Chefs, artistes et littérateurs
زعماء وفنانون وأدباء
Genres
وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة مساء، فاستأذن الشيخ سيد في الانصراف، وذهب إلى مقهى في ميدان الأوبرا، ووجد الشيخ زكريا في انتظاره، فقال له: قم بنا نذهب إلى مسرح الأوبرا لنسمع أوبريت «كارمن»، ولما وصلا إلى باب المسرح وجدا المقاعد مشغولة كلها فعاد إلى المقهى، وتلفت الشيخ زكريا فوجد سيد درويش يرهف أذنه، وهو في حالة إصغاء تام.
فسأله: ماذا تصنع؟
فقال: أحاول أن أسمع، ثم قال: آه! هذه هي الموسيقى! إن الموسيقى ليست موهبة فقط، إنها موهبة وعلم، لا بد من أن أتعلم الموسيقى، سأسافر إلى إيطاليا في العام القادم، سأتلقى فن الموسيقى في بلد الموسيقى وأساتذة الموسيقى، وأخذ يبكي وينتحب.
وجذبه الشيخ زكريا من يده، وسارا معا إلى بيت في شارع محمد علي، كان يحلو للشيخ سيد درويش أن يمضي فيه سهرته.
إن سيد درويش شخصية فذة في تفكيره وشعوره والتصاقه بأرضه وتطلعه إلى التحليق في آفاق عالية سامية، إنه يبدو في تصرفاته وديعا إلى حد الضعف قاسيا إلى حد الضراوة! وهو يألف الناس بلا سبب، وينفر منهم بلا سبب! وربما كان مرجع ذلك إلى طبيعته «المينائية»، فأبناء البلاد ذات الموانئ يقيمون علاقاتهم بالناس، على أساس الشعور المفاجئ؛ لأنهم يعرفون الناس فجأة، يفاجئون بهم وهم قادمون، ويفاجئون وهم راحلون.
كان سيد درويش يميل بقلبه إلى صديق لا يستحق الصداقة! ويهرب بقلبه وعقله من إنسان جدير بالصداقة! إنه في علاقاته مع الأصدقاء والصديقات لا يسير وراء المنطق ولكن يسير وراء الشعور.
ولقد خانه شعوره في صداقاته وعلاقات حبه، فكان يصادق بلا تمييز ، ويحب نساء تافهات بنهم وحرارة، حتى إنه يهبهن قلبه وفنه أيضا. ولقد انحرف بمزاجه في تيار البيئة التي كان يريح فيها تفكيره ويرهق نزوته. عرف الحشيش والكوكايين، وجميع ألوان الكحول، ولكن هذا التيار لم ينل منه كإنسان يحب وطنه، وكفنان يؤدي رسالته بفهم وإيمان.
إنه في هذا العام 1922 يرتدي البذلة كاملة، وقد علق في رقبته «بابيون»، ووضع فوق رأسه طربوشا طويلا؛ ولكي ترى سيد درويش قبل هذه السنة اخلع بذلته، واضغط قامته قليلا، ثم دعه يرتدي الجبة والقفطان والعمامة ذات الشال الأبيض الملفوف حول طربوش أحمر. لقد كان هكذا في الإسكندرية والقاهرة بضع سنوات، ولكن ماذا كان قبل ذلك؟ اخلع عنه الجبة والقفطان، ودع العمامة فوق رأسه وأبق على جلبابه الواسع، وهو طالب في المعهد الديني بالإسكندرية؛ حيث أمضى سنتين إحداهما في المسجد العباسي، والأخرى في جامع الشوربجي.
ولكن ما لنا نتراجع مع حياة الشيخ سيد إلى الوراء تراجعا متقطعا؟ لماذا لا نسير معه منذ ولادته في عام 1892، إلى أن مات في عام 1923.
تمت ولادة سيد درويش في حي كوم الدكة بالإسكندرية، وكان أبوه نجارا بسيطا، وكان برغم فقره موضع احترام أهل الحي، ومات الرجل الفقير وترك ابنه في السابعة من عمره فكفلته أمه، وكان إذ ذاك يتردد على كتاب يحفظ فيه القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة حسن حلاوة، ثم إلى مدرسة شمس المدارس، وكان بين مدرسي هاتين المدرستين الأستاذ سامي، وهو يهوى الموسيقى، فأنشأ فيهما فرقة للإنشاد، وخص الشيخ سيد برعايته بعدما أدرك مواهبه الفنية الفطرية، وتولى الشيخ سيد قيادة الفرقة عندما كان طالبا في مدرسة حسن حلاوة، وعندما صار طالبا في مدرسة شمس المدارس.
Page inconnue