ثمن الكتابة
الإهداء
زينة
ثمن الكتابة
الإهداء
زينة
زينة
زينة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الإهداء
إلى كل الأطفال البنات والأولاد،
الذين يولدون في الشارع،
دون أب ولا أم،
دون مدرسة ولا كنيسة ولا جامع،
دون أوراق مختومة بالنسر،
ثم يعيشون ويكبرون ويصبحون،
كواكب تقشع الظلام،
تملأ الأرض بالضوء،
وتغير العالم.
زينة
صورتها لا تغادر ذاكرتي، ملامحها محفورة في خلايا المخ، داخل عظام الرأس وسراديب العقل الباطن، تشبه صورتي في المرآة وأنا طفلة في الثامنة من عمري. كنت أمشي في الشارع حاملة حقيبة كتبي، قدماي تدبان على الأرض داخل حذاء جلدي أسود لامع، كعبه مربع متين، يدق فوق الأسفلت بانتظام وثبات وفخر؛ فأنا ابنة الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، تظهر صورته في جريدة الصباح داخل برواز مربع، فوق عموده اليومي بعنوان «أمانة العهد».
كانت في التاسعة من عمرها، ملامحها تشبه ملامحي باستثناء العينين. المقلتان الكبيرتان في عينيها، تشعان ضوءا أزرق إلى حد السواد الداكن، بلون عين الليل، تنجذب عيناي إليهما دون إرادتي، تقتحم المقلتان سطح وجهي، تنفذان مثل حد السكين إلى البؤرة الخفية، في عمق الأحشاء.
كانت تبدو أكبر مني في العمر، كأنما جاءت إلى الدنيا قبلي بمائة عام، كأنما ليس لها عمر، ليس لها أب ولا أم، ليس لها بيت ولا غرفة نوم، ليس لها شرف أو عذرية تخاف على ضياعها، ليس لها شيء تملكه أو تفقده في الدنيا أو في الآخرة.
كانت بنتا مثلي، ومثل كل البنات في المدرسة، لكن جسمها كان طويلا نحيفا صلبا كأنما غير مصنوع من اللحم، يشق الهواء وهي تمشي كالرمح، قدماها حافيتان بغير حذاء، تدوس بهما على الحصى والزلط والشوك، دون أن تشعر بألم، أو تسيل منها قطرة دم.
فوق السبورة أكتب اسمي الثلاثي بالطبشور الأبيض: «مجيدة زكريا الخرتيتي.» يرمقني المدرس بإعجاب. يقول للبنات إنني سأكون مثل أبي كاتبة كبيرة، تظهر صورتي في الصحف والمجلات، والشاشة المضيئة. يقول إن جدي الخرتيتي باشا كان زعيما وطنيا، وإن عائلتي العريقة الأصل تمتد جذورها إلى سعد زغلول، وعرابي باشا، تصل في امتدادها إلى مكة المكرمة، وقريش، والنبي رسول الله.
كان لكل تلميذة أب معروف، تكتب اسمه إلى جوار اسمها فوق السبورة، تفخر كل واحدة منهن بأبيها أو جدها، أو خالها أو عمها، أو أي رجل آخر معروف في العائلة.
إلا هي! كانت تقف عند السبورة منتصبة الرأس، يأمرها المدرس أن تكتب اسمها، تمسك إصبع الطباشير الأبيض بأطراف أناملها الحادة المدببة، يستدير جسمها لتواجه السبورة، نرى ظهرها الصلب المشدود العظام، فوق مريلتها رقعة مشغولة بخيط أسود، في قدميها صندل ليس له كعب، تكتب اسمها بحروف كبيرة متعرجة مثلنا نحن الأطفال: «زينة!»
يلسعها المدرس بالعصا الخيزران فوق ردفها من الخلف، فوق الرقعة في المريلة من قماش الدمور أو الجبردين.
اكتبي اسمك الثلاثي مثل زميلاتك.
تمسك إصبع الطبشور، وتكتب: «زينة بنت زينات!»
ثم تستدير بجسمها لتنظر إلينا، المقلتان الكبيرتان في عينيها تشعان وهجا أسود، والمدرس يشخط: «اكتبي اسم أبيك وجدك، يا حمارة!»
تتقد الشعلتان السوداوان بنار زرقاء، تلقي إصبع الطبشور إلى الأرض، تدوسه بقدميها، ثم تمشي برأسها المنتصب إلى مقعدها في الصف الأخير.
كان المدرس يعلمنا مبادئ اللغة والدين، يقول: إن الطفلة التي تحمل اسم أمها هي بنت زنى.
كان يعلمنا المفرد والجمع: «كلمة» جمعها: «كلمات»، «تحية» جمعها: «تحيات»، «زنى» جمعها: «زنات».
فوق جدران المراحيض في المدرسة أصبحنا نكتب اسمها: «زينة بنت زنات»، لكنها لم تكن تقرأ ما نكتبه، ولا تحضر إلى المدرسة كل يوم كما نفعل. كانت تأتي مرتين في الأسبوع لتحضر حصة الموسيقى يومي الثلاثاء والخميس مع أبلة مريم، ثم صدر القرار بفصلها من المدرسة. لم أعد أراها إلا صدفة في الشارع.
أبلة مريم كانت تدرسنا العزف على البيانو. تمسك أصابع زينة بنت زينات في يدها، ترفعها عاليا في الفصل؛ لنراها. تفخر أبلة مريم بأصابع زينة، تقول: إنها خلقت للموسيقى، إنها طفلة موهوبة، ليس في الفصل واحدة موهوبة مثلها. تلمع الدموع في عيني زينة، لا تسقط من عينيها دمعة واحدة، فقط تشتد اللمعة في المقلتين السوداوين حتى نظن أنها دموع، ثم تخيب ظنوننا حين تشرق عيناها بابتسامة تضيء وجهها الشاحب النحيل. يشف الضوء من تحت بشرتها السمراء الدكناء المشققة لتصبح ناعمة وردية اللون.
أرمق أصابع زينة الطويلة النحيلة الصلبة وهي تعزف، تجري أناملها القوية فوق أصابع البيانو بسرعة الضوء، ينطلق صوتها وهي تغني أنشودة الوطن. صوتي إلى جوار صوتها متحشرج مبحوح، مكتوم، ومكبوت. أصابعي إلى جوار أصابعها قصيرة سمينة ليس فيها عظام، تشبه أصابع أمي البضة البطيئة الحركة. أمي «بدور هانم» حرم الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، وهي أيضا أستاذة كبيرة تحتل مكانة أدبية مرموقة.
في الليل، كانت صورة زينة بنت زينات تظهر لي في الحلم، أراها جالسة فوق المقعد الصغير بدون ظهر تعزف على البيانو، دون أن تنظر إلى أصابعها. عيناها مرفوعتان إلى النوتة الموسيقية، تقلب الصفحة وراء الصفحة، تحفظ اللحن عن ظهر قلب، كأنما هي صاحبة الأنغام التي تعزفها، صاحبة الكلمات في الأغنية. وأصابعها تتحرك وحدها دون إرادة منها.
لم أعرف معنى كلمة «زنى» التي ينطقها المدرس بطرف لسانه، كأنما هي بصقة يلفظها من بين شفتيه، لكني تصورت أن موهبة الموسيقي لها علاقة ما بالزنا. وإلا فكيف يمكن بنت الزنا أن تتفوق علينا جميعا في الموسيقى؟!
في أعماقي كنت أحسدها، أراها تمشي في الشارع بقامتها الطويلة الصلبة. تحرك ذراعيها وساقيها بسهولة، ترقص وتغني مع أطفال الشوارع بحرية، لا تخاف أن تتأخر عن العودة إلى البيت. ليس لها بيت تعود إليه، ليس لها أم تنهرها أو أب يصفعها على وجهها إن تأخرت.
في الليل، قبل أن أسقط في النوم، كنت أسمع أبي وأمي يتشاجران. كان عمري خمسة عشر عاما، تلميذة بالمدرسة الثانوية. أسترجع كلمات المدرس حين كان يقول إنني سأصبح كاتبة كبيرة مثل أبي الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي .
أرى صورة أبي منشورة داخل البرواز، فوق وجهه ابتسامة مشرقة، لم أكن أرى هذه الإشراقة في البيت. كان أبي صامتا معظم الوقت، يعود من مكتبه في الجريدة ليدخل غرفة مكتبه في البيت. غرفة كبيرة جدرانها الأربعة تغطيها رفوف الكتب، مكتبه إلى جوار النافذة الزجاجية المطلة على النيل، من خشب الأبنوس المنقوش، تغطيه الصحف والمجلات، صورته معلقة فوق الجدار داخل برواز ذهبي، ينحني أمام رئيس الدولة يتلقى الجائزة التقديرية الكبرى في عيد الأدب والفن.
كان أبي يحذرني من الخروج إلى الشارع، كان يقول لي: إن بنات العائلات الكريمة لا يلعبن مع الأطفال في الشارع. إن جرائم الاغتصاب خطيرة، تنشر الصحف عن هذه الحوادث كل يوم، تتزايد الجرائم مع تزايد الفقر والبطالة، شباب يتخرجون من الجامعات دون عمل من دون أمل في الحصول على الطعام. فما بال الحصول على زوجة؟! يعيشون الحرمان ويغتصبون البنات في الشوارع.
كان شيء ما يجذبني إلى الشارع. داخل البيت كانت الجدران مطلية بألوان وردية زاهية، لكن الهواء كان ثقيلا، كأنما يعبئه دخان شفاف لا تراه العين، لا يشمه الأنف، أحسه يسري فوق جسدي ناعما مشبعا بالكراهية، بالصمت، بالاكتئاب والحزن الخفي.
كانت نوافذ بيتنا مغلقة دائما بالزجاج المزدوج والستائر؛ منعا لدخول التراب المتصاعد من الشوارع، وأيضا الضجيج المتزايد، الأصوات الصاخبة المتصاعدة من الميكروفونات المعلقة فوق منارات الجوامع، دقات الطبول والرقص في حفلات الزواج، والكازينوهات والكباريهات، وصفارات البوليس والحرائق.
كنت أسال أمي، وأنا طفلة: لماذا تزوجت أبي؟ ترد علي قائلة: «الحب يا مجيدة.» لم أكن أعرف بعد معنى الحب بين رجل وامرأة. أحاول في وجه أمي حين تنظر لأبي، أو في وجه أبي حين ينظر إلى أمي، أحاول أن ألتقط نظرة حب في عينيها أو عينيه دون جدوى. لم ألتقط يوما نظرة حب داخل بيتنا، حتى كبرت وعرفت أشياء لم أعرفها.
كان أبي صامتا، وإن تحدث فهو يحكي عن شيء يتعلق بعموده اليومي في الجريدة، أو رئيس التحرير، أو الوزير، أو رئيس الدولة. قد يحكي عن التظاهرات ضد الحرب خارج البلاد، أو سقوط الحكم في العراق، أو مشاكل الفقر في مصر والسودان وإثيوبيا.
كانت أمي أستاذة كبيرة مثل أبي، ربما أكبر منه قيمة؛ فهي رئيسة قسم النقد الأدبي في الجامعة، تحمل درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف. حصلت على الجائزة التقديرية الكبرى قبل أن يحصل عليها أبي، صورتها معلقة داخل برواز ذهبي في غرفة مكتبها، تنحني وهي تتسلم الجائزة من السيد رئيس الدولة في عيد الأدب والفن.
حين بلغت الخامسة عشرة من عمري بدأت أدرك شيئا خفيا في علاقة أبي وأمي، أسمعهما في الليل يتشاجران. صوتاهما يبدآن منخفضين متحشرجين بطيئين، تتزايد سرعتهما بالتدريج، قد تصاحبها أصوات أشياء تسقط على الأرض، أو صفعات على الوجه، أو ركلات بالقدم، تشتد الضربات تحت ضلوعي مع اشتداد العراك، ينكمش جسدي تحت الغطاء، أكتم أنفاسي اللاهثة، أخشى أن يسمعها أبي وأمي، يكتشفان أنني صاحية ولست نائمة.
حملت هذا العبء الثقيل في قلبي السنة، وراء السنة؛ أربعة وعشرين عاما، السر الخفي الذي لا يعرفه أحد في الوجود. لا أستطيع أن أبوح به لمخلوق، كأنما البوح به خيانة لأبي وأمي.
كان أبي وأمي يظهران أمام الناس في سعادة كاملة، يتحدثان في الصحف والإذاعات عن زواجهما السعيد، عن علاقتهما النادرة القائمة على الحب والثقافة الرفيعة.
كتمت الحقيقة في أحشائي مثل الورم الخبيث، ينمو رغم إرادتي، يضغط على خلايا روحي وعقلي في آن واحد. لجأت إلى طبيب نفسي اسمه معروف، كان زميلا لأبي في المدرسة. تصورت أنه سوف يعالجني من الاكتئاب، إلا أنه كان مثل أبي وأمي، له وجهان كل منهما يناقض الآخر، يؤلف كتبا عن خلايا المخ وعلم الأعصاب في علاقته بالعقل والنفس، يعاني الازدواجية والاكتئاب، يعالجني بالأقراص أحيانا، وأحيانا بشيء آخر.
تخرجت في كلية الآداب بدرجة «مقبول». لم أحب الأدب ولا الكتابة، كنت أفضل الحساب والأرقام، لا أميل إلى ما يسمونه الخيال الأدبي؛ ربما انتقاما من أبي وأمي. والمدرس الذي تنبأ بأنني سوف أكون كاتبة كبيرة، منذ الطفولة كرهت هذا المدرس، أردت أن أكذب نبوءته. كنت أحب الموسيقى والرقص والغناء، لكن أصابعي القصيرة كانت عاجزة عن العزف، تشبه أصابع أمي. جسمي قصير سمين يشبه جسم أمي، أبي كان قصير القامة مثل أمي، لكنه كان نحيفا. يذهب إلى النادي ليلعب الجولف، أراه من بعيد وهو يمشي، صغير الحجم، رأسه صغير مثلث الشكل، ذقنه مدبب تحت شفتين ممتلئتين، الشفة العليا أكثر امتلاء من الشفة السفلى، يمط شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، أو حين يرى أمي من الخلف وهي تمشي.
في الحلم وأنا غائبة في النوم، تتراءى لي صورة زينة بنت زينات. لم تفارقني صورتها منذ الطفولة، كنت أتمنى أن أكون مثلها، وإن قالوا عني: بنت زنى.
كانوا يسمونها البطة. تنتعل حذاء له كعب عال رفيع مدبب، تدب به في ممرات الجامعة، حتى تصل إلى مكتبها الكبير بجوار مكتب العميد، تلهث قليلا وهي تمشي حاملة جسمها السمين القصير، تتأرجح قليلا فوق كعبيها الرفيعين، عنقها قصير ممتلئ باللحم، يحمل رأسها الصغير المربع، يحوطه شعر أسود قصير خفيف إلى حد ما، تتخلله بضع شعرات بيض، تختفي سريعا تحت صبغة الشعر المتقنة، ترتدي تايير أزرق له كولة بيضاء، تشبه كولة البنات البيضاء قبل أن يتزوجن أو يفقدن العذرية.
كانت في منتصف العمر قبل بلوغ ما يسمونه سن اليأس، تصغر زوجها زكريا الخرتيتي بتسعة أعوام، لكنه يبدو أصغر منها بعام أو عامين، ربما لأنه رجل وليس امرأة ينقضي عمرها بسرعة أكثر؛ ليس في جسمه شيء يدل على العذرية، لا يبلغ سن الحيض، ثم انقطاع الحيض، إلى سن اليأس والشيخوخة، لا يحمل ولا يلد، ولا يحمل عبء البيت والأطفال والسمعة السيئة. لا شيء يعيب الرجل إلا فراغ جيبه من المال، وإن عاشر نساء الليل في بيوت البغاء.
منذ طفولتها حرصت بدور على سمعتها، كان عليها تحمل شرف العائلة الكبيرة على كاهلها، شرف أبيها اللواء أحمد الدامهيري. كان ضابطا في الجيش حين قامت الثورة، لم يكن ضمن القادة الكبار، تربطه بأحدهم صلة دم أو رحم، حصل على منصب مدير عام أو أمين عام مؤسسة الثقافة الجديدة. في سنين المراهقة كان يقرأ روايات الحب العذري، يرى صورته في المرآة تشبه البطل في قصة روميو وجولييت، كتب قصيدة حب لابنة الجيران. في أحلامه يرى نفسه شاعرا معروفا أو روائيا مرموقا، تسربت بعض أحلامه إلى ابنته بدور وهي طفلة، كانت تقرأ الكتب في مكتبة أبيها، يخفق قلبها تحت ضلوعها وهي تقرأ في سريرها قبل النوم، يراودها فتى أحلامها في الليل، يمارس معها الحب حتى تبلغ الذروة، ينتفض جسدها النائم تحت الغطاء باللذة الآثمة، تصحو في الصباح متوردة الخدين متورمة العينين، تغسل جسمها في الحمام بالماء الساخن والصابون، يتطهر الجسد من الدنس، لكن القلب يظل ثقيلا بالإثم.
ثم جاء حريق القاهرة قبل قيام الثورة بستة شهور، كانت بدور أحمد الدامهيري قد حصلت على الليسانس في الآداب والنقد. ينتفض جسدها باللذة حين ترن في أذنها كلمة الليسانس، تشبه لذة الجنس، الانتفاضة ذاتها، تشمل كيانها كله، الجسد والعقل والروح، يذوب الثلاثة في لذة واحدة جامحة، يهتز جسدها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تكاد تقفز في الهواء، ترقص، تغني، تطير لولا جاذبية الأرض، تشدها الأرض بقوى أكبر من قوتها، تثبت قدميها في الأرض وينحبس صوتها، يرى أبوها الدموع في عينيها، يظنها دموع الفرح بشهادة الليسانس، لا يعرف الأب شيئا عن حقيقة ابنته.
في أعماقها كانت بدور تشعر بالحزن، خاصة في لحظة الفرح، ربما هو جسدها القصير القامة السمين، أو عيناها الضيقتان الخاليتان من البريق، أو عقلها المكبوت رغم حصولها على الليسانس، أو روحها الحبيسة داخل زنزانة الأدب.
لم تكن تفك قيودها إلا في النوم، حين ينام عقلها وروحها وجسدها، حين ينام أبوها وأمها وكل الناس، حين يغلق الله عينه الساهرة التي لا تنام، حين يذوب الكل في الظلام، تصحو خلية خفية في عمق الأحشاء الدفينة، تتشمم الحب، ولذة الجنس الآثمة.
قبل الحريق كانت هناك المظاهرة الكبيرة، تسرب حب الوطن من الأب إلى ابنته بدور. كان يقرأ عليها أبيات شعر ركيكة، يلقيها على زملائه في الجيش، يتغنى بالموت فداء للوطن، بشرط ألا يكون هو الميت، أو ابنته من صلبه، كان شديد التأكد من حبه للوطن، شديد التأكد أن ابنته بدور جاءت من صلبه، ليس من صلب رجل آخر، شديد الإيمان بوجود الله والملائكة واليوم الآخر وإبليس.
تسرب كل ذلك إلى ابنته بدور منذ الطفولة، في المدرسة تغني مع البنات أناشيد الوطن، في السابعة من عمرها بدأت تصلي خمس مرات في اليوم، تصوم شهر رمضان، تطرد فتى الأحلام من النوم واليقظة.
نجحت بدور في السيطرة على عقلها الباطن الذي يصحو في النوم، استطاعت أن تفرض عليه النوم، تفوقت بدور على أبيها في حب الله والوطن، أصبحت ضمن البنات المثاليات، يتغلغل الإيمان بالله والوطن في قلوبهن، يسري في عروقهن مع الدم من قمة الرأس حتى بطن القدمين.
لكن النوم كان يغلبها، يشدها إليه مثل جاذبية الأرض، يسقط جسدها في غيبوبة النوم، إلا بطن قدمها اليسرى، كانت ناعمة بضة مثل قدم أمها، تظل واعية صاحية وإن نام الكون. تحس بدور وهي نائمة أن شيئا يداعب بطن قدمها اليسرى، ترفس الشيء يقدمها اليمنى وهي غارقة في النوم، تظن أنه إصبع إبليس يتحدى إرادة الله، يدغدغ بطن قدمها وهي في اللاوعي، يحرضها على الإثم.
في الصباح تصحو ويعود إليها الوعي، تسأل نفسها؛ لماذا إبليس الشيطان يقف دائما عن يسار المؤمنين أثناء الصلاة يحرضهم ضد الله، وأن الشيوعيين الكفرة من أهل اليسار؟
لذة خفية كانت تسري من بطن قدمها إلى ساقها، تصعد عبر الفخذ إلى البطن والصدر، النهدان برعمان صغيران بارزان قليلا، مؤلمان كثيرا إن ضغطت عليهما إصبع الشيطان.
كانت في طفولتها تظن أن إبليس الشيطان روح ليس له جسد، مثل الله روح ليس له جسد، ثم كبرت وأدركت إن للشيطان إصبعا، وربما له جسد كامل الأعضاء بما فيه العضو الآثم، يتحدى به إرادة الله.
في الحادية عشرة من عمرها رأت بدور لأول مرة وجه الشيطان. في الطفولة كانت تخشى أن تفتح جفونها وهي نائمة، ثم بدأت تكبر قليلا. تسيطر عليها أكثر وأكثر غريزة الاستطلاع، تريد أن تعرف كيف تكون ملامح الشيطان، أنفه، رأسه، جبهته، أذناه، فمه. ربما كانت تحس أنفاس الشيطان فوق عنقها من الخلف وهي نائمة على بطنها، لكنها لم تملك الشجاعة يوما أن تفتح جفونها لتراه.
أصابتها الدهشة في الحادية عشرة من عمرها حين اكتشفت أن للشيطان شاربا ولحية مثل العجائز، يكاد يشبه جدها لأبيها أو لأمها، أو الرجل العجوز في البيت المجاور، أو في فيلم «غرام الشيوخ» الذي رأته العام الماضي في السينما.
لكن النوم غلبها وهو يدغدغ بإصبعه بطن قدمها. كتمت السر عن أبيها وأمها، أصبحت شريكة الشيطان في الإثم، تتظاهر بالنوم حتى يستمر في المداعبة، تخفي رأسها تحت الوسادة، تكتم أنفاسها، تتظاهر بالموت، يشجعه موتها على الاستمرار والصعود إلى البؤرة المدفونة في ثنايا اللحم داخل عمق الأحشاء، تغمرها لذة خالية من الإثم؛ لأن الموت أدركها قبل حدوث اللذة.
غاب الشيطان ذات ليلة، امتد غيابه طويلا. تصورت بدور أن الله عاقبه بالموت، ثم سمعت من أمها وأبيها أنه سافر إلى لندن لإجراء عملية البروستاتة. رنت الكلمة مؤنثة في أذنها، لم تعرف أين يمكن أن تكون هذه البروستاتة في جسد إبليس؟ ولماذا يخلق الله عضوا مؤنثا في جسد الذكر؟ لم يعد إبليس من لندن، ربما مات هناك. طردت بدور الشيطان من أحلامها، طردته من النوم واليقظة، مضت ثلاث سنوات وأصبحت في الحادية عشرة من عمرها، ضاع إبليس من ذاكرتها تماما. إلا أنه ظل يعيش في بطن قدمها اليسرى، يدغدغها حتى تروح في النوم، يحكي لها قصة الشاطر حسن والغولة، في الصباح تتوضأ وتصلي بين يدي الله. لم يعد إبليس يقف عن يسارها، أصبحت فتاة ناضجة طاهرة مغسولة من الإثم.
ثم جاء يوم المظاهرة الكبيرة، كانت بدور حصلت على الليسانس، فتاة مثالية يذوب في عقلها وجسدها وروحها حب الله والوطن، لكن قلبها ينوء بالعبء. آثار إصبع الشيطان فوق جسدها تشبه الحب، أي عبء أن يحتل الثلاثة مساحة واحدة من قلبها «الله والوطن وإبليس»؟!
يوم المظاهرة الكبرى وجدت بدور نفسها بين آلاف الأجساد، نساء ورجال وشباب وأطفال ، من الحواري والأزقة والشوارع الكبيرة، من بولاق وإمبابة وباب الشعرية، من الزمالك وجاردن ستي والمعادي وحلوان. عمال وموظفون وفلاحون وطلاب وطالبات المدارس والجامعات، يسيرون بخطوة واحدة، أقدام حافية مشققة، وأحذية لامعة من الجلد المتين، وشباشب وصنادل.
كانت بدور تمشي بينهم تدب بحذائها الجلدي على الأرض بخطوات قوية، تستمد قوتها من قوى الآلاف أو الملايين، يهتفون في نفس واحد: «يسقط الملك، تحيا مصر حرة.» كلمة «حرة» تلتصق بحلقها كالغصة، جسدها رغم الحركة تحوطه القيود، تحرك ذراعيها وساقيها لتكسرها دون جدوى، تهتف بصوت يشبه الصراخ، صرخاتها المكتومة تذوب في أصوات الجموع، دموعها تذوب في عرقها، ثوبها يلتصق بجسدها تحت البلوفر الأزرق. إلى جوارها يمشي نسيم، جسمه طويل ممشوق، يدب فوق الأرض بخطوة قوية ثابتة، عيناه الزرقاوان شاخصتان إلى الأمام، لم ينظر ناحيتها مرة واحدة، هي ترمقه بطرف عينها طول الوقت، أنفه من الجانب شامخ مرفوع، شفتاه مزمومتان، يرتدي بلوفرا من الصوف الخشن، رصاصي اللون منحول من المرفق، ياقة قميصه بيضاء: غير مكوية، حذاؤه قديم يغطيه التراب، في كعبه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، شعر رأسه خشن أكرت، يحتك في أحلامها بوجهها الناعم البشرة.
تنجذب بدور إلى هذا النوع من الرجال، فيه ذكورة وخشونة، لا يخاف الموت من أجل الله والوطن. ليس من نوع ابن عمها «أحمد» يخاف من صرصور أو فأر أو ضفدعة تقفز في الحديقة، أصابعه رقيقة ناعمة تشبه أصابعها، قامته قصيرة مثل أبيه وعمه، اللواء أحمد الدامهيري. ورث عنهما الرأس المربع الشكل، والذقن المربع تحت شفتين رفيعتين، الشفة العليا أكثر نحافة من الشفة السفلى، يضم شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، الحركة ذاتها الموروثة عن أبيه وجده الشيخ الدامهيري، كان وكيلا أو نائب الوكيل لجامع الأزهر الشريف.
بدور التقت نسيم في السنة الأولى بالجامعة، منذ تلاقت عيونهما انتفض شيء في أعماقها، شيء خفي دفين في الأحشاء. لم يكن زميلا لها في كلية الآداب، كان يأتي إلى الجامعة أيام المظاهرات، تلمحه من بعيد يمشي، يدق الشيء تحت ضلوعها في اضطراب، يتأرجح جسمها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تترنح قليلا في مشيتها، تضغط بيدها على حزام حقيبتها المعلق فوق كتفها، تمسك به، تستعيد توازنها. يمر بها دون أن ينظر إليها، دون أن يبتسم لها كما يفعل الزملاء، قد يحرك رأسه علامة التحية، ثم يمضي في طريقه لا ينظر إلى الخلف. كانت هي تنظر خلفها لتراه من ظهره. عظامه مستقيمة، عضلاته مشدودة، ليس في جسده لحم، ذراعاه تتحركان وهو يمشي مع حركة ساقيه، يشق الهواء بجسمه الطويل الصلب كالرمح.
مضى عامان وهي تراه في أحلامها. في العام الثالث بدأ الحديث بينهما، هي التي بدأت حين رأته جالسا في أحد الاجتماعات، كان المقعد إلى جواره خاليا، جلست بعد أن ابتسمت في وجهه وقالت: صباح الخير يا نسيم. ثم تكرر اللقاء بينهما داخل الجامعة، أو في حديقة الأورمان بجوار الجامعة، يجلسان معا على الدكة الخشبية يتحدثان، يتبادلان الكتب الثورية. كانت بدور تنجذب في أعماقها للثورة للتمرد على كل شيء في حياتها، بما في ذلك الأب والأم والعم والجد، وربما الله أيضا وإبليس. منذ السابعة من عمرها كانت تخاف الله، تغلغل الخوف إلى حد الكره، لم تملك الشجاعة أن تعترف لنفسها بما يدور في خيالها، وما يحدث لها في أحلامها، منذ طفولتها اقترفت آثاما كثيرة أثناء النوم.
وهي تمشي في المظاهرة إلى جوارها نسيم كانت تلمحه من الجانب، ملامح وجهه كأنما منحوتة في الصخر، ملامح حجرية صلبة حادة، أنفه يشق الهواء كحد السيف، جسمه الطويل النحيف كأنما مصنوع من مادة غير اللحم، يحمله خفيفا فوق قدميه ويمشي، كأنما ليس له ثقل.
منذ داعبتها إصبع الشيطان أرادت بدور التخلص من ثقل جسدها، ذلك العبء الثقيل تحمله كل يوم، اللحم السمين الذي يغطي ذراعيها وصدرها وبطنها وساقيها وبطني قدميها، تحلم في الليل بقوة تحمل عنها العبء، ذراعان قويتان تمتدان من السماء، تسحقان جسدها، يذوب جسدها بين الذراعين حتى يتلاشى اللحم.
انتهت المظاهرة وتفرقت الجموع، وظلت هي تمشي إلى جواره، تريد أن تمشي إلى جواره حتى نهاية العمر، تريد أن يحملها بين ذراعيه ويمضي بها حتى الموت. كانت صامتة وكان صامتا، يسيران جنبا إلى جنب، يخرجان من شارع ويدخلان في شارع، حتى توقف نسيم أمام باب بدروم في عمارة كبيرة، وقف صامتا مطرقا قليلا، مستغرقا في التفكير، ثم رفع عينيه إليها، صوته فيه بحة خفيفة، المقلتان الزرقاوان في عينيه تكسوهما لمعة تشبه الدمعة الحبيسة، كلماته متقطعة: بدور ... لا أعرف ما أقوله ... لكن أنا أحس.
أحس بك ... أحس مشاعرك القوية نحوي ... وأنا أبادلك هذه المشاعر ... لكنك من طبقة أخرى، يا بدور ... أنا أسكن في هذه الغرفة في البدروم ...
كان ذلك منذ سنين كثيرة، حين كانت بدور في العشرين من عمرها تحلم بالحب والثورة، حصلت على الليسانس في كلية الآداب، لم تكن تحب الأدب ولا النقد الأدبي، كانت تحب نسيم وتريده، تحلم به ولا تستطيع الحياة بعيدا عنه، تفضل أن تعيش معه في الغرفة بالبدروم على أن تعيش مع أبيها وأمها في الفيلا الكبيرة في جاردن ستي.
لا تذكر بدور ماذا قالت له وهما واقفان أمام باب غرفته بالبدروم، هل نطقت بكلمة: «أحبك»؟ ربما قالتها دون أن يخرج صوتها إلى الوجود، أو ربما خرج صوتها مثل هواء ساخن من صدرها ليس له صوت.
ظلت واقفة مترددة، يدها تستند إلى الباب الخشبي المشقق، يدها الأخرى تمسك الحزام المعلق على كتفها، تشد عليه كأنما لتحفظ توازنها، كأنما تقاوم جاذبية الأرض، تشد جسدها إليها، تخشى السقوط.
هو كان واقفا مترددا لا يتحرك، الهواء بينهما أيضا لا يتحرك، لا شيء يتحرك إلا أنفاسها. أما هو فلم يكن يتنفس، كان جامدا مثل تمثال.
لا تذكر كم من الوقت مر وهما واقفان عند الباب المغلق، لم يمد يده بالمفتاح ليفتحه، كان المفتاح في جيبه، لكن ذراعه لم تكن تتحرك، لا شيء فيه يتحرك.
ماذا كان ينتظر؟ أن يراها تستدير لتعود إلى بيتها، أن ترفع يدها عاليا وتصفعه على وجهه ثم تمضي. في عينيها يرى شيئا يشبه الدمعة الحبيسة، لا تسقط ولا تتبخر، أو النظرة المكتومة تحت الدموع، نظرة فتاة تشعر بالإهانة، فتاة تقدم نفسها لرجل فيرفضها، فتاة تمد يدها لإنسان تنشد الخلاص فلا تمتد يده إليها.
أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب، دخلت وراءه كأنما تمشي في النوم. وقفت ظهرها للحائط تلتصق بالجدار، تستمد منه الصلابة، تسربت برودة الحائط إلى جسدها الساخن، انتفضت وهي واقفة، سرت في كيانها قشعريرة رعشة البرد وخوف غامض.
