سارت عجلات العربات المصفحة فوق أجساد الأطفال والقطط، نهض الأطفال من تحت العجلات، يصدون الرصاص بصدور عارية، نهضت القطط معهم تقاتل، سقطت ثم نهضت، سقطت ثم نهضت، للقطط سبعة أرواح فما بال الإنسان؟ فما بال هؤلاء الأطفال، عاشوا وماتوا وعاشوا مائة مرة، ألف مرة أصبحت الحياة عندهم كالموت، والموت كالحياة؟
كانت زينة بنت زينات تمشي بينهم، تعزف على العود وتغني، يرقد العود في حضنها كالطفل في حضن الأم، تجري أصابعها الطويلة على أوتاره بسرعة الضوء، كما كانت تجري على مفاتيح البيانو، العود أقرب إليها من البيانو، تحمله فوق صدرها، تهدهده في الليل قبل أن تنام، تخبئه تحت ضلوعها من عيون اللصوص والبوليس، يرقد في حضنها طول الليل، تلفه داخل جراب من الجلد، يحميه من البرد والحر، والتراب والحصى وقطع الزلط. يتجمع الأطفال من حولها، تدربهم على العزف، يجمعهم الرصيف وحب الغناء والموسيقى، يتبادلون العود، يعزفون بالبديهة دون ورقة ولا نوتة، يغنون للقطن حين تنفتح النوارات البيضاء، يغنون للقمح حين تلمع السنابل الذهبية تحت الشمس، ينامون فوق الأرض دون أهل، تعوضهم الموسيقي عن الأهل، تخفف عنهم الألم والحزن، ترفع روحهم إلى السماء، تلتئم الجروح في أجسادهم، يهدأ الوجع في صدورهم، ينامون على صوت الموسيقى، وصوت زينة بنت زينات، تغني لهم حتى يغلبهم النوم، في الحلم ينشدون معا أغاني الثورة:
يسقط الظلم، تحيا الحرية.
بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي.
نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل.
القمح الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك وتزيده.
فوق خشبة المسرح كانت واقفة تحت الأضواء، قبل أن تنطلق الرصاصات، المقلتان الكبيرتان قطعتان من الحجر البركاني الأزرق، شعلتان من نار سوداء زرقاء، يتغير لونها مع حركة الأرض حول الشمس، سوداوان زرقاوان بلون الأرض والبحر، يحوطهما بياض ناصع شفاف بلون الأمواج تحت الشمس، أو قمم الجبال الشاهقة وراء البحار.
مقلتان متوهجتان كبيرتان، أكبر من عمرها بمائة عام، عرفت الحياة والموت، عرفت الله والشيطان، لم تعد تخافهما. يشرق وجهها بابتسامة طفولية، تبدد الظلمة مثل أشعة الصبح، تحتضن العود فوق صدرها، أصابعها الطويلة الصلبة تجري فوق الأوتار بسرعة الكهرباء، أصابع قوية مدببة كالمسامير. لا يمكن لأحد أن يغتصبها، تغرزها في أي عنق، أصابع حديدية داست الصخر، هضمت الزلط، تدق اللحن مع الإيقاع، ترقص وتغني مع الأطفال أنشودة الأم الأولى، حين كانت طفلة:
حلم حياتي أن أبني لأمي بيتا
من الطوب الأحمر،
Page inconnue