
شوقي وخصومه
في عام 1932، رحل شوقي من ضفة الحياة إلى الضفة الأخرى، ضفة الغيب والمجهول، وقد كان شوقي شديد الفزع من هذه الرحلة، يتمنى لو عرف ما وراءها، كما لو كان شيئا ماديا يراه بعينه، ويلمسه بيده!
فهو يسأل إسماعيل صبري عن الموت:
قل لي - بسابقة الوداد - أقاتل
هو حين ينزل بالفتى أم شافي
ويقول في رثائه لسعد زغلول:
عرف الضفة إلا ما تلاها!
وقد بلغ من فزع شوقي من الموت، أنه كان يطمئن إلى الضجة ويجفل من الهدوء، يحب الشوارع الصاخبة، والأنوار الصاخبة، والأصوات الصاخبة، وكان حريصا على إحاطة اسمه بالضجة والصخب، ضجة المدح، وصخب الثناء، وكان برغم إيمانه بنفسه ، وإدراكه لقيمته الفنية، يتألم من النقد، ويخاف من النقاد، ولقد هاجمه كثيرون من الأدباء والنقاد والكتاب والساسة هجوما عنيفا، فلم يرد عليهم بكلمة صريحة، واكتفى بغمزهم تلميحا في القصائد التي يقولها في مناسبات لا تمت إلى موضوع نقده بصلة من الصلات.
وعندما أصدر الأستاذان العقاد والمازني كتاب الديوان، وهجما فيه على شوقي هجوما قويا جارحا، انبرى بعض الكتاب للرد عليهما، وكان - رحمه الله - يغذي هؤلاء الكتاب بآرائه وأفكاره، وكان حريصا على ألا يظهر معهم في مكان عام، حتى لا يقال إنهم دافعوا عنه بإيعاز منه، وحدث في ذلك الوقت أن وصلت إلى مصر أم المحسنين، والدة الخديو السابق عباس الثاني ومعها رفات ابن عباس، وكان قد مات في سويسرا ودفن هناك، وبعد مرور بضع سنوات على موته، سمح بنقل رفاته إلى مصر، وكان الملك فؤاد قد أوعز إلى حاشيته أن تعلن غضبه السامي على كل من يشترك في استقبال أم المحسنين، أو تشييع جنازة حفيدها.
واستقبلها شوقي بقصيدة قال فيها:
أقبلي كالشمس لم تجعل لها
موكبا أو تتخذ من حاشرين
أقبلي في بحرك الطامي إذا
عبث السيف بموج المحتفين
وكان ينظم القصيدة وهو يرمق خصومه بعين تتميز غيظا فقال:
لا ترومي غير شعري موكبا
إن شعري درجات الخالدين
آب من قيمتك الدهر كما
رجع النقد من الشعر الرصين
وحدث أن تألفت لجنة للاحتفال بذكرى الكاتب الصحفي الوطني أمين الرافعي، وأقيمت الحفلة في مسرح الأوبرا، وكان أعضاء اللجنة مختصمين مع شوقي، فوضعوا قصيدته في نهاية البرنامج، ولما وصلوا إليها اعتذر رئيس اللجنة عن عدم إلقائها؛ نظرا إلى أن الوقت المحدد للاحتفال قد انتهى، فنشر شوقي قصيدته في الصحف، وأضاف إليها هذين البيتين:
إن يفت أمس منبر القول شعري
إن لي المنبر الذي لن يزولا
جل عن منشد سوى الدهر
يلقيه على الغابرين جيلا فجيلا
ولما مات حافظ إبراهيم، حزن شوقي وتوقع أن أجله قد دنا، فقد حدث عندما مات الإمام الشيخ محمد عبده، أن وقف على قبره سبعة من الشعراء، وتنبأ أحد الأدباء بأن من وقفوا على القبر سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم، وكان شوقي قد أرسل ثلاثة أبيات لتلقى على القبر، فكانت آخر أبيات أنشدت، وكان حافظ آخر من مات منهم، فلما سمع شوقي بوفاته جزع؛ أحس أن منيته قد دنت، وسافر إلى الإسكندرية، وتبارى الكتاب والشعراء في رثاء حافظ، ولم يسمع أحد شيئا عن مرثية شوقي، فحمل عليه بعض الكتاب واتهموه بالغدر وقلة الوفاء، وقالوا إنه يحسد حافظا حيا وميتا، بعضهم كتب هذا الكلام، وبعضهم ردده في مجالسه، وقد رد شوقي عليهم في رثائه لحافظ فقال:
وددت لو أني فداك من الردى
والكاذبون المرجفون فدائي
من كل هدام ويبني مجده
بكرائم الأنقاض والأشلاء
ما حطموك وإنما بك حطموا
من ذا يحطم رفرف الجوزاء
انظر فأنت كأمس شأنك شامخ
في الشرق واسمك أرفع الأسماء
ولقد مات شوقي في نفس العام الذي مات فيه حافظ، وصحت نبوءة الأديب، وفقد الشعراء بحسب ترتيب إلقاء قصائدهم على قبر الإمام، وكان أولهم حفني ناصف وآخرهم شوقي.
يا صديق العمر تمهل
إلى أين يا صديق عمري، قف «تمهل»، لا تسرع بخطاك إلى العالم الآخر، فأنا ما زلت هنا، في الدنيا التي عشناها معا طفلين صغيرين، نسكن في حارة واحدة، ولا نكاد نفترق إلا لحظات النوم، وأوقات الدراسة.
ودارت بنا الأيام وافترقنا، سار في طريق، وسرت في طريق آخر، وكنا دائما على اتصال روحي وفكري، كانت أفكارنا تتعارض أحيانا، ولكن مشاعرنا ظلت كما هي؛ بريئة كالطفولة التي جمعتنا، حكيمة كالكهولة التي خطفه منها الموت، وتركني وحدي أبكيه، دون جدوى!
فلن يعود يوسف حلمي إلى الحياة بعدما فارقها، ولو ذبحنا قلوبنا أسى عليه.
ولكن كم من يوم طواه الزمن، وظل عالقا بأذهاننا، نابضا في ذاكراتنا؛ لأن عظمته تتحدى الزمن والنسيان.
إن الأحياء كالأيام، إذا مضى يوم فلن يعود، وإذا مات إنسان فلن نجده إلا إذا وصلنا نحن إليه.