أمسك يدها البضة الصغيرة في يده الكبيرة، تهاوت بين ذراعيه مثل ثمرة نضجت، تجاوزت النضج إلى حد السقوط من فوق الشجرة، تشدها جاذبية الأرض إليها، مثل تفاحة نيوتن.
كانت بدور قد قرأت شيئا في علم الفيزياء، عن اكتشافات نيوتن وأينشتاين، عرفت النظرية النسبية والنظرية الماركسية. كان نسيم يقرأ في العلم والفلسفة، وهي تقرأ في الأدب والنقد الأدبي، يتبادلان الكتب، لم يكن نسيم يؤمن بحكاية آدم، ولا التفاحة التي أغوته بها حواء، وكانت هي لا تزال تؤمن بما آمن به أبوها وأمها والمدرسون في المدرسة.
فوق بلاط الغرفة كانت مرتبة تغطيها الكتب والأوراق والمنشورات، فوق الجدران رفوف خشبية تحمل الكتب والمجلات والدوسيهات، في الركن كرسي من الخيزران معلق عليه قميص أبيض مغسول، النافذة مربعة مسدودة بقضبان حديدية تطل على أرض الشارع.
ثم تلاشت الغرفة بكل ما فيها، تلاشي المكان والزمان حين ضمها إلى صدره، قبل شعرها وعينيها، عاد إليها الحلم كما كانت تراه كل ليلة، ربما كانت اللذة في الحلم أشد منها في الواقع. كان نسيم في أحلامها أكثر جرأة، أكثر اقتحاما لجسدها، كان جسده أكثر صلابة كالرمح، يشق به الكون ويمشي إلى النهاية، أو ربما يكون الواقع دائما أقل جمالا من الخيال.
حين أفاقت بدور رأت الأرض البلاط، والنافذة المسدودة بقضبان الحديد. إلى جوارها كان نسيم غارقا في النوم، أنفاسه مسموعة، تسري في أذنها، تكاد تشبه شخير أبيها، تفاحة آدم بارزة في عنقه مثل عنق أبيها، عضلات جسده مرتخية متهدلة مستسلمة، خالية من التحدي مثل جسدها وأمها.
ارتدت ملابسها على عجل، علقت حزام حقيبتها على كتفها، سارت على أطراف أصابعها نحو الباب ، لكنها سمعت صوته من خلفها يناديها: بدور؟
استدارت، رأته يمشي نحوها بجسمه الطويل الصلب، استعاد جسده الصلابة وارتفاع القامة. المقلتان في عينيه تشعان ضوءا أزرق إلى حد السواد، أو سوادا إلى حد الزرقة، كأنما تنظر في قاع البحر، أو في عين السماء في الليل.
كان الفجر لم يطلع بعد، أرادت أن تلقي نفسها فوق صدره وتبكي، في أعماقها حزن منذ الطفولة لا تعرف مصدره، بين ذراعيه يذوب الحزن في فرحة تهز كيانها، تنفض عن جسدها ألما عميقا مدفونا في الأحشاء. في رأسها خلية تشبه الإبرة، تذكرها بأبيها وجدها وشرف العائلة، تذكرها بالله والشيطان، ونار جهنم الحمراء بعد الموت. - بدور؟ - أيوه يا نسيم. - ما رأيك نذهب في الصباح إلى المأذون؟ - يا خبر؟
صدرها يعلو ويهبط مع الضربات القوية تحت ضلوعها، كلمة المأذون ترن في أذنها مخيفة غامضة مراوغة لا علاقة لها بالحب، أيمكن أن تتزوج في الصباح؟
وأبوها راقد في فراشه يشرب الشاي ويقرأ الجريدة، يتمطى ويتثاءب مسترخيا مطمئنا إلى أن ابنته العذراء الطاهرة راقدة في سريرها، أو تتأهب لدخول الحمام وارتداء ملابسها لتذهب إلى الجامعة. - هل المأذون ضروري؟ - طبعا يا بدور، لا زواج بدون مأذون.
ثم إن ...
لم يكمل كلامه، أطبق شفتيه، ينظر إليها كأب ينظر إلى طفلته، تصغره بعامين فقط، كأنما تصغره بمائة عام. لم تعرف الفقر ولا الجوع، لم ترقد على الرصيف في الشارع، لم تشتغل وهي طفلة في محل الميكانيكي، لم يضربها صاحب المحل بكعب حذائه على أسفل بطنها، لم تتلق الركلات والصفعات في قسم البوليس، لم تر أمها تموت من الحزن أو تنزف الدم من صدرها مع كل نفس، لم يختنق أبوها تحت الماء في السجن. - أنا أكبر منك يا بدور في العمر، أعرف قسوة الحياة، أنت إنسانة رقيقة أخاف عليك لو ...
توقف عند كلمة «لو»، أراد أن يقول، لو أنك حملت طفلنا دون زواج، ربما يقتلك أبوك اللواء أحمد الدامهيري، ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة مشرقة، اشتد الضوء في عينيه، أحاطها بذراعيه، همس في أذنها : لو أصبح لنا طفل جميل مثلك يا بدور؟
أغمضت عينيها فوق صدره وغابت في الحلم، أيكون لها طفلة أو طفل يشبه نسيما؟ هذا القوام الطويل الممشوق، هاتان العينان المشعتان بالضوء، هذه الروح المتوثبة الثائرة، هذا التحدي، هذه الصلابة؟
أفاقت على صوت صفارات البوليس، كان الفجر لم يطلع بعد، عربات البوكس المصفحة تجوب الشوارع، كعوب البنادق تدق الأبواب، كشافات الضوء تسقط على وجوه ضامرة شاحبة، عمال فقراء أو شباب من الطلاب، يتعقبهم رجال المباحث في المصانع أو المدارس والجامعات، صورهم داخل السجلات في وزارة الداخلية.
لم تعرف كيف أصبحت بدور في سريرها آمنة، أغمضت عينيها تحت الغطاء، سرى الدفء في جسدها، تسربت الأحداث الأخيرة إلى خيالها مع النوم، بدأت المظاهرة الكبيرة وهي تمشي في الحلم، المقلتان المشتعلتان بالنور، نجمان يلمعان في سماء مظلمة، يدها تزحف تحت الغطاء تتحسس جسدها، في ثنايا اللحم يتجسد الحلم، يتحول الخيال إلى حقيقة تلمسها بيدها، صوته في أذنها يسري مثل موجات الضوء: إن جاءنا ولد نسميه «زين» على اسم أبي. وهمست بدور في أذنه: إن جاءتنا بنت نسميها «زينة» على اسم جدتي زينة.
رأت طيف جدتها في الحلم يدخل غرفة نومها. كانت في الثامنة من عمرها، قبل أن تموت جدتها زينة، تناديها نانا زيزي، طويلة القامة ممشوقة، عيناها كبيرتان مملوءتان بالبريق، كانت تجلس إلى جوارها وهي راقدة في السرير، تحكي لها حكايتها الحزينة. كانت نانا زيزي تريد أن تكون كوكب الشرق، ترقص وتغني وتكتب الشعر، لكن أباها أخرجها من المدرسة، كانت في الرابعة عشرة من عمرها، ألبسوها فستان الزفاف الأبيض، سمعت الطبل والزمامير، ثم رأت نفسها داخل غرفة نوم مغلقة، مع رجل غريب غليظ الملامح، قصير القامة، ظهره محني، فوق شفته العليا شارب أسود كبير.
بينما كانت بدور في فراشها الدافئ تحلم بجدتها زينة، كانت عربة مصفحة تقف أمام الباب الخشبي المشقق في بدروم العمارة العالية، خمسة من رجال البوليس بالبنادق أحاطوا به كالدائرة، ضوء كشاف قوي يسقط فوق وجهه، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان غضبا بلون أسود أزرق، جسمه نحيف طويل صلب كالرمح، رأسه مرتفع فوق عضلات عنق لا يلين ولا يلتوي، ضربه أحد الجنود على رأسه بكعب البندقية، صفعه آخر على صدغه، إلا أن كيانه الواقف ظل منتصبا في مكانه، لا يتحرك، لا تنفض عضلة في وجهه، ولا يطرف له جفن.
بلغ الغضب بأحدهم أن بصق في وجهه، ثم سدد له ضربة قوية أسفل بطنه، في بؤرة الألم واللذة، في عمق الأحشاء الدفينة، حيث تكون بذرة الحياة والحب.
حين ساقوه إلى العربة البوكس خارج البدروم، كانت الدماء تنزف من أنفه وفمه، تسيل فوق الفانلة البيضاء الكاشفة عن ضلوعه، يغمرها شعر أسود، يكتسب بالتدريج لونا أحمر، يهبط اللون الأحمر إلى سرواله الأبيض من القطن المصري، رائحة القطن في أنفه مع رائحة الدم، ورائحة التراب، الأرض الخصبة السوداء تترعرع فوقها الشجيرات الخضراء بالنوارات البيضاء، كان طفلا في الثامنة من عمره، يغني مع أطفال القرية وهو يجري بين مساحات الخضرة التي تلمع بضوء أبيض:
نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل.
اجمعوا يا بنات النيل يالا ده ما لوهش مثيل، قطن ما شاء الله ...
داخل العربة البوكس وهو جالس يداه مكبلتان بالحديد، تراءت له صورة جدته زكية، كانت طويلة القامة شامخة الرأس، يداها كبيرتان مشققتان تمسك بهما الفأس، عيناها سوداوان واسعتان تتسعان لغضب العالم، أمسكت الفأس ذات يوم وهبطت به على رأس العمدة، ثم ألقت بالفأس، واستلقت على الأرض في راحة أبدية.
لم تنقطع الصلة بين مجيدة الكاتبة وزينة بنت زينات. منذ الطفولة كان شيء يجذب كلا منهما للأخرى رغم الاختلاف، أصبحت مجيدة تملك عمودا في مجلة النهضة، يساعدها في كتابته أبوها وأمها، في أعماقها تكره مجيدة حروف اللغة والكتابة الموروثة عن أبيها وأمها، وجسمها القصير القامة الموروث عنهما أيضا، والفيلا الكبيرة في جاردن ستي، على بابها الخارجي قطعة نحاس لامعة، محفور عليها اسما أبيها وجدها: «فيلا الخرتيتي.» كلمة الخرتيتي تلتصق باسمها وجسمها كالعضو المشوه.
حديقة كبيرة تحوط البيت الكبير من الطوب الأحمر، تنمو فيها الأشجار والزهور والورود، يحوطها سور حديدي تنمو فوقه شجرات الياسمين والبوجانفيليا، أو الجهنمية، بزهورها الصفراء والبيضاء والحمراء بلون دم الغزال.
يبدو المكان من الخارج جميلا مبتهجا. داخل المكان يقبع القبح في الأركان، يتخفى الكره تحت المفارش الحريرية المشغولة بخيوط ملونة زاهية.
كانت سيارة كبيرة سوداء تحملها من البيت إلى المدرسة يقودها سائق أسود البشرة، يسمونه «الشوفير». قبل أن تنام مجيدة تأخذها «دادا» إلى الحمام، تغسل جسمها بالماء الدافئ والصابون المعطر، تجففها بالبشكير الأبيض الكبير، تحملها إلى السرير، تحكي لها قصة سندريلا والأمير حتى يغلبها النوم.
في أحلامها ترى مجيدة نفسها تحلق في السماء مثل العصافير، لم يعد لها جسم مملوء باللحم الثقيل، ذراعاها تتحركان في الهواء بقوة وسرعة، جناحان كبيران يخفقان يرفرفان، ينعكس عليهما ضوء الشمس وضوء القمر بلون ملائكي أبيض، أصابعها لم تعد قصيرة سمينة طرية، أصبحت مثل أصابع زينة بنت زينات، طويلة نحيفة صلبة، تجري فوق أصابع البيانو جريانا أسرع من موجات الضوء. تمسكها أبلة مريم في حصة الموسيقى، ترفعها إلى أعلى لتراها البنات كلهن، تقول بصوت عالي يصل إلى جميع الآذان، بما فيها آذان أبيها وأمها وعمها وجدها والجيران في جاردن ستي، والبوابين الجالسين أمام العمارات، والحلاق في الميدان، يسمونه الكوافير، والشوفير الذي يقود السيارة، ودادا التي تحكي لها قصة سندريلا قبل أن تنام: «أصابعها خلقت للموسيقى. مجيدة بنت موهوبة، ليس لها مثيل بين البنات.»
صوت أبلة مريم يرن في الحلم مثل اللحن الناعم يدغدغ أذنيها، تسري الدغدغة من الأذنين إلى العنق إلى صدرها، إلى النهد الأيسر فوق القلب تحت الضلوع، يزحف برقة إلى البطن، أسفل البطن. يرتجف قليلا فوق العانة الملساء الناعمة، لم ينبت فيها الشعر بعد، ينزلق فوقها إلى الفخذ اليسرى، يمضي في طريقه المعتاد إلى الساق اليسرى حتى النهاية في بطن القدم اليسرى، يدغدغها كما تعود منذ البداية أن يفعل، يمنحها اللذة القديمة الجديدة، مع الإحساس الطاغي بالإثم.
لم تعرف مجيدة في طفولتها كيف تتحول الموسيقى في أحلامها إلى لذة آثمة، تكاد تشبه إصبع الشيطان رغم الاختلاف، كانت الموسيقى تهبط من أذنيها إلى بطن قدمها، لكن إصبع الشيطان كانت تصعد من بطن القدم إلى أعلى حتى مركز الكون.
قبل أن تنام تحكي لدادا عن أبلة مريم، كيف تمسك أصابع زينة بنت زينات في يدها، ترفعها عاليا لتراها البنات كلهن، يرتفع صوتها فوق الأصوات: «أصابع زينة خلقت للموسيقى، بنت موهوبة، ليس لها مثيلة بين البنات.»
تدفن مجيدة وجهها في صدر دادا، تدس أنفها بين نهديها الكبيرين، تتشمم حنان الأم، تربت دادا رأسها، تهمس في أذنها: «نامي يا مجيدة، ربنا أعطاك خير كثير، أبوكي ما شاء الله اسمه على كل لسان، وأمك ربنا يحميها أستاذة كبيرة في الجامعة، لكن زينة بنت زينات يا عيني عليها، من غير أب ولا أم ...»
ينقطع صوت دادا، كأنما أصابتها غصة، ترفع يدها الكبيرة السمراء تمسح دموعها بكم جلبابها الواسع الطويل. - انتي بتعيطي يا دادا؟ - أبدا يا بنتي. - إنتي عندك أب وأم يا دادا؟ - طبعا يا بنتي، كل الناس عندها أب وأم. - إلا زينة بنت زينات يا دادا؟ - كان عندها أب يا بنتي، أبوها كان راجل من ضلع راجل، كان زينة الرجال. - أبوها راح فين يا دادا؟ - ربنا أخذه يا بنتي. - يعني مات؟ - أيوه يا مجيدة يا بنتي. - ليه ربنا أخذه يا دادا؟ - ربنا دايما ياخذ أحسن الناس. - ليه ربنا ماخدش بابا وماما؟ - اسكتي يا مجيدة، وطي صوتك، نامي يا بنتي، بعيد الشر عن ابوكي وامك.
كانت مجيدة في الثامنة من عمرها، لا تفهم ما تقوله دادا، إذا كان الله يأخذ إلى السماء أحسن الناس؛ فلماذا لم يأخذ أباها الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، وأمها الأستاذة الكبيرة بدور الدامهيري، ولماذا تضطرب دادا وتدعو الله أن يبعد الشر عن أبيها وأمها؟
إذا كان الموت شرا من عند الله؛ فلماذا يموت أحسن الناس ويصعدون إلى الله في السماء؟
ويبقى الأشرار أحياء؟
في الشارع وهي تمشي إلى المدرسة تلمح زينة بنت زينات تلعب مع الأطفال، يتجمعون من حولها يرقصون ويغنون معا أغاني الفلاحين: «نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل ...» أو «طلعت يا محلا نورها، شمس الشموسة، يالا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة، جاعد على الساجيا يا خلي أسمر وحليوا، عاوج الطاجية وجلي غنيلي غنيوا ...»
لم تكن تحب ركوب السيارة مع الشوفير، ينطلق بها من البيت إلى المدرسة، لا يتوقف قليلا لتطل على أطفال الشوارع وهم يرقصون ويغنون، يقول لها: إنهم أولاد الأبالسة. لم تعرف معنى الكلمة، قال الشوفير: إنها جمع كلمة إبليس الشيطان.
لم تتصور مجيدة أن الشيطان له أولاد وبنات. كان في خيالها مثل الله، ليس له أولاد أو بنات. - دول أولاد حرام يا ست مجيدة، دول عيال حرامية، أوعي تكلمي حد منهم. - زينة بنت زينات كانت معايا في المدرسة، كانت موهوبة في المدرسة، أبلة مريم كانت تقول: «إنها أحسن بنت في المدرسة.»
لم يكن الشوفير يستمع إلى ما تقوله مجيدة، كانت عيناه الغائرتان تشخصان إلى الأمام ثابتتين فوق الطريق، بشرته سوداء مثل البوابين في جاردن ستي، لكنه لا يرتدي جلبابا أبيض، بل بدلة لونها كاكي تشبه بدلات العساكر، يضع فوق رأسه قبعة من القماش السميك الكاكي يسمونها «الكاسكيتة»، أصابعه الكبيرة السمراء تحوط عجلة القيادة في ثبات وقوة، تكاد تشبه أصابع دادا وهي تدعك لها رأسها بالماء الدافئ والصابون في الحمام، ليست مثل أصابع أمها البضة الناعمة الطرية، تشبه أصابعها.
تخفي مجيدة أصابعها تحت الغطاء، تغمض عينيها لتنام، لكن نور اللمبة الكهربائية بجوار السرير يكشف الغرفة الواسعة. جدرانها منقوشة برسوم وردية، دولاب ملابسها في الركن لونه وردي، مكتبها الصغير فوقه كتب المدرسة والكراريس وأقلام ملونة، كشكول كبير غلافه وردي تكتب فيه أحلامها، مائدة صغيرة فوقها مفرش أزرق مرسوم عليه زهور الياسمين بخيوط الكانافاه.
دادا تجلس على السجادة العجمية المزركشة إلى جوار سريرها، تحكي لها القصص قبل أن تنام، ترتدي جلبابا واسعا أدكن اللون، عنقها طويل قوي العضلات، يحمل رأسها الملفوف بطرحة بيضاء، وجهها شاحب نحيف تطل منه العينان، مقلتان سوداوان صغيرتان، داخل بياض واسع تشوبه حمرة البكاء.
حين بلغت مجيدة الخامسة والعشرين من عمرها كانت تمتلك عمودا في مجلة النهضة، تصدر يوم الخميس من كل أسبوع، اقترح أبوها أن يكون عنوان العمود: «أمانة الكلمة». كان عموده في الجريدة اليومية الكبيرة يحمل عنوان: «أمانة العهد»، يضغط على حروفها الخمسة، حرفا حرفا، كأنما يخشى أن يفلت حرف أو تفلت الكلمة كلها، تتبخر في الهواء، في اللاشيء.
منذ الثامنة من عمرها كرهت مجيدة الكتابة، كانت مثل جسدها القصير الممتلئ مفروضة عليها، كانت واجبا من واجبات المدرسة والبيت، مثل الصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان، كانت مثل أصابع يديها وقدميها موروثة عن أمها وأبيها، لا تستطيع الخلاص منها.
فوق المكتب في غرفتها يرقد الكشكول السمين الممتلئ بالصفحات البيضاء، أبيض وسمين وغليظ مثل جسدها، صفحات خالية خاوية ترمقها بسخرية. منذ الطفولة حتى الشباب والكهولة ظلت هذه الصفحات البيضاء ترمقها بسخرية، صوت يهمس في أذنها له فحيح إبليس، أو ربما صوت الله يقول لها: أنت يا مجيدة لست موهوبة، أنا يا مجيدة الذي أعطي الناس الموهبة، وقد أعطيتها لزينة بنت زينات؛ لأني حرمتها من الأب والأم.
كان أبوها يكتب في عموده بالجريدة أن الله عادل، وأن رئيس الدولة يحكم بالعدل بين الناس في مصر، قد يحرم الله طفلا من الأهل أو المال، لكنه يمنحه نعمة الذكاء أو موهبة الموسيقى، أو يغرس في قلبه حب الله والوطن، قد يكون الإنسان فقيرا لكنه غني النفس.
كانت أمها تكتب في النقد الأدبي، تلقي المحاضرات في الجامعة عن الأدب والشعر والروايات والمسرح وأفلام السينما. يرسل إليها الناس كل يوم رسائل في البريد طرودا من الكتب والمجلات وشرائط من الموسيقى والأفلام والحوارات الأدبية في الراديو والتلفزيون. يتنافس الكتاب والكاتبات على نيل رضاها، يرسلون إليها الهدايا. يمكنها بمقال واحد في مجلة النقد الأدبي أن تخرج كاتبا من الظلمة إلى النور، وتنتشل كاتبة مغمورة من العدم إلى الضوء ونجوم الفن والأدب.
لم تكن لها مكانة زوجها السياسية والصحفية، لكن مكانتها الأدبية والفنية كانت في القمة، تصلها الدعوات لحضور الاجتماعات مع الرئيس والوزراء والسفراء ، والمؤتمرات الأدبية والفنية خارج البلاد.
في أعماقها لم ترغب بدور الدامهيري أن تكون ناقدة أدبية. ترى أن الناقد الأدبي أقل قيمة من الكاتب الروائي أو الشاعر أو الكاتب المسرحي أو السينمائي. تهمس في أذن صديقتها صفاء الظبي زميلتها في الجامعة: «مهنة النقد الأدبي متطفلة على الأدب الحقيقي والفن، مثل الديدان الشريطية. نحن نقاد الأدب لسنا إلا مبدعين فاشلين، نعوض عن فشلنا بنقد أعمال الآخرين. نحن عاديون، ميديوكر مثل بقية البشر، ليس عندنا موهبة، نحاول الوصول إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين. نحن مثل ماسحي الأحذية يا صافي.»
تنادي صديقتها صفاء الظبي بكلمة: «صافي.» - أقول لك يا صافي بصراحة لا أقولها لأحد، لا أشعر وأنا أكتب مقالا نقديا بأي لذة أو فخر، بل أشعر بالمهانة؛ لأني ألمع حذاء شخص آخر أكثر مني موهبة.
في أدراج مكتبها في غرفتها تخفي بدور دوسيها كبيرا سمينا مليئا بالأوراق المكتوبة بخط يدها غلافه لونه أصفر، مكتوب عليه: «الرواية المسروقة.» بدأت هذه الرواية منذ سنين طويلة، منذ تلك الليلة التي مرت بها مثل كابوس مخيف، أو حلم عابر بالجنة، حيث قطفت الثمرة المحرمة.
في روايتها أعطت البطلة اسم: بدرية، بدلا من بدور، واسم البطل: نعيم، بدلا من نسيم.
وفي ظلمة الليل بعد أن تنام ابنتها مجيدة، بعد أن ينام زوجها زكريا الخرتيتي، بعد أن يخلو البيت من الخدم، وتحمل دادا حقيبتها السوداء الجلدية وتعود إلى بيتها، بعد أن يصمت الميكرفون فوق الجامع المجاور، وتتوقف الطبول وطرقعات الصاجات في الكازينو المطل على النيل، بعد أن تكف سيارات البوليس عن الحركة وتنعدم الصفارات والأبواق، وصراخ المرضى في مستشفى قصر العيني القديم، وجنازات الموتى الخارجة من الباب الحديدي الكبير، تولول خلفها النساء المكلومات والثكالى والأرامل واليتامى.
بعد أن ينام الكون، ويغمض إبليس عينه عن ضحاياه، ويرحم الله مخلوقاته فيغلق عينه الساهرة التي لا تنام، حينئذ تنهض بدور من سريرها العريض الذي يضم جسد زوجها إلى جوارها، تتسلل من الفراش واقفة على قدميها، تسير حافية على أطراف أصابعها إلى غرفة مكتبها، تضيء اللمبة الصغيرة، تمد ذراعها السمينة القصيرة إلى الدرج المغلق، تفتحه بمفتاح مخبأ في صدرها، تشد بأناملها البضة الدوسيه الأصغر، يجف حلقها وهي ترمق الأوراق المتراكمة، مئات الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، ليلة وراء ليلة، شهرا وراء شهر، سنة وراء سنة، مئات الصفحات، آلاف الصفحات بخط يدها، بالألم والعرق والدموع، تكتبها وتعيد كتابتها، تقرؤها وتعيد قراءتها مئات المرات، يجف حلقها وهي تقرأ، ينسحب الدم من وجهها إلى قاع قدميها، تمط شفتيها الممتلئتين باللحم إلى الأمام، تمطهما مثلما تمطهما حين تقرأ رواية رديئة لكاتب صغير، أو كاتبة غير موهوبة.
كانت ابنتها مجيدة طفلة في الثامنة من العمر راقدة في سريرها في غرفتها مغمضة العينين، إلا من شق رفيع بين الجفون، يتسرب إليه ضوء خافت من تحت عقب الباب، موجات ضوء تتحرك في ظلمة الليل الساكن، تأتي من غرفة أمها البعيدة، أو غرفة أبيها في الناحية الأخرى من الصالة، موجات ضوء خافتة تشبه حركة الهواء، أو أوراقا يحركها الهواء، أو صوت احتكاك سن القلم بالورق، أو أوراقا تتمزق ويلقي بها في صفيحة القمامة، أو هواء ساخنا يخرج من الصدر مع الأنفاس، أو تنهيدة عميقة كالشهيق أو الزفير الطويل اللانهائي.
قد يختفي الضوء ويعم السكون، ثم تبدأ أصوات أخرى تتسرب من خلال الجدار، تسمع أباها وأمها يتحدثان بصوت عال في الفراش، صوت أبيها خشن غليظ متحشرج، صوت أمها حاد رفيع مثل الجرس، لا يكفان عن الشجار حتى يغلبها النوم.
في الصباح تظن أنهما سوف يفترقان، سوف تعد أمها حقيبتها وترحل، أو يعد أبوها حقيبته ويرحل، إلا أن كليهما لا يرحل ولا يعد الحقيبة، ولا شيء حدث إلا في الحلم.
تراهما جالسين إلى مائدة الفطور، يشربان القهوة والشاي مثل كل يوم، يقرآن الصحف، يتبادلان بعض الكلمات حول ما يحدث في مصر أو العالم، أو يقرآن في صمت، لا تسمع مجيدة إلا صوت رشفات الشاي، يرشف أبوها من فنجان الشاي بصوت عالي حاد، أمها ترشف بصوت رقيق أنثوي لا يكاد يسمع.
لم تكن بدرية إلا شخصية من الشخصيات في الرواية المسروقة، إلا أنها كانت تعيش في حياة بدور الدامهيري، كأنما امرأة حقيقية من لحم ودم، تكاد تحسها راقدة إلى جوارها في السرير، أو جالسة معها في غرفة مكتبها، ترمقها في صمت وهي تقرأ أو تكتب أو تتبادل معها بعض الكلمات، تتخاصمان وتتصالحان كما يحدث مع بدور وزوجها زكريا الخرتيتي، وقد تشطب بدرية بعض العبارات التي لا تعجبها في الرواية، بل قد تحذف فصلا كاملا أو تضيف فصلا من عندها، وقد تحكم على نفسها، على بدرية، بالموت تحت عجلات القطار، أو رميا بالرصاص.
تخصصت بدور في النقد الأدبي، أدركت أن بدرية مثل أي شخصية في أي رواية، قادرة على التمرد على المؤلف أو المؤلفة، قادرة على الانفصال عن خالقها والثورة ضده، والتفوق عليه.
كانت بدرية تمشي بخطوة ثابتة أكثر ثباتا من بدور. لم تكن ترتدي كعبا عاليا، ربما لأن قامتها كانت أطول من بدور أو أكثر نحافة ورشاقة، وأكثر شجاعة في خرق القوانين والإقدام على الموت دون أن يطرف لها جفن.
ذلك اليوم اتخذت بدرية قرارها أن تتحرر من العبء الثقيل داخل جسدها، أن تتحرر من الذكرى الأليمة في خلايا عقلها، ارتدت ملابسها وخرجت. اختارت ثوبا رمادي اللون واسعا لا يكشف عن استدارات جسدها الأنثوي، له كشكشة فوق الصدر تخفي نهديها والجزء الأعلى من بطنها، فوق كتفها علقت حزام حقيبتها الجلدية، داخل الحقيبة كان مظروف يحوي رزمة من الجنيهات، ادخرتها من مصروفها اليومي وما كانت تسرقه من جيوب أمها وأبيها.
كانت تشعر بلذة غامضة حين تسرق بعض الجنيهات من أبيها وأمها، فلا يكتشفان السرقة، ولا سيما أبوها، كانت محفظته منتفخة دائما بالأوراق المالية، يخفيها بعيدا عن العيون في جيوب بذلاته الثمينة داخل الدولاب في غرفة النوم. كان يملك الكثير من البذلات من الصوف الإنكليزي الثمين للشتاء ومن الأقمشة الحريرية للصيف، لكل بذلة جيوب داخلية وخارجية.
يتلفت حوله قبل أن يدس المحفظة في أحد الجيوب، يخشى أن تلحظه عين زوجته أو أحد الخدم أو دادا، التي كانت تنظف الغرفة أحيانا، أو تضع الملابس المغسولة المكوية داخل الأدراج، أو تقدم له فنجان القهوة. لم يكن يلحظ عين ابنته بدرية؛ ربما لأنها كانت ترمقه من شق صغير في الباب الموارب، أو ربما لأنها ليست ابنته الحقيقية من لحم ودم، بل شخصية في رواية كتبتها ابنته ثم سرقت منها، ولأن ابنته كانت تتحلى بالأمانة والأخلاق الطاهرة مثل أي فتاة عذراء في مثل عمرها، لا يمكن أن تسرق من أبيها.
كانت بدرية تمشي في الشارع الأسفلت، كعب حذائها العريض المربع يدق الأرض بانتظام. فوق جدار المبنى ساعة تشير إلى الثالثة إلا ربعا، موعدها في الثالثة تماما، لم يبق من الزمن إلا خمس عشرة دقيقة وتنتقل إلى عالم آخر، قشعريرة برد تسري في جسدها، الشمس قوية بعد أن انتهى الشتاء، رجل عجوز يمشي أمامها يلهث، يمسح عرقه بمنديل أبيض كبير، يتمتم آيات من القرآن أو ربما يكلم نفسه، امرأة ترتدي طرحة سوداء تجر خلفها طفلة تنشج ببكاء مكتوم.
أمام باب العمارة العالية وقفت تلتقط أنفاسها، رفعت عينيها إلى اليافطة المعلقة في الدور التاسع، أخرجت من حقيبتها منديلا من الورق الخفيف مسحت وجهها وعينيها، ساقها بواب أسود البشرة، ضخم الجسم إلى باب المصعد رمقها بنظرة صفراء، مدت له يدها بجنيه، لمعت أسنانه البيضاء الكبيرة في ابتسامة عريضة تقلصت في غمضة عين.
كان باب الشقة مفتوحا مثل كل الأبواب المفتوحة تتصيد الضحايا، عيادات الأطباء، مكاتب الحانوتية، صالونات الحلاقين، محلات الجزارين، السماسرة، المحامون، وكلاء الشركات الأجنبية، والمهن الحرة، ومكاتب الأحزاب السياسية والصحف، ورجال الأعمال والجمعيات الخيرية التي أصبحت تسمى الهيئات غير الحكومية، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وحقوق النساء.
فوق الباب رقعة لامعة من النحاس مكتوب عليها الاسم واللقب، مواعيد الزيارات والأسعار. في المدخل مكتب الاستقبال، رجل يرتدي مريلة بيضاء جالس وراء مكتب صغير، فوقه دفتر ضخم دون اسمها، أخذ منها رزمة الجنيهات وأعطاها رقما، راحت تبحلق فيه وقتا طويلا وهي واقفة ثم جلست في غرفة الانتظار، أخذت تتأمل الوجوه. كلهن نساء، وجوههن شاحبة مخطوفة ، جالسات صامتات مطرقات، رءوسهن مثقلة بالعبء بالخوف من الغيب، إحداهن تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمتم بعض الآيات المقدسات، فتاة شابة شعرها أسود طويل ترتدي الميني جيب، وجهها تغطيه مساحيق وألوان، رموشها الغزيرة تبربش في حركة دائرية، رمقتها بنظرة سريعة ثم حركت رأسها إلى الناحية الأخرى.
دقت الساعة الرابعة، قادها التمورجي إلى باب صغير، في نهاية سرداب طويل، حيث يقبع الموت متنكرا داخل معطف أبيض.
منذ طفولتها كرهت بدرية الأطباء، لم تكن تبكي مثل بدور حين يغرس الطبيب الإبرة في جسدها، تكز على أسنانها وتكتم الألم.
صعدت إلى المنضدة الطويلة من المعدن اللامع، إلى جوارها منضدة أخرى صغيرة، فوقها تلمع الأدوات الحادة، مشارط وسكاكين وإبر وأسياخ حديدية، فوق الأرض البلاط جردل كبير مليء بالدم المتجمد، أو بقطع اللحم الصغيرة الحمراء.
قبل أن يربط ساقيها المفتوحتين إلى العمودين الحديديين انتفض جسدها واقفا، نفضت عن نفسها الرعشة والقشعريرة، ارتدت ملابسها بسرعة، خرجت تجري إلى الشارع، لم تسترد ما دفعته للتمورجي، لم تنظر خلفها.
وانتهت بدور من الفصل الأول في الرواية.
قالت بدور لنفسها: أكانت بدرية أشجع مني وأكثر أمومة؟
في الليل تبكي بدور على روايتها المسروقة، راحت منها في النوم مع طفلتها الضائعة، حملت بها في مكان وزمان لا تعيهما، وضاعت منها في الحلم.
في النوم تمشي تبحث عنها، تجوب الشوارع والحواري والأزقة، تتوقف عند أبواب الكنائس والجوامع، تتعثر قدمها أحيانا بشيء ملفوف داخل غطاء من الصوف الوردي الناعم، تتعرف على اللون والرائحة، الأصابع الصغيرة البضة تشبه أصابعها، الوجه الصغير الوردي ناعم مثل ورق الورد، بشرتها بلون بشرتها، تغطيها بقع دم جفت ودموع لم تجف، جفونها مغلقة مبللة بقطرات مطر.
لو لم تفتح جفونها لما حدث ما حدث، لما عرفت بدور أنها طفلتها، لما تذكرت أنها حملت بها في اليقظة أو المنام، لما نهضت من فراشها الدافئ في منتصف الليل وجابت الطرقات تبحث عنها، لما مزقت شعرها ولطمت خديها وغرست السكين في صدرها طوال الليل.
لكن جفونها المغلقة المتورمة انفتحت فجأة، ربما أدركت المولودة أن أمها تفارقها إلى الأبد، أو الأم أدركت أنها تفارق طفلتها إلى الأبد، تنزع من صدرها القلب أو الكبد، تلفه وهو يقطر بالدم داخل الغطاء من الصوف الناعم، تدثر كبدها من البرد، تحميه من تراب الشارع وقطع الزلط، تمسح كفيها بالأرض قبل أن تنزعه عن صدرها، قبل أن تتركه وتمضي بعيدا في الطريق المظلم الطويل اللانهائي.
كانت بدور تصحو في الليل. شيء ما يوقظها، إصبع مدببة تنغرز في لحم كتفها، بوز قدم يركلها في بطنها، شفرة موسى تمشي فوق معصمها، يد ترتفع عاليا وتسقط على وجهها في صفعة قوية. تهب من النوم مفتوحة العينين، تتصور أنه زوجها زكريا الخرتيتي يصفعها، أو أنها بدرية خرجت من بين الأوراق المتراكمة بجوار السرير وسددت إليها ضربة قوية. ترفع بدور يدها عاليا لترد الصفعة بصفعة مماثلة، لكن يدها البضة الثقيلة لا ترتفع، ذراعها سمينة قصيرة ملتصقة بجسدها، قلبها محبوس داخل عظام ضلوعها، كبدها منزوع من شق كبير في جنبها الأيمن. منذ هذا الشق الطويل الغائر في جسدها لم تعد بدور قادرة على المقاومة. في طفولتها كانت أكثر شجاعة، في المدرسة لا تسدد إليها إحدى الزميلات ضربة إلا ترد عليها بضربة مماثلة أو أشد. كانت تمشي بين البنات مرفوعة الرأس، تمشي في المظاهرات تهتف ضد الحكومة والاستعمار، إلى جوارها يمشي نسيم طويل القامة ممشوقها، المقلتان الكبيرتان في عينيه ينعكس فيهما ضوء الشمس. يتغير لونهما مع حركة الضوء، الزرقة العميقة الدكناء إلى حد اللون الأسود كعين الليل، أو عين النهار حين يأتي الصبح وتشرق الشمس.
في أحلامها قالت بدرية لبدور: سيكون لك طفلة أو طفل بهاتين المقلتين، ستنظرين في عينيه أو عينيها وتملكين الكون.
لو لم تفتح جفونها وترى المقلتين الزرقاوين السوداوين لربما عاشت بدور حياتها مثل غيرها من النساء، لربما ضمها عش الزوجية السعيد مع زكريا الخرتيتي، لربما ابتهجت بمركزها العالي في الجامعة، وإنتاجها العظيم في النقد الأدبي والعمود اليومي الذي يملكه زوجها في جريدة «أبو الهول»، وابنتها مجيدة الخرتيتي التي تكتب في مجلة النهضة، وبطاقات الدعوة التي تأتيها بالبريد، والكتب والمؤلفات التي يرسلها إليها الكتاب والكاتبات؛ ينشدون منها كلمة أو نظرة أو لفتة كريمة.
كانت بدور تخفي حزنها العميق تحت وجهها المتورد السمين، تطوي سرها الدفين في ثنايا أحشائها، ترسم فوق ملامحها ابتسامة مشرقة، تطلق ضحكة عالية من حين إلى حين، ربما لا يكون هناك شيء مضحك، لكنها تطلق ضحكتها المميزة طويلة وحادة، تنتهي بشهيق متقطع الأنفاس يشبه النشيج المكتوم.
لأن خبراء تربية المواشي يؤكدون هذه الحالة حين تصاب البقرة الأم باكتئاب مزمن بعد أن ينزعوا عنها وليدها، بعد أن تنظر في عيني وليدها قبل أن يفارقها. كان الخبراء يغطون عيون البقرات الأمهات، يضعون فوق عيونهن غطاء سميكا لا يشف الضوء، تلد البقرة عجلها أو عجلتها دون أن تراها، دون أن تلتقي العيون لحظة أو أقل من لحظة، دون أن تتلامس العيون في نظرة واحدة أو نصف نظرة. إن هذه النظرة الواحدة هي التي تبقى مع الأم لا تفارقها حتى الموت، وإن كانت بقرة، فما بال أن تكون ناقدة مرموقة، اسمها بدور، أو بطلة في رواية أدبية اسمها بدرية؟
في الليل تتحسس بدرية بطنها من تحت الغطاء، تحت كفها البضة الناعمة تحس دقات القلب الصغير. رفسات القدم الدقيقة الرقيقة تدق جدار بطنها، تضغط بيديها فوق الصوت تكتمه، تلف أصابعها حول العنق الصغير تخنقه، تريد أن تراه ميتا، وتريده أن يعيش ويرى النور، تتمزق بين الإرادتين إرادة الله وإرادة الشيطان. كان الله يريده ميتا؛ لأنه ابن زنى، وكان الشيطان يريده حيا يتألق في سماء الكون كالنجم.
في الطرقات المظلمة كانت بدور تمشي تقودها بدرية من يدها، تسحبها من خلفها كما يسحب الفلاح بقرته من خلفه. عيناها لا تريان الطريق أمامها؛ الغمامة المربوطة حول رأسها، أو لأنها مغلقة الجفون في نوم عميق؛ أو لأنها تركت أمرها ومصيرها في يد بدرية. إنها بدرية التي تحرضها على العصيان، منذ الطفولة تدفعها إلى الخروج إلى الشارع، إلى الهروب من المدرسة والمشاركة في المظاهرات، إلى الهتاف ضد الله والوطن ، ضد الأب والأم والجد، ضد المدرسين والمدرسات. إنها بدرية التي دفعتها إلى دخول الغرفة في البدروم، هي التي وقعت في حب نسيم، هي التي أرادت أن يكون لها طفلة أو طفل يرث قوامه الممشوق، يمشي فوق الأرض بخطواته الشامخة؛ مقلتان كبيرتان شاخصتان إلى الأمام، لونهما أزرق أسود بعمق البحر في الليل أو السماء حين تسطع الشمس. تصورته رجلا آخر اسمه نعيم، كان هو حبها الأول قبل أن يدركها الحيض. إنها بدرية التي فتحت جفونها ورأت المقلتين قبل أن تختفي في الظلمة، رأتهما لحظة أو نصف لحظة، لم تكف بعدها عن البحث. بعد أن ينام الكون ترتدي ملابسها وتخرج، تمشي في الشوارع، تنظر في عيون الأطفال، تحملق في عيونهم تبحث عن المقلتين. قد تكون الطفلة راقدة فوق الرصيف غارقة في النوم، جفونها مغلقة، قدماها الصغيرتان مشققتان، بشرتها سمراء حرقتها الشمس، مبقعة بدوائر بيضاء وصفراء تعلوها جروح وكدمات، شفتاها منفرجتان قليلا مثل الأطفال في النوم، تبتسم لأمها أو أبيها المجهول في الحلم. تفتح الطفلة عينيها لترى بدرية جالسة إلى جوارها، تمد لها يدها برغيف طازج من الفرن أو قطعة كعك، قبل أن تنهض وتمضي بعيدا. ليستا المقلتين نفسيهما، ليستا العينين نفسيهما، ليست هي النظرة المحفورة في خلايا العقل داخل ثنايا المخ، ليست هي زينة ابنة نعيم.
لا تمد الطفلة يدها إليها؛ تعرف أنها ليست أمها. إنها امرأة أخرى لا تعرفها، واحدة من هؤلاء النساء، عضو في جمعية رعاية أطفال الشوارع، أو رعاية مرضى السل أو الجذام أو الإيدز، أو في مجلس الطفولة أو الأمومة أو الوالدين، أو موظفة في حزب الحكومة أو المعارضة أو حقوق الإنسان.
لا تمد الطفلة يدها في إباء وشمم، لا تريد حسنة ولا شفقة من هؤلاء أو أولئك، لا تريد رغيف خبز أو قطعة من الكعك، بل تريد أن تذهب إلى المدرسة والجامعة مثل غيرها من بنات الناس، تريد أن تكون لها كرامة وشرف، وشهادة ميلاد وشهادة الليسانس والدكتوراه.
تعود بدرية إلى بيتها منهوكة القوى محنية الرأس، تكاد تشبه بدور بعد أن تزوجت. لم يكن زكريا الخرتيتي فتى أحلامها، تقدم إلى أبيها يطلب يدها، كانت الثورة قد قامت وسقط الملك عن العرش. جلس في مقاعد الحكم ملوك صغار، يرتدون ملابس عسكرية، أحدهم هو أبوها اليوزباشي الدامهيري، كانت أخته قد تزوجت من ابن عم أحد قادة الثورة. خلع الدامهيري البذلة العسكرية، ارتدي ملابس مدنية أنيقة، أصبح له مكتب فاخر في المؤسسة أو لجنة الثقافة والأدب والفنون والصحافة، يجمع بين عدد من الوظائف واللجان العليا مثل غيره من العسكر. يمكن الواحد منهم أن يشرف على عدد من الهيئات والمجالس واللجان، تحمل اللجنة اسما مركبا من كلمتين: العليا الدائمة. كان الواحد منهم يحمل سبحة صفراء في يده، يصلي الجمعة وراء الصف الأول، أو الصف الثاني، يتصور أن الله معه في كل خطوة، أن لجنته الدائمة العليا هي من عند الله، وأنها دائمة دوام الخالق الأوحد.
كان زكريا الخرتيتي صحفيا ناشئا، كتب بعض المقالات في مدح الملك، حذفها من ذاكرته بعد قيام الثورة. بدأ يكتب عن الثورة المجيدة ثم عن الاشتراكية العربية الإسلامية، ليست هي اشتراكية كارل ماركس «اليهودي الملحد».
يضغط بسن القلم على الكلمتين «اليهودي الملحد». كلمة واحدة منهما كانت كافية لتلويث سمعة أي كائن حي أو ميت.
في الصباح وهو يرشف القهوة يتطلع زكريا الخرتيتي إلى الصور المنشورة في الصفحة الأولى، لم تكن أحلامه تصل إلى هؤلاء العظام في الصفحة الأولى. يقلب الصفحة بأطراف أصابعه القصيرة النحيفة، تتطلع عيناه الضيقتان الغائرتان إلى وجوه الصفحة الثانية، يرى وجه الأستاذ الكبير الدامهيري، تحول الدامهيري من رجل عسكري إلى مفكر كبير، يتحدث في الأدب والفن والثقافة، صورته تظهر داخل برواز مربع فوق خبر من أخباره، أو مقال صغير يكتبه إن شاء له أن يكتب، أو قصيدة ركيكة من قصائده في الغزل السياسي أو في حب الغواني.
ذات يوم وهو يقرأ الجريدة رأى صورة فتاة مستديرة الوجه، شعرها طويل ناعم ينسدل فوق كتفيها، عيناها ناعستان في نظرة الأنثى الحالمة بالحب. يدها البضة السمينة فوق المكتب، بين أناملها الرقيقة قلم قصير يشبه قلم الحواجب، اسمها مطبوع تحت الصورة: الناقدة الشابة الجديدة «بدور زكريا الخرتيتي».
كان الجرح العميق في أحشائها قد التأم. مسحت من ذاكرتها صورته، الوجه والقوام والمقلتين، الغرفة من البلاط في البدروم. عرفت أنه مات في السجن، مات ميتة طبيعية بإرادة الله، كما جاء في التقرير الطبي. لم يكن الوحيد الذي مات من الضرب في السجن، أو أصابته رصاصة وهو يمشي في المظاهرة، أو طاردته فرقة من البوليس وهو يهرب في الليل. كم كان عدد هؤلاء الذين داسوا صورة الملك؟ الذين هتفوا: «يسقط الاستعمار البريطاني»، «تحيا مصر حرة»؟ هؤلاء الذين فتحوا الطريق أمام الثورة، لكن ما إن جلس الرجال العسكر على العرش حتى غيروا التاريخ، أصبحوا هم الأبطال واندثرت أسماء الموتى والقتلى في العدم، جفت دماؤهم في الشوارع والسجون والمعتقلات، ضاعوا من ذاكرة الأمة والتاريخ، ومن الكتب المقررة للتربية الوطنية في مدارس الأطفال.
تزوجت بدور في حفل كبير حضره كبار رجالات الدولة، وأعلام الأدب والفن والصحافة. زكريا الخرتيتي يمشي مختالا داخل بدلة العريس، بدور ترتدي ثوب الزفاف الأبيض من الدانتيل الرقيق، نهداها الكبيران مضغوطان تحت السوتيان الحرير، صدرها يعلو ويهبط تحت الدقات القوية المتصاعدة، أنفاسها تلهث وهي جالسة ترمق وجه العريس من الجانب. رأسه مثلث، عيناه غائرتان تحت جبهة عريضة مثلثة، أنفه كبير حاد مقوس قليلا، جسمه غارق داخل الكرسي الكبير المذهب، جسم نحيف قصير، شعر رأسه أسود، بوادر صلعة تزحف تحت الشعر الخفيف في منتصف الرأس، قدماه صغيرتان داخل حذاء جلدي لامع، مدبب البوز يشبه ذقنه المثلث المدبب، في بوز طويل.
صديقتها صفاء الظبي تمسك يدها البضة الصغيرة في يدها، أناملها ترتعش، كفها مبللة بالعرق. - تشجعي يا بدور. - ربنا يستر يا صافي. - أيوه ربنا موجود.
كانت الطبول تدق والموسيقى تعزف، أغنية: «مبروك عليكي عريسك الخفة، يا عروسة يا زاينة الزفة.»
ترن كلمة زاينة في أذن بدور «زانية»؛ نقطة واحدة تنزلق من فوق حرف النون. تنفرج شفتاها عن تنهيدة أو ابتسامة، تفلت منها ضحكة قصيرة منقطعة تشبه النشيج المكتوم، ترمقها صافي بنظرة جانبية وتكتم الضحك.
في غرفة النوم قبل أن يخلع عنها ثوب الزفاف، وهو يهمس في أذنها: «أحبك»، أدركت أنه يكذب. هدأت أنفاسها قليلا وكفت الضربات تحت ضلوعها عن التصاعد. جاءها صوت بدرية من تحت الوسادة وهي راقدة تحته: «الكذب بالكذب، والعين بالعين، والسن بالسن يا بدور، كما قال الله في كتابه الكريم.»
كانت بدور تؤمن بالكتب السماوية، لكن بدرية كانت مثل صديقها نعيم، تدرك أن مستقبل الإنسانية في العلوم والفنون، أن الكون كائن متطور عبر ملايين السنين، أن الإنسان لم يخلق من الطين.
بعد انقطاع زينة بنت زينات عن المدرسة ظلت أبلة مريم تبحث عنها. صورتها لا تفارق ذاكرتها، مشيتها بين البنات طويلة وممشوقة مرفوعة الرأس، جلستها إلى كرسي البيانو بغير ظهر، ظهرها مستقيم العظام مشدود، أصابعها الطويلة النحيفة الصلبة تجري فوق البيانو بسرعة الضوء، عيناها قطعتان من الحجر البركاني الأزرق، شعلتان من نار سوداء زرقاء يتغير لونهما مع حركة الأرض حول الشمس، مع انتفاضة الغضب إن أغضبتها إحدى البنات، الابتسامة الطفولية المشرفة، أشعة الصبح تبدد الظلمة حين تبتسم أبلة مريم في وجهها. أبلة مريم كانت تعيش في شقة صغيرة من غرفتين في شارع صغير متفرع من شارع التحرير. فاطمة أمها المسلمة تزوجت من أبيها ميخائيل دون ورقة رسمية، لم يكن الشرع ولا القانون يبيحان المسلمة أن تتزوج من رجل غير مسلم، هربت فاطمة من عائلتها في الصعيد، وهرب ميخائيل من أهله البحيرة. التقيا في مدينة القاهرة في إحدى المظاهرات ضد النظام.
أصبحت أبلة مريم مدرسة للموسيقى، كان ميخائيل عازفا على العود في فرقة موسيقية قبل أن يهاجر خارج البلاد، أمها فاطمة قتلها أبوها الصعيدي بطلقة نار.
في ليلة مظلمة باردة، بينما كانت أبلة مريم تمشي في شارع النيل، رأت طفلة راقدة داخل الكشك الخشبي فوق دكة طويلة خشبية، كانت هناك أربع دكك مثل هذه الدكة داخل الكشك، يرقد عليها أطفال الشوارع غارقين في النوم داخل جلاليب بلون الرماد. فوق الأرض إلى جوارهم ترقد قطة كبيرة عيناها الخضراوان يكسوهما بريق يلمع في ظلمة الليل، من حولها ستة من القطط الوليدة، تحوطها من كل جانب، تلتصق بجسدها، تدفئها بأنفاسها، تلعقها بلسانها، تمسح عنها التراب والدم.
كانت أبلة مريم تنتعل حذاءها الجلدي الأسود، كعبه مربع سميك يدق الأسفلت، القدم وراء القدم، ترن الدقات في سكون الليل عالية حادة. انتفضت القطة الأم لسماع الصوت، ضمت صغارها الستة إليها، اشتعلت الخضرة في عينيها بنار متقدة، كشفت عن أنيابها تتأهب للدفاع عن مولوداتها الست. كانت القطط الشاردة في الليل مثل أطفال الشوارع تخوض معارك كثيرة ضد الكلاب الشاردة والعصابات من قطاع الطرق؛ لصوص وتجار مخدرات، وشباب بلا عمل ولا أمل، وفلاحون هاجروا من الأرض البور والفقر، وعمال طردتهم المصانع المفلسة، وبنات الليل لم يبق لهن إلا الجسد يباع في السوق، وزوجات أصبحن في الشارع بعد أن نطق الزوج كلمة «طالق» ثلاث مرات.
تميزت زينة بنت زينات بين بنات الشوارع؛ لا يمكن أحدا أن يغتصبها وإن غابت في النوم. أصابعها الطويلة النحيفة المدنية مثل المسامير تغرزها في أي عنق، تشق أسنانها القوية الحادة مثل السكاكين أي جزء من الجسم، تخرج أنيابها قابضة على قطعة من اللحم.
في النهار تجلس بين البنات على الدكك الخشبية، أو على سور النيل الحجري أو الحديدي، تقرأ عليهن أغنية كتبتها في الحلم، حفظتها عن ظهر قلب في النوم. مع اللحن والموسيقى تدق بأطراف أصابعها على الدكة الخشبية، أو حديد السور أو قطعة الحجر، أو الأرض الأسفلت. أصابعها قوية صلبة العظام، أصابع حديدية لا تلين، داست فوق الصخر وهضمت الزلط، تدق اللحن مع الإيقاع، تغني معها البنات. يرقصن معها داخل جلاليبهن الممزقة، يضربن الأرض بأقدامهن الطفولية المشققة، تنقشع السحابة من عيونهن السوداء أو الزرقاء أو الخضراء بلون الزرع مثل عيون القطط الصغيرة تحوطها الأم. كانت زينة بنت زينات تحوطهن كالأم، تكبرهن بعام أو عامين، تبدو كأنما أكبر منهن بمائة عام، كأنما لم تولد طفلة نضجت داخل الرحم. خرجت إلى العالم فتاة طويلة القامة، قوية الشكيمة، إن سدد إليها العالم ضربة سددت إليه ضربات، لكن الطفلة في أعماقها ظلت تعيش وتغني حتى آخر الرمق، تحت ضلوعها يخفق قلبها كالأطفال حين يأتي الصبح، حين تبتسم في وجهها أبلة مريم أو واحدة من البنات في الشارع أو في المدرسة، أو على خشبة المسرح.
لم يكن لها صديقة في المدرسة إلا مجيدة الخرتيتي، تدعوها أحيانا إلى بيتها الكبير في جاردن سيتي، تلعبان معا في الحديقة الواسعة حول البيت، تعزفان معا على البيانو في بهو الصالة الكبير. أصابع مجيدة ممتلئة باللحم، عظامها رقيقة، حركتها بطيئة، قامتها قصيرة مثل قامة أبيها زكريا الخرتيتي، تتأرجح وهي تمشي كالبطة مثل أمها.
كانت هناك غرفة كبيرة من الطوب الأحمر في الحديقة الخلفية، تنمو فوق جدرانها حتى السطح شجيرات البوجانفيليا الجهنمية البنفسجية والبيضاء والصفراء والحمراء بلون دم الغزال. جدران الغرفة من الداخل مغطاة حتى السقف برفوف الكتب. في الركن مكتب كبير بجوار النافذة، فوق المكتب لمبة كهرباء كبيرة وأوراق كثيرة متراكمة، قصاصات صحف ومجلات، مقالات مكتوبة بخط يد زكريا الخرتيتي. كان يأتي إلى هذه الغرفة أحيانا ينشد الهدوء حين يرغب في الابتعاد عن البيت أو عن زوجته بدور، وصديقاتها ذوات الصوت العالي الحاد خاصة صديقة عمرها صفاء الظبي، لا تكاد تفارقها في الجامعة أو في البيت. تقرأ عليها مقالها في النقد الأدبي قبل أن تنشره، تتناقشان الساعة وراء الساعة، حتى يأتي الليل، تحمل صفاء حقيبتها وتخرج، تناديها بدور قبل أن تخرج: يا صافي، نسيت أقولك ... - إيه يا بدور؟
تقفان فوق السلالم الرخامية تتحدثان، تنطلق ضحكاتهما من حين إلى حين. يتعرف زكريا الخرتيتي على ضحكة زوجته من آلاف الضحكات، ضحكة ناعمة ممطوطة تنتهي بشهيق متقطع يشبه النشيج المكبوت. لم يكن يطيق سماع هذه الضحكة، يصفعها على وجهها في الفراش لتكف عن الضحك. إن بكت يرفع يده ويصفعها. بكاؤها مثل ضحكتها حين يرقد فوقها، لا ترفع يدها لترد له الصفعة، تطرق برأسها. تكتم البكاء أو الضحك، تكتم الرغبة في أن ترفع يدها عاليا وتنهال فوق وجهه ضربا وصفعا، أن تعبر له عن رأيها فيه منذ سمعته يقول لها: أحبك. تنفرج شفتاها عن الكلمات المكبوتة في أحشائها، يخرج من بينهما هواء ساخن دون صوت.
لم يصفعها زوجها إلا بعد موت أبيها، لم يتزوجها إلا لأنها ابنة الأستاذ الكبير الدامهيري، يرى صورته منشورة في الصحف مع كبار رجالات الدولة على شاشة التلفزيون يتألق مثل النجوم، يركب سيارة سوداء كبيرة يسوقها رجل أسود البشرة يرتدي ملابس الجنود، يسكن الفيلا الكبيرة المطلة على النيل، له مكتب فخم تغطي جدرانه رفوف الكتب في الأدب والفن والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين، يمكنه بجرة قلم أن يحول صحفيا ناشئا مغمورا إلى كاتب كبير أو رئيس تحرير.
في الحديقة الواسعة حول البيت كانت «مجيدة» تلعب المساكة مع «زينة بنت زينات». تختبئ مجيدة وراء شجرة أو داخل الكاراج تحت السيارة، أو في المخزن بجوار الكاراج بين الصناديق الكبيرة من الخشب أو من الورق المقوى الكرتون، تخزن فيها أمها الكتب والروايات التي تأتيها بالبريد. لا تفتح أمها هذه الروايات، تلقي بها فوق الأرض إلى جوار مكتبها مع الصحف والمجلات التي قرأتها. تأتي «دادا» تنظف الغرفة، تحمل الكتب والروايات بما فوقها من أسماء وعناوين وأختام البريد، تحملها داخل كيس كبير من البلاستيك الأسود، تمشي بها عبر البهو الكبير، تهبط السلالم الرخامية إلى الحديقة، تجتاز الممرات الحجرية بين أحواض الزهور والورود، تصل إلى الممر الطويل بين السور الحديدي والأشجار. تدور حول البيت مع الممر حتي الحديقة الخلفية، قد تتوقف لحظة لتلتقط أنفاسها؛ أو لتختلس نظرة داخل غرفة البيه الكبير كما كانت تسميه، تلمحه من خلال النافذة الزجاجية، جالسا وراء مكتبه يقرأ تحت ضوء اللمبة الكهربائية أو يكتب عموده اليومي، أو يحملق في الفراغ عيناه إلى أعلى، كأنما ينتظر الوحي من السماء.
لم تكن مجيدة تختبئ في غرفة أبيها. مرة واحدة دخلت، كان أبوها مستغرقا في الكتابة، رفع رأسه من فوق الورق، وصاح غاضبا: اطلعي بره أوعي تدخلي هنا تاني! الأوضة دي ما حدش يدخلها مفهوم؟ - حاضر يا بابا. - كانت زينة بنت زينات قادرة على الإمساك بمجيدة في أي مخبأ في الحديقة. المقلتان الكبيرتان في عينيها الواسعتين تشعان وهجا أزرق وأخضر وأحمر، تتلون عيناها بلون أحواض الزهور، تكشفان الأركان الخفية في الحديقة مثل أشعة الضوء. وكان جسمها خفيفا، تجري به بين فروع الشجر كالفراشة البيضاء إن ارتدت ثوبها الأبيض من القطن المصري. أمها زينات كانت تشتري لها ثلاثة أمتار من القطن من شركة المحلة الكبرى في شارع التحرير، تدفع أبلة مريم ثمن القماش، وثمن الحذاء الجلدي الأسود والشريط الأبيض في شعرها الأسود الخشن النافر كالأسلاك.
كان يكفي أن يكون للبنت هذا الشعر حتى تلوكها الألسنة، كانت شعور البنات من العائلات ناعمة مرسلة فوق ظهورهن، مستسلمة تحت لمسات الهواء أو أصابع الرجل بعد الزواج.
لم يكن لزينة بنت زينات عائلة. أبوها مات وهي في الرحم، ورثت عنه ذلك «الجين» العنيد الصلب، صلابة العظام الطويلة الممشوقة والرأس الأكثر صلابة، والشعر النافر كالأسلاك الحديدية يحمي الرأس من الضربات، والمقلتين الكبيرتين تدوران كما تدور الأرض حول الشمس داخل عينين واسعتين سوداوين زرقاوين بلون الأرض والبحر، يحوطهما بياض أبيض صاف بلون الأمواج تحت أشعة الشمس، أو قمم الجبال الشاهقة وراء البحار.
من خلال جدار الرحم سمعت أمها تهتف: «يسقط الظلم، تحيا الحرية» إلى أذنيها. في الليل كان يسري النشيج المتقطع المكتوم، صوت الكرباج يلسع الهواء، يسقط فوق اللحم الحي، يرتفع إلى السماء، تنزف منه الدماء، وقطع حية من الجسد، كعوب البنادق تضرب أسفل البطن بين الفخذين المشدودتين فوق رأس ذلك العضو الذكري الذي يسمونه في السجون «القضيب». يرمق رئيس السجن قضيب المسجون بعينين ضيقتين غائرتين لونهما أصفر، مشبعتين بالحسد والإعجاب؛ يقترن الإعجاب دائما بالحسد. كان قضيب الرئيس السجان صغيرا نحيفا مقوس الظهر، تسري فيه دماء قليلة صفراء تعاني الأنيميا والخوف من الله والرؤساء. إن أصابته انتصابه يترنح متأرجحا بين الإقدام والإدبار، يظل دائما منكمشا في سرير الزوجية، لا تثيره إلا فتاة صغيرة من بنات الهوى في سجن النساء. كان يكذب على زوجته، يقول لها إنه يذهب للطبيب يعالجه من الضعف الجنسي، يتسلل من فراشها في الليل، ويذهب إلى بنات الهوى بعد ابتلاع حبة زرقاء من الفياغرا.
يتركز الإعجاب والحسد في رأس المسجون الشامخ، إن سقطت فوقه الضربات يظل مرفوعا نحو السماء، يتحدى السماء والرؤساء. في الليل يحلم بالسيف يمسكه في يده يضرب عنق المسجون، يسرق رأسه الشامخ يركبه فوق عنفه الطري الملتوي، دون جدوى لا يركب هذا الرأس فوق هذا العنق، دون جدوى، دون جدوى، في النوم أو في اليقظة، دون جدوى لا يصبح للسجان رأس المسجون أبدا.
مجيدة وزينة بنت زينات تلعبان المساكة في الحديقة الواسعة وإن اختفت مجيدة تحت الأرض تعثر عليها زينة بنت زينات تمسكها من ذراعها، تشدها من يدها وتصرخ فرحا: مسكتك يا مجيدة.
تتغير الأدوار حسب اللعبة. تصبح مجيدة هي المساكة، تختفي زينة بنت زينات، تفك مجيدة الرباط حول عينيها، تنظر حولها باحثة عنها، تفتش بين الصناديق في غرفة المخزن، تبحث تحت السيارة في الكاراج، تفتش في الحفر في الأرض بين الأشجار وأحواض الورد.
لم تكن مجيدة تعثر على زينة بنت زينات مرة، لم تكن المساكة تمسك بنت زينات؛ فهي بنت شوارع، تدربت على الاختفاء عن عيون الشياطين والآلهة. لم تكن عين إبليس الساهرة قادرة على رؤيتها، وعين الله التي لا تنام كانت تنام حين تختفي زينة بنت زينات في الظلام.
إلا مرة واحدة استطاعت عين إبليس أن تلمحها وهي تجري بين أحواض الورد. امتدت ذراعه الطويلة الصلبة التي تشبه القضيب من الحديد وأمسكها من ذراعها، شدها من يدها إلى الغرفة الخلفية في الحديقة. كانت لحظة واحدة وهي تجري بين الزهور كالفراشة البيضاء، رفع الهواء ثوبها القطني الأبيض عن ساقيها، سقطت عين إبليس فوق الفخذين الناعمتين المفتوحتين للهواء وهي تقفز، صعدت عينه إلى أعلى مع الجسد الصغير الأملس حتى أسفل البطن، حيث العانة الملساء الناعمة التي لم ينبت فيها الشعر بعد.
كانت زينة بنت زينات في التاسعة من عمرها طفلة بالمدرسة. أبلة مريم تمسك أصابعها الطويلة النحيفة عاليا لتراها البنات ، تقول أبلة مريم: أصابعها خلقت للموسيقي يا بنات، زينة بنت زينات سيكون لها مستقبل كبير في عالم الفن، يا بنات.
تنكمش مجيدة داخل مقعدها في خزي، تطرق إلى الأرض خجلا من جسدها القصير السمين، أصابعها قصيرة سمينة طرية تلتوي فوق أصابع البيانو، لا تصيبها تلك الانتصابة القوية الصلبة، لا تدق على البيانو بتلك الحركة الأسرع من الضوء، عنقها مثل جسدها قصير سمين طري لين العضلات يلتوي تحت ثقل رأسها وهي تمشي.
يتراكم الإعجاب والحسد في قلب مجيدة الصغير. عمرها ثمانية أعوام، تكبرها زينة بنت زينات بعام واحد، تبدو كأنما أكبر منها بمائة عام، كأنما عرفت الحياة والموت، والله والشيطان، ولم تعد تخافهما.
لكن قلب مجيدة مليء بالخوف، تخاف نار جهنم الحمراء بعد الموت. تخاف كف أبيها حين ترتفع في الهواء لتسقط فوق وجهها أو وجه أمها، تتلقى الصفعة وتسكت مثل أمها، أو تحبس الدمعة الحبيسة من قبل، لا تستطيع أن ترفع يدها عاليا لتسقط فوق وجهه. يدها بضة سمينة بطيئة الحركة مثل يد أمها، رأسها يطرق إلى الأرض خجلا من جسدها القصير السمين كما تفعل أمها حين تمشي.
كان اليوم جمعة، خرجت بدور وابنتها مجيدة لزيارة صافيه صديقة الأم الوحيدة. كانت صافي تسكن وحدها في شقة صغيرة بشارع العجوزة. في أول الشباب تزوجت صافي من زميل لها في الجامعة يؤمن بالماركسية، تخلت عن الله والرسول من أجل الحب، عاهدها زوجها على الحب والإخلاص، ثم تنكر للعهد. ضبطته في الشقة مع الخادمة الصغيرة، قال لها: إن الإنسان متعدد بالطبيعة، وإن التغير هو قانون الطبيعة الثابت، إن كلمة الخيانة الزوجية من مخلفات الإقطاع والملكية الفردية، إن الزوجة لا تملك زوجها؛ لأن الإنسان حر، الحرية هي أعلى مبادئ الأخلاق، لا يساويها إلا الحب. بعد الطلاق تزوجت صافي من زميل آخر يؤمن بالله والرسول، يحرك بين يديه سبحة صفراء، فوق جبهته زبيبة سوداء من طول السجود بين يدي الله، عاهدها على الحب والإخلاص. تخلت صافي عن كارل ماركس وفردريك إنجلز، لفت حول رأسها حجابا يخفي شعرها، تزوجته على سنة الله ورسوله، ثم بعد عامين وهي تمشي في أحد الشوارع البعيدة، في الطرف الآخر من المدينة، قرأت فوق باب بيت اسما يشبه اسم زوجها، الاسم الثلاثي بالحروف نفسها، محفورا فوق رقعة نحاس صغيرة مثبتة فوق الباب بالمسامير.
توقفت لحظة متشككة، قالت لنفسها قبل أن تدق الجرس: تتشابه الأسماء الثلاثية في كل السجلات، حتى كشوف الانتخابات ومكاتب البوليس، قد يدخل السجن رجل بريء لمجرد التشابه في الاسم، أو ينهض من القبر ميت لينتخب الرئيس؛ بسبب تشابه الأسماء ليس إلا.
دقت الجرس ثلاث مرات حتى انفتح الباب. رأت أمامها زوجها، بلحمه ودمه والزبيبة في منتصف جبهته، كان مرتديا منامة بيضاء فيها زهور وردية، سرواله واسع مفتوح الأزرار، يطل من الشق قضيبه الذي تعرفه، لا يمكن أن تخطئه من بين القضبان، في أنفها رائحته لا تزال منذ ليلة الأمس. ارتفعت يدها عاليا في الهواء كادت أن تسقط فوق صدغه، لولا أن ظهرت من خلفه طفلة صغيرة أمسكت يده وهي تصيح: بابا! دفع الطفلة بيده إلى الداخل، قال لزوجته وهو يرفع وجهه ناحية السماء: أنت مؤمنة يا صافي بالله والرسول، قانون السماء يعطيني الحق في الزواج بأخرى، وقانون الدولة أيضا. إن شئت فاذهبي إلى المحكمة.
كان اليوم جمعة، يخرج زكريا الخرتيتي من الفيلا في جاردن سيتي إلى الجامع في الشارع المجاور، كانت الجوامع تتكاثر في الشوارع والأزقة والحواري. قد تنبت الجوامع الصغيرة الوليدة داخل البيوت، في فناء البيت، أو مدخل البيت، أو تظهر منارة صغيرة فوق جدار، يثبت فوقها ميكروفون بالمسامير، لتصبح جامعا يذهب إليه الرجال للصلاة الجماعية صباح يوم الجمعة، والاستماع إلى خطبة الإمام شيخ الجامع.
كان يوما دافئا من أيام الربيع، حرارة الشمس تسري في الجسد بعد برودة الشتاء. خلع زكريا الخرتيتي البدلة الثقيلة من الصوف والكوفية التي لفها حول عنقه، ارتدى بدلة حريرية فوق قميص مفتوح دون ربطة العنق، يلامس الهواء الناعم عنقه القصير السمين، يسري إلى لحم صدره المغطى بشعر أسود خفيف، يخف العام وراء العام.
يتخلل السواد شعرات بيض في صدره ورأسه بعد أن تجاوز الستين، أصبحت له صلعة كبيرة في منتصف رأسه، تلمع تحت أشعة الربيع بضوء أصفر. عيناه ضيقتان غائرتان تطفو فوقهما نظرة صفراء، كلما وقع بصره على عمود زميله في الجريدة، يشيح بوجهه بعيدا عنها. الجريدة معلقة فوق الأكشاك الخشبية في النواصي والميادين، مفروشة على الأرصفة في الشوارع، بجوار الجوامع والكنائس، والمدارس والمحاكم ودور اللهو والمسرح والسينما.
لا يخلو شارع أو زقاق من كشك يبيع الصحف، ورصيف أو جزء من رصيف مغطى بالمجلات والجرائد، على رأسها جريدة أبو الهول اليومية الكبرى، تطل من صفحتها الأولى صورة الرئيس. تحوطها من كل جانب فوق الأسفلت الأحجبة والمصاحف والمسابح، والمباخر وإمساكية الصيام، ومواعيد الصلاة، وصور المرشحين في انتخابات البرلمان أو الشورى أو الرئاسة أو مجالس القرى والمحافظات، وصور النجوم في المسرح، والسينما، والتلفزيون. تتجاور الصور فوق الأرض والجدران؛ صورة فضيلة الشيخ الكبير بالعمامة واللحية والشارب، إلى جوار صورة النجمة اللامعة زيزي، خليفة أمها زوزو في عالم الرقص والغناء.
كان زكريا الخرتيتي يحرك السبحة بين أصابعه القصيرة النحيفة، يشعر بشيء من الاسترخاء بعد أن أنهى كتابة عموده اليومي، بعد أن خرجت زوجته وابنته من البيت. على الأخص زوجته، ترقبه عينها التي لا تنام مثل عين الله، تكتشف خياناته قبل أن تحدث، قبل أن تمشي في خلايا عقله على شكل فكرة طارئة، أو رعشة عابرة ينتصب لها الشيء الخفي أسفل بطنه، حين تقع عيناه على فخذي طفلة تقفز في الطريق، أو فتاة مراهقة ترتدي الميني جوب.
يتحرر زكريا الخرتيتي من عبء الضمير بعد أن يؤدي الصلاة، يركب الطائرة إلى مكة المكرمة كل عام ليمسح ذنوبه الكثيرة، يهمس في أذن الرجل المتربع إلى جواره في المسجد: يا سلام يا أخي، الله كريم على عباده، الإنسان بالطبيعة مذنب فاسق، لكن الله غفور رحيم. لولا الصلاة والصوم والحج ما كان الإنسان يتحمل وطأة ذنوبه، كان الواحد منا يموت يا أخي من تأنيب الضمير. - إي والله يا أخي، يغفر الله لنا جميع الذنوب إلا أن نشرك به، حتى الزنى يا أخ يغفره الله لنا طالما أننا نعبده وحده دون شريك. - موضوع الزنى ده محل نقاش، حضرتك مين يا أخ؟ - أنا واحد من عباد الله، موظف صغير في أرشيف الحكومة وحضرتك مين يا أخ؟ - أنا زكريا الخرتيتي! - حضرتك بتشتغل إيه؟
يشعر زكريا الخرتيتي بغصة في حلقه، كان يتصور أن كل الناس تعرف اسمه، تقرأ عموده اليومي كل صباح، ترى صورته المنشورة على صفحات المجلات، على شاشة التلفزيون في الحوارات والأحاديث، على رأس عموده الطويل الرفيع، داخل البرواز المربع. - أنت لا تقرأ الصحف يا أخ؟ - لا والله يا أستاذ، كنت زمان وأنا شاب أقرأ الصحف، وأصدق كل كلمة منشورة، لكن بعد أن كبرت وشبت عرفت أن كلهم كذابين، من أول الرئيس بتاعنا لغاية الرئيس الأمريكي والإنجليزي والفرنساوي، كلهم يا أستاذ بدون استثناء كذابين. حتى ابني يا أستاذ بيكذب علي، وبنتي ومراتي، إلا مراتي أكبر كدابة، لفت رأسها بالحجاب وعملت نفسها ولية من أولياء الله الصالحين، كل النسوان لبسوا الطرح، عشان يضحكوا علينا يا أستاذ مش كده والا إيه؟ - إيه. - يعني إيه إيه؟ - يعني فيه ناس تعرف ربنا وتخاف النار في الآخرة، مش كده وإلا إيه؟ - إيه.
تفلت ضحكة من الاثنين في لحظة واحدة، ترن في المسجد نابية وسط التمتمات بالآيات المقدسات، تبدو كالعورة بين الرءوس المحنية في خشوع، والجباه الملاصقة للأرض. - قولي يا أستاذ، هو ربنا موجود بصحيح؟ - طبعا يا أستاذ، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. - ابني عامل مثقف، بيقرأ كتب كثيرة، بيقولي: إن علم الكون أثبت إن ربنا غير موجود. - ابنك مثقف جاهل، نصف مثقف. وطي صوتك الناس سامعاك، ركز دماغك في الصلاة، ربنا موجود مية في المية، خلي ابنك يقرأ العمود بتاعي في جريدة أبو الهول، عشان يجمع بين العلم والإيمان. - حضرتك بتكتب في الصحف يا أستاذ؟ حضرتك صحفي؟ - أيوه يا سيدي. - يعني إنت واحد من الكدابين؟
أفلتت ضحكة أخرى، ضحكة واحدة من فم أحدهما، ليس هو زكريا الخرتيتي. مط شفتيه إلى الأمام، نهض من جلسته متثاقلا، يدلك عظام ظهره، غادر الجامع يمشي بحركة بطيئة، ساقاه النحيفتان مقوستان قليلا، ظهره مقوس قليلا، يترنح قليلا في مشيته، يتأرجح بين السعادة والحزن، بين الفضيلة والرذيلة، بين الإيمان والعلم، يكاد يشبه كلماته المنشورة في عموده اليومي، تتذبذب كالبندول بين الحكومة والمعارضة، بين الأمانة والخيانة. يحمل عموده عنوان: أمانة العهد، يستعير من كارل ماركس بعض العبارات، ومن كتاب الله بعض الآيات، يقتبس من القرآن والإنجيل ما يشاء، ومن خطبة الرئيس ما يراه مناسبا. يحار القراء في أمره، لا يعرفون بالضبط ما يقول، هل هو مع الحرب أو ضد الحرب؟ هل هو مع السلم أو اللاسلم؟ هل هو مع الإيمان أو اللاإيمان؟ أطلقت عليه زوجته بدور اسم الرجل الزئبق. صديقتها صافي قالت عنه: السراب الذي تراه العيون الجاهلة ماء.
مع حركة الساقين في المشي أحس زكريا الخرتيتي بشيء من النشاط، مع أشعة الشمس الدافئة تسري في عروقه اليابسة، ونسمة الهواء الرقيقة تنفذ من فتحة القميص إلى صدره وبطنه، تدغدغ الجزء الأسفل من البطن بما فيه الشيء. مع حركة الفخذين في السير على القدمين، واحتكاك اللحم باللحم، كان الشيء ينتشي بشيء من النشوة، ينتفض قليلا باللذة أو الأمل في اللذة. لم تكن زوجته بدور قادرة على منحه اللذة؛ ربما لأنها مقطوعة البظر منذ الطفولة، مكبوتة منذ أن ولدتها أمها، مقموعة بأبيها العسكري، تحول بقدرة الله إلى كاتب كبير. أو لأنها أحبت رجلا آخر، منذ ليلة الزفاف أدرك أن في حياتها رجلا آخر، بل قبل ليلة الزفاف، منذ رأي صورتها داخل البرواز. عيناها الناعستان المسيلتان في أنوثة مراوغة، نظرة بنات الهوى تتخفى تحت ستار من الأدب والفن والثقافة، والنقد المسرحي والسينمائي.
وكان زكريا الخرتيتي ينسى آثامه الكثيرة، يمسحها بالحج والصلاة والصوم. تزوج بدور دون حب دون صدق، كان زواجا قائما على العقل، منذ رأى صورة أبيها منشورة في الصحف مع رجالات الدولة، منذ أصبح أبوها رئيسا لتلك المؤسسة الكبرى للثقافة والأدب والفن والصحافة، قال له عقله الباطن في الحلم: انتبه يا زكريا يا ابن الخرتيتي، هذا الرجل هو فرصتك الوحيدة، هو طريق الوصول إلى أحلامك في الصحافة.
منذ رأته بدور في أول لقاء، قال لها عقلها الباطن في النوم: انتبهي يا بدور يا بنت الدامهيري، هذا الرجل انتهازي وصولي، ينتهز الفرص للوصول قبل غيره من الشباب، تربوا في مدرسة الثورة. إنه الجيل الضائع بين عصر ملكي فاسد وعصر جمهوري أكثر فسادا، بين كارل ماركس ومحمد رسول الله، بين الاستعمار البريطاني المتخفي تحت ورقة التوت، وبين الاستعمار الأمريكي العاري إلى حد الفسق، بين نساء يرتدين الحجاب ونساء يرتدين الميني جوب، بين هؤلاء وهؤلاء الفتيات الجدد، تلف الواحدة رأسها بالحجاب وتكشف عن بطنها داخل الجينز الضيق.
زكريا الخرتيتي يرمق سيقان البنات وهو يمشي في الشارع، تصعد عيناه الضيقتان الغائرتان مع الساق الطويلة الممشوقة إلى الفخذ الممتلئة باللحم. تضرب البنت بكعب حذائها الأرض مثل الجواد الجامح، ترتج الأليتان المكورتان أسفل ظهرها، تمتد إصبعه في خياله بينهما، في الشق العميق بين الإليتين، كل منهما مستديرة صلبة مثل الكرة المطاط. لا يعرف البنت من الولد من الخلف، في المراهقة كان يشتهي الأولاد الذكور، أفخاذهم مشدودة كالنمور، أخذه المدرس الأول ذات يوم إلى المرحاض، حيث أفقده العذرية، وأخذ هو ولدا أصغر يتيما ليس له أم ولا أب.
يطرد زكريا الخرتيتي هذه الذكريات القديمة، مدفونة في قاع أحشائه الدفينة، يهز رأسه على إيقاع الموسيقى الراقصة في الراديو، أو في التلفزيون فوق الرف داخل المقهى. قلبه يتخفف من العبء، انتهى من كتابة عموده اليومي، العبء الثقيل يجثم على صدره حتى يلفظه فوق الورقة. أمامه يوم كامل ليس فيه زوجته ولا ابنته، يشعر بنشوة خفية حين تغيب زوجته عن البيت، تسقط الأغلال غير المرئية عن عقله وجسده، يصبح البيت ملكا له وحده، يفرد ذراعيه عن آخرهما، يفرد ساقيه حتى تطقطق فقرات ظهره. يخرج النوتة الخضراء الصغيرة من الدرج السري أسفل المكتب، يحتفظ في الدرج بأسراره القديمة، منشورات الحزب أو الخلية السرية في النشاط السياسي ، نشاطه الجنسي السري، صور بنات الهوى، خطابات غرامية جاءته من النساء، أو كتبها بخط يده دون أن يرسلها إلى واحدة منهن، أبيات شعر كتبها في الغزل والحب، عبارات مهذبة بريئة، وعبارات بذيئة يسمعها من أولاد الشوارع تطرب لها أذناه، ينتشي لها جسده. كانت البذاءة شيئا ضروريا للوصول إلى قمة اللذة، وكانت زوجته مهذبة مثل بنات العائلات. إن همس لها بكلمة بذيئة أثناء الجماع تمط شفتيها باشمئزاز، تسري في جسدها برودة من قمة الرأس حتى بطن القدمين، وإن ضغط عليها بكل جسده، أو نخسها بسكين في بطن قدمها أو ثنايا اللحم، لا تنتفض في كيانها خلية واحدة أو يطرف لها جفن.
من نافذة غرفته لمحها وهي تدخل من الباب الخارجي للحديقة، كان يتأمل وجهه في المرآة، يسوي الشعرات القليلة فوق الصلعة الملساء، يرمق ذقنه المثلث بازدراء، لا يعرف ماذا يفعل باليوم الطويل حتى تعود زوجته. فتش في النوتة السرية عن رقم عشيقة قديمة، رن جرس التلفون طويلا دون أن ينقطع الجرس، أدار القرص بأرقام أخرى دون جدوى، لم يعثر على واحدة منهن. قال لنفسه في ضيق: هل عثرن جميعهن على زوج أو عشيق؟ هل ذهين جميعا إلى الحج ليمسحن ذنوبهن أو أصابهن فيروس الإيدز عقابا من الرب؟
حرك رأسه ناحية النافذة يتطلع إلى السماء، فجأة لمحها تدخل من الباب كأنما لبت السماء الدعاء، كأنما اطلع الله على ما دار في عقله فأرسلها إليه قبل أن ينطق بالرجاء. دخلت إلى الحديقة بقامتها الطويلة الرشيقة، تبدو فتاة شابة وليست طفلة في التاسعة من العمر، ليس لها أب ولا أم، ضمتها دادا زينات إلى حضنها كالأم، تولت أبلة مريم دفع النفقات، تنبأت لها بمستقبل زاهر في عالم الفن والغناء، ترعاها ابنته مجيدة كالأخت، تعطف عليها زوجته بدور مثلما تعطف على اليتامى واللقطاء. حين فتح لها الباب سألت بصوت مرح يغرد: مجيدة هنا يا عمو؟ - أيوه يا حلوة ادخلي.
كان اليوم جمعة، تتصاعد الأصوات الزاعقة من خلال الميكروفونات، الابتهالات والتكبيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله، تتكرر الشهادة آلاف المرات، ملايين المرات، تخرق الأصوات الآذان، وطبقات الأرض والسماء، تصل إلى أسماع الآلهة والملائكة والشياطين، وأسماع الكائنات الحية فوق الأرض، حتى القطط أصبحت تردد الشهادة، الأمهات ومولوداتها الصغيرات، ترهف القطط آذانها لسماع الأصوات، لا تفهم القطط معنى الكلمات، لكنها مثل أطفال الشوارع تلتقط اللحن، تردده عن ظهر قلب، تظنه أغنيه تغنيها الأم لطفلتها عند النوم، أو قصيدة شعر ترددها الطفلة في المدرسة، أو إيقاع رقصة يؤديها الأطفال على الرصيف أو فوق خشبة المسرح.
دخلت زينة بنت زينات إلى غرفة المكتب الكبيرة، جدرانها مغطاة برفوف الكتب، شهقت بدهشة الأطفال: ياه ده كتب كتيرة أوي يا عمو؟ - أيوه يا حلوة. - إنت قريتها كلها؟ - طبعا يا حلوة.
فوق المكتب الفخم لوحة منقوش عليها حروف بالخط النسخي الكوفي: يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء.
يهتدي زكريا الخرتيتي بهذه العبارة في حياته، الهداية من عند الله والضلال من عند الله، للضلال في حياته جاذبية أشد من الهداية، تسري في جسده لذة الضلال، حارة وساخنة كالدم يجري في عروقه، يتجمع الدم أسفل بطنه، بزحف تحت شعر العانة إلى غدة الشيطان ومركز الغواية.
كانت زينة بنت زينات تتمشى بقامتها الممشوقة، تتأمل اللوحات والفازات والقطع الأثرية. في ركن الغرفة أريكة من الجلد الفاخر الناعم، جلس عليها زكريا الخرتيتي ممسكا تمثالا صغيرا لرأس نفرتيتي: تعالي هنا يا حلوة، شوفي التمثال ده. - أللاه ده حلو أوي! مين الست ديي؟ - دي الملكة نفرتيتي! - كانت ملكة بحق وحقيق؟ - طبعا، يا ترى عجبك التمثال؟ - أوي يا عمو! - خديه لك، ده هدية مني لك!
تلف أصابعها الطويلة النحيلة حول التمثال، تقبض عليه. يرمقها زكريا الخرتيتي بجانب عينه، أنفها من الجانب مرفوع في كبرياء، نهدها الصغير ينبض فوق صدرها تحت الثوب الأبيض، لم يصبح ثديا بعد، حلمة صغيرة دقيقة تمتد إصبعه تلامسها، يلتهب الدم في جسده مع التلامس، كهربة أو تيار كهربائي يسري في أحشائه، ينتفض ويلهث كالممسوس بقوة أكبر منه.
انتفضت من فوق الأريكة واقفة، ألقت التمثال على الأرض ، التفت أصابعها حول أكرة الباب تفتحه، لكن الباب كان مغلقا، والمفتاح في جيب زكريا الخرتيتي. لم تكن طفلة مثل بنات العائلات، تدربت على المقاومة في الشارع، فقدت عذريتها منذ تركتها أمها فوق الرصيف، لم تعد تخاف اللصوص وقطاع الطرق. كانت في التاسعة من العمر، يكبرها بستة وثلاثين عاما، رجل ذكر هاج ذكره، إن هاج ذكر الرجل فقد ثلثي عقله، كما ورد عن لسان رجل من أولياء الله. بدأ الصراع بينهما في غرفة المكتب؛ بين رجل كبير في رأسه ثلث عقل، وطفلة صغيرة عقلها كبير أكبر من عمرها، استطاع أن يمزق ثوبها الأبيض من القطن المصري، أن يمزق قميصها الداخلي، أن ينزع عنها الكيلوت الصغير الأبيض، أن يشد ساقها بعيدا عن الساق الأخرى، أن يدس قضيبه بين فخذيها، لكنه عجز عن دخولها، عجز ذكره المنتصب أن يشق طريقه بين ثنايا اللحم.
كان الطريق مغلقا تماما، كأنما ليس في جسدها فتحة تدخل منها القضبان، كأنما ليس لها مهبل أو قناة مهبل يدخلها عضو الذكر، كأنما ليست أنثي مثل غيرها من الإناث.
لم يتخيل ثلث عقله أن طفلة مثلها تملك هذه القدرة، أن يكون لعضلات جسدها هذه القوة في تجاربه السابقة. كانت الواحدة منهن تستسلم في النهاية، وإن قاومت وتمنعت وصارعت، وإن كانت شابة قوية العضلات، فهي في نهاية الأمر تكف عن المقاومة. ترقد تحته بلا حول ولا قوة، قد تبكي طالبة منه الرحمة، تتوسل إليه أن يعتقها لوجه الله. لا تزيده دموعها إلا رغبة فيها، لا تفعل توسلاتها شيئا إلا إشعاله بحمى الاغتصاب. في أعماقه طفل في المدرسة تم اغتصابه، ارتبطت لذة الجنس في عقله وجسده بالاغتصاب، بالانتقام من المدرس الأول الذي هتك عذريته، من أبيه الذي كان يلسعه بالعصا الخيزران، من حرس الجامعة جروا وراءه في المظاهرات، يضربونه بالهراوات. أصبح يتغنى مثل زملائه بعبارة: «ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب.» يردد مع الراديو أغاني الحب واللوعة والنواح والصد والهجران، ارتبط الحب في جسده وعقله بالألم، تلاحمت الرغبة في الجنس بالعنف والقسوة. كلما زادت قسوة المرأة عليه زاد حبه لها، لا يحب من النساء إلا من تهجره وتؤلمه، تصارعه وتضربه وتوجعه، حتى يئن أنينا بين يديها كالطفل بين يدي أمه أو أبيه القاسي، أو العبد بين يدي الله الأكبر الجبار.
في صراعه الطويل معها تصور أنها في النهاية سوف تلين، سوف تغلبها الأنوثة وتسلبها الإرادة. لم يدرك زكريا الخرتيتي إلا نوعا واحدا من الأنوثة، أنوثة تربت منذ الطفولة على الخنوع، وإن قاومت أو تمنعت فليس ذلك إلا جزءا من اللعبة؛ دموعها جزء من اللعبة، قسوتها أيضا جزء من اللعبة، وإن هجرته أو ضربته بحزامه الجلدي حتي يئن ويتوجع، فليس ذلك إلا جزءا من اللعبة، مثل لعب الأطفال في البيوت.
لكن زينة بنت زينات لم يكن لها بيت ولا لعب أطفال. نشأت في الشارع على جانب الطريق مثل أشجار التين الشوكي، إن أمسكتها يد دون إرادتها غرزت فيها أشواكها حتى تنزف منها الدماء. أسنانها أيضا كانت قوية صلبة كالمسامير، غرزتها في لحم كتفه، في عنقه، في بطنه، أسفل بطنه، في رأس القضيب ذاته، قضمت بأسنانها قطعة منه، سال الدم غزيرا فوق السجادة العجمية المزركشة في غرفة المكتب.
غاب زكريا الخرتيتي عن الوعي بضع لحظات، رقد فوق الأرض يئن بصوت مكتوم. تحول الأنين بعد لحظات إلى ما يشبه الشخير.
مدت زينة بنت زينات ذراعها الطويلة نحوه، وهو راقد فوق بطنه، سحبت من جيبه المفتاح بأصابعها الرفيعة المدببة، سارت على رءوس أصابعها إلى الباب، أدارت المفتاح في الشق الصغير دورتين، تسللت خارج الباب دون صوت، أغلقت الباب وراءها بالمفتاح. أصبح زكريا الخرتيتي حبيس غرفة مكتبه حتى عادت زوجته إلى البيت آخر النهار.
رقد زكريا الخرتيتي في السرير ثلاثة أيام، عالج جروحه بالقطن وصبغة اليود. في اليوم الرابع عادت إليه رغبته في الجنس، كانت تعاوده من حين إلى حين، يمد ذراعه في الليل عبر السرير العريض، تلامس يده ظهر زوجته بدور غارقة في النوم، شخيرها خافت مكتوم، تكتم صوت شخيرها وهي غائبة عن الوعي؛ تخشى أن يسمعه زوجها. بنات العائلات لا يشخرن في النوم، ذوات الأنوثة الكاملة أنفاسهن رقيقة ليس لها صوت.
يهزها من كتفها بحركة رقيقة: بدور يا حبيبتي، صاحية والا نايمة؟ - نايمة يا زكريا. - وبتكلمي وانتي نايمة يا بدور؟ - أيوه يا زكريا.
لا تفتح بدور جفونها، تعرفه من صوته حين يرق، حين يريد أن يفرغ غدة الشيطان في جوفها، في الوعاء الذي امتلكه بورقة الزواج، يظن أنها جاهزة له حين يريد. وإن كانت في عز النوم يوقظها، يداعبها قليلا بإصبعه، في بطن قدمها اليسرى. تدرب عبر السنين على اكتشاف مواقع الألم واللذة، مراكز النشوة والحب، يدلك بإصبعه ذكريات الطفولة، يوقظ شهوتها في النوم أو في الموت، يشدها من شعرها لتصحو، يضربها برقة فوق خدها. إن أغضبه برودها يصفعها على وجهها، أو يلسعها بحزامه الجلدي فوق بطنها وفخذيها.
لم تكن ترد له الضربة بضربة مماثلة. كان يحلم أحيانا أنها صفعته على وجهه، أمسكت الحزام الجلدي وراحت تضربه حتى يتسلخ جلده، حتى توقظ الشهوة الدفينة في أحشائه منذ الطفولة. لا يحدث ذلك إلا في الحلم، لا يملك الشجاعة أن يقول لها: اضربيني يا حبيبتي اضربيني، انزعي عني قشرتي وخذيني.
ماذا يمكن أن تقول عنه؟ رجل بلا رجولة؟ ذكر بلا ذكورة يشتهي الضرب مثل النسوان؟
تلك الليلة كان راقدا ما بين الحلم والحقيقة، عقله شبه غائب، غدة الشيطان منتفخة لم يفرغها، عجز عن الانتصار على طفلة في التاسعة من عمرها، مزقت لحمه بأسنانها، وحبسته داخل الغرفة. في أعماقه إحساس بالهوان والرغبة في الانتقام، ليس لديه إلا زوجه ينتقم منها، أو ابنته مجيدة يضربها دون سبب أو لسبب تافه؛ يريد أن ينفس عنه الغضب، أن ينتقم من كل الرجال الذين ضربوه وكل النساء اللواتي رفضنه، من رئيس الدولة الذي لم يبتسم في وجهه، أو الوزير، أو رئيس التحرير. جسده ينتفض بالغضب، غاضب من نفسه أيضا، دناءة نفسه التي تدفعه إلى البذاءة والسفالة واختلاس المال أو السرقة واغتصاب البنات الصغيرات، والتسلل من فراش الزوجية إلى بيوت العاهرات. النفس أمارة بالسوء يا زكريا، الإنسان مذنب بالفطرة والطبيعة؛ وإلا فما كانت التوبة والغفران؟ الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
يخفف عن نفسه الإثم بكلمات من عند الله، دون جدوى، دون جدوى.
في أعماقه رغبة في أن يضرب نفسه بالحزام الجلدي، أن يوقظ زوجته لتمسك الحزام وتضربه، يصرخ بصوت مسموع وهي راقدة إلى جواره: اضربيني يا بدور، أرجوكي اضربيني لأشتهيكي، إنكئي جروحي؛ لتلتئم روحي وتشفيني!
لم تسمع بدور إلا فحيح صوته المتحشرج وهو نائم. كان غارقا في النوم، يئن بصوت خافت، يذوب الشخير في الأنين، ينقطع الصوت لحظة حين ينقلب من جنب إلى جنب، أو يحرك رأسه فوق الوسادة من اليسار إلى اليمين.
ناولها الحزام الجلدي ذات ليلة، قال لها: اضربيني. وقفت أمامه بدور عاجزة عن النطق، عاجزة عن أن ترفع يدها بالحزام وتضربه. شيء عميق مدفون في أعماقها منذ الطفولة، شيء يشبه الخوف، أو العار أو العيب. لا، لا يمكن أن ترتفع عين المرأة في عين الرجل، لا يمكن أن ترتفع عين الخادم في عين السيد. للسيد أن يضرب الخادم، للرجل أن يضرب المرأة، العكس غير ممكن، غير مباح في الشرع والعرف والقانون وأخلاق العائلات. أمسكت بذور الحزام الجلدي وراحت تضرب الجدار، انهالت فوق الجدار ضربا، كأنما الجدار هو زوجها وأبوها وعمها وجدها والشيطان والله، أرادت أن يتهاوى الجدار ويسقط، أن تسمع أنينه بأذنها، أن تدوسه بقدمها.
لكن الجدار بقي في مكانه لا يسقط. بلغ بها الغضب مداه، أمسكت الحزام الجلدي وراحت تضرب نفسها، تضرب جسدها، ذراعيها وساقيها وفخذيها. من قمة رأسها إلى بطن قدميها راحت نضرب بالحزام الجلدي، حتى تهاوت إلى الأرض تئن كالحيوان الجريح.
في سريرها كانت ابنتها مجيدة تنتفض، من خلال الجدار تسمع الصفعات والضربات، لا تعرف من يضرب من؛ أبوها يضرب أمها، أم العكس؟ منذ الطفولة تسمعهما يتشاجران، السنة وراء السنة، أربعا وعشرين سنة، لم يكف أبوها وأمها عن الصراع في الليل، وفي الصباح يعود كل شيء كما كان؛ يشربان الشاي، يقرآن الصحف، يتبادلان الابتسامات، أو نظرات الحب والعتاب، قد تفلت من أحدهما كلمة أو حركة أو نظرة جانبية تنم عن الكره والعداء.
ترمق صورته داخل البرواز فوق عموده اليومي: الكاتب الكبير اسمه بالبونط العريض، زكريا الخرتيتي. يرمق صورتها على غلاف مجلة النقد الأدبي: الناقدة الكبيرة أستاذة الجامعة. أخبارهما منشورة في باب المجتمع الراقي، تتابع الصحافة حركتهما مثل نجوم الفن والأدب والسياسة، وزعماء الأحزاب والهيئات العليا والجمعيات، تمط بدور شفتيها، عيناها تمران فوق الأسماء، تعرفهم عن قرب أو عن بعد. يمط زكريا الخرتيتي شفتيه أيضا، شفته العليا أكثر امتلاء من السفلى، صغير الحجم، رأسه صغير مثلث الشكل، يمسك بأطراف أصابعه ذقنه المثلث المدبب، يدلكه قليلا وهو يقرأ عموده من أوله حتى آخره، من العنوان: «أمانة العهد» إلى الكلمة الأخيرة والتوقيع. يعيد قراءته وهو يدلك ذقنه، أو الشعر فوق صدره من تحت المنامة الحريرية، قد تمتد يده إلى الشعر فوق العانة من الشق المفتوح في سرواله، أو تمتد إصبعه ليلعب في أذنه أو أنفه. حركة مقززة في نظر زوجته، تنم عن أصل وضيع، لم يكن من عائلة ذات مكانة رفيعة في الثقافة، أنعم الملك على جده بلقب الباشا في غفلة من الزمن، في العهد البائد الفاسد، كان الملك يمنح القوادين الألقاب، يقودونه إلى الغواني في البارات وبيوت الهوى، أو الحلاقين الذين حلقوا ذقن أبيه أو جده السلطان، يمنح الواحد منهم لقب الباشا أو البيه، وإقطاعية كبيرة من الأرض، أو منصبا في الحكومة أو البرلمان. تظهر صورته في الصحف مع رجالات الدولة، يفتتح المشاريع الخيرية لوجه الله، حتى قامت الثورة فانسحب كرسي العرش من تحت المؤخرة الملكية السمينة الممتلئة باللحم، جلست في الكراسي مؤخرات جمهورية تنشد الامتلاء بعد الخواء، تتطلع إلى الامتلاك والملكية الفردية، تحت اسم التطهير أو الطهارة أو الأمانة أو العفة والاشتراكية.
كان الخرتيتي الأب يحلم في النوم: أصبح كاتبا كبيرا مثل طه حسين، كتبه منشورة في كل مكان، في المكتبات والجامعات والبيوت، بما فيها ذلك الكتاب عن الأدب الجاهلي، أو الشعر الجاهلي أو العصر الجاهلي، أو شيء من هذا القبيل. لم يقرأ الخرتيتي الأب الكتاب، سمع عنه من أحاديث الرجال عند الحلاق، عيونهم يكسوها بريق الإعجاب حين يذكرون اسم طه حسين. - راجل عظيم يا أخي طه حسين! - أشجع راجل في البلد! - اتهموه بالكفر يا أخي! - ناس جهلاء جبناء. - كتابه رائع والله يا أخي. - تفتكر إنه كافر بصحيح؟ - لا يمكن! طه حسين مؤمن مية المية، دا الراجل إتعلم في الأزهر الشريف. - شيخ الأزهر أكبر كافر في البلد يا أستاذ! - لا يمكن! - كل جمعة يخطب في الجامع، اللهم احفظ جلالة الملك ذخرا للبلاد، ده أكبر منافق أكبر أفاك في البلد! - الإفك والنفاق أشد من الكفر يا أخي. - أي والله يا أستاذ.
كان زكريا الخرتيتي طفلا في المدرسة الابتدائية، سمع من زملائه في الفصل أن والده الخرتيتي نشر كتابا يشبه كتاب طه حسين، صورته ظهرت في الصحف مع غلاف الكتاب، بعنوان: طه حسين رائد الفكر في مصر.
توارث النقاد الشباب هذا الداء، هذه الطريقة السهلة السريعة للوصول للحصول على الشهرة والأضواء، أن يضع الواحد منهم اسم كاتب مشهور فوق غلاف كتابه، يكتب عنه بعض مقالات نقدية، بالمدح أو الذم أو لا هذا ولا ذاك. يملأ الصفحات عن كاتب لم يقرأ من كتبه إلا نصف كتاب، أو بضع صفحات أو مقالا نقديا نشر في مجلة ما، أو سمع عنه في الراديو أو من زملائه عند الحلاق.
وقع الخرتيتي الأب في المحظور، دخل كتابه عن طه حسين ضمن الممنوعات، صادرته السلطات ومنها مشيخة الأزهر، نشرت الصحف أن كتاب الخرتيتي يؤكد أفكار طه حسين الكافرة.
كان الأب يأخذ ابنه الطفل زكريا إلى الحلاق، أو إلى المقهى أو النادي يدربه منذ الطفولة على الجلوس مع الكبار، والاستماع إلى الأحاديث في السياسة أو الأدب أو الفكر. ورث الأب عن أبيه حلما طفوليا، أن يكون مفكرا أو كاتبا كبيرا، أن تظهر صورته داخل البرواز في الصحف مع الكبار.
يوم التحقيق أخذ الخرتيتي الأب ابنه الطفل إلى الجلسة في المحكمة، أراد لابنه أن يشهد عظمة أبيه ، يراه محاطا بالأضواء وعدسات التصوير. الصحفيون يطاردونه أمام باب المحكمة، في يد كل منهم قلم يدون ما يخرج من بين شفتيه، يلتقط الصحفي منهم الكلمة قبل أن تخرج، يلتقطها بسن القلم كالملقط، كالمغناطيس يلتقط ذرات المعدن النفيس. يمشي بينهم الخرتيتي الأب مختالا كالطاووس، شامخا برأسه ناظرا بطرف عينه إلى ابنه زكريا، يتلكأ في مشيته حتى يجتمع من حوله الصحفيون، حتى يرى ابنه المشهد كاملا، حتى ينحفر المشهد في ذاكرة الابن، يورثه للحفيد ويدخل سجلات التاريخ.
زكريا يمشي إلى جوار أبيه ممسكا يده، شامخا برأسه المثلث الصغير يشبه رأس أبيه، ذقنه مثلث صغير، أذناه تلتقطان بعض الكلمات المتناثرة في الجو. - يا سعادة البيه كتابك رائع، لكن عندي سؤال، حضرتك مع طه حسين أو ضده؟ - إذا قريت الكتاب تعرف يا أستاذ: باين عليك لم تقرأ الكتاب مثل كل الصحفيين. - والله العظيم قريته كله من الغلاف للغلاف، لكن والله ما عرفت موقف سعادتك بالضبط.
يدفع صحفي آخر زميله ويحتل مكانه أمام الخرتيتي، يبادره بالسؤال: يا ترى المحكمة ستقرر البراءة يا سعادة البيه؟ الكتاب رائع وكله داخل في الإيمان، لم أقرأ كلمة كفر واحدة. - شكرا يا أستاذ. - تفتكر طه حسين كان مؤمن أو ملحد والعياذ بالله. - يا أخي روح اقرأ كتابي وأنت تعرف!
يتعمد الخرتيتي أن يشخط في الصحفي بصوت عال خشن، أن يشهد ابنه سلطة أبيه، قدرته على الشخط في الصحفيين، زهد أبيه في الأضواء مثل كبار الكتاب، تطاردهم الأضواء وهم زاهدون فيها عازفون عنها مترفعون عليها، يضعون نظارات سوداء حتى لا تتعرف عليهم الأضواء.
كان الخرتيتي يضع نظارة سوداء تشبه نظارة طه حسين، لكن قامته قصيرة، جسمه صغير ضئيل، ليست له قامة طه حسين الطويلة الشامخة.
طال التحقيق داخل الغرفة المغلقة في المحكمة، في نهايته سأل المحقق الكاتب الكبير الخرتيتي: هل تؤمن بوجود الله يا أستاذ؟ - هل يدخل هذا السؤال ضمن تحقيق قانوني؟ أنا لست متخصصا في القانون، لكن أعلم أن هذا السؤال لا يواجهنا به إلا الله سبحانه وتعالى يوم الحساب . - هذا السؤال قانوني يا أستاذ، نحن دولة تقوم على الإسلام دين الله الحنيف، أرجو أن تجيب عن السؤال بنعم أو لا. - أرجو أن تعيد السؤال مرة أخرى. - هل تؤمن بوجود الله؟ - ما تفسيرك لمعنى الله؟
كان الأب الخرتيتي يرمق ابنه الجالس في ركن الغرفة مرهف الأذنين، تلتقط أذناه كل كلمة وكل حرف، ينتفض جسمه الصغير في الكرسي حين يشخط المحقق في أبيه، لم يسمع أحدا يرفع صوته على صوت أبيه، لم يعرف سلطة تعلو سلطة أبيه. كان صوت المحقق أعلى من صوت أبيه، يشخط فيه أحيانا حين يرد بإجابات مراوغة. يحاول الخرتيتي بالمراوغة أن يهرب من الإجابات الدقيقة الحاسمة، لا يريد أن ينهزم أمام ابنه الطفل، يرفع صوته أحيانا، وقد يشخط في المحقق بصوت سلطوي متعال.
حين سأله «ما تفسير معنى الله؟» أراد الخرتيتي أن يحرج المحقق، أن يكشف جهله، أن يورطه في الإجابة عن شيء ملتبس غير واضح، أن يثبت لابنه أنه قادر على المواجهة والتحدي.
أطرق المحقق لحظة يفكر في الإجابة، استرد الخرتيتي في هذه اللحظة سلطته، أدار رأسه نحو ابنه وابتسم في زهو. أبوه ينتصر دائما، لا يهزمه أحد وإن كان القانون ذاته أو الشرع أو الحكومة.
رفع المحقق رأسه وصاح بصوت غاضب: أنت هنا متهم يا أستاذ، ليس للمتهم أن يوجه الأسئلة. عليك الإجابة بنعم أو لا، هل تؤمن بوجود الله؟
أطرق الخرتيتي رأسه، عضلة صغيرة ترتجف تحت عينه اليسرى. منذ الطفولة ترتجف هذه العضلة حين يشخط فيه أبوه أو المدرس في المدرسة، أو إبليس حين يعصيه أو الله ذاته، حين يشخط فيه غاضبا عليه، حين تلمح عينه الساهرة لا تنام يده من تحت الغطاء، تتسلل إلى ما بين فخذيه، تداعبه، تدلكه، حتى يبلغ اللذة.
وأجاب الأب الخرتيتي وهو مطرق إلى الأرض، بكلمة واحدة كما أمره المحقق، قال: نعم.
في طريق العودة إلى البيت كان الأب يسير منكس الرأس صامتا، لم يتبادل كلمة واحدة مع ابنه، سألته زوجته وهي تفتح لهما الباب: عملتو إيه؟
انفجر غاضبا في زوجته، ينفس فيها عن غضبه المكبوت من المحقق، ومن كل من أغضبوه منذ الولادة حتى الموت، يشوح في وجهها بيده الممدودة، تكاد إصبعه تخرق عينها: اصبري شوية يا ولية لغاية ما آخذ نفسي!
تركته في الصالة، دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب وراءها، جلس في مقعده يلهث قليلا، لم يكن يلهث البتة وإن صعد عشرة أدوار، كأنما زحفت إليه الشيخوخة فجأة. وجهه أصبح طويلا نحيلا رماديا، ابنه جالس في ركن الصالة يرمقه، يتفادى النظر إلى ابنه، يجلس مطرقا صامتا، كتفاه محنيتان إلى الأمام، شعره يتساقط فوق رأسه المثلث الشكل، تتراءى تحت الشعر الخفيف صلعة تلمع في الضوء، يكاد يشبه أباه في صورته المعلقة فوق الحائط، من حولها شريط أسود. - هات لي كوباية مية يا ابني.
بينما هو يرشف من كوب الماء، وابنه إلى جواره ينظر إليه بعينين صغيرتين غائرتين، تطفو فوقهما دمعة حبيسة لا تسقط ولا تتبخر، نظر الأب في عيني ابنه وابتلع الدمعة مع رشفة الماء، وقال بصوت الأسد الجريح: طه حسين تراجع في التحقيق وأعلن أنه مؤمن، وأبوك يا ابني ليس أشجع من طه حسين.
أصبح زكريا يردد عبارة أبيه إن اتهمته زوجته بعدم الشجاعة، عينها الناقدة كانت ترمقه حين يتراجع عن آرائه، أو يغيرها إن عارضه رئيس التحرير أو الوزير أو من هو أكبر منهما، يتراجع مرددا آراءهم، يقتبسها لعموده اليومي، يضفي على كلمات الرئيس هالة من القدسية أو الفلسفة العميقة أو الفكرة اللامعة المبدعة، لم يصل إليها مفكر أو فيلسوف.
تمر عينها الناقدة فوق عموده، تمط شفتيها في بوز طويل، يبادلها البوز ببوز أكثر طولا، يبادلها النقد بنقد أشد. - جوزك يا ستي ليس أشجع من طه حسين، ثم ماذا عن شجاعتك يا أستاذة؟ - أنا عمري ما تظاهرت بالشجاعة يا زكريا، أنا طول عمري جبانة.
ثم تكمل لنفسها بلا صوت: أكبر دليل على جبني إني اتجوزتك!
كان يراودها دائما السؤال، لماذا تزوجت زكريا الخرتيتي؟ اسمه مشتق من حيوان الخرتيت، رأسه تشبه الكمثرى، عيناه ضيقتان غائرتان كعيني الفأر .
تضرب بيدها فوق صدرها تسأل نفسها، ليه اتجوزت الراجل ده؟
تتذكر بدور أنها كانت تمر بأزمة نفسية، كتب لها الطبيب النفسي حبوبا منومة، وحبوبا مهدئة، وحبوبا ضد الاكتئاب دون جدوى.
يسألها الطبيب عن طفولتها: حصل لك حاجة في الطفولة يا بدور؟ - أبدا يا دكتور، كانت طفولتي سعيدة.
تتمدد فوق الأريكة الكبيرة في غرفة الطبيب، يربت على يدها البضة بحنان: حاولي تفتكري يا بدور.
دمعة حبيسة تلمع في عينيها، لمسة الحنان تجلب لها الدموع، تريد أن تمد يدها وتمسك بيده، أن تضع رأسها فوق صدره وتبكي. يرمقها بنظرة حادة نظرة الطبيب الجاد، لا يسمح الطبيب النفسي للمريضات أن يقعن في حبه، خاصة هذا النوع من النساء، ما إن يربت عليهن بحنان حتى يقعن في حبه. نساء محرومات من الحب والحنان، كالأرض الظمأى، تترقب من السماء قطرة ماء. - حاولي تفتكري أي حادث في طفولتك، يا بدور. - حادث مؤلم يا دكتور؟ - أيوه. - زي إيه؟ - حادث اغتصاب مثلا؟ - لأ ما حصلش أبدا أبدا.
تلتقط أذن الطبيب الرعشة الخفية في صوتها، السرعة الفائقة في الرد وإنكار الحدث، حمرة الدم الصاعدة إلى وجهها، أصابعها البضة ترتجف قليلا، رجفة غير مرئية إلا للعين المدربة. - كان راجل غريب أو من الأسرة؟ - تقصد مين يا دكتور؟ - يعني مش فاكرة؟ - فاكرة إيه؟ - كان عمرك كم سنة يا بدور؟
يدور الطبيب ويلف حول الموضوع بالأسئلة المختلفة. تدرب على هذه الطريقة للحصول على المعلومات من المريضات، تشبه طريقة البوليس والمباحث في استخراج الاعترافات من أفواه المساجين، يحقنها الطبيب بمخدر خفيف، أو يناولها كأسا من نبيذ عمر الخيام، أو الويسكي المخفف بالماء. يربت عليها بيده الرقيقة، يبتسم في وجهها بعينيه الخضراوين بلون الزرع، يهمس بصوت حنون: غمضي عينيك، حاولي تنامي يا بدور. - أنام؟ - قصدي تسترخي شوية يا أستاذه بدور، تنسي عقلك شوية، تفكي اللجام حول ذاكرتك.
تغمض بدور عينيها، تسترخي عضلات جسدها المشدودة، يرتخي الحزام الجلدي حول عقلها، تذوب قشرة المخ تحت شحنات الدم الساخن، تتغير كيمياء الدم قليلا مع موجات المخدر الناعمة ، يتخفف القلب من العبء، تعلو وجهها ابتسامة حالمة، تعقبها تكشيرة، تختفي هي الأخرى. تصبح ملامحها هادئة مستسلمة لتيار من الدفء، تنفرج الشفتان من صوت أشبه بالهمس، أو الحديث في النوم: سرقوها مني يا دكتور؟ - مين هي؟ - الرواية يا دكتور. - انتي ناقدة أو روائية؟ - طول عمري أكره النقد يا دكتور، عمري ما كنت عاوزة أكون ناقدة. النقد الأدبي مهنة طفيلية. النقاد كائنات متطفلة زي الديدان الشريطية، تعيش على حساب شخص آخر، عنده موهبة، عنده اكتفاء ذاتي، إحنا النقاد عندنا عقدة نقص، إحنا كتاب فاشلين، نعوض عن فشلنا بنقد الغير. مهنة النقد الأدبي زي مهنة ماسحي الأحذية، شغلتنا تلميع أحذية الآخرين. - عشان كده كتبت رواية؟ - أيوه، كان لازم أثبت للعالم أني أقدر أكتب رواية، أني روائية كبيرة مش ناقدة من غير قيمة. - أنا أحب أقرأ الرواية يا بدور، هاتيها معاكي المرة الجاية. - الرواية مش معاية يا دكتور. - مع مين؟ - الحرامية. - الحرامية مين؟ - اللي سرقوها. - سرقوها مين؟ - المولودة يا دكتور. - إيه؟ - قصدي الرواية المولودة.
حار الطبيب النفسي في حالة بدور، لم يكن في إمكانه الوصول إلى مواطن الألم، في عقلها أو جسدها. يتغلب عقلها الواعي على أحداث الماضي بالنسيان، عقلها الباطن مربوط بحزام من الخوف المتراكم طبقة فوق طبقة جيلا وراء جيل، من أمها وجدتها إلى الجدات السابقات، منذ آلاف السنوات، منذ تأثيم حواء والخطيئة الأولى. - أيوه يا دكتور أنا جبانة، يعني حاكون أشجع من طه حسين؟ أكبر دليل على جبني إني تزوجت. - كل الستات بيقولو كدة يا بدور، دايما يندموا، والندم أخطر شيء، الندم سبب الاكتتاب، ثم إن زوجك راجل عظيم، نار على علم. أنا باقرأ عموده كل يوم الصبح، أحسن عمود في الجرنال هو عمود زكريا الخرتيتي.
ترمقه بنظرة متشككة. أصبح النفاق سمة العصر، الوباء المنتشر، يصيب الناس جميعا حتى الأطباء، لا علاج له إلا ثورة أو بركان يفجر الأرض.
جسدها السمين القصير ينتفض فوق الأريكة. في أعماقها حنين دفين للثورة، تعود فتاة في التاسعة عشرة، تمشي في المظاهرة تهتف: «يسقط الظلم، تحيا الحرية.» إلى جوارها يمشي نسيم، طويل ممشوق عيناه تشعان الضوء، يحوطها بذراعيه يهمس في أذنها، سيكون لنا طفل يغير العالم!
لم تكن بدور تقرأ عمود زوجها، لم تعد أذناها تسمعان صوته حين يحكي عن أمجاده، عن رسائل الإعجاب من القراء والقارئات والوزير؛ حتى الرئيس نفسه هنأه على العمود حين التقاه في صلاة الجمعة. كان يقف في الصف الثاني خلف الرئيس مباشرة، يسمع صوت الرئيس وهو يتلو آيات القرآن، يسمع أنفاسه حين يركع بين يدي الله، وطقطقة عظام ركبتيه حين يسجد وتلامس جبهته الأرض. وهو يحكي لزوجته يتهلل بالسعادة، كأنما أنعم عليه الرئيس بوسام الشرف، أو جائزة التفوق الكبرى.
إلى مائدة الفطور في الصباح لا يمل النظر إلى صورته فوق عموده، يختلس النظر إلى العمود الآخر بقلم زميله محمود الفقي، يتابع عيني زوجته وهي تقرأ العمود، تتوقف بدور طويلا عند عمود محمود الفقي، تقرؤه من أول كلمة حتى آخر كلمة. يخاطبها زوجها بلهجة ساخرة: يظهر إنك معجبة أوي بعموده؟ - الحقيقة إن عموده ممتاز! - أحسن من العمود بتاعي؟ - أنا ما قريتش عمودك لسه يا زكريا. - قريتي عموده قبل عمودي يا بدور؟ - أيوه يا زكريا. - يعني عموده أحسن من عمودي؟
ترمقه بطرف عينها، يغمره لون أصفر يشبه الغيرة، يرن صوته في أذنيها كأنما يقول، قضيبه أحسن من قضيبي؟ كلمة العمود في اللغة مرادفة لكلمة القضيب، الأعمدة هي قضبان من الحديد أو الخشب. - بتضحكي على إيه يا بدور؟ - مش باضحك على حاجه يا زكريا. - أنا عارف انتي بتضحكي على إيه، أنا عارف إنك بتعتبريني متوسط الموهبة، كتاباتي عمرها ما أعجبتك، من يوم ما اتجوزنا عمري ما شفت في عينيك نظرة إعجاب بكتاباتي، طول عمرك وأنت معجبة بعمود الفقي، وهو كمان معجب بيكي، كان لازم تتجوزي محمود الفقي، مش عارف اتجوزتيني ليه؟ - وإنت اتجوزتني ليه يا زكريا؟ - غلطة يا ستي أيام الطيش. - أيوه صحيح غلطة يا زكريا. - غلطة العمر.
يدور الحوار بينهما على هذا النحو السنة وراء السنة، يعترف كل منهما أن الزواج كان غلطة، لا يحاول أحدهما إصلاح الغلطة.
أمامهما فوق المائدة إبريق الشاي وإبريق القهوة، بدور تشرب الشاي في الصباح، زوجها بشرب القهوة مع اللبن الخالي الدسم. صحن به جبن خالي الدسم؛ جبنة قريش، طماطم وخيار وجرجير، زيت زيتون. تقدم بهما العمر وزاد الكوليسترول في الدم، وارتفاع الضغط. يلعب زكريا الجولف في النادي مع زملائه في الصحافة، بدور تتمشى في النادي مع صديقتها صافي، أو مع ابنتها مجيدة، تلف ملعب الجولف مرتين كل أربعين دقيقة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
أحيانا يأتي زميل من زملائها في الجامعة فيمشي معها، أو محمود الفقي بعد أن ينتهي من الجولف يرافقها في رياضة المشي البطيئة، مع تبادل الأحاديث والأخبار عن أحداث السياسة والأدب والنقد والفن والثقافة.
ترشف بدور الشاي مع قضمة خبز محمص بالجبنة البيضاء المدهوكة بزيت الزيتون، تمسك السكين الحاد الصغير، تقطع شريحة من الطماطم، يلمع السكين تحت ضوء الشمس، ترمقه بدورن أصابعها البضة ترتعش، أصابتها الرعشة منذ ذهبت إلى الطبيب النفسي، زادت مخاوفها. أتزحف السكين خلسة وتدخل في يدها، أو في يد زوجها الممسكة بالجورنال، أو يده الأخرى الممسكة بفنجان القهوة باللبن؟
يتحرك السكين وحده دون إرادة منها، ربما هي نائمة تحلم وليست جالسة إلى مائدة الفطور، تذوب الحقيقة في الحلم. منذ بدأت كتابة الرواية تختلط عليها الأمور، ربما هي الرواية مصدر الأشباح التي تطاردها في النوم، الأصوات التي تسمعها وهي جالسة في غرفتها تكتب، الظلال التي تتحرك فوق الجدار، لها أشكال آدمية، أو من غير بني آدم. يندفع السكين وحده عبر مائدة الفطور لتخرق العمود في الجورنال، يخرق الصورة في البرواز فوق العمود، تنفذ من الورقة لتدخل في صدر زوجها عبر المنامة الحريرية، يتدفق الدم بلون أحمر فوق المنامة البيضاء، ومفرش المائدة الأبيض. مع ذلك يظل زكريا يقرأ عموده، لا يكف عن قراءة عموده، وتأمل صورته المنشورة على رأس العمود، يستدير السكين من شدة الغيظ ليزحف فوق يدها البضة، تحس شفرة السكين الناعمة الحادة تمشي فوق معصمها، تدخل في بطء داخل اللحم، تصنع شقا صغيرا من الخارج عميقا في الداخل.
تدرك بدور آنها بدرية التي تمسك السكين، بدرية تملك الجرأة لاقتراف جريمة قتل دون أن يضبطها البوليس، تستطيع بدرية أن تتخفى بين أوراق الرواية، أن تهرب من العيون كالخيال، كالظلال المتحركة فوق الجدران. يرمقها زوجها وهي تقطع الجبنة بالسكين، يرى أصابعها ترتعش، يرى الشحوب في وجهها، عيناها منكستان، لا ترفعهما نحوه، تخشى أن تلتقي عيناها عينيه فيرى ما يدور في خيالها، ربما يمسك السكين ويغرزه في صدرها قبل أن تفعل هي، ترى في عينيه الرغبة الدفينة. في أعماقهما رغبة في القتل لا تساويها إلا رغبة في الجنس، يقول لها الطبيب النفسي: إن الإنسان لم يتطور كثيرا عن الحيوان فيما يخص الجنس، تتلاصق غريزة التدمير والموت مع الشهوة. حين يشتهي الرجل المرأة يقول لها: أموت فيكي، وهي تقول له: أموت فيك.
يؤكد لها الطبيب النفسي أنها تحب زوجها حتى الموت حتى الرغبة في قتله أو قتل نفسها. لا يقدم على الانتحار إلا من يحب نفسه إلى حد الموت.
وهي تتمشى في النادي مع صديقتها تزم شفتيها، وتقول لها صافي: طبيبك النفسي في حاجة إلى طبيب نفسي يعالجه من أمراضه. معظم الرجال مرضى، يعانون ازدواجية الشخصية، خاصة الرجال من الطبقة المثقفة العليا. يتزوج الرجل زميلته المثقفة من الطبقة ذاتها زواجا اجتماعيا ليس إلا؛ لتصحبه في الحفلات، تتصور معه في المناسبات. في الليل يتسلل من فراشها إلى الخادمة في المطبخ، أو السكرتيرة في المكتب؛ لا يشتهي إلا الفتيات الصغيرات من الطبقة الدنيا، تراه الواحدة منهن رجلا عظيما عبقريا نادر الوجود ليس له مثيل، إلها أو نصف إله، كما كانت تراه أمه. ترى الأم ابنها غزالا وإن كان قردا، تملأ أذنيه منذ الطفولة بكلمات من نوع: أنت أذكى من كل زملائك، أنت فلتة من فلتات القدر، أنت موهوب يا ابني ليس لك نظير بين الرجال.
تزم صافي شفتيها، تبتلع لعابا مرا، تلف رأسها بطرحة بيضاء. كانت تؤمن بالماركسية، حتى هجرت زوجها الماركسية وتزوجت من زميلها الإسلامي، ارتدت الحجاب ونشرت كتابا عن حقوق المرأة في الإسلام، حتى هجرت الرجل الإسلامي وتزوجت كاتبا ليبراليا. طلب منها أن تخلع الطرحة وتكف عن التشدق بالدين، خلعت الطرحة وارتدت التيربون الأنيق، تحوطه بعض حبات اللؤلؤ، نشرت كتابا عن النقد الأدبي. هجرها زوجها ليعاشر طالبة من طالباتها في الجامعة، علاقة حب دون ورقة زواج رسمية أو عقد عرفي. اكتشفت العلاقة بالصدفة، اعترف لها زوجها أنه يحب الفتاة والفتاة تحبه، إنه حر والفتاة حرة، لم تفهم صافي هذه الحرية الجديدة وقررت الانفصال عنه. - أنت أشجع مني يا صافي، أحلم كل يوم بالانفصال عن زكريا دون أن أملك الشجاعة. - أنت تخافين الوحدة يا بدور. - ألا تشعرين بالوحدة يا صافي؟ - الوحدة خير من جليس السوء يا بدور، كنت مثلك أخاف الوحدة، أرضى بالهوان خوفا من الوحدة، كنت سجينة الخوف، حتى عرفت الوحدة فوجدتها جميلة موحية. نحن نولد في الخوف، نعيش في الخوف ونموت في الخوف. - ألا تخافين يا صافي؟ - أخاف من ايه؟ - الموت مثلا؟ - الموت مثل الوحدة مجرد وهم، نحن لا نحس بالموت حين نموت؛ لأن الميت لا يحس شيئا. تصوري يا بدور أن نعيش حياتنا كلها نخاف من شيء لا يمكن أن نحس بها. - أتؤمنين بالحياة بعد الموت؟ - كنت أؤمن بها ثم تحررت من هذا الوهم أيضا. - والإيمان بالله يا صافي؟ - كنت شديدة الإيمان بالله يا بدور قبل أن أدرس الدين، أردت أن أتعمق في دراسة الدين ليصبح إيماني أكثر عمقا، إلا أن العكس كان يحدث، كلما زادت معرفتي بالله زاد إنكاري له.
ينتفض جسد بدور وهي تمشي إلى جوار صديقتها صافي، عيناها ترتجفان، ترفعهما إلى السماء، تخشى أن يصب الله لعنته على صافي، أن تسقط إلى الأرض مصابة بالشلل في جسدها كله، أو على الأقل الشلل في لسانها الذي ينطق الكفر. - كنت أومن يا بدور بكتب الله الثلاثة كما أمرنا ربنا في القرآن، كنت ألقي الأحاديث الدينية في المؤتمرات والإذاعات وأنشر المقالات عن الإيمان والتقوى وحجاب النساء، لكن شيئا غريبا كان يؤرقني في الليل. أنهض من الفراش أتوضأ وأصلي، لا أكف عن الركوع والسجود، أتمتم بصوت خافت حتى لا أوقظ زوجي، أستغفر الله من كل ذنب عظيم، أكررها المرة وراء المرة، عشرات المرات، مئات المرات. أحرك حبات السبحة بين أصابعي المرتعشة، تصورت أني مريضة بالحمى، لكني كنت مريضة بالشك، حتى تعمقت أكثر وأكثر في دراسة الأديان، كلما كنت أتعمق أكثر كانت الرعشة تزول ويزول معها الإيمان. نحن نرث الإيمان عن الأسرة يا بدور، يدخل الإيمان خلايا عقلنا وجسمنا منذ الولادة حتى الموت، لا يمكن التحرر منه إلا بالدراسة والتعمق في العلم والمعرفة والدين نفسه، إنه طريق صعب مليء بالمخاطر، أنا أفتح لك قلبي يا بدور لأنك صديقة عمري، أرجو أن تكتمي هذا السر وإلا قتلوني. نحن نعيش في دولة دينية لا تسمح بحرية التفكير، رغم كثرة الحديث عن الحرية، لكن الأحرار لا يتحدثون عن الحرية؛ لأنهم يعيشونها. فاقد الشيء يتكلم عنه طوال الوقت.
كانت بدور تنصت إلى صديقتها وهي مطرقة الرأس، الرعشة تسري في أحشائها، شحنات الدم الساخنة تصعد إلى الرأس ثم تهبط إلى بطن قدميها، شيء ينخس بطن قدمها يشبه إصبع الشيطان في طفولتها، يدغدغ بطن قدمها اليسرى. كان الشيطان يقف دائما عن اليسار، كما سمعت من الناس حولها في البيت وفي المدرسة. - كان زوجي يقول لي: إن الدين ضروري للأخلاق، إن غاب الدين غابت الأخلاقي، لكني اكتشفت أن الأخلاق لا علاقة لها بالدين، بل هناك تناقض كبير بين الدين والأخلاق. كان زوجي شديد التدين شديد الإيمان، وفي كل ليلة يكذب علي؛ يقول: إنه ذاهب إلى الاجتماع أو إلى المؤتمر أو ليقابل الوزير أو الوكيل، ثم يذهب إلى المرأة الأخرى في بيتها أو في بيت البغاء. كان يقول إن من حق الزوج أن يكون له أربع زوجات، بخلاف الإماء والجواري ومن ملكت اليمين. كان عضوا في تلك المجموعة التي رفعت شعار الإسلام هو الحل، أو تطبيق الشريعة وإلغاء الدستور، كان زميلا لأحمد الدامهيري الأمير!