وكم من أصدقاء فقدناهم، وما زلنا نعيش معهم بالذكرى والحسرة، ويوسف حلمي واحد من هؤلاء، لا بالنسبة لي كصديق عرفته منذ سبعة وأربعين عاما، ولكن بالنسبة إلى كثير ممن عرفوا يوسف صديقا ومناضلا وعبقريا.
فيوسف حلمي المحامي الذي نعته الصحف، كان كاتبا يعالج الموضوعات السياسية والفنية، وكان قصاصا أضاف إلى المكتبة العربية مجموعة من القصص الصغيرة، أصدرها من نحو ثلاثين عاما، وكان أول خريجي معهد التمثيل، وقد رأس جمعية أنصار السلام، وكان ينادي بالمبادئ الاشتراكية قبل قيام الثورة، ولم تشغله المهام السياسية والاجتماعية التي اضطلع بها، عن الاهتمام بفن الغناء، فعمل على إنشاء جمعية أصدقاء سيد درويش، فقد كان مؤمنا بأن هذا الفنان هو أول من استمد إلهامه من الشعب، من طبقاته الكادحة من فئاته المظلومة، من أحداثه الكبرى، من نيله وريفه، وتراثه الحضاري، وأنه الرجل الذي نقل الأغنية من التخت إلى المسرح، ولم يجعلها احتكارا لحناجر المطربين، بل جعل الشعب كله يسمع ويغني، كانت الأغاني فردية فصارت جماعية.
وكان في جميع تصرفاته، يعمل بإيمان وقدرة، وكم اختلفت معه في رأي أو فكرة، ولكن منطقه في تسويغ آرائه وأفكاره كان يقنعني دائما بأن يوسف حلمي يقول كل ما يعتقده، ويعتقد كل ما يقوله. •••
وزاملت يوسف حلمي ونحن في مرحلة الانتقال إلى الصبا، في ممارسة هواياتنا الفنية، فألفنا جمعية للأدب والتمثيل، وكان بين أعضاء هذه الجمعية أحمد حسين المحامي، ومحمود المليجي الممثل، ومحمد نزيه الصحفي، وكان للجمعية أصدقاء كثيرون ممن يقيمون خارج القاهرة، ومن بينهم الوزير السابق فتحي رضوان.
وكان يوسف يتميز بالجدية والصلابة والرقة أيضا، لم يكن يتساهل فيما يؤمن بأنه حق، ويدافع عن إيمانه بالكلمة الصريحة والابتسامة الحلوة، ويستعمل عضلاته عند الاقتضاء، فقد كان قوي البنية، شجاعا، يفيض صحة وشبابا وحيوية.
وظل كذلك إلى بضع سنوات مضت، ثم داهمه المرض الخطير الذي عجز العلم عن أن يجد له دواء إلا الموت، فحوله إلى شبح، ناحل، أصفر، وظل يقاوم المرض بإرادته وتشبثه بالحياة، إلى أن مات بلا رئتين، فقد أكلهما السرطان. •••
وكنت أعمل مع يوسف حلمي في جريدة روز اليوسف اليومية، وفي هذه الجريدة تجلت موهبة يوسف الصحفية؛ فكان القراء يقبلون على قراءة تعليقاته القصيرة تحت عنوان «همسة» بشغف شديد، وقد شارك في تبويب الجريدة وإخراجها، وأعطاها كل طاقته ومواهبه، وتعد هذه الجريدة إحدى الدعامات الكبرى في تفوق صحافتنا مادة وأسلوبا وإخراجا. •••
وكان يوسف حلمي المحامي نموذجا للمثالية في المحاماة، فهو لا يقبل الترافع في قضية إلا إذا اقتنع بها، وكم رفض قضايا عرض عليه أصحابها أتعابا مغرية؛ لأنه بعدما درسها تبين له أنه وهو يترافع عنها، لا يدافع عن حق ولكنه يدافع عن ظلم.
زرته في مكتبه ومعي صديق عرض عليه قضية ليترافع فيها، وأخذ القضية وأراد الصديق أن يجرحه ويدفع له مقدم الأتعاب، فرفض وقال: سنتفق على الأتعاب إذا اقتنعت بالمرافعة في القضية.
وبعد يومين قال لي صديقي إن يوسف حلمي رفض الترافع في القضية، كان يوسف في تلك الأيام يعاني أزمة مالية، ولكن أزمته لم تستطع أن تهزم ما قيد به نفسه من مبادئ. •••
وقد تزوج يوسف، ولكنه لم ينجب أولادا، وكان يقدس حياته الزوجية، وكانت زوجته ترى فيه فتى أحلامها، وحبها، وأملها، وقد شاركته في جميع أزماته، وما أكثرها!
وذات يوم كان يوسف يزور بعض أصدقائه في الريف، وأصيب بنوبة قلبية، وأتى به أصدقاؤه إلى بيته في القاهرة محمولا على أيديهم، ولم تكد زوجته تراه على هذه الصورة، حتى أصابها إغماء لم تفق منه؛ فقد ماتت!
وتحمل يوسف الصدمة بلوعة، ولم يتزعزع إيمانه بالله، وظل إلى آخر لحظة من حياته يبكي شريكة الحياة التي ماتت هلعا عليه. •••
ومنذ سنتين تحول الشاب القوي إلى حطام، فقد عانى من مرض السرطان وهو لا يدري، وكان أطباؤه يشفقون من مصارحته بمرضه القاتل، ولكنه عرف الحقيقة، وحاول أن يهزم المرض، واستفحل الداء وانتقل من رئة إلى رئة، ورغب في السفر إلى الخارج، لعله يجد هناك علاجا ينقذ به حياته التي وقفها لخدمة وطنه وإنسانيته.
ووفرت له الدولة وسائل السفر والعلاج، وقال لأطبائه: هل هناك أمل في شفائي؟ وهزوا رءوسهم، فأصر على أن يعود إلى بلاده التي استمد منها الأمل ؛ ليدفن فيها أمله!
وعاد إلى مصر جثة يهمدها المرض وتحركها الكبرياء، وعندما قرأت نبأ نعيه في الصحف، لم أستطع أن أذهب لأشيع جنازته، فقد كنت مشغولا بتشييع جنازة أخرى هي جنازتي!
يا صديق عمري إلى أين؟ تمهل، فما زال في أفكارك ومشاعرك ما تحتاج إليه الحياة.
ولكنها حكمة الله، إذا لم تستطع رءوسنا أن تفهمها، فإن رءوسنا لا تعجز عن الانحناء خشوعا لها، فلنحن جميعا رءوسنا ونخشع!
في الفن تقليد!
يبدو أن الحديث عن الشعر التقليدي، والشعر الجديد، لا يريد أن ينتهي، فما زلنا نجد كثيرا من الذين يهتمون بالحركة الفكرية، يصرون على إسباغ ميزة التجديد على بعض من ينظمون الكلمة بشكل خاص، وإطلاق صفة التقليد على من ينظمون الكلمة بشكل آخر، والشعر فن.
وليس في الفن تقليد، فالفن جديد دائما، وقد تعيش لوحة أو قصيدة أو معزوفة موسيقية مرت عليها آلاف الأعوام، في حين ماتت الأعمال التي حاول أصحابها أن يبتكروا لها قوالب وخطوطا ومناهج حديثة. ولماذا؟ هل الفن ينفر من الجديد؟ كلا ولكن الذي يحدث هو أن الداعين إلى تجديد الأساليب ليسوا فنانين، وإنما هم علماء في الفن، ويغريهم علمهم بأن يتولوا التجربة الجديدة بأنفسهم، فيخفقوا، تخفق التجربة معهم، فالفن ليس علما، ولكنه موهبة يمتد منها العلم، وكل المحاولات الناجحة في مختلف الفنون، فرضت وجودها؛ لأن وراءها فنانا، أما غير الناجحة فهي المحاولات التي قام بها علماء تعوزهم الموهبة الفنية الأصيلة.
والعملة الفنية إما أن تكون سهلة فنتداولها، أو صعبة فنشقى في الحصول عليها؛ أما إذا كانت عملة لا يتداولها أحد بسهولة أو صعوبة، فهي ليست فنا وإن ارتفعت مئات الأصوات مؤكدة أنها عملة جديدة؛ فمقياس صحة العملة أن نشتري بها شيئا، فما الذي نشتريه بالفن الصادق؟ إننا نشتري الانفعال، ورعشة المشاعر، وإغراق الذهن في التأملات، فكل ما لا يثير انفعالنا وتأملاتنا، ويهزنا من أعماقنا، ليس بفن؛ قد يكون علما، مذهبا فلسفيا، معادلة رياضية، ولا أن يكون كذلك، وإنما العيب أن يصر صاحب النظرية العلمية على أن يسمي نظريته قصيدة، أو تمثالا، أو لحنا موسيقيا.
إن الفن فعل وصوت، ولا بد لكي نوقن بالفعل من أن يكون له واقع، ولا بد لكي نوقن بالصوت من أن يكون له صدى.
والأشكال والأساليب الفنية لا يمكن أن تخضع للقواعد والمناهج، وإنما هي تنبع من ذات الفنان، فتعبر عن شخصيته.
والعمل الفني لا يعيش، إذا لم تكن له شخصية تميزه عن الأعمال الفنية الأخرى، وإن تقارب معها في اللون والنسق.
ولا ينبغي أن نقف في وجه المحاولات للتجديد في الأشكال الفنية جميعا، وعندما يوجد الفنان الذي يرسم هذه الأشكال، فإنه سيفرض وجوده بأعماله الفنية، وليس بالمذكرات التفسيرية التي يشرح بها هذه الأعمال!
الكاريكاتير علمني!
عرفت الكاريكاتير وأنا طفل صغير، عرفته في مجلة اللطائف المصورة، وكانت على ما أظن المجلة المصرية الوحيدة، التي تنشر الصور والرسوم الرمزية في ذلك الحين، وكانت تنشر فكاهات أيضا، وقد استطعت أن أفهم الصور، ولكني لم أستطع أن أفهم الرسوم، ولا أن أضحك من الفكاهات!
فهذه الرسوم أو الصور الكاريكاتيرية كانت شيئا بعيدا جدا عن فن الكاريكاتير، كانت أشبه بالوشم الذي يحفره الغجر في جباه الفلاحين وأذرعهم؛ ليجلب لهم الحظ وطول العمر، وهو يرمز إلى صور للحمام والعصافير والسمك، وقد رأيت إجراءات الوشم بعيني؛ كانت الغجرية ترسم الحمامة مثلا بالفحم فوق الصدغ أو الذراع، ثم تضع في النار مسمارا، وبعد أن يصبح المسمار قطعة من النار تغرزه في خطوط الحمامة التي رسمتها بالفحم، وتحفر الخطوط بالمسمار، ثم تغطي الحفر بسائل أخضر أو أزرق، أو سائل في لون الكوبيا!
كان كاريكاتير مجلة اللطائف المصورة مشوها مثل هذا الوشم، وكلما رأيته أحسست أن مسمار الغجرية المحمي في النار ينغرس في صدغي وذراعي!
وكانت المجلة تنشر صورها الكاريكاتيرية داخل إطار، وتضع في الإطار كلمات تشير إلى محتويات الصورة بالتفصيل، فتكتب في رسم الطربوش كلمة «طربوش»! وفي رسم الطرطور كلمة «طرطور»!
وتحت الإطار عبارات تشرح ما في الصورة من فن ونكتة، ولا فن في الصورة، ولا نكتة بطبيعة الحال ، وتستهل الشرح بكلمة اعتذار للشخص موضوع الكاريكاتير، وتؤكد أنها لا تقصد برسمه أن تهينه أو تحقره أو تثير حوله الغبار، وإنما هي مجرد دعابة بريئة!
كاريكاتور علمني!
وذات يوم وقع في يدي، لأول مرة، نسخة من مجلة الكشكول، وكان فيها صورة كاريكاتيرية على عرض صفحتين كاملتين، وكانت الصورة تمثل سعد زغلول زعيم الأمة ورئيس الوزارة، وحوله الوزراء في هيئة «زفة»، وقد ارتدى نسيم باشا السروال الإسكندراني وأخذ يرقص البلدي هو والوزراء جميعا، يتقدمهم سعد زغلول، وفي يد كل منهم آلة من آلات الموسيقى؛ فهذا يحمل الرق، وهذا يحمل النقرزان، وهذا يحمل العود، وهذا يرفع بفمه دكة في الهواء، وهذا يضع على صدره القانون أو البيانو، وهذا يتمنطق بطبلة كبيرة، وهذا ينفخ في مزماره، وهي صورة ناطقة معبرة تكاد تسمع فيها رنين الآلات، وصوت المزمار، ودق الطبول!
وكان الزعماء والحكام في نظر الناس آلهة مرهوبة، كنا نتصورهم في قمم لا تصل إليها أنفاس العباد، إلا بالهتاف والدعاء والتسبيح، ولا تصغي إليها آذان البشر إلا لتتلقى الأوامر والنواهي.
وكانت صورهم تبعث الخشية والفزع، وكانت مواكبهم تثير الخوف والتوقير.
وقد علمني هذا الكاريكاتير أن الزعماء والحكام ناس عاديون، يجوز عليهم ما يجوز على سائر الناس من نقد وتهكم وسخرية، وأنهم لا يثيرون الحب والكراهية ليس إلا، وإنما هم أيضا يثيرون الابتسام والضحك والقهقهة!
وبرغم أني كنت أحب سعد زغلول وأتحمس له، فقد أعجبت بالكاريكاتير الذي نال من هيبته، وشعرت بأنه فتح منافذ عقلي وجعل لي إدراكا ووعيا.
وقد عرفت فيما بعد أن هذا الكاريكاتير بريشة «سانتيس»، وهو فنان إسباني اسمه «جان سانتيس»، أقام في مصر فترة طويلة، واتفق مع جريدة الكشكول على أن يخصها وحدها برسومه، وكانت الكشكول لسان حال المعارضين لسعد زغلول.
وتمنيت أن أرى «سانتيس»، ولكن هذه الأمنية لم تتحقق؛ فقد مات سانتيس من أعوام قليلة مضت دون أن أراه.
البقال الرومي
ومنذ مدة ذهبت إلى مجلة «روز اليوسف» لزيارة الأستاذ التابعي، وكنت أحمل له رسالة من شخص تربطه بي وبه صلة القرابة ، ووجدت عنده بقالا روميا، وكان البقال يجلس أمام التابعي، وقد وضع كلتا يديه فوق زجاج المكتب، وكنا في أول الشهر فظننته جاء ليأخذ حساب الشهر أو يطالب بحساب الشهر، وعندما رآني رمقني بنظرة ساخرة، وتراجع بكرسيه إلى الوراء، وأطبق شفتيه على ابتسامة أو كلمة، لا أدري!
ولما انتهت مقابلتي للتابعي، زحف البقال بكرسيه إلى المكتب، استعدادا لمراجعة الحساب مع التابعي!
ودارت الأيام، واشتغلت في مجلة روز اليوسف، وكنت أرى هذا البقال داخلا من غرفة وخارجا من غرفة، وفي خطواته نشاط وضجيج، وكان دائما عاري الساعدين متجهم الوجه، رأسه أصلع ليس فيه شعر، وملامحه أيضا صلعاء، ليس فيها نبض ولا تعبير، عيناه مفتوحتان، وفمه مغلق، وأذنه مرهفة، إذا ضحك قهقه ثم زم شفتيه بسرعة، كأنما تذكر شيئا يمنعه من أن يضحك!
والتقيت بهذا البقال بعد ذلك في «آخر ساعة»، ثم في دار «أخبار اليوم»! وتعاملت معه أنا وسائر القراء، كنا نأخذ منه أجمل أصناف الضحك والسخرية والتهكم، نأخذ منه هذا الكاريكاتير النابض بالحركة، حتى ليخيل إليك أن الصور تقفز وتثب وتطير في الهواء! هذا الذي حسبته بقالا عندما رأيته أول مرة لم يكن إلا الفنان «صاروخان»!
وقد جاء مصر من سنوات طويلة، ولم يتركها يوما واحدا، وعثر عليه التابعي، ودفع به إلى طريق الكاريكاتير، فمشى فيه بخطوات عملاق، وقد ظل طيلة هذه السنوات يقدم صور ساستنا وحكامنا، ويختار لهم الملامح والقسمات التي تعبر عن فكرة الكاريكاتير؛ إن ريشة صاروخان لم تضع ملامح ساستنا وحدهم، بل وضعت كثيرا من ملامح السياسة المصرية نفسها زهاء ثلاثين عاما!
وقد حاول صاروخان طيلة هذه السنوات أن يظفر بالجنسبة المصرية، فكانت العقبات توضع في طريقه، ولم يجرؤ أحد على منحه الجنسية المصرية؛ فقد كان متهما بأنه عدو السراي، وعدو الإنجليز، وعدو الوفد، وعدو خصوم الوفد، ثم اتهم بأنه ضالع مع الشيوعيين!
وأخيرا، وفي عهد الثورة استطاع صاروخان أو الكسندر صاروخان، الشاب الأرمني أن يظفر بالجنسية المصرية، بعدما أصبح شيخا في الستين من عمره!
ابن البلد
وفي عام 1933 كنا جماعة من الشبان، نكره صدقي (باشا) ونتحمس للوفد، بكل ما فينا من تعصب واندفاع، وكان صدقي (باشا) رئيسا للوزارة، وقد استعمل في حكمه كل أساليب الضغط والتنكيل، وصب غضبه على الصحافة، فكان يغلق عشرات الصحف بجرة قلم، ويسوق أصحابها ومحرريها إلى السجون بتهمة العيب في الذات الملكية، وكان مجرد توجيه هذه التهمة إلى شخص، كفيلا بسجنه على الأقل رهن التحقيق!
وأصدر أحد الشبان الوفديين مجلة تنطق بلسان الشباب الوفدي، وكانت المجلة تحاول تقليد روز اليوسف في أسلوبها الساخر، وكان ينقصها أن تقلد صاروخان!
وفي أحد الأيام جاء صاحب امتياز المجلة إلى النادي السعدي، وهو يتهلل فرحا ومعه بضعة رسومات، وعرضها على الموجودين، فأعجبوا بها وأجمعوا على أنها مثل صور صاروخان، وقال صاحب الامتياز إن هذه الصور لشاب يقلد صاروخان أحسن تقليد، وعرفنا أن اسمه المختصر «رخا»، واسمه الكامل محمد عبد المنعم رخا، وقال إن رخا شخص موهوب، لم يضع وقته في تكملة الدراسة، واشتغل بالرسم الكاريكاتيري وظهرت صور رخا، وأعجب بها القراء، وكان هدف رخا محاكاة صاروخان، فهو ينقل الملامح كما يرسمها صاروخان، ويترسم حركة يده في الرسم والتعبير.
ورسم رخا صورة لصدقي باشا، وكتب فيها بحروف دقيقة عبارات تناولت الملك فؤاد، وثار الملك فؤاد، وقدم رخا إلى المحاكمة ودخل السجن، وأمضى فيه أربع سنوات، وكنا مشفقين عليه من أن ينسيه السجن موهبته في الرسم.
وخرج رخا من السجن، وإذا به ينسى فعلا موهبته في تقليد صاروخان! وإذا السجن الذي أنساه تقليد غيره يذكره بنفسه، فيهديه إلى موهبته الأصيلة الكامنة فيه، موهبة الفنان الخالق المبتكر، وخرج إلى الشارع فلقي ابن البلد وبنت البلد وعاش فيهما وعاشا فيه؛ فصور بنت البلد بالبرقع والملاية اللف، والجمال الذي يريد أن يقول نعم، ولا يستطيع أن يقول غير «لا»! وصور ابن البلد بجلبابه البسيط النظيف وذكائه الفطري، وكفاحه، ونبضات قلبه، وخلجات نفسه، بل استطاع أن يصور نبرة صوته، هذا الصوت المبحوح من طول ما صاح وشكا وهتف!
لقد سجن رخا في يوم 6 يونيو من عام 1932، وهو يوم ميلاده في الحياة، كما ثبتته شهادة الميلاد، وكان أيضا يوم ميلاده كفنان؛ فمنذ هذا اليوم صارت لرخا شخصيته الفنية الطاغية.
أثر الكاريكاتير في تفكير الساسة
وكان ساستنا عندما ظهر الكاريكاتير يخافون أن يمسهم، كانوا يفزعون من رؤية صورهم، وقد تناولتها الريشة بالسخرية والاستخفاف، وكان أشد هؤلاء الساسة ضيقا بالكاريكاتير مصطفى النحاس وعلي ماهر، وكان أكثرهما فهما للكاريكاتير وحبا له أحمد ماهر.
ولم أجرب بعد أثر الكاريكاتير في نفسي؛ فالصور التي رسمها لي صاروخان ورخا بعيدة عن شكلي الحقيقي، ربما كانت أجمل، ربما كانت أقبح!
عبد السميع وحده هو الذي استطاع أن يرسمني، وهو الوحيد الذي لم أتحدث عنه.
دردشة مع طه حسين
قال لي الأستاذ الدكتور طه حسين: إن أعظم ما استرعى انتباهه في أثناء رحلته إلى لبنان وسوريا، هذا النشاط الذي لا يعرف حدا، ولا يقف عند نهاية، وبخاصة في النواحي الثقافية.
وسألته: أما زلت عند رأيك أن هذا النشاط يوشك أن ينقل زعامة الأدب من القاهرة إلى بيروت أو دمشق؟
فضحك وقال: لقد كان هذا السؤال أول سؤال استقبلني في لبنان، وأول سؤال استقبلني في سوريا، وقد قلت لكل من سأل: إنني أردت بما قلته في مصر عن انتقال راية الأدب إلى اللبنانيين أو السوريين، أن أحض المصريين على أن ينشطوا ويجدوا في مجال الثقافة والمعرفة، وأنا في لبنان وفي سوريا أقول للبنانيين السوريين، إنهم إذا لم يستمروا في نشاطهم وإنتاجهم، فإن لواء الأدب لن ينتقل إلى أيديهم، وسيظل دائما في أيدي المصريين.
ويمضي الدكتور طه في حديثه ليقول: إن كل ما أقصد إليه هو التحريض على الإنتاج الأدبي، والنشاط الثقافي، وإشعال نار المنافسة بين جميع البلاد العربية، ولا يعنينا بعد ذلك أن ينتقل اللواء من القاهرة إلى لبنان أو سوريا، وإنما الذي يعنينا أن يظل لواء الأدب والثقافة مرفوعا، ويستوي في ذلك أن تحميه أيدي المصريين، أو أيدي اللبنانيين، أو أيدي السوريين، المهم أن يظل اللواء مرفوعا.
وتطرق الدكتور طه من هذا الحديث إلى التعليق على الكلمة، التي كتبها صديقنا ناصر الدين النشاشيبي في يوميات «الأخبار»، وقد وصف فيها طه حسين وهو يحاضر في لبنان، وأشار إلى ما استقبل به من مظاهر الإعجاب والحفاوة والإجلال، من الناس والأساتذة، ومن المستمعين والخطباء وقال إن طه حسين لم يجب على هذه الحفاوات كلها بحركة واحدة، ولم يشكر الذين رحبوا به أو هتفوا له أو قدموه، وذكر أن هذا ليس غريبا، وعقب النشاشيبي قائلا: «فأنا أعلم أن طه حسين يعتقد في قرارة نفسه، أنه أعظم من أن يرحب به أحد، أو يهتف له أحد، وأشهر من أن يقدم له أحد، إنه يؤمن بأن كل مديح يقال فيه إنما هو أقل من القليل، وكل ثناء يكال له إنما هو بعض الحقيقة وبعض الواجب.»
وقال لي الدكتور طه: إنني أشكر ناصر النشاشيبي على هذه الكلمات الجميلة، ولعل هذا الشكر ينفي عني اتهامه لي بأني لا أشكر المادحين! فالواقع أني عندما أسمع كلمات الثناء ينتابني خجل شديد، فلا أعرف بماذا أجيب، ولا أجد خيرا من السكوت، بل لا أستطيع إلا السكوت، وأحب أن أقول إني كلما سمعت ثناء، خيل إلي أنه ليس صحيحا، أو أنه موجه إلى غيري، فأنا حتى الآن لم أعمل شيئا يستحق الثناء والمديح.
وإني أومن كل الإيمان بقول الشاعر القديم:
وما أعجبتني قط دعوى عريضة
ولو قام في تصديقها ألف شاهد
الشاعر الطبيب
حزنت لوفاة الشاعر الطبيب الدكتور أحمد زكي أبو شادي، مات بغتة وهو أشد ما يكون حيوية ونشاطا، وقد ترك بنتين وولدا، وعددا كبيرا من دواوين الشعر باللغة العربية، ومجموعة من الشعر باللغة الإنجليزية، وبحوثا كثيرة في البكتريولوجيا والنحالة.
وقد هاجر أبو شادي إلى أمريكا هو وأسرته في عام 1949 وأقام بها، وأعلن في ثورة غضب مما لقيه في مصر، أنه لن يعود إلى بلاده، ولن يكتب حرفا باللغة العربية، ولكنه لم يكد يقيم في أمريكا، حتى استأنف نشاطه الأدبي باللغة العربية، فأعد للطبع ديوانين من الشعر هما: «الإنسان الجديد» و «النيروز الحر »، وكان قد أصدر في مصر دواوين: «أنداء الفجر»، و«الشفق الباكي»، و«الينبوع»، و«فوق العباب»، و«أطياف الربيع»، و«عودة الراعي»، و«من السماء».
ولم يستطع أبو شادي طيلة إقامته في أمريكا أن يقطع صلته بمصر، لقد عاش فيها بفكره وقلبه، وكان يحس آلامها ويعبر عنها بقصائد نشرت في الصحف، التي تصدر في أمريكا باللغة العربية، ونقلتها عنها المجلات الأدبية في مختلف بلاد العرب، ورددتها محطات الإذاعة.
وقبيل قيام الثورة المصرية، أذاع أبو شادي قصيدة في إحدى محطات الإذاعة هزأ فيها بفساد الحكم، وسخر من طغيان فاروق.
ولقد كتب أبو شادي عن سبب هجرته لمصر، فقال:
إن الرجعيين والناقمين بدءوا يعرقلون جهودي، ويسعون لمطاردتي في عملي الحكومي، وأخذ الناشرون يرضون الرجعيين بالإعراض عن نشر كتبي.
وقبل أن يهاجر أبو شادي إلى أمريكا توفيت زوجته، وكانت سيدة إنجليزية فضلى شاركته الحياة منذ عام 1922، ثم اصطدم بالمسئولين في جامعة الإسكندرية، وكان يعمل أستاذا فيها.
ولقد كانت حياة أبو شادي العلمية والأدبية صراعا عنيفا بينه وبين خصومه العديدين، بعض هؤلاء الخصوم كانوا على خلاف معه في الرأي، فحاربوه بأسلحة شريفة، وبعضهم كانوا حاقدين عليه، فاستعملوا ضده أسلحة الدس والكيد والغدر، وحاربوه في رزقه وسمعته، حتى اضطر أن يبيع مطبعته في السيدة زينب، وكان يقيم في هذه المطبعة حيث يحرر مجلة أبولو الشهرية، ومجلة «الإمام» الأسبوعية.
وقد أسس جمعية أبولو لخدمة الشعر، وأسند رياستها لأحمد شوقي، فلما مات شوقي أسند رياستها لخليل مطران، وكان أبو شادي في الواقع «دينامو» الجمعية وطاقتها الكبرى، وكان ينظم اجتماعاتها، ويتولى شئون أعضائها، وأكثرهم احتلوا مكانة مرموقة في الشعر، وأكتفي هنا بذكر أسماء من فارقونا إلى العالم الآخر، بعدما تركوا آثارا فنية باقية وهم: الدكتور ناجي، علي محمود طه، ومحمد الهمشري، وعبد الحميد الديب.
وقد باع أبو شادي كل ما كان يملكه عن أبيه المحامي محمد أبو شادي، زميل سعد زغلول في الدراسة والمحاماة؛ باع كل ما يملك وأنفقه على الكتب، والدواوين والمجلات الأدبية التي أصدرها ، وقد دخل أبو شادي عدة معارك أدبية في وقت واحد، حاربه أنصار القديم؛ لأنه كان مجددا، ولم يقف إلى جانبه أنصار الأدب الحديث، فقد كانوا شيعا مختلفة، وكان يحارب بعضهم بعضا بسبب انتساب فريق منهم إلى الوفد، وانتساب فريق آخر إلى الحزب الوطني، وانتساب فريق ثالث إلى حزب الأحرار الدستوريين! وكانت هذه الفرق كلها - قديمها وجديدها - تناصب أبو شادي العداء، وتحمل عليه حملات شعواء قاسية!
وقد هاجمه أحد الكتاب فقال: إن الأطباء يعدون أبو شادي شاعرا، والشعراء يعدونه طبيبا!
وكان - رحمه الله - يضيق بهذا الأسلوب في الهجوم.
مدارس الأدب
كانت مدارس الأدب في مصر أربعا: مدرسة القدماء ويتزعمها رجال الأزهر ودار العلوم، ومدرسة للمحدثين بزعامة شكري والعقاد والمازني، وقد انقسم ثلاثتهم؛ فاعتزل عبد الرحمن شكري الحياة العامة، واندمج العقاد في مناصرة الوفد، ووقف المازني موقف المناصر للحزب الوطني حينا، والمعادي للوفد في جميع الأحيان!
وهكذا أصبحت هذه المدرسة مدرستين أو ثلاثا!
ومدرسة أخرى للمحدثين بزعامة طه حسين وهيكل وعبد الرازق وعزمي، وهؤلاء كانوا يناصرون حزب الأحرار.
ومدرسة زكي أبو شادي وإسماعيل مظهر ومن معهما من شعراء وأدباء كانوا لا يزالون في مستهل حياتهم الأدبية.
وكان لطفي السيد وخليل مطران وشوقي يحاولون جهدهم ألا يدخلوا في هذا العراك، وكانت أفكار لطفي السيد مع طه حسين وشيعته، وكان خليل مطران مع النازعين إلى التجديد، وكان هوى شوقي مع الجميع إلا العقاد والمازني!
حرية القافية
ولقد عرفت زكي أبو شادي في عام 1932، ودعاني إلى زيارته في جمعية أبولو بحارة عمر شاه بالسيدة زينب، ونشر لي قصيدة في مجلة أبولو، وقد خالفته في آرائه، وكان يرى أن يتحرر الشعر من قيود القوافي، وكنت أرى أن القافية شيء مقدس، كان فاقها وكنت جاهلا، فقد أصبحت أميل إلى تحطيم قيود القوافي، وما هو أكثر من القوافي!
وقد حملت عليه في بعض الصحف الأدبية، وداعبته بنظم شعر على طريقته، طريقة القافية الحرة، وكان يلقاني فيعاتبني بحرارة، وكان يظنني عدوا، والواقع أني ما كرهته، ولا ناصبته العداء، ولقد أدرك حقيقة فهمي له وموقفي منه في عام 1944، وتكرر لقائي له وتبادلنا الزيارة.
ولقد كان أبو شادي صاحب آراء سديدة في الشعر، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن هذه الآراء بشعره، فقد كان برغم دعوته إلى التحرر من قيود الشعر، كثيرا ما ينظم على طريقة القدامى، ويتخذ نفس تعبيراتهم وطريقتهم، كأنما يريد أن ينفي عن نفسه تهمة العجز عن التقعر في اللغة.
وكانت موهبته سليمة، ولكنه عرضها للعطب بسبب سرعته في النظم، فليس أخطر على موهبة الشاعر من السرعة.
ولقد أصابه هذا الخطر، وأصبح ما تركه من دواوين تعد بعشرات الألوف من الصفحات، في حاجة إلى غربلة وتنقية، حتى يتميز الشعر الزائف من الشعر الصحيح.
ولقد ظل أبو شادي حتى آخر رمق من حياته يكتب، ويؤلف، ويذيع في صوت أمريكا، وتكلم في إذاعته هذه عن كتاب الشعر العربي في المهجر، الذي ألفه الأستاذ محمد عبد الغني حسن، وعتب على المؤلف أنه لم يخص الشاعر المصري - أي أبو شادي - إلا بصفحتين اثنتين، في حين أفسح الصفحات الطوال لشعراء لا يستحقون مجرد ذكر أسمائهم!
واتهم الشاعر إيليا أبو ماضي بأنه اقتبس قصيدته «لست أدري» من شاعر إنجليزي.
إن أبو شادي العالم الأديب الشاعر سيظل شيئا كثيرا، وسيبقى طويلا في تاريخنا الأدبي.
ساعات معها وأيام معه!
اتصلت بي في التليفون، ولو لم تبادر وتذكر اسمها لما تصورت أنها سيدة؛ ففي صوتها نبرة شاب وبحة صبي!
قالت إنها تحمل لي رسالة من صديق يقيم في دمشق، وسألتني كيف نتقابل لتسلمني الرسالة، وكنت قد سمعت عنها الكثير مما يغري بلقائها، فلم أتردد في أن أضع يومي كله تحت أمرها، والتقينا!
لم تكن بعيدة كل البعد عن صورتها التي ارتسمت لها في ذهني قبل أن أراها، في الخامسة والعشرين، ذكية جذابة، البديهة حاضرة والعينان في غيبوبة، لسان فصيح، وقوام أكثر فصاحة، وملامح مهذبة، وفكر سليط!
كانت في حديثها تدور حول نفسها، تتكلم عن أهلها وأصدقائها وزوجها وبنتها الوحيدة، وشعرها الذي نظمته باللغة الفرنسية، وقصتها الجديدة التي كتبتها باللغة العربية، وهي تنطق الكلمات نطقا صحيحا، وتردد الأغاني الخفيفة، وتروي شعرا جميلا لنزار قباني، والمتنبي!
وأهدت لي قصتها الجديدة «أيام معه»، وقلت لها إني سأقرأ القصة بشغف؛ فإن بطلها صديقي، ورفعت يدها في وجهي احتجاجا، وقالت: لا تظن أني أعني في قصتي فلانا.
فقلت لها: أنا لا أظن، أنا أعتقد!
وانصرفنا على أن نلتقي مرة أخرى.
وقصة «أيام معه» تقع في 400 صفحة من الحجم المتوسط، وقد طبعت بأناقة وذوق وترف، ووضعت بين دفتي غلاف يثير شهوة القراءة!
بطلة القصة فتاة تمردت على تقاليد عتيقة تسلب المرأة حقها في حرية التفكير، وحرية العاطفة، فليس للمرأة رأي تعبر عنه، ليس لها أن تحب أحدا أو يحبها أحد، وهذه التقاليد لا تغفر للمرأة أن تعرف رجلا تحبه علنا، وتغفر لها أن تزل في الخفاء؛ تطبيقا للقاعدة المعروفة: «إذا بليتم فاستتروا.»
وأحبت الفتاة كهلا في حدود الأربعين، وكانت مخطوبة لشاب جميل يحبها ولا تحبه.
الكهل موسيقي - هكذا تقول القصة - والشاب طالب جامعي.
والفتاة تشبه المؤلفة نفسها، كوليت سهيل خوري، وهي تصور نفسيتها الثائرة المتمردة، عندما أرادت أن تكمل دراستها. إن العادات الصارمة تتعقبها؛ الأسرة تقف في وجهها بالمرصاد، وهي تسأل: لماذا يرفض أبي أن أتعلم؟
كيف؟ كيف أقبل أن أعيش حياة تافهة؟
كيف أرضى أن أعيش بين أربعة جدران، أقتل طموحي بالملل، وأدفن آمالي في انتظار العريس؟
لا، أنا لم أوجد فقط لأتعلم الطهي، ثم أتزوج فأنجب أطفالا، ثم أموت.
إذا كانت هذه هي القاعدة في بلدي، فسأشذ أنا عنها، أنا لا أريد أن أتزوج!
أنا أريد أن أعيش حياتي، لا أن ترسم لي حياتي، أريد أن أحصل على شهادات عالية، أريد أن أدرس الموسيقى، أن أتعلم الغناء، أن أكتب الشعر، أن أرسم، أن أعمل، أن أشتغل، أن أسافر ... أريد، أريد، أريد!
وكم وكم يريد طموح السابعة عشرة!
وتمضي كوليت فترسم جو الأسرة، وجو المجتمع، وترصد نظرات الاتهام التي ترهقها من الناس، وبخاصة من عمها، فقد كان يعلن للجميع: إن هذه الفتاة ليست متزنة ! لماذا تنشر أشعارها في المجلات؟ وماذا تفيدها كتابة الشعر؟ إنها فتاة غريبة الأطوار، منطلقة، تصرفاتها تخلق لنا مشاكل.
ألمجرد أنني شابة، وصريحة، وأكتب الشعر، يجب أن أحاكم في هذا البلد؟
وانطلقت الفتاة كما أرادت، استقلت وحدها في سكن خاص هي وأختها الصغيرة، عرفت صديقها الفنان الكهل، أحبته، وأحبها، وكانت تعرف عنه أن قلبه أشبه بالمتحف، يضم تحفا من العشيقات، وأنه لا يحب المرأة، ولكن يحب فنه في أية امرأة.
كل امرأة جديدة نغمة يستغلها في وضع لحن جديد!
وقد أبدعت المؤلفة في رسم شخصية البطلة، وشخصية البطل، وشخصية المجتمع.
ولكن هل «أيام معه» قصة؟
ربما كانت عناصر القصة متوافرة فيها؛ الجو، والشخصية، والتحليل النفسي، والتحليل الفكري، ولكن الشخصيات ثابتة، والأفكار محددة.
إن قصة «أيام معه» أشبه بالغدير الصافي، ولا ينبغي أن تكون القصة غديرا، وإنما يجب أن تكون نهرا يجري ويتجدد، القصة حياة تنمو وتكبر، وليست مناظر محدودة ووقائع مقررة.
ما أشبه كتاب «أيام معه» بمؤلفته؛ ليس للمؤلفة كل ملامح المرأة الجميلة، ولكن فيها كل جاذبية المرأة الجميلة، وكذلك «أيام معه» ليس فيها كل ملامح القصة، ولكن فيها كل جاذبية القصة!
وأسلوب كوليت خوري مثلها، أحيانا يخلو من مساحيق الاستعارة والإغراق في التشبيه، وأحيانا تتراكم عليه المساحيق وتغدو بعض فقراته كما لو كانت معطرة!
إن كتاب «أيام معه» ليس قصة، ولكن لوحات فنية، أشبه بالاعترافات، وقد استطاعت كوليت خوري أن تعترف بصدق، وحرارة، وأنوثة!
الفن والتعايش السلمي
اتجاهات غنائية متناقضة، جديد وقديم، ألحان سريعة متلاحقة، نغمات بطيئة مسترخية، أصوات ترتفع فوق الموسيقى، موسيقى ترتفع فوق الأصوات، نبرة حماسة، ورنة مرح، رقص شرقي، ولوحات باليه، أذواق متعددة مختلفة!
كانت هذه هي السمات الفنية لحفلة الجمهورية، التي أقامتها في سينما ريفولي اليوم، وهي الحفلة المخصص إيرادها لطلبة الجامعات، وساهم فيها كل الفنانين، وقد لقوا جميعا، على اختلاف نزعاتهم وألوانهم، إعجابا جارفا من الجمهور.
كانت النغمة الشرقية تعيش في أذواقنا مع اللحن الأجنبي في مساواة وحسن جوار، كانت الرقصة الشرقية تشيع في نفوسنا نفس المتعة التي أشاعتها لوحات الباليه، الليالي والمواويل عبرت عن كل المعاني التي عبرت عنها الأناشيد والمقطوعات الغنائية والموسيقى المجردة من الكلمات، هكذا عاشت أذواق الفنانين، وأذواق الجماهير في سلام.
إن التعايش السلمي يتحقق بين العائشين المتعددين إذا كان هدفهم واحدا، وقد كان هدف الفنانين - على تباين أذواقهم - أن يقفوا بجوار الطالب الجامعي الذي يريد ولا يستطيع!
وقد حققوا الهدف الواحد بالوسائل المختلفة، وحققوا فكرة الملاءمة بين الاتجاهات الفنية، أثبتوا قدرتهم على تحقيق التعايش السلمي، والتنافس السلمي!
التشاؤم والتفاؤل
لماذا نتشاءم، ولماذا نتفاءل؟ هناك من يذهب إلى أن التشاؤم والتفاؤل لفظان مختلفان لمعنى واحد، هو الوهم؛ فالمتفائل إنسان يرى ضوءا غير موجود، والمتشائم إنسان يحاول إطفاء ذلك الضوء غير الموجود!
وهذا كلام مريح، ولكنه ليس الحقيقة؛ فنحن في حياتنا نتشاءم من ناس، وأيام، وأرقام، ونتفاءل بناس، وأيام، وأرقام.
وقد حاولت عبثا أن أتحرر من هذا الوهم، أو هذه الحقيقة، وما زلت إلى اليوم أتشاءم من الرقم الذي يلي رقم 12 في الصعود فلا أكتبه، ولا أنطقه، وفي حياتي أشخاص إذا رأيتهم واجهت يوما ضاحكا، وأشخاص إذا رأيتهم واجهت يوما عبوسا!
ولم يكن بد من أن ألقى صباح اليوم واحدا من هؤلاء!
استقبلته في البيت، واعتزمت أن أعتكف طول النهار حتى لا أتعرض لخطر مجهول، ولكني اضطررت إلى الخروج لعيادة صديق مريض لم أعلم بمرضه إلا أمس، وذهبت إلى المستشفى فعلمت أن الصديق غادره من عشرة أيام مضت فحمدت الله، وفي المساء تلقيت نعي صديقي!
وذهبت إلى دار الفقيد لأؤدي واجب العزاء، فلم أجد أحدا في الدار، وسألت الجيران عن المأتم، وقيل لي إن المأتم أقيم في البلد منذ أسبوع.
وفهمت أن ما ظننته نعيا للفقيد، لم يكن إلا شكرا من الأسرة للمعزين!
وكانت سيارة أجرة تنتظرني، فركبتها وطلبت من السائق أن ينطلق بي في شارع الهرم، فقد كنت في حاجة إلى هواء طلق، ولما وصلنا إلى نهاية الشارع، أشرت إلى السائق أن ينتظر أمام أحد المطاعم، وهناك طلبت دجاجة خالية من العظام، وأحضر لي الجرسون عظاما خالية من الدجاج، ونهضت لأدفع الحساب، فلم أجد حافظة النقود، وخرجت إلى الشارع أبحث عن السيارة فوجدتها، ولكني لم أجد فيها حافظة النقود!
وسألت السائق: هل يستطيع أن يقرضني جنيها؟ وأعطاني الجنيه، ودفعت ثمن العشاء، وركبت السيارة عائدا إلى بيتي، وقال لي السائق: هل بحثت جيدا في جيوبك عن حافظة النقود؟ ولم أجبه بشيء؛ فقد كنت واثقا من أن نقودي ضاعت في سيارته وأنه وجدها وأخذها!
ولما وقفت السيارة أمام البيت، نزل السائق من مكانه، وأدخل رأسه في الجزء الخلفي من السيارة، وأشعل عود كبريت، وفتش تحت الكنبة، فوجد حافظة النقود، فقدمها لي وهو يحمد الله. شعرت بخجل شديد؛ لأني أسأت به الظن، وأعطيته حسابه، وكافأته على أمانته بثلاثة جنيهات.
هذه المضاعفات كان يمكن أن تقع لي دون أن أرى واحدا ممن يثيرون تشاؤمي، ولكنها لم تقع إلا بعدما رأيت هذا الواحد فعلا!
إن المنطق يهزأ من المتفائلين والمتشائمين، ولكن هل نحن نسير في حياتنا بالمنطق؟
إننا نقف، ونتحرك، ونعيش بهواجس نفسية مبهمة، وقد نستطيع أن نسيطر أحيانا على هواجسنا، ولكن الهواجس تعود وتسيطر علينا في أكثر الأحيان!
Page inconnue