انتفضت بدور وهي تسمع اسم أحمد الدامهيري ابن عمها الشيخ، كان وكيلا للأزهر أو نائب الوكيل، ورث عن أبيه العمامة والرأس المربع الصغير، والذقن المربع والشفة العليا الأكثر نحافة من السفلي، يمطها إلى الأمام علامة التفكير العميق. أصبح أحمد الدامهيري أحد الزعماء الجدد، ينادونه الأمير، من حوله عدد من الشباب العاطلين عن العمل يحملون شهادات عليا، أحلامهم مجهضة يقودهم أميرهم إلى حظيرة الإيمان، جسمه نحيف قصير القامة أصابعه صغيرة ناعمة تشبه أصابع البنات. صوته ناعم، عظامه طرية، يخاف من الصراصير والفئران، في أعماقه إحساس بالنقص يعوضه بالكبرياء والعظمة، يشد عضلات صدره ويمشي شامخا برأسه، فوق جبينه الزبيبة السوداء بحجم حبة الفول السوداني، لحيته سوداء كثيفة تتدلى فوق صدره، جلبابه ناصع البياض، عمامته ناصعة البياض، يحيي الشباب بحركة بطيئة من رأسه مع ابتسامة صغيرة. - أحمد ابن عمي أصبح رجلا خطيرا يا صافي، كان طفلا مدللا، لم يرغب في شيء إلا أخذه بالمكر أو بالتحايل، باللين أو بالعنف إن لزم الأمر. أحمد الدامهيري يمكن أن يقتل؛ لينال ما يريد وهو يريد ...
توقفت بدور عن الكلام. لم تكمل الجملة. - أحمد الدامهيري يريد زينة بنت زينات. - عرفت إزاي؟ - كل الناس عارفة الحكاية دي، زينة بنت زينات أصبحت نجمة معروفة، رجال كثيرون يجرون وراءها. لا أحد يستحقها، بنت موهوبة بصحيح، بنت أمها رضعت لبن أمها دادا زينات!
تثبت صافي عينيها في عيني بدور. تتحرك عينا بدور بعيدا عنها، تلمح زكريا الخرتيتي يلعب الجولف، ينثني بجسمه القصير النحيف ليضرب الكرة، تطير الكرة مسافة قصيرة في الهواء، ثم تسقط على الأرض، يمشي نحوها شامخا بأنفه كما يفعل زميله محمود الفقي وكبار الكتاب، من خلفه يهرول الصبي الصغير يجر العربة المحملة بالمضارب. إلى جواره يمشي محمود الفقي طويل القامة ممشوق، خطوته واسعة ثابتة واثقة بنفسها، مثل حروفه على الورق، ظهره أكثر وسامة من وجهه، عيناه مطفأتان ليس فيهما بريق، مقلتان صغيرتان لونهما باهت.
لم تكن بدور تنجذب إلى محمود الفقي، فقط حين تراه من ظهره تعود إليها الذكرى، كأنما في حياته امرأة أخرى ليست هي بدور ربما هي بدرية. كانت بدرية في التاسعة عشرة من عمرها تمشي في المظاهرات الكبيرة، إلى جوارها يمشي نعيم طويل القامة ممشوقها، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان وهجا أزرق أسود بلون عين الليل، أو البحر تنعكس عليه أشعة الشمس. - زكريا الخرتيتي يغار من محمود الفقي، يظن أنني واقعة في غرامه. - وأنت واقعة في غرام طبيبك النفسي. - هو واقع في غرامي، حب من طرف واحد يا صافي. - العكس هو الصحيح يا بدور.
يدور الحديث عن الحب والرجال، كانت صافي أكثر خبرة من صديقتها بدور، عرفت عددا أكبر من الرجال، زملاء وأصدقاء وأحباء وعشاقا. تقول لبدور: أنا أبحث عن الرجل الذي يستحقني، لكنه لم يخلق بعد، ربما لن يكون مخلوقا أبدا، ثم تضحك وتلقي برأسها إلى الوراء. كان شعرها أسود غزيرا مقصوصا ألاجرسون، بعد أن خلعت الطرحة والتيربون مع خلعها أزواجها. قامتها أطول قليلا من قامة بدور، أقل سمنة، خطوتها أكثر اتساعا، تنظر إلى الأشياء في ثبات أشبه بالحملقة، شفتاها نحيفتان، تبلل شفتها السفلي بطرف لسانها حين تتكلم. - أنا في الحقيقة لا أنجذب إلى الرجال. في المراهقة كنت أحب امرأة، الآن تعود إلي مراهقتي في مرحلة الكهولة، بصراحة يا بدور أنا أنجذب إلى النساء. أحيانا أضبط نفسي متلبسة بحب امرأة، تصوري أني حلمت مرة إني أعانق زينة بنت زينات! - عناق بريء، عناق الأخت لأختها، أو الأم لابنتها. - لأ عناق غير بريء يا بدور!
تطلق صافي ضحكة عالية يكاد يسمعها لاعبو الجولف، تشاركها بدور في الضحك، تتخفف قليلا من العبء، من الثقل في قلبها، من الخوف الدفين الغامض منذ الطفولة. - أيوه اضحكي يا بدور الدنيا فانية، إحنا بنعيش مرة واحدة، مرة واحدة فقط لازم نعيشها بالطول والعرض، اسمعي النكتة دي عن غباوة الرجالة ... (تضحك صافي كثيرا قبل أن تحكي النكتة، يهتز رأسها في الهواء مع شعرها القصير الغزير.)
كان فيه راجل عاوز يتجوز بنت عذراء مية في المية، عمرها في حياتها ما عرفت راجل، كل ما يتقدم لواحدة عشان يخطبها يعمل لها اختبار، يكشف لها عن قضيبه من تحت البنطلون ويسألها إيه ده يا شاطرة؟
طبعا البنت تقول له: ده قضيب، يرفع الراجل بنطلونه ويخرج، يقول لنفسه لا يمكن أتجوزها، دي عارفة الرجال. كان بيكرر الاختبار ده مع كل بنت، وطبعا تسقط البنت في الامتحان لما تقوله: ده قضيب، أخيرا أخيرا بعد كم سنة من الاختبارات نجحت واحدة في الاختبار، لما كشف عن قضيبه وقال لها: ايه ده يا شاطرة؟ قالت: ده زمارة.
يا سلام، فرح أوي الراجل، وقال لنفسه: أخيرا وجدتها. أريكا البنت العذراء اللي عمرها ما شافت قضيب راجل.
بعد عشرين ثلاثين سنة بعد ما تزوجها وخلف منها دستة عيال، كان قاعد في ليلة رايقة في البلكونة بعد ما شرب كاس نبيذ، خطر لعقله إنه يسألها وهو يشير إلى قضيبه، ويقول: لكن ازاي يا حبيبتي ما عرفتيش أن ده قضيب؟ انفجرت زوجته فيه بصوتها العالي، وقالت: هو ده قضيب ده؟ ده القضيب طول دراعي ده. وأشارت إلى دراعها الطويل.
انفجرت بدور وصافي في ضحك متواصل حتى دمعت عيونهما، مسحت كل منهما عينيها بمنديل ورق شفاف معطر، وقالت صافي: هو ده غباء كل الرجال يا عزيزتي. ايه رأيك نروح المسرح الليلة نسمع زينة بنت زينات؟ كتبت أغنية جديدة وحتغنيها الليلة لأول مرة. إنتي عارفة إنها بتكتب كلماتها وألحانها، فنانة موهوبة بصحيح، أم كلثوم كانت بتغني كلمات وألحان من تأليف غيرها، لكن زينة بنت زينات موسيقية وشاعرة وصوتها جميل كمان، كنت أتمنى يكون لي بنت زيها. - وأنا كمان كنت أتمنى يكون لي بنت زيها. - عندك بنتك مجيدة ما شاء الله، كاتبة مرموقة، مقالاتها في مجلة النهضة مقروءة.
نطقت صافي كلمة مقروءة بطرف لسانها. لم تكن تعجبها كتابات مجيدة الخرتيتي، تقلد أباها في طريقة الكتابة، وتقلد أمها في نقدها للأدب. - مجيدة ورثت أبوها يا صافي، صورتها تشبهه بالضبط لما كان شاب، أحيانا أحس أنها بنته هو مش بنتي أنا، كان نفسي يكون لي بنت تشبهني.
وهمست بدرية لأوراق الرواية، كان نفسي يكون لي بنت تشبه نعيم.
في الليل تحتضن بدور القلم، يدور الحوار بينها وبين بدرية ونعيم، والشخصيات الأخرى في الرواية. ينقطع الحوار أحيانا، يجف القلم، ينطفئ الضوء المشع من المقلتين الزرقاوين السوداوين، كبيرتان في العينين الواسعتين، جسمه نحيف طويل صلب كالرمح، رأسه مرتفع فوق عضلات عنق لا تلين ولا تلتوي، ضربوه على رأسه بكعب البندقية، صفعوه على صدغه، إلا أن كيانه الواقف ظل منتصبا في مكانه لا يتحرك، لا تنتفض له عضلة في وجهه ولا يطرف له جفن حين ساقوه إلى العربة البوكس خارج البدروم. كانت الدماء تنزف من أنفه وفمه، تسيل فوق الفانلة البيضاء الكاشفة عن ضلوعه، بغمرها شعر أسود، يكتسب بالتدريج لونا أحمر، يهبط اللون الأحمر إلى سرواله الأبيض من القطن المصري، رائحة القطن في أنفه مع رائحة الدم ورائحة التراب، الأرض الخصبة السوداء تترعرع فوقها الشجيرات الخضراء بالنوارات البيضاء. كان طفلا في الثامنة من عمره، يغني مع أطفال القرية، وهو يجري بين مساحات الخضرة تلمع بضوء أبيض: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل يا لا ده مالوهش مثيل، قطن ما شالله ...
فوق رصيف الشارع كان الأطفال يغنون الأغنية، تدق زينة بنت زينات اللحن، أصابعها الطويلة الرفيعة الصلبة تدق الأسفلت. ليس هو اللحن القديم، ليست هي أغنية القطن والنوارات البيضاء في مساحات الخضرة. انقرضت الخضرة، ذبلت الشجيرات والنوارات، ضمرت وجوه الأطفال، لم يعد لهم أرض ولا بيت ولا أهل، أقدامهم الصغيرة تمشي دون حذاء، يجتازون المسافات في ظلمة الليل، يولدون فوق الأسفلت، ينبشون صفائح القمامة مع القطط المشردة والكلاب، ترمقهم العيون داخل السيارات الطويلة بازدراء، يبتعدون عنهم، يغلقون النوافذ خوفا من الأمراض، يتحسسون محفظاتهم في جيوبهم؛ خوفا من السرقة أو النشل، يحكمون إغلاق الأبواب والستائر.
يدب الأطفال بأقدامهم المشققة فوق الرصيف، يحوطون زينة بنت زينات كالأم، يرددون وراءها الأغنية، يرقصون معها على الإيقاع، يتوقف المارة في الشارع، يشهدون العرض. فرقة كاملة من الأطفال يتبادلون الأدوار، يتبادلون الآلات البدائية؛ الطبلة والرق والمزمار والناي والعود ، أصواتهم تتصاعد مع تصاعد اللحن، كعوبهم المشققة تدق الأرض، يتحول الغناء إلى هتاف، آلاف الأفواه تهتف معهم: «يسقط الظلم، تحيا الحرية.» الأجساد تسد الشوارع، عمال طردوا من المصانع المغلقة، شباب تخرجوا في الجامعات دون عمل ولا أمل، نساء ثكالى وأرامل ومطلقات، موظفون في الحكومة انحنت أعناقهم وزوجات مقهورات، خادمات في البيوت وماسحو الأحذية ودادات.
دادا زينات كانت تمشي في المظاهرة في الصف الأخير مع الخادمات، جسمها طويل نحيف، جلبابها قديم من الجبردين، في قدميها حذاء من الكاوتش كلن أبيض اللون. تتفرق المظاهرة تحت خراطيم الماء والغاز المسيل للدموع، الميكروفونات تزعق بأصوات تطغى على الطلقات. تسقط بعض الأجسام، تنزف الدماء، تدوس العربات المصفحة الدم، تخطف الشباب، تمتلئ السماء بالدخان والغبار.
تواصل دادا زينات المشي حتى يأتي الليل. ابنها أخذوه ولم يعد، ابنها الوحيد راح منها، لا تعرف من أخذه منها، بوليس الحكومة أو الله، ترتفع عيناها إلى السماء تسأل الرب المتخفي وراء السحابة السوداء. - أنت يا رب اللي أخدته والا الحكومة؟
يرتعد جسدها خوفا من عقاب الله، يعود الإيمان إلى قلبها مع الرعدة، يمتلئ أنفها وفمها بتراب الشارع. كان ابنها الوحيد أملها الوحيد، فلذة الكبد والقلب طويل القامة ممشوق، خطوته فوق الأرض ثابتة واسعة، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان بالضوء، ينظر في عينيها ويبتسم: خلاص يا أمي الثورة جاية بكرة، شوفي يا أمي الشعب كله ثار، حتى الأطفال في الشوارع والقطط والكلاب. - منذ اختفاء ابنها لم تعد دادا زينات تنام الليل. ترتدي جلبابها وتنتعل حذاءها الكاوتش، تخرج في الظلام تبحث عنه، تدور عيناها تفتشان الأرض والسماء، تنبش صفائح القمامة والصناديق الملقاة في عرض الطريق، تستريح قليلا فوق دكة خشبية مكسورة على حافة النيل، تتأمل سربا من النمل والخنافس يزحف نحو كوم من القمامة، والأطفال يتنافسون مع القطط الصغيرة على قطعة من الخبز، أردافهم عارية. طفل يعرج وهو يجري يسابق كلبا أعرج، بترت السيارة المسرعة في الليل ساقه.
تعود دادا زينات إلى غرفتها في البدروم، تملأ كيسا من البلاستيك الأسود ببقايا الطعام . كان البدروم مخزنا لكل ما يلقي به سكان العمارة، كل ما يفيض عن حاجتهم يرمونه من المناور؛ ملابس قديمة وطعام زائد ومقاعد مكسورة، ومراتب مهترئة يفوح منها البول، وبطاطين منحولة الوبر.
تملأ دادا زينات الكيس الأسود من البلاستيك، تمسح عن الخبز الغبار، تلف قطعة اللحم في جريدة قديمة، تلمح صورة الرئيس أعلى الصفحة، أو صورة وزير، أو كاتب كبير من أصحاب الأعمدة، فوق عموده ترى صورته داخل البرواز، عيناه مطموستان بالغبار أو الطين، أو مخرومتان بشوكة سمك أو عظمة ضلع مأكولة.
تمسح بكفها الغبار والطين عن ورقة الجريدة، تلف بها الخبز وبقايا اللحم، أو قطعة من الكيك، كعكة من بقايا كعك العيد، أو شريحة من الجبن، وحبات زيتون أخضر أو أسود، وليمونا مخللا أو نصف خيارة.
تخرج دادا زينات في الليل حاملة الكيس الأسود، تجلس فوق الدكة الخشبية. يتجمع من حولها الأطفال والقطط والكلاب، تفتح الكيس فوق الرصيف، عيناها ترمقانهم وهم يلتهمون الطعام، عيونهم تلمع بالفرح، عيونهم يكسوها البريق، يشبه البريق في عيني ابنها وهو طفل، حين كانت تضع أمامه كوب اللبن أو البيض المقلي في السمن.
بينما كانت دادا زينات عائدة إلى غرفتها، وهي تمشي في الظلمة، تعثرت قدماها في شيء صغير ملفوف، ليس طفلا ميتا أو كلبا أو قطة داستها سيارة مسرعة. كثيرا ما تعثرت قدمها في أشياء ميتة ملقاة في عرض الطريق أو فوق رصيف، تنثني بجسمها النحيف، تلتقط الشيء بأصابعها الرقيقة الطويلة الرفيعة، تهزه المرة بعد المرة، تتأكد أنه ميت، تحمله بين ذراعيها بعيدا عن الطريق، تضعه على جانب الرصيف، أو تحفر له حفرة بين الأسفلت والأرض بحذاء النيل.
كان الشيء الملفوف ساخنا، تمشي في عروقه الدماء، أحست دادا زينات السخونة وهي تحمله بين ذراعيها، النبض كان يسري منه إلى صدرها. ارتجفت وتوقفت، كشفت الغطاء عن وجهه، طالعتها المقلتان الكبيرتان تشعان بالضوء، كشفت الغطاء عن الفخذين الصغيرتين المضمومتين بقوة، لم تر قضيب ابنها الصغير بل الشق في جسد الأنثى، رفعت عينيها تخاطب الرب: زي بعضه يا رب، البنت زي الولد، نحمدك يا رب ع الحلوة وع المرة.
لم تفارقني صورتها منذ الطفولة، قامتها الطويلة الممشوقة، رأسها المرفوع، مقلتاها الكبيرتان تتوهجان. تجري أصابعها الطويلة الرشيقة فوق البيانو بسرعة البرق، كنت أتمنى أن أكون مثلها وإن قالوا عني بنت زنى.
على جدران المراحيض في المدرسة كنا نكتب اسمها بالطباشير. - زينة بنت زنات.
كانت تكتبه فوق السبورة أمام عيوننا دون حياء؛ تفخر بأمها زينات. كنا نخجل من ذكر أسماء أمهاتنا بصوت مسموع، لا يمكن أن نكتبه فوق الكراسة فما بال السبورة؟! لم تكن أمي خادمة بالبيوت مثل أمها، كانت أمي الأستاذة الكبيرة بدور الدامهيري، زوجة الكاتب الكبير زكريا الخرتيتي، أكتب اسمه إلى جوار اسمي فوق السبورة: مجيدة زكريا الخرتيتي.
أقول للبنات: إن لأبي عمودا طويلا في الجريدة، وعزبة كبيرة في المنصورة. ترمقني البنات بإعجاب، تتملقني الناظرة والمدرسون والمدرسات، إلا واحدة هي أبلة مريم.
كانت تدرس لنا الموسيقى، تمسك أصابع زينة بنت زينات، ترفعها عاليا؛ لتراها كل البنات: «أصابعها خلقت للموسيقى يا بنات، انظرن إلى أصابعها، إنها موهوبة ليس لها مثيل، مخلوقة للموسيقى.»
كلمة الموسيقي كان لها سمعة سيئة، سمعنا المدرس يقول: الموسيقى من أعمال الشيطان، مثل الرقص والغناء. الغناء مهنة الغواني الباغيات، وليس بنات العائلات. من تنام منكن على صوت الموسيقي وليس ترتيل القرآن تدخل النار، وتحترق فيها إلى الأبد.
تسري الرعدة في جسدي وأنا جالسة في الفصل، انتفاضة تشملني من قمة الرأس حتى بطن القدمين. أحس شريط البول الدافئ ينساب من تحت المريلة فوق ساقي اليسرى يبلل جوربي، يدخل في حذائي الجلدي الأسود، أطبق فخذي بقوة أخشى أن تتسرب الرائحة إلى الفصل والبنات.
في الليل تطاردني الأشباح، يتجسد الله أمامي على شكل رجل ضخم الجثة، وجهه يغطيه الشعر والشارب واللحية، عيناه حمراوان مشتعلتان بنار حمراء، صوته يخرق أذني مثل قضيب حديدي محمى في النار، يدخل القضيب أذني اليمني. كان الله يأتي دائما من ناحية اليمين، أما إبليس الشيطان فكان يأتي من جهة اليسار.
كنت في الثامنة من العمر ، أخلط بين الله وإبليس، كلاهما يظهر على شكل رجل يغطي الشعر رأسه ووجهه، عيناه مشتعلتان بنار حمراء، يهددني بالعقاب. إصبعه الطويلة المدببة تكاد تخرق عيني، أدفعه بعيدا عني وأنا غارقة في النوم لكنه لا يبتعد، تظل إصبعه الطويلة الصلبة أمامي، يشبه القضيب الحديدي الطويل المدبب. يهبط من عيني إلى عنقي، يلتفت حول عنقي، يخنقني بأصابع حديدية، أفتح فمي لأصرخ لكن صوتي لا يخرج. تهبط إصبعه من العنق إلى الصدر، يغرز ظفره الحاد في صدري، في النهد الأيمن إذا كان الله، في النهد الأيسر إذا كان الشيطان. لم يكن نهداي قد برزا بعد، مجرد برعمين صغيرين لكل منهما حلمة سوداء مستديرة، تدوسها الإصبع حتى أصرخ من الألم، يضع كفه الكبيرة فوق فمي ليكتم صوتي، ثم تهبط الإصبع فوق البطن، أسفل البطن، فوق العانة الملساء بغير شعر، ينزلق من فوقها ليدخل في ثنايا اللحم، حتى البؤرة الخفية في الأحشاء.
في السابعة من عمري علمني أبي الصلاة، أسجد بين يدي الله أطلب المغفرة. كنت أظن أنني الآثمة وليس الله أو الشيطان، كان أبي يقول: أحلامنا تكشف عن رغباتنا الآثمة. يطلب مني أن أصلي قبل أن أنام. سمعني مرة وأنا أتكلم في النوم؛ كنت أطرد الإصبع التي تطاردني في الحلم، أصدها عني بكل قوتي، أزعق في وجهه، أوجه إليه الشتائم، سباب من نوع شديد البذاءة، مثل الذي كنت أسمعه من أولاد الشوارع.
بلغت التاسعة عشرة من عمري، ذهبت إلى الطبيب النفسي زميل أبي القديم في المدرسة، حكيت له عن أحلامي، لم أنطق كلمة الله أو الشيطان حتى أعطاني المخدر، تمددت فوق الأريكة ما بين الوعي واللاوعي، سمعت الطبيب النفسي يقول: احكي يا مجيدة لا تخافي. - أنا خايفة يا دكتور. - خايفة من إيه؟ - من ربنا. - ليه خايفة منه يا مجيدة؟
كانت عقدة لسانها قد انحلت قليلا، بدأ صوتها يخرج متحشرجا مكتوما مرتجفا: باشتمه وأنا نايمة. - تقوليليه إيه يا مجيدة؟ - كلام وحش زي بتوع الشوارع. - زي إيه يا مجيدة. - زي يابن ال...
ينقطع صوتها قبل أن تكمل الكلمة، تنفتح عيناها المذعورتان، تتفاديان النظر ناحية الطبيب. - اتكلمي يا مجيدة ما تخافيش. - خايفة يحرقني في النار يا دكتور. - نار إيه يا مجيدة؟ - نار جهنم.
رمقها الطبيب بإشفاق. بدت طفلة في التاسعة عشرة من عمرها، جسمها القصير السمين ممدود فوق الأريكة، بشرتها بيضاء ناعمة، أصابعها بضة رقيقة.
امتدت يده وأمسك يدها، التقت أصابعها الخمس حول يده، كالطفل المولود تلتف أصابعه حول إصبع الأم.
أمسكت إصبعه في يدها، قبضت أصابعها الخمس على إصبعه مثل الكماشة. - اسمعي يا مجيدة ما فيش حاجة اسمها نار جهنم. - اتسعت عيناها على آخرهما، انحسرت الجفون عن مقلتين صغيرتين سوداوين، تتذبذبان في مساحة كبيرة من البياض، تتخفيان في ما تحت الجفون، يصبح البياض أكثر مما كان، كتلة من البياض ليس فيها إلا البياض.
يعرف الطبيب هذه الحركة، حين يهرب البؤبؤ تحت الجفن، حين يبلغ الخوف مداه، يصبح الإنسان مثل الفأر. - ما تخافيش يا مجيدة، أنا جنبك.
يداها الصغيرتان مثلجتان، يدلكهما بيديه الكبيرتين الدافئتين، يهمس في أذنها بصوت حنون: أنا معاكي ما تخافيش.
يخاطبها كالأم تخاطب طفلتها، تضع رأسها فوق صدره، تظنه صدر أمها، تحوطه بذراعيها وهي نصف عارية: أنا بحبك يا دكتور، خدني في حضنك يا دكتور.
تفتح مجيدة جفونها، تصحو من النوم، لا تكاد تعرف الحلم من الحقيقة. بالأمس كانت تمشي في جنازة أبيها، في الصباح رأته جالسا إلى مائدة الفطور يشرب القهوة باللبن، أمها جالسة أمامه تشرب الشاي، كل منهما يدفن وجهه في الجريدة، لا يتبادلان الكلام. الصمت يجثم على البيت ثقيلا كالموت. - صباح الخير يا ماما. - صباح الخير يا مجيدة. - صباح الخير يا بابا. - صباح الخير يا مجيدة.
ثم يعود الصمت كما كان، أثقل مما كان. ترتدي مجيدة ملابس الخروج، تفتح الباب ثم تغلفه من خلفها في صفقة قوية حادة.
فوق الأريكة تخلع ملابسها أمام الطبيب النفسي، تتمدد عارية فوق الأريكة، تمد له ذراعيها، تريد أن تموت بين ذراعيه، تريد أن تعرف قمة اللذة قبل الموت.
يحوطها الطبيب النفسي، يربت شعرها وكتفيها الناعمين ، تهبط يده إلى النهد العاري، ينبض تحت يده. يقول لنفسه: ليس من مبادئ الطب النفسي ممارسة الجنس مع المريضات، لكن هذه الممارسة قد تكون وسيلة للعلاج، وهي أيضا تروقه. هذا الجسد الأنثوي المتفجر بالرغبة، كالأرض الظمأى تبغي قطرة ماء، ليس مثل جسد زوجته، كتلة باردة صماء، لا يحركها شيء، وإن نخسها بالإبرة، أو غرز في بطنها قضيبا حديديا محميا في النار.
بعد أن تخرج مجيدة يصحو ضميره؛ يؤنبه على ما فعل. يرى نفسه داخل النار، في أعماقه منذ الطفولة يؤمن بإله منتقم جبار، لن يغفر الله ذنوبه الكثيرة، أكبر ذنب أنه يشك في وجود الله، يتمزق بين الشك واليقين.
مزيد من الناس يعودون إلى الإيمان، تصاعدت التيارات الدينية في كل مكان في الشرق والغرب، مسلمين ومسيحيين ويهودا وبوذيين وهندوكيين وكل الأديان. كل دين أكثر عنفا من الآخر، حروب طائفية تحت اسم الإله، كل إله أكثر دموية من الآخر، حاول التخلص من إيمانه دون جدوى. في عيد الأضحى الماضي سافر إلى قريته، دعاه أبوه وأمه للاحتفال بالعيد، ركب سيارته المرسيدس السماوية، وهو يقودها على الطريق الزراعي خطر له أن الله سوف يعاقبه على شكوكه فيه، أن الله سوف يجعل السيارة اللوري القادمة تصطدم بسيارته ويموت. أفظع من الموت أن يشوه جسده، أن يفقد ذراعا أو ساقا أو عينا من عينيه.
كان يقوم بدراسة عن علاقة الأديان بالأمراض النفسية. كلما تعمق في الدراسة أدرك خطورة الإيمان، تلازمه فكرة انتقام الله منه، ليس هناك من هو أكثر انتقاما من الرب. إن ظهرت دراسته في كتاب فسوف يدخل اسمه قائمة الموت، تصدرها مجموعة الأمير ومجموعة أخرى مجهولة تعمل تحت الأرض. كانت القرية هادئة فيها جامع واحد، صوت المؤذن كان جميلا وناعما، يدغدغ الأذن، أصبحت القرية ملأى بالجوامع في كل حارة، في كل ناصية، في كل زقاق وزاروب. فوق كل منارة ميكروفون ضخم، ينطلق الأذان خمس مرات في اليوم، أصوات تشبه الرعد. امتلأت الحواري بشباب تغطي اللحى السوداء الغزيرة وجوههم، تتدلى فوق صدورهم. النساء والفتيات والأطفال البنات رءوسهن ملفوفة بالحجاب، المشايخ يلفون رءوسهم بالعمائم، الأولاد الصيبان يرتدون الطاقة ذات المخرمات. تراوده فكرة أن الله ربما لا يهتم بهذه الأزياء أو لا يراها، وإن رآها فما هي المشكلة؟ لماذا تؤرقه أزياء الناس؟ لماذا لا يكف عن مراقبة أجساد النساء؟
أوقف السيارة أمام بيت الخرتيتي الذي تحيطه المزرعة الكبيرة، كان زكريا الخرتيتي زميلا له في المدرسة. في الميدان الصغير مر بالمدرسة التي كان فيها وهو طفل، رأى ملصقا فوق الجدار عليه صورة زكريا الخرتيتي، الصورة ذاتها التي تنشر على رأس عموده في الجريدة كل صباح، إعلان عن محاضرة له بمناسبة العيد، عنوانها: العلم والإيمان.
سارت به السيارة إلى بيت جده القديم في شارع المحطة، رأى إلى جوار البيت جامعا جديدا له منارة وميكروفون. في نهاية الشارع كانت الخمارة، ودار الغازية خدوجة، كان يذهب إليها مع زكريا، وكان زملاؤه المراهقون، يفرغون غدة الشيطان في جسدها السمين، ينتظر كل منهم دوره جالسا في الصالة، يقرأ القرآن، أو يحملق في مجلة فوق غلافها امرأة عارية. كان هناك أيضا الحشيش والأفيون، وحقن الماكس، وكل ما يذهب بالعقل ويوقظ الشهوة، ومطاعم الكشري والكفتة والكوارع، وكل ما تشتهي الأنفس.
ثم ذهب إلى الجامع ليصلي صلاة العيد، ركع وسجد مع الراكعين والساجدين، لامست جبهته الحصيرة، دخل التراب أنفه مع البراغيث، طرد الشيطان الواقف على يساره، كان ينبئه أن الله لا ينخدع بصلاته، أنه عاقبه على شكوكه فيه بأن هزم نادي الزمالك في المباراة الأخيرة، كان الشيطان يعرف أنه زملكاوي، طرده بيده كأنما يهش ذبابة: اخرس يا إبليس، لا يمكن أن يكون الرب تافها إلى هذا الحد، فيعاقب النادي كله بسبب فرد واحد يشك فيه.
في طريق العودة من القرية أدرك الطبيب النفسي أنه مريض، يحتاج إلى طبيب يعالجه، الانفصام بين عقله ووجدانه، عقله غير مؤمن، لكن وجدانه مؤمن. لا أمل له في الشفاء، محكوم عليه بالازدواجية منذ الطفولة.
تسللت بدور في ظلمة الليل، زوجها راقد إلى جوارها يشخر، فمه مفتوح معوج ناحية اليسار، شاخص إلى السقف، جفونه نصف مغلقة نصف مفتوحة، تطل منها نظرة أو نصف نظرة، متلصصة متجسسة، يختلس النظر إليها وهي تتسلل من الفراش، تمشي على أطراف أصابعها، قدماها صغيرتان سمينتان، بطيئة الحركة مثل البطة، تتأرجح من قدم إلى قدم، تتردد بين الإقدام والإحجام. في حياتها ثلاثة رجال على الأقل، محمود الفقي بعموده اليومي تقول عنه ممتاز، أحسن من عموده، عموده يقرؤه كل الناس بمن فيهم الرئيس. الرجل الثاني هو الطبيب النفسي زميله في المدرسة، كان بليدا يرسب في اختبار الذكاء، يجري وراء البنات. الرجل الثالث هو السر في حياتها، لا تبوح به لأحد حتى لنفسها، أو ربما صديقتها صافي أو دادا زينات. هاتان المرأتان لا تجتمعان إلا والشيطان ثالثهما.
ينقلب زكريا الخرتيتي وهو نائم من جنب إلى جنب، يتغير موقعه من فوق الظهر إلى فوق البطن، يدفن وجهه في الوسادة، يتحول الشخير إلى نشيج مكتوم. يسري في أذنيه صوت أبيه وهو طفل: «المرأة حليفة الشيطان، النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان.» يقتبس أبوه كلمات ابن المقفع: «واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن؛ فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب، فإن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل.»
لكن كيف يا زكريا يا ابن الخرتيتي أن تمنع زوجتك من أن تعرف غيرك؟ إنها تخرج كل يوم إلى الجامعة، أستاذة كبيرة تدرس الطلاب الذكور، يرمقها زملاؤها الأساتذة بعيون الأبالسة، منهم محمود الفقي صاحب العمود، وأستاذ الطب النفسي. ترقد أمامه فوق الأريكة، يستخدم الأريكة لعلاج نفسه من الحرمان الجنسي، ينكح من النساء ما يشاء. أحل الله له النكاح بعد حصوله على درجة الدكتوراة في الطب النفسي، يتصور نفسه نبيا مبعوث الله لشفاء المعذبات على الأرض. يحبس زوجته في البيت، إن خرجت ترتدي الحجاب، يغار عليها من عيون الرجال، أقسمت أمامه على كتاب الله ألا تعرف رجلا غيره في الحياة وفي الممات، ألا تنكح من بعده رجلا أبدا، كأنما هو النبي المرسل من عند الله، يحميه الله من الأذى، أنزل عليه آية في سورة الأحزاب رقم 53:
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا .
يتقلب زكريا الخرتيتي في الفراش، ينقلب من فوق بطنه ليعود راقدا فوق ظهره، شاخصا بنصف عين إلى السقف، يرى عين الله الساهرة لا تنام. ترمقه بنظرة غاضبة من الشق، عين حمراء مشتعلة بنار جهنم، صوته كالرعد يرج جسده. «يا ابن الخرتيتي، كان جدك الأكبر صبيا ميكانيكيا، يضربه صاحب ورشة الحدادة في بطنه بكعب حذائه إن أخطأ في إصلاح صامولة من الحديد. أعطيتك وأعطيت أباك كثيرا من نعمي، أصلحت صامولة في لحم مخك الهش، أصبحت كاتبا كبيرا تملك عمودا يوميا في جريدة أبو الهول الكبرى، ألا تكف عن شكوكك في وجودي أيها الأحمق، قتل الإنسان ما أكفره!»
كانت زوجته بدور جالسة وراء مكتبها في غرفتها، أمامها الأوراق، في يدها القلم، لمبة كهربائية تكشف عن وجهها المستدير السمين، جفونها نصف مغلقة، شاردة أو نائمة تغط في النوم. تتراءى لها شخصيات الرواية ظلالا تمشي فوق الجدار، أشكالا تتجسد تطل من الفرج في السحابة السوداء، شق صغير من الضوء في الظلمة الحالية، تنتظر فرج الله أن يهبط عليها الوحي، أن يجري قلمها فوق الورق كما كان يجري، لكن القلم ثابت في يدها لا يتحرك، لا شيء يمشي في خلايا عقلها، منذ تزوجت زكريا الخرتيتي كف رأسها عن العمل، أصاب الصدأ صواميل المخ. ترمقها عين زوجها في الليل والنهار، لا يغمض له جفن وإن نام، يتجسس على أحلامها، يفتش في الأوراق داخل أدراجها، يختلس ما يشاء من فصول الرواية، الأجزاء السرية حيث تنتهك المحرمات، يجمعها داخل درج سري في مكتبه، داخل دوسيه غلاف أسود، مكتوب عليه: «وما خفي كان أعظم.»
تنام بدور وهي جالسة وراء مكتبها، تصحو فجأة حين تسمع صوت قدم، تعرف خطوته حين يمشي من غرفة النوم إلى الحمام، محفورة في خلايا المخ السنة وراء السنة. عشرين سنة، ثلاثين، لم تعد تعرف عدد السنين منذ شاركها في الفراش، تعرف صوت الباب حين يفتحه صوت الهواء، حين يخرج إلى الشرفة يتمطى ، صوت الماء حين يدخل إلى الحمام. بينما هو تحت رذاذ الماء الدافئ تحس البرودة تمشي في عروقها من قمة رأسها إلى بطن القدمين، تنتبه إلى الضربات المتصاعدة تحت ضلوعها، تيار الدم المتصاعد إلى رأسها، برودة الثلج في أصابع يديها وقدميها، أذنها مرهفة إلى صوت الدش في الحمام، أزيز الصامولة في الصنبور حين يغلقه، ثم الصمت، يدب الصمت وهو يجفف جسده بالبشكير الأبيض الكبير. تشم رائحة الشامبو حين يفتح الباب مع رائحة معجون الحلاقة، ماء الكولونيا المستورد من باريس، أووسوفاج، تعرف أنه على موعد مع فتاة جديدة. الصحفية المتدربة في الجريدة، أو الكاتبة الناشئة التي تهوى الأضواء تنتقل من كاتب كبير إلى كاتب أكبر، إلى أن تمتلك لنفسها عمودا، فوق رأسه تظهر صورتها داخل البرواز؛ شعرها الطويل المسدل فوق كتفيها، شفتاها المنفرجتان عن أسنان مدنية دقيقة، جفونها مسبلة في نظرة ناعسة، مشبعة بالأنوثة والإغراء.
في الثامنة من عمرها كانت ترى أمها تبكي في صمت تختفي في غرفتها، تدفن وجهها في الوسادة، تمسح دموعها في طرف الملاءة البيضاء، كفت أمها عن الكلام مع أبيها، ترمقه بنظرة ساخرة وهو راكع بين يدي الله يتمتم بآيات القرآن، أذنه مرهفة الصوت إبليس الواقف عن يساره، عينه زائغة تتلصص على سيقان البنات، عقله مشغول بنتائج الانتخابات، يسقط دائما في الكشوف النهائية، يعاني الإحباط بين الرجال، يعالجه بغزوات ناجحة بين النساء.
كانت في الثامنة من عمرها تلميذة بالمدرسة، إجازتها يوم الجمعة. يخرج أبوها إلى الجامع، تخرج أمها لزيارة أمها في مصر الجديدة، تبقى هي في غرفتها تراجع دروسها، أو تطل من النافذة على الأطفال في الشارع يلعبون، يتجمعون حول الرجل صاحب القرد ينفخ في المزمار، خداه ينتفخان بالهواء، عيناه تجحظان، يرقص القرد على إيقاع اللحن، مؤخرته الحمراء تلمع تحت الشمس، تتصاعد ضحكات الأطفال البنات والأولاد، يرقصون مع القرد ويصفقون.
كان أبوها يمنعها من النزول إلى الشارع، يقول لها: إن أولاد الشوارع هم أولاد الزنى، أولاد الأبالسة خاصة ذلك الولد الأعرج يشبه القرد، عيناه ضيقتان غائرتان تحت عظام رأسه المخروطي الصغير، وجهه طويل نحيل، بشرنه سمراء شاحبة تعلوها بقع بيضاء، نقص الغذاء والأنيميا أو فقر الدم، أذناه صغيرتان وحمراوان، في شحمة كل أذن ثقب، يتدلى منه حلق من الصفيح على شكل النجمة. يرقص الطفل الأعرج مع القرد، ويضحك وسط الأطفال، ترن ضحكته في الجو، يتسرب شيء من الضوء إلى عينيه الضيقتين، تلمعان بابتسامة تشبه الدمعة الحبيسة.
كان الطفل في مثل عمرها تعطف عليه أمها، تناوله قرشا، نصف رغيف داخله قطعة جبن، كعكة من كعك العيد، سروالا قديما من سراويل زوجها.
ذلك اليوم، الجمعة، بعد أن انتهت من مراجعة دروسها، كان أذان الظهر يدوي من الجامع المجاور، وكانت الشمس مشرقة في بداية الربيع، زالت برودة الشتاء وانقشعت السحب، أرادت أن تتمشي خارج البيت تشم الهواء، أن تزور صديقتها في المنزل المجاور قبل أن يعود أبوها من الجامع، كان يمنعها من زيارة صديقتها، لا تخرج من البيت إلا إلى المدرسة في خط واحد مستقيم في الذهاب والإياب، لا تلتفت إلى هنا أو إلى هناك، تسمع أباها يقول: شرف البنت زي عود الكبريت يشتعل مرة واحدة فقط، مرة واحدة فقط مرة واحدة فاهماني؟
قبل أن تخرج من باب البيت أرادت أن تتمشى قليلا في الفناء، كانت حديقة تحوط البيت فيها زهور ذابلة، حوش كبير من الأرض الترابية، في الفناء الخلفي كانت غرفة صغيرة تضع فيها أمها ما يفيض عن الحاجة، تسميها غرفة الكرار، أو مخزن العفش، تجري فيها السحالي والخنافس. تسكن فيها الأرواح الشريرة، منها إبليس كما تقول أمها، يسميها أبوها «أوضة الفيران»؛ يهددها بالحبس في أوضة الفيران عند العصيان.
كان للغرفة باب خشبي قديم نصف مغلق، بينما هي تمشي في الفناء الخلفي رأت الباب مواربا عن شق صغير، دفعها من الاستطلاع إلى أن تقترب من الباب بحذر؛ خشية أن يقفز في وجهها فأر أو سحلية أو روح شريرة. لم تكن تؤمن مثل أمها بوجود الأرواح أو العفاريت والجن، قالت لها مدرسة العلوم أن تفكر بعقلها. لا شيء اسمه أرواح أو عفاريت أو جن، تردد للمدرسة ما سمعته من أبيها: لكن ربنا يا أبلة قال في القرآن أن فيه جن وعفاريت. - مين قالك الكلام ده؟ - بابا يا أبلة. - باباكي مش فاهم كلام ربنا، لازم تفهمي كلام ربنا بعقلك، إنتي مش بعقل بابا ولا ماما.
تشجعت بدور ونظرت من شق الباب الموارب. كان يمكن ألا ترى شيئا؛ فالغرفة مظلمة تماما، ليس لها نافذة، كان يمكن أن تمضي في طريقها، لكنها سمعت صوتا غريبا يشبه صوت طفل يلهث، تجمدت عيناها فوق الشق في الباب، رأت النصف الأسفل من جسد أبيها عاريا، جلبابه الأبيض مرفوع فوق كتفيه، قضيبه منتصب بحجم ضخم. لم تشهد في حياتها قضيبا بهذا الحجم، كانت تلمح أحيانا قضبان الأطفال في الشوارع، حين يسيرون بأردافهم العارية وأقدامهم الحافية، لكنها قضبان صغيرة الحجم مرتخية مثل قطعة لحم طرية ضئيلة تتدلى بين الفخذين، كانت أمها تسميها العصفورة، وقضيب آخر أكبر كانت تراه يتدلى في الحلم من وراء سحابه من الدخان يشبه إصبع الشيطان، يزحف من حلمة النهد الدقيقة إلى العانة الملساء بغير شعر، ثم يهبط إلى ثنايا اللحم حتى بؤرة الألم واللذة في الأحشاء الدفينة.
كانت في الثامنة من عمرها، خبرتها قليلة. بدا لها قضيب أبيها كبيرا أكبر من ذلك المتدلي من السماء، منتفخا ممدودا إلى أسفل حتى جسد الصبي الطفل، يشبه القرد، مؤخرته عاريه حمراء كالقرد. اكتشفت وجود الطفل الصبي بعد أن رأت قضيب أبيها، كأنما جسد الطفل كان امتدادا للقضيب، أو أن القضيب كان امتدادا لمؤخرة الصبي. كان الولد الصغير راقدا فوق بطنه على الأرض، وجهه مرفوع قليلا نحو شق الباب، عيناه مرفوعتان نحو الخط الرفيع من الضوء، ساقه العرجاء العارية ممدودة كالحاجز تفصل بينه وبين أبيها، يده مدفونة تحت ذقنه، أصابعه متقلصة قابضة على شيء أسفل بطنه مختبئ في العمق، أذناه الصغيرتان حمراوان، في كل شحمة حلق من الصفيح.
تصورت لأول نظرة أنهما جسد واحد، ثم انتبهت إلى أنهما جسدان، جسد أبيها وجسد الطفل الولد الأعرج من أولاد الشوارع. عمره ثمانية أعوام مثل عمرها، جسدان ذائبان في كتلة واحدة، تشبه حيوان الكانغورو، حامل ابنه فوق ظهره، أو تحت بطنه.
تشد بدور جفونها وتصحو من النوم، تجد نفسها جالسة وراء المكتب في يدها القلم. الصفحة أمامها بيضاء، عقلها أبيض مثل الورق، ثابت لا يتحرك مثل القلم في يدها. منذ تزوجت وهي عاجزة عن الكتابة، أو ربما كتبت رواية سرقها منها زوجها، كان يفتش أدراجها وهي غائبة في النوم، يسرق منها المفكرة السرية وخطابات الحب القديمة، سرق منها الفصل الذي كتبته عن ذلك المشهد. لا تستطيع أن تكتبه مرة أخرى، مرت السنون وضاع منها، تسرب من ذاكرتها، نسيت وجه الطفل الصبي في تلك اللحظة، نسيت اللحظة ذاتها، تصورت أنها لم تحدث. أحداث كثيرة تصورت أنها من خيالها، دخان بلون السحابة السوداء تطفو فوق عينيها. كانت إصبع إبليس تتخفى وراء السحابة، وجه الله أيضا كان يتخفى وراء عمود من الدخان، لكنها رأته من الشق من الباب الخشبي الموارب، أبوها ذاته بلحمه وشحمه راكعا على ركبتيه كأنما يسجد بين يدي الله، يميل بظهره إلى الوراء، كفه اليمني تشبه خف الجمل يدوس بها الأرض، يده اليسرى متقلصة متجمدة فوق عنق الصبي. يتكاثف الدخان فوق ذاكرة بدور وهي مغمضة الجفون، خيالها يبدو كالحقيقة، والحقيقة تبدو خيالا، لا تقبض أصابعها الممسكة بالقلم على الحقيقة، تتسرب من بين أصابعها البضة مثل قبض الريح. تجاهد كل الجهد لتستعيد المشهد، يزوغ منها كالزئبق؛ ربما لأن الماضي يموت ويذهب إلى العدم، أو بسبب الألم الموجع الذي يفوق احتمالها.
فركت بدور عينيها لتصحو؛ تذكرت أن أباها كان جالسا نصف جلسة، أو راكعا نصف ركعة يدس لحيته الطويلة في صدره. وجهه المربع متقد بالدم، مرفوع إلى السقف متقلص العضلات في ألم ولذة وراحة، كأنما أخرج الطبيب من كليته حصاة، أو خلع بالكماشة ضرسا مسوسا في عظمة الفك، أو استأصل بالمشرط غدة أو ورما خبيثا في الخصية، أو البروستاتة. كلمة البروستاتة سمعتها من قبل وهي طفلة، البروستاتة عضو مؤنث خلقه الله في جسد الذكر ، الذي سافر ليستأصلها الطبيب بالمشرط. بدت النشوة في عيني أبيها، نشوة اللذة التي لم تعرفها في حياتها، نشوة اللحم المحترق بالحرمان من اللذة، الأرض البور المحروقة بالشمس تتعطش للماء. تذوب اللذة في الألم، في التعب، في الراحة، في الحزن والفرح، ثم ذلك الاسترخاء، يشبه الانتهاء، الموت، الانتهاء من عبادة إله منتقم يحرق في النار، وإله آخر رحيم يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، كلاهما جبار واحد أحد.
انهمرت الدموع من عينيها، لم تعد قادرة على الرؤية، تلاشى وجه أبيها تحت سحابة الدموع، رمادية دكناء تقترب من السواد، جسدها ينتفض مع الذكرى انتفاضة أبيها وهو يغتصب اللذة، يرفض اللذة ويطلبها في وقت واحد، مثل زوجها زكريا الخرتيتي يحبها ويكرهها في آن واحد. هي أيضا تعاني الازدواجية، تريده ولا تريده، تحبه وتكرهه، مثل الكتابة تحبها وتكرهها، تقدم عليها بنشوة كبيرة، لكن ما إن تلامس سن القلم الصفحة البيضاء حتى يحدث الإجهاض، أو الإحباط. تموت الكلمات تحت سن القلم، تموت البطلة في الرواية ويموت البطل، كأنما حلم أو خيال.
يقول طبيبها النفسي: الازدواجية سمة الحياة، لا حياة بغير موت، قانون الطبيعة مزدوج، قانون السماء مزدوج. وإذا كان الله مزدوج الشخصية يا بدور؛ فهل يمكن الإنسان أن يعلو على الله؟ أنا لا أحب إلا المرأة التي تؤلمني، التي تهجرني. أحبها بعد أن أفقدها، لهذا تنتصر النساء المومسات أو الخائنات علينا نحن الرجال، وتتعذب في حبنا الفاضلات والزوجات المخلصات.
حاولت بدور دون جدوى أن تنسى وجه الصبي الأعرج. وجه شاحب أسمر بلا قطرة دم، عيناه مفتوحتان حتى آخرهما، رموشه مبللة بدموع متجمدة. بياض العين جاحظ كثيرا، تطل من تحت الغشاوة نظرة رعب متجمدة كالدموع.
قبل أن تفيق بدور من النوم، قبل أن تدرك ما تراه، كان عقلها الطفولي قد أدرك السر المكتوم في صدر أمها وأبيها، وعمها وجدها وخالها وخالتها، وعمتها، والجيران، وكل الكبار في عائلة أمها وأبيها وفي المدرسة، السر الذي عرفته بعد أن كبرت، الكامن بين الفخذين، الذي ينتصب وينمو ويتمدد ويصبح في حجم نظيره لدى الحمار.
أحست بدور بالماء الصاقع يسقط فوق رأسها كأنما السماء تمطر، عرق غزير يغرق جسدها وهي واقفة تطل من شق الباب الموارب؛ ريح باردة تضربها من الخلف، تخلع عنها ثوبها، تخلع عنها جسدها، ترتعش، ينتفض جسدها وهي ترى الدموع المتجمدة في عيني الطفل الأعرج، أو ربما كان طفلا يشبهها وهي طفلة. ربما كانت هي نفسها هذا الطفل الراقد فوق بطنه تحت القضيب الضخم، تحت جسد الكانغورو المنتصب، أو ربما كانت هي أمها حين كانت أمها تدخل غرفة النوم مع أبيها. يسري إلى أذنيها من خلال الجدار صوت يشبه الأنين، صوت طفلة تئن من الألم، ورائحة منفرة. لم يكن يغسل أسنانه بالمعجون والفرشاة كل صباح، لا يستحم بعد أن يمارس الجنس، ينتقل من أمها إلى النساء الأخريات دون غسل، يتخذ من النبي مثالا أعلى في هذا الأمر فقط. أصبحت الرائحة العطرة والعفنة في أنفها شيئا واحدا، الخير والشر، الله والشيطان، الحب والكره، اللذة والألم، الحياة والموت، كلها شيء واحد.
ترمق بدور ابنتها مجيدة، الطفلة في الثامنة من عمرها، تطرد المشهد من ذاكرتها، تتذكر أنها كانت في مثل عمرها، لا تبوح لابنها بالسر. يظل السر مكتوما في أعماقها، قفص حديدي مغلق تحت الضلوع، لا تملك الشجاعة أو الجرأة لتفتحه دون أن تشق قلبها نصفين، أو كبدها تنزعه بالسكين من صدرها.
أقامت مجيدة الخرتيتي حفلا كبيرا في عيد ميلادها، بلغت الرابعة والعشرين من عمرها. جاءت إلى الحفل زينة بنت زينات ضمن المدعوات، تكبرها بعام واحد، تبدو أكبر منها بمائة عام، طويلة القامة مرفوعة الرأس، أصابعها النحيفة الطويلة تجري فوق البيانو بسرعة الضوء، ترمقها العيون بإعجاب وحسد رجالا ونساء وأطفالا. أصبحت زينة بنت زينات نجمة في سماء الفن والغناء، أصبح لها فرقة كاملة من الأطفال والبنات والأولاد، من الأزقة والحواري، أصابعهم السمراء المشققة تدق أوتار العود والطبول والرق، خدودهم الشاحبة تنتفخ بهواء المزامير، أصواتهم تغني أنشودة الوطن، أغنية القطن والقمح:
القمح الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك تبارك وتزيده ...
نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل ...
بلادي بلادي لك حبي وفؤادي ...
عيونهم يكسوها البريق، تنقشع السحابة السوداء. تذوب طبقة الدموع المتجمدة، تطل المقلتان السوداوان تلمعان مثل النجمة في السماء، تدب الأقدام فوق الأرض بإيقاع اللحن، يرقصون ويغنون ويعزفون الألحان. أقدام وسيقان أطفال كبروا، استطالت عظامهم وطالت، أولاد وبنات، التأمت جروحهم والكدمات والكساح والعرج، أحزان القلب والوجع. تقودهم زينة بنت زينات على البيانو، منذ طفولتها تحفظ اللحن عن ظهر قلب، تحلم به في الليل، تسري إليها كلمات الأغنية وهي نائمة. يشتغل عقلها في اليقظة والحلم، ترى البريق في عيني أمها زينات وأبله مريم وزميلاتها في المدرسة، ترمقها صديقتها مجيدة الخرتيتي بعينين ضيقتين، يملؤهما الحسد والإعجاب، نظرة واحدة مزدوجة، تحبها وتكرهها، تدافع عنها أمام البنات، تكتب اسمها زينة بنت زنى في المرحاض. في عمودها في مجلة النهضة تقلد أباها زكريا الخرتيتي، تمسك العصا من المنتصف، تردد عبارته: خير الأمور الوسط، في منتصف الحبل المشدود تقف بين اليسار واليمين، بين الحكومة والمعارضة، بين العلم والإيمان، بين المدح والقدح، تحت اسم النقد الأدبي، الاتزان والموضوعية، الحياد والترفع عن الأحزاب، ترفع شعار الاستقلال والحرية.
جاء إلى الحفل أحمد الدامهيري ابن عم أمها بدور. أصبح يحمل لقب فضيلة الشيخ، يرفع شعار الإسلام هو الحل، أعوانه في المجموعة تحت الأرض ينادونه الأمير، يرتفع صوته في الإذاعات تحت الأضواء، ينخفض صوته في الاجتماعات السرية، رأسه مربع الشكل صغير الحجم، ذقنه مربع كان حليقا، ثم نبتت له لحية سوداء كثيفة، جبهته كانت ملساء ناعمة، ثم نمت فوقها زبيبة سوداء، أصابعه البضة القصيرة الناعمة تشبه أصابع أبيه وعمه وجده، يمسك بها السبحة في النهار، وكأس الخمر أول الليل، يداعب بها أجساد الباغيات قبل الفجر، يخاف العفاريت في الظلمة والصراصير والخنافس والفئران. تعود الشجاعة إليه مع قدوم النهار، يرتدي العمامة حول رأسه أو الطاقية المخرمة، الجلباب الأبيض الواسع الطويل، أو البدلة من الصوف الإنجليزي في الاجتماعات الرسمية مع الوزراء أو السفراء، مع الرؤساء أو زعماء الأحزاب. لا تفارق أصابعه السبحة الصفراء، تتحرك حباتها الناعمة مع تمتمات صوته الخافت، يتلو الآيات المقدسات، أحاديث الرسول والمرسلين، أقوال الأولياء، الأسلاف الصالحين، يبسمل ويحوقل ويمسح جبينه بكفه الصغيرة السمينة.
سقطت عيناه عليها وهي ترقص وتغني، جسمها ممشوق طويل كالغزال الشارد، ساقاها رشيقتان مسحوبتان إلى فخذين مشدودتي العضلات مثل فخذي النمر. ذكورة جامحة تذوب في أنوثة ناعمة، نهداها فوق صدرها يهتزان مع اللحن والإيقاع، كرتان صغيرتان من المطاط الصلب تحت الثوب الأبيض من القطن، لكل كرة منها بوز مدبب يشبه الإبرة، تخرق الإبرة عينه، تخرم الحدقة بوحشية الذكور في الغابة، كالجواد المتمرد الجامح، ليس لها صاحب، لا يملكها أحد. تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، تقفز في الفضاء، تنثني مثل غصن ناعم حديث الولادة، صوتها ينطلق دون حواجز، دون قيود الأرض أو السماء، مقلتاها الكبيرتان الزرقاوان تشعان وهجا، شعلة سوداء زرقاء لا تخاف نار جهنم الحمراء.
في المقعد إلى جواره كانت تجلس صفاء الظبي صديقة ابنة عمه بدور. ترمقه بعينيها، يكاد يشبه زوجها الإسلامي السابق، تكاد تقرأ أفكاره، تلتقط الرعشة في أصابعه الممسكة بالسبحة، تنفذ عيناها إلى أحشائه، نظرتها حادة كشفرة الموس، تحلق شعر لحيته وشاربه، تجتز شعر العانة الأسود لنرى ما تحته. خبرتها بالرجال كبيرة، يختلفون في الآراء والأفكار، يتعددون في المذاهب والأحزاب، يتشدقون بشعارات اليمين أو اليسار أو الوسط، يتبارزون كالديوك في الإذاعات وفوق الشاشات، يذهبون إلى الجامع دون وضوء، يقفون وراء الرئيس أو الوزير، في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أو ربما الأول. يسمعون عظام الركبتين تطقطق عند الركوع أو السجود، أو صوت الأمعاء المتضخمة بالحسد والإعجاب، تتقلص مع الحركة وضغط الدم، يفلت الهواء المضغوط في الأحشاء الدفينة، يخرج من بين الأليتين بصوت خافت ناعم، يشبه الشخير المكتوم في النوم، أو حفيف قدم حافية تمشي على أطراف أصابعها في الليل.
يسبح خيال صفاء الظبي في الزمن، يعود بها إلى زوجها السابق. قبل الزواج قال لها: أنا معجب بكتاباتك يا صافي، يدللها باسم صافي مثل صديقتها بدور. كانت مثل زميلاتها الأستاذات المثقفات أو الكاتبات الناقدات، تزهو بعقلها. إن تغزل رجل بشفتيها أو نهديها ترمقه بنظرة حادة. - أنا لست جسدا يا أستاذ، أنا عقل يفكر، أنا كاتبة مرموقة، هل قرأت كتابي في النقد الأدبي؟ ألا تقرأ مقالاتي في الصحف؟
تضحك صافي ضحكتها المجلجلة، يرتج جسدها السمين القصير. أصبحت تلف رأسها بالطرحة البيضاء، تصد عن مفاتنها عيون الرجال، عاهدت زوجها على الإخلاص، أقسم لها على المصحف أنه لن يلمس امرأة غيرها.
كانت صفاء الظبي تتأهب لتأليف كتاب في النقد المسرحي أو السينمائي، قال لها زوجها: اكتبي عن حقوق المرأة في الإسلام، نقد مسرحي إيه؟ ده كلام فارغ يا صافي، مافيش في بلدنا مسرح وسينما ولا أدب ولا ثقافة. كله كلام فارغ منقول عن الكتب في الغرب، الفن عندنا خلاعة ومجون. اكتبي في الإسلام يا صافي، الإسلام هو الحل لكل مشاكلنا.
تأهبت صافي لتأليف الكتاب، جمعت المراجع والدراسات السابقة، وضعت الفهرس وعناوين الفصول، أصبح عنوان الكتاب: «المرأة في الإسلام». كتبته بالخط النسخي العريض فوق الدوسيه الأخضر، تنكفئ فوق الأوراق تكتب، تسهر الليل في مكتبها داخل غرفتها حتى يغلبها النوم، تغلق الدوسيه، تتمطى قليلا ثم تسير إلى غرفة النوم حيث السرير العريض، يشاركها فيه زوجها. قبل أن يضمها الفراش تدخل الحمام، تغسل التراب والتعب.
كانت الشقة في الدور التاسع في شارع العجوزة، تنقطع المياه في الصنابير جزءا من النهار والليل. تستولي الأدوار السفلى على الماء، الماكينة تعمل بالكهرباء، تدفع المياه إلى الدور التاسع، ينقطع التيار الكهربائي جزءا من الليل. كان الهواء مشبعا بالتراب والدخان، سحابة سوداء تغطي السماء، صفائح القمامة أمام أبواب الشقق دون غطاء، تقلبها القطط، تتقاقز من حولها الصراصير، ماسورة المياه انفجرت مع ماسورة المجاري، عجلات السيارات تغرق في الشارع وتتوقف حركة المرور.
فوق باب العمارة الخارجي لوحة كبيرة مكتوب عليها بالخط النسخي: عمارة التقوى والإيمان. حتى العمارات أصبحت تعود إلى الإيمان، صاحب العمارة يملك شركة لتوظيف الأموال وبنكا من بنوك الإسلام. تظهر صورته في الصحف باللحية والشاربين والسبحة، والزبيبة فوق الجبين، يصافح الوزراء والسفراء وكبار الكتاب من أصحاب الأعمدة في الصحف الحكومية، وأساتذة الجامعات. منهم صفاء الظبي وزوجها السابق، لا يملك كل منهما شيئا إلا راتبه الشهري، ومكافآت نظير المحاضرات في بلاد النفط، وأرباح كتب ومقالات عن الإسلام، ومذكرات يوزعانها على الطلاب والطالبات، ودروس خصوصية في الدين والفقه والشريعة. تجمع لديهما في البنك الإسلامي رصيد ببلغ الآلاف، أو ربما كانت شركة من شركات توظيف الأموال المؤمنة، حتى الأموال عادت إلى الإيمان، ترفض ما يسمى الربا، تحصل على فوائد أكبر من الربا تحت اسم توظيف المال.
من نافذة غرفتها العالية في الدور التاسع تطل صفاء الظبي على السماء، تتصاعد إليها رائحة المجاري من الشارع، مع الأصوات الزاعقة في الميكروفونات، تغلق زجاج النافذة المزدوج طوال النهار؛ منعا من دخول الذباب، وزعيق المؤذنين من فوق المنارات. في الليل تغلقه أيضا منعا لدخول الناموس، أو البعوض، وحشرات أخرى صغيرة تسمى الهاموش. قد تفتح النافذة أحيانا طلبا للهواء، لكن الهواء معدوم، ورائحة المجاري لا تطاق، مع رائحة القمامة المتراكمة عند الأبواب، تتغطى بالملاءة من قمة الرأس حتى بطن القدمين، مع ذلك يدخل إليها الناموس والهاموش، وصرصار أسود يجري تحت رأسها. تهب من السرير واقفة على قدميها، تمسك فردة الشبشب لتضرب الصرصور، لكنه أسرع منها في الحركة، ينتصر عليها في المعركة، يختفي في شق تحت الجدار، يتركها تلهث، تتصبب عرقا، تلعن الدين والدنيا. تتمدد فوق السرير إلى جوار زوجها، ترمقه بحسد وإعجاب، ينام بعمق لا يزعجه شيء، وإن قامت الحرب أو اهتزت العمارة في زلزال.
من بعيد يسري إليها الصوت يشبه الهتاف في المظاهرات، أصبح الناس يخرجون إلى الشوارع يتظاهرون. عمال أصبحوا بلا عمل، شباب يحملون الشهادات العليا عاطلون، نساء بالجلاليب السوداء والشباشب، أطفال الشوارع والشحاذون والشحاذات، وأصحاب العاهات، ومشوهو الحرب والسلم والمشوهات.
من بعيد تسمع الهدير خافتا، يعلو بالتدريج مع طلوع الفجر. تبدو المدينة مثل حيوان أسود ضخم يصحو كسولا بطيئا، تطل عيناه الذابلتان من ثقبين في السحابة السوداء، يشبه امرأة مؤمنة ترتدي النقاب. تأتي الخادمة تكنس البيت ، تنشر الملابس على الحبال، تنفض السجادة الناحلة الباهتة فوق سور البلكونة، يتساقط التراب فوق الأدوار السفلى. يبدأ الشارع يصحو، محلات البقالة، الكوافير، الصيدلي، السمكري، الكازينوهات، والمطاعم على شاطئ النيل، وتحت الكباري، مكاتب البوليس، والخمارات، والمحاكم، والمدارس والمعاهد والجوامع. تضع صفاء الظبي إبريق الشاي على النار، زوجها نائم يبتسم في الحلم، لم يعد يبتسم في وجهها، يعطيها ظهره ويغط في النوم، جسمه قصير مربع، وهي تحب القوام الطويل الممشوق. وجهه عريض سمين وهي تحب الوجوه النحيلة الرشيقة، صوته خشن فيه ذكورة زائدة عن الحد، قال لها قبل الزواج: كتاباتك تعجبني يا أستاذة.
طرف لسانه خرج وهو ينطق حرف الذال في كلمة أستاذة، كان يرى كل ما فيها جميلا حتى أنفها المكور، قال لها: إن أنفها فريد من نوعه، يميزها أنفها عن سائر النساء، يجعلها مختلفة عن الأخريات. جميع عيوبها كانت تتحول في نظره إلى ميزات، اختلافها معه في الرأي أمر طبيعي، صحي يتمشى مع المنطق، مع ديموقراطية الإسلام. - أنا أومن بالتعددية يا صافي، الاختلاف يثري الحياة، لو أراد الله لخلقكم أمة واحدة، لكنه جعلكم فرقا وشعوبا متفرقة، الإسلام مبني على العقل يا صافي.
يقرأ عليها مقالا كتبه للجريدة الإسلامية، في بداية المقال يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، يتميز الإسلام عن سائر الأديان بإعمال العقل والاجتهاد. صحيح أن الحجاب واجب على المرأة المسلمة درءا للفتنة والمعاصي، لكن حيض المرأة ليس نجاسة ولا أذى، يمكنها أن تمسك بيدها القرآن وتقرأه، لكن لا يمكنها الصلاة أو الصيام في أيام الحيض. أما الزواج من الإخوة في الرضاعة فليس من المحرمات في الإسلام؛ لأنه يتنافى مع العقل، إن رضع طفل من ثدي امرأة فكيف يمكن أن تمنعه من الزواج من طفلة رضعت من الثدي ذاته، أعني كيف لا يتزوجان إن جمعهما الحب بعد أن يصبحا في عمر الشباب؟
يغلبها النعاس وهو يقرأ، عقله فارغ ليس فيه إلا الحيض والنفاس والرضاع. يغضب حين يراها تنام وهو يقرأ: طبعا مش عاجباكي كتاباتي، كتاباتي دي اللي كانت عاجباكي قبل الجواز. - ويعني كتاباتي بتعجبك؟ كتاباتي اللي كانت بتعجبك قبل الجواز، وكنت تقولي: كتاباتك تعجبني يا أستاذة، ولسانك يخرج وإنت بتقول أستاذة، وإنت بتنطق حرف الذال. - لساني يخرج يعني إيه؟ إيه قلة الأدب دي؟ - إنت اللي قليل الأدب.
انقلبت الدنيا بعد أن نشر زوجها المقال، هاج أحمد الدامهيري. - هذا كفر! هذا الرجل يعارض كلام الله في القرآن. لا اجتهاد مع النص، هناك نص يقول: إن الحيض أذي، ولا تقربوا النساء حتى يطهرن من الأذى ...
لا يحفظ أحمد الدامهيري الآية في القرآن الخاصة بالحيض، لكنه يذكر عن يقين أن كلمة الأذى وردت في كتاب الله في هذه الآية عن الحيض، وهناك حديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
يحرم الزواج بين الإخوة في الرضاعة لا يذكره بالحرف، لكن المعنى واضح.
إلى جوارها في المقعد كان يجلس أحمد الدامهيري، عيناه تتابعان حركة زينة بنت زينات: هذه الفتاة كانت طفلة بالأمس. أصبحت امرأة، أصبحت أنثي شهية، تكبر البنات بسرعة الضوء، تبرز نهودهن بين يوم وليلة.
يغلق جفونه، بتخيلها بين ذراعيه، يراها تحته في الفراش، سينالها عن يقين، لا يشتهي امرأة إلا وينالها. أحل الله للرجال الإماء والجواري وما ملكت اليمين، فما باله وهو الأمير؟
كان للأمير قوة غامضة، يقول عنها قوة الله. كان يجتمع بالسلطات في الخفاء، يعارضها في الصحف، يتظاهر ضدها بالعداء، يأتيه سلاح كثير وأموال من الخارج، يستأجر المقاتلين في سبيل الله في كل مكان، له أعوان في الدولة، في المدارس، في الجامعات، في النقابات، في المحاكم، في الوزارات، في جميع المؤسسات، حتي البوليس والمباحث، ودور اللهو والبغاء.
أقام أحد رجاله دعوى في المحكمة ضد صافي وزوجها، أدلت صافي بتصريح في الصحف تؤيد فيه زوجها، قالت: إن الحيض ليس أذي، إن جوهر الإسلام يحترم المرأة، إن دم الحيض مثل دم أي إنسان، دم مقدس، لولا المرأة لما استمرت البشرية، جاءت التهمة الموجهة إليهما كالآتي: - ازدراء كلمة الله. - الخروج عن دائرة الإسلام. - إنكار المعلوم عن الدين. - المساس بالمقدسات.
انقسم المثقفون والمثقفات إلى قسمين ؛ أحدهما يؤيد الاتهام، يقوده أحمد الدامهيري. القسم الثاني يعارض، تقوده بدور وابنتها مجيدة الخرتيتي. انتهى الأمر بحفظ القضية، مما يعني البراءة واللابراءة، تظل القضية معلقة في أحد الأدراج، تسحبها الحكومة وتخرجها إلى النور عند اللزوم.
كانت العائلة الواحدة تضم التيارات المتضاربة، يخرج من ضلع الأب المؤمن ابن ملحد، ومن رحم الأم المسلمة ابنة ماركسية، ينضم الزوج إلى حزب اليمين، تدخل زوجته حزب اليسار، يصبح الأخ مع الحكومة، وأخته في المعارضة، لكن صلات الرحم وعلاقات الدم تطغى في النهاية، تتجمع العائلة في المآتم والأفراح، يتبادلون العناق والقبلات، ثم يخرجون إلى ساحة الصراع، يوجهون بعضهم إلى بعض الضربات، من تحت الحزام أو من فوقه.
كان طبيعيا أن يحضر أحمد الدامهيري حفل عيد الميلاد، مجيدة زكريا الخرتيتي ابنة بدور الدامهيري، ابنة عمه. كانت صورتها تراوده في الحلم أيام المراهقة، ابنتها مجيدة الخرتيتي كاتبة صاعدة، لها عمود دائم في مجلة النهضة، يريد أن يهديها إلى طريق الإسلام، أبوها له عمود دائم في جريدة أبو الهول الكبرى. يتأرجح أبوها بين العلم والإيمان، يتمنى أحمد الدامهيري أن يكسبه الإسلام، يحتاج الدين إلى قوة في الدنيا لتحميه، قوة الإعلام والسلاح والمال.
درس أحمد الدامهيري علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية، يتحدث اللغة الإنكليزية والفرنسية، يسافر إلى باريس وواشنطن ولندن، يحضر مؤتمرات الأديان، يسبح كالسمكة في البحار والمحيطات. أصبحت له شركة لطباعة الكتب الدينية، وإنتاج المباخر والمسابح والأحجبة، وتوريد السلاح وأجهزة البث والاستقبال السمعي والبصري، وتصدير الفسيخ والسردين والمخللات، وترجمة القرآن إلى لغات العالم. - أهلا يا أحمد نورت الحفلة. - بوجودك يا بدور يا بنت عمي. - أهلا يا أونكل أحمد. - كل سنة وانتي طيبة يا مجيدة عقبال ميت سنة. - شكرا يا أونكل. - أنا أتابع كتاباتك، برافو يا مجيدة. بس نفسي كده تكتبي أكتر في الإسلام وأمور الدين، الآخرة أبقى من الدنيا يا مجيدة.
عيناه تتابعان حركة زينة بنت زينات، كانت تعزف على البيانو، ظهرها مشدود فوق مقعد بدون ظهر، يري وجهها من الجانب، شعرها الغزير مرفوع فوق رأسها كالتاج ، بشرتها سمراء ملوحة بالشمس، أنفها مستقيم مرفوع في شموع، تهز كتفيها على اللحن، أصابعها الطويلة الرشيقة تجري على البيانو كأصابع من الضوء. العيون في الصالة الواسعة ترمقها، تطغى الموسيقى على الحوار الدائر: - زينة كانت صاحبتك من زمان يا مجيدة؟ - من أيام المدرسة يا أونكل. - حاولي تنصحيها يا مجيدة عشان تعرف ربنا. - صاحبتي زينة أخلاقها كويسة أوي يا أونكل، ما فيش في حياتها غير الفن والموسيقى والغنا. - الحاجات دي كلها حرام يا مجيدة. - حرام ليه يا أونكل؟
تلتفت إليهما صفاء الظبي، تتدخل في الحوار، صوتها يهمس في غضب: حرام ليه يا أستاذ أحمد؟ الفن الجميل نعمة من عند ربنا. ربنا جميل يحب الجمال، مش كده واللا إيه يا أستاذ؟ - أرجوكم بلاش كلام عاوزين نسمع زينة.
إنه صوت بدور، جالسة في المقعد خلف صديقتها صافي، تخشى أن ينقلب الفرح إلى حزن، لا تريد لابن عمها أحمد الدامهيري أن يعكر الجو. تعرفه منذ الطفولة، لا يهدأ حتى يلفت الأنظار إليه، كان يتوقع أن تقدمه بدور للضيوف، أن ترمقه عيونهم برهبة، أن يحسوا وجوده، لكنه يجلس في الصف مثل الآخرين من المدعوين، كأنما هو نكرة، وهو الأمير، نجم مرموق في كل مكان، إله أو نصف إله في نظر الأتباع والأعوان.
تململ في مقعده مترددا بين البقاء ومغادرة المكان، لولا أن زينة بنت زينات بدأت تغني، صوتها يسري في جسده محدثا كهربة غير معروفة المصدر. ترتج أعماقه ارتجاجة تنفض عنه حزن السنين، عيناء المطفأتان يطفو عليهما البريق. زينة واقفة أمام البيانو تواجه الجمهور في الصالة الواسعة، جالسين صفوفا عيونهم شاخصة إليها، ترى وجه أمها زينات في الصف الأخير، جالسة وسط الخدم والطباخين، عيناها من تحت الدموع تكسوهما لمعة. تترك زينة مكانها فوق خشبة المسرح وتذهب إليها، تمر بين الصفوف شامخة الرأس طويلة القوام، كما كانت تمشي بين صفوف البنات في المدرسة، منذ عشرين سنة أو ثلاثين أو مائة. يبدو الماضي بعيدا قريبا كأنه الأمس، تحوط أمها بذراعها، تسير بها بين الصفوف، تصعد بها السلالم القليلة إلى المنصة، تنحني للجمهور بكبرياء طبيعية وتقول: هذه الأغنية الجديدة أهديها لأمي زينات، أمي الغالية أغلى عندي من الدنيا والآخرة.
تطرق بدور الخرتيتي برأسها تبتلع دموعها في صمت. يتململ أحمد الدامهيري في مقعده: هذه الفتاة فاجرة، يعني إيه أغلى من الدنيا والآخرة؟ ما فيش حاجه أغلى من الآخرة يا كافرة.
تدور الكلمات في رأسه دون أن ينطق. يدب الصمت في القاعة، تبدأ الفرقة بالعزف، أطفال أصبحوا شبابا وشابات، صعدوا مع زينة بنت زينات إلى عالم الموسيقى والفن. دربتهم أبلة مريم، يوما بعد اليوم، الشهر بعد الشهر السنة بعد السنة، أطلقوا اسمها على الفرقة، اشتهرت فرقة مريم مع مرور الأيام في كل أنحاء البلد. كانت أبلة مريم جالسة إلى جوار مجيدة الخرتيتي، أشرق وجهها حين أشارت إليها زينة بنت زينات، صعدت معها إلى المنصة، قدمتها زينة إلى الجمهور وهي واقفة بينها وبين أمها زينات. - أبلة مريم هي أمي الثانية، هي التي جعلتني أحب الموسيقى والغناء، هي التي دربتنا واحتضنتنا من الشارع إلى عالم الفن. أطلقنا على فرقتنا اسم فرقة مريم، ليس لنا مقر إلا الشارع بترابه ونسائه ورجاله وأطفاله بمظاهراته وهتافاته، يسقط الظلم تحيا الحرية، الشارع يوحي إلينا الألحان والكلمات والإيقاع، نستمد الموسيقي من الشارع، من الرصيف والتراب، من أنفاس الناس الدافئة فوق الأرض، ليس من برودة السماء.
صوتها وهي تتكلم يشبه الغناء، المقلتان الكبيرتان في عينيها الواسعتين يكسوهما ضوء يشبه الشمس. صوتها يسري دافئا إلى قلوبهم بحرارة الدم، ينفذ إلى أعماقهم مشحونا بالحزن وفرحة الأطفال، كلمات بسيطة تخرج من صدرها مع أنفاسها، طبيعية سهلة بسيطة، كل شيء حولها يبدو طبيعيا وإن كان غير مألوف.
ينتفض أحمد الدامهيري في مقعده: هذه المرأة خطيرة ليست بسيطة، تتلاعب بالكلمات، يعني إيه برودة السماء؟ ده كلام كفر.
كان يكلم نفسه بلا صوت.
الأيادي في الصالة ارتفعت بالتصفيق، طغى صوت التصفيق على الأصوات الأخرى. كان بعض أعوان أحمد الدامهيري جالسين في الصفوف الخلفية، أو واقفين في الممرات. لا يخرج الأمير دون حراس مسلحين يرتدون ملابس مدنية عادية، جلاليب بيضاء أو بدلات صفراء من القماش الكاكي أو الجبردين، داخل جيب كل منهم مسدس مكتوم الصوت، رءوسهم تتحرك هنا وهناك، لكن عيونهم ثابتة شاخصة نحو الأمير، لا يرون غيره وإن امتلأت القاعة، لا يسمعون إلا صوته وإن ارتفعت الأصوات، أو عزفت الموسيقى وتصاعد الغناء. رأوه ينتفض في مقعده، يزمجر بصوت خافت، ربما لم يكن للزمجرة صوت مسموع وسط التصفيق، لكن آذانهم المشرئبة نحو حركة شفتيه التقطت الصوت ربما لم تكن إلا انقباضة عضلات الفم حين مط شفتيه المزمومتين، تحركت عضلاتهم مع حركته، خرجت من بعض الشفاه زمجرات، ابتلعها صوت التصفيق المتواصل، ثم دب الصمت. وعادت زينة بنت زينات إلى العزف والغناء.
هناك شيء في الموسيقى يسحر ألباب الإنسان والحيوان، وسائر الكائنات الحية، يرقص الحصان والحمار على الإيقاع، تغرد الطيور في الصباح، تصفر الصراصير في الليل مع نقيق الضفادع، يسترخي جسد الثعبان ويكف عن اللدغ حين يسمع المزمار، يستخدم الطب النفسي الموسيقى لعلاج المجانين، تروض الموسيقى النمور والضباع في الغابات.
ليس كل الموسيقى، وليس كل الغناء، وليس كل إيقاع الرقص. كانت زينة بنت زينات تعيش الموسيقى، تسمع اللحن في النوم، تدونه حين تشرق الشمس، تغنيه مع البلبل والكروان، ترقص على إيقاعه وهي تجري نحو أمها زينات. لم تكن زينة تنقل من الكتب أو تقلد الشعراء أو الشاعرات، تكتب كلماتها من وحي تجاربها في الحياة، عرفت في طفولتها ما لا يعرفه الكبار، هتكت السر المخفي عن عيون البنات، رأت عري الرجال وهي طفلة، تجاوزت الألم والاغتصاب. لم يدمرها رجل، ولا أب ولا أخ كبير، ولا عم ولا جد، ولا حبيب ولا زوج. كانت الموسيقي حبها، من يحب الموسيقى تحبه، ومن يكره الموسيقى تكرهه، وإن كان الملك أو الأمير.
واقفة شامخة فوق خشبة المسرح تحت الأضواء تشبه الإلهة فينوس أو إيزيس أو نفرتيتي أو مريم العذراء أم الإله، أو لا تشبه أية واحدة فيهن. زينة هي نسيج وحدها، لا أحد يشبهها، جلبابها الممزق البالي، لرأسها هذه الشمخة، هذه الخطوة الثابتة فوق الأرض. هاتان المقلتان المشعتان، هذا الإشعاع النادر، يجذب إليها العيون، يجعل القلوب تخفق، والعقول تتساءل: من تكون؟ من خلقها بهاتين العينين المرفوعتين؟ أهو الإله ذاته الذي خلق عيون النساء المنكسرات؟
كان سحرها يكمن في هاتين المقلتين، الجسورتين المقتحمتين للحجب. في هذه النظرة الثانية، هذه الحلقة الواسعة الثابتة لا يطرف لها جفن، هذا البريق المدهش لطفلة تغلبها الدهشة الدائمة ولا يدهشها شيء. تخرجت من مدرسة الشارع، عرفت قاع الحزن وقمة الفرح، لم تعد تخاف القاع ولا القمة، لم يملكها رجل، ولا يمكن أن تكون مملوكة لأحد، حتى الموسيقى لم تملكها، هي التي ملكت الموسيقى وتحررت بها من الفقر والخوف والعبودية.
أصبحت زينة بنت زينات ظاهرة في مجال الموسيقى والشعر والغناء. حين يسألها الصحفيون في نهاية الحفل، ما حلم حياتك؟ يشرق وجهها كالأطفال، تضحك وتملأ صدرها بالهواء، تنشد بصوت كالغناء أول قصيدة كتبتها في طفولتها:
حلم حياتي أن أبني لأمي بيتا
من الطوب الأحمر،
ليس من طين معجون.
هي تملكه.
لا يطردها منه مخلوق،
له سقف يحميها لهيب الحر،
وبرد الشتاء.
حمام فيه ماء،
ولمبة كهرباء.
في الليل وهو نائم يراها أحمد الدامهيري، في النهار وهو يمشي يلمحها من بعيد. ليست هي بالذات، بل فتاة أخرى تشبهها، طويلة ممشوقة القوام، رأسها شامخ مرفوع. يريد أن يمسك رأسها بين يديه ويكسره، يكسر هاتين العينين الوقحتين، أن يروض هذه النمرة في فراشه، أن ترقد تحته، يخترقها بعموده الحديدي، يخرق عينها بإصبعه، يجعلها تئن من تحته أنينا متواصلا، تطلب منه الرحمة، كما يطلب العبد الرحمة من الرب.
منذ طفولته كان يحلم أحمد الدامهيري بهذه الأسطورة، تغذيه أمه منذ الولادة بالنبوءة: يا ابني، ربنا زارني في المنام، قالي: في بطنك ولد مكتوب له يكون ملك أو أمير، يركب حصان أبيض ويطير ... يطير.
يطير ... يطير ...
يحلق بعينيه في السماء، يتابع صوت أمه وهي تقول: «يطير ... يطير ...» ينمو له في الحلم جناحان، يطير بهما فوق البيوت والبحار، يطير بهما فوق رءوس الرجال، لا يمكن لرأس واحد منهم أن يعلو فوق رأسه.
أبوه يأخذه معه إلى الجامع، يركع مثل أبيه ويسجد؛ يحمد الله لأنه خلقه ولدا وليس بنتا، إن لدغه دبور أو نحلة يبكي.
ينهره أبوه: إنت راجل ازاي تعيط زي النسوان؟
يختفي في غرفته يبكي إن ضربه التلاميذ في المدرسة، ينتفض خوفا من الصراصير والجرذان والسحالي، يمشي بين الرجال قصير القامة ضئيل الجسم، يشعر بالنقص بين الذكور، يمتلئ بين الإناث بالغرور، يمشي فوق الأرض بخطوة الزعماء، يرى نفسه محمولا فوق الأعناق.
أخذه التلاميذ يوما إلى المرحاض، خلعوا عنه البنطلون والسروال، وبالمسطرة قاسوا قضيبه بالمليمتر، ضربوه على قفاه، صاحوا ساخرين: ده زمارة؟!
على حائط المرحاض كتبوا اسمه بالطباشير: أحمد الدامهيري أبو زمارة!
تمددت صفاء الظبي فوق الأريكة، عيناها مقلوبتان تحت الجفون، شفتاها ترتعشان، عضلات وجهها متقلصة، كأنما تم تسليط تيار كهربائي فوق رأسها.
الطبيب النفسي جالس إلى جوارها، يحقن في الوريد سائلا مهدئا، يربت كتفها بيده الحانية الناعمة، يهمس في أذنها بصوت الأم: الأزمة خلاص راحت يا صافي، انهيار عصبي خفيف، تعيشي وتاخذي غيره.
يضحك الطبيب النفسي بصوت الأطباء، يرن صدى الضحكة المعدني في الغرفة المغلقة نصف المظلمة، ستائر حريرية فوق النافذة، شفافة رقيقة، تكسب المكان ضوءا حالما، يتأرجح بين الليل والنهار، بين اليقظة والحلم، بين الوعي واللاوعي.
تفتح صفاء الظبي عينيها على صدى ضحكة معدنية جافة خالية من المشاعر كالآلة الحاسبة، آلة معدنية تدق فوق لوح من الخشب أو النحاس، تظنها ضحكة زوجها الماركسي أو الإسلامي، تخلط صفاء دائما بين الزوجين ورجال آخرين مروا بحياتها، كانت لهم هذه الضحكة. انفرجت شفتاها عن صوت متحشرج غاضب: بيتضحك على إيه يا راجل؟ - فرحان إنك مريتي بالأزمة والحمد لله. - أزمة إيه؟
تتسع عيناها المندهشتان حين ترى الطبيب داخل معطفه الأبيض، وهي ممدودة فوق الأريكة مبللة بالعرق، إلى جوارها فوق الأرض جردل كبير تفوح منه رائحة قيء، رأسها ثقيل، لسانها أثقل من رأسها، أطرافها كأنما مملوءة بأكياس من الرمل تحركها بصعوبة. - هو حصل إيه يا دكتور؟ - انهيار عصبي خفيف، انتهى، والحمد لله. - أرجوك يا دكتور بلاش الجملة دي. - جملة إيه؟ - الحمد لله. - يا خبر؟ مش عاوزة تحمدي ربنا؟ - أحمده على إيه يا دكتور؟ - إنه أنقذك من الموت. - إنت يا دكتور اللي أنقذتني، مش هو. - خلاص نسيتي ربنا يا صافي؟ من نص ساعة انتي ما نطقت كلمة واحدة إلا يا رب يا رب! - أيوه من نص ساعة، لكن دلوقتي الساعة كام؟ - الساعة ستة ونص. - الصبح أو بالليل؟
أغلقت جفونها وراحت في الغيبوبة. قلب الطبيب بأطراف أنامله جفنها، جس نبضها، مسح جبهتها بقطعة من الشاش الأبيض مبللة بالكحول النقي. - الساعة ستة ونص بالليل يا صفاء.
انفتحت جفونها كاشفة عن مقلتين مذعورتين لونهما أسود أدكن، بياض العين كبير جاحظ تشوبه حمرة باهتة صفراء، ارتفع نصفها الأعلى؛ تهم بالنهوض. - يا خبر يا دكتور كان عندي ميعاد مهم الساعة خمسة. - أهم حاجة دلوقتي صحتك، ما فيش حاجه أهم من الصحة. - الفلوس أهم من الصحة يا دكتور، والفلوس راحت خلاص. - الصحة تجيب الفلوس يا صافي. - والفلوس تجيب الصحة، فلوسي راحت يا دكتور، أدفع لك منين يا دكتور؟ وإيجار الشقة؟ والأكل والتاكسيات والسجائر؟ - انتي أستاذة في الجامعة وماهيتك كبيرة. - كان زمان يا دكتور قبل الزفت؛ الانفتاح والديمقراطية ... - انتي مع الانغلاق يا صافي والدكتاتورية؟ - يا دكتور فلوسي راحت كلها في الزفت البنك الإسلامي، كلهم حرامية يا دكتور كلهم بتوع الإسلام، وبتوع الانفتاح زي اللي قبلهم بتوع الاشتراكية. - أستاذة مثقفة زيك يا دكتورة صفاء، ازاي تحطي فلوسك في شركة من بتوع توظيف الأموال دول؟ - قالولي الربا حرام، لكن أرباح توظيف الأموال حلال. وصحيح يا دكتور بركة ربنا حلت في الفلوس، كنت باقبض عشرين في المية فوايد، لكن كله راح، الفلوس بالفوايد، وكل حاجة.
تلطم صفاء الظبي خدها وتولول مثل النسوة وراء نعش الميت، تبكي بغير دموع نشيجا جافا مشروخا ممزقا متقطعا. تغلق جفونها وتفتحها، تنام وتصحو، ثم تنام، ثم تصحو، تواصل حديثها المتقطع الممزق المبعثر في الماضي والحاضر، المتأرجح ما بين الوعي واللاوعي: أكبر كارثة يا دكتور ضياع الفلوس، شقا عمري كله يضيع كده في غمضة عين؟ عمري ما جالي انهيار عصبي أبدا أبدا أبدا، ياما شفت كوارث في عيشتي المهنية، ولا يمكن عرفت حاجة اسمها انهيار عصبي. لما اكتشفت إن جوزي بيخوني قلت له روح في ستين داهية، وكسرت وراه قلة قديمة. - جوزك انهوه يا صافي، الماركسي أو الإسلامي؟ - مش فاكرة يا دكتور مين فيهم، كانوا شبه بعض في كل حاجة؛ في الشغل السري، تحت الأرض، في النشاط السياسي، وفي النشاط الجنسي، شبه بعض في كل حاجة حتى الخيانة والكذب والمراوغة، وعشق السرية والتخفي، وإخفاء الفساد بالتشدق بكلمات كبيرة أوي، تحت اسم ربنا الله، أو ربنا كارل ماركس. لكن الراجل الماركسي كان حريص أكثر من التاني الإسلامي، بتوع الماركسية واعين مدربين ع السرية واللوع، لكن بتوع الإسلام أغبيا ومكشوفين. الراجل الثاني الماركسي كان واعي زي الحصوة، عاش معايا تسع سنين يخوني كل ليلة مع واحدة ثانية وأنا مش داريانة، لغاية ما واحدة صاحبتي ضربتلي تليفون، قالتلي جوزك يا صافي عنده شقة في شارع رمسيس. كتبتلي العنوان على ورقة جورنال، وأخذت تاكسي، طلعت الدور الثالث من غير أسانسير، وقفت أنهج قصاد الباب، دقيت الجرس رن رن رن، افتح يا سمسم، انفتح الباب، لقيته قصادي، هو جوزي الماركسي بلحمه وشحمه، أعرفه من مليون راجل، عشت معاه في سرير واحد تسع سنين، كان لابس بيجاما جديدة ملونة من الحرير، لونه أصبح أصفر زي الليمونة، واقف وراه طفل عمره ثلاثة أو أربعة سنين مش عارفة يمكن خمسة، الولد مسك إيد أبوه وقاله: يا بابا مين الست دي؟
واحدة غيري يا دكتور كان ممكن يجيلها انهيار عصبي، لكن أبدا. رفعت عيني في عينيه وقلت له: ازاي تعمل كده وانت راجل بتاع مبادئ، تعرف قال إيه يا دكتور؟ - قال لك إيه يا صافي؟ - قال لي ازاي تتجسسي علي؟ مش عيب عليكي وانتي أستاذة جامعة محترمة؟ تصور الوقاحة والبجاحة يا دكتور؟ طبعا خلعته من حياتي زي ما باخلع الجزمة يا دكتور، لا انهيار عصبي ولا يحزنون . لكن طبعا تسع سنين مش حاجة هينة يا دكتور، أحيانا كنت أصحي في نص الليل من عز النوم، أمد إيدي على السرير العريض، أفتح جفوني، ألاقي السرير فاضي، جالي أرق سنتين. لا يمكن كنت أنام إلا بالحبوب المنومة، وإن نمت أحلم أحلام مزعجة يا دكتور. - أحلام مزعجة زي إيه؟ - كنت أمسك السكينة وأخرج في الشارع، أمشي في الليل وأنا نايمة، أدور على تاكسي ما لقيتش، أمشي وأمشي على رجليي لغاية شارع رمسيس. أطلع الدور الثالث من غير أسانسير، أدق الجرس، يفتح لي الباب لابس البيجاما الملونة الحرير، زراير البنطلون مفتوحة، زراير الكلسون مفتوحة، أغرز السكينة في بطنه، في البتاع بتاعه اللي خاني بيه، أقطعه بالسكينة، ألفه في ورقة من جورنال، وأرميه في النيل، وأرجع البيت ماشية أشم هوا النيل العليل.
تغلق صفاء الظبي جفونها، يبدو عليها الإرهاق الشديد، يمسك الطبيب النفسي يدها في يده، يقول بصوت حنون في أذنها: إنتي يا صافي إنسانة عظيمة، أستاذة عندها عقل. أي امرأة عندها عقل لا يمكن تجد الرجل اللي يستحقها. كل الرجالة ورق، كلهم مرضى، كذابين منافقين مزدوجين وأنا واحد منهم، انتي أستاذة كبيره لكي اسمك ومؤلفاتك ومنصبك في الجامعة. الفلوس تروح وتيجي، الراجل يروح ويجي، كل شيء يروح ويجي إلا عقلك وشغلك وكتاباتك وصحتك. - لكن الفلوس يا دكتور؟ شقا العمر كله؟ قلبي موجوع على الفلوس، جسمي موجوع، أرجوك يا دكتور امسك إيدي، عاوزة أقوم أقف على رجليي.
ساعدها الطبيب النفسي على النهوض، سارت خطوة أو خطوتين متأرجحة. كادت تسقط لولا أن الطبيب حولها بذراعيه، وجدت نفسها في حضنه، تدفن وجهها في صدره وتبكي، تنشج بالبكاء وهي تحوطه بذراعيها، تخلخلت ساقاها، سقطت فوق الأريكة وهو معها. جسدها نصف الواعي ينتفض، شيء في أحشائها يرتعش، رغبة قديمة دفينة منذ الطفولة، لذة عارمة تجتاحها لم تعرفها، تريد أن تعرفها، تستبد بها الرغبة في المعرفة، لم يمنحها رجل واحد المعرفة. استبدت بها الرغبة وعقلها نصف غائب، زحفت شفتاها المحمومتان فوق صدره وعنقه وشفتيه. أمسكتهما بشفتيها الساخنتين ، شفتاه باردتان محايدتان، لا تسري فيها الحرارة، لا يصدها ولا يشجعها، يترك نفسه بين ذراعيها، يترك جسده تحت جسدها، يتركها تفك أزراره، يستسلم لها وهي تأخذه كما يأخذ رجل امرأة.
قبل أن تخرج من عيادته أمسك يدها في يده، طبع فوق خدها قبلة امتنان. - أشكرك يا صافي. - على إيه يا دكتور؟ - مش عارف. - بالعكس، أنا اللي أشكرك يا دكتور. - على إيه يا صافي؟ - أول مرة في حياتي أشعر بالراحة، كأني ... كأني كنت ... كنت شايلة جبل، مش عارفه إيه هوه جبل ثقيل مش عارفة ليه، لكن خلاص الثقل راح. حاسة يا دكتور إن جسمي أصبح خفيف زي الريشة وعندي قوة أهد جبل.
تبحث بدور الدامهيري عن روايتها في كل أدراجها. الرواية ضاعت منها دون أن تكتمل، تبخرت في الهواء كأن لم تكن. لم يعرف طريق الرواية أحد إلا زوجها زكريا الخرتيتي، يرمقها حين تكتب بحسد، يغار من عقلها وحروفها على الورق. لم تكن تقرأ عليه ما تكتبه، لا تسأله رأيه في كتاباتها، كانت واثقة بنفسها إلى حد الغرور، وكان يريد أن يحطم هذا الغرور، يمط شفتيه حين يقرأ مقالها المنشور في المجلة، يتطوع بإبداء الرأي دون أن تطلب منه: مقالك كان ممكن يكون أحسن يا بدور.
لا ترفع عينيها عن أوراقها، لا تنتبه إلى ما يقول. - مش سامعاني يا بدور؟ - سامعاك يا زكريا. - مش عاوزة تسمعي رأيي في مقالك؟ - أنا عارفه رأيك يا زكريا. - يعني إيه عارفه رأيي؟ - يعني عارفة أفكارك كلها يا زكريا، من مية سنة عارفة أفكارك، من يوم ما تجوزنا وأنا باسمع آراءك. كل يوم باسمعها، التكرار يعلم الحمار، وأنا مش حمارة.
كان يقرأ لها عموده اليومي أكثر من مرة، يسألها رأيها المرة بعد المرة، يصيبها النعاس حين يقرأ، قرأته من قبل أكثر من مرة. يصيبها النعاس رغم إرادتها، يصيبها التكرار بالملل، يؤكد التكرار إفلاس العقل وإن جاء في كتاب من كتب الله، هذه العبارة الأخيرة ليست من عندها، إنها عبارة بدرية بطلة الرواية المسروقة، لم يسرقها أحد إلا زوجها. كان يقول عن بدرية: امرأة ناقصة عقلا ودينا، تنطلق بعبارات خارجة عن دائرة الإيمان، الإعجاز في كتب الله الثلاثة يتجاوز عقلها الناقص. - بدرية شخصية خيالية في رواية يا زكريا، أنت تتعامل معها كما لو كانت امرأة حقيقية.
يمط شفتيه إلى الأمام يهتز بينهما السيجار الهافاني الكبير، يضعه بين شفتيه دون أن يشعله، كما يفعل رئيس التحرير ومحمود الفقي وأصحاب الأعمدة الأخرى. ما إن يملك الواحد منهم عمودا يوميا حتى يظهر السيجار بين شفتيه، يمطهما إلى الأمام حين لا يعجبه عمود، لم يكن يعجبه من الأعمدة إلا عموده، ولا صورة على رأس أي عمود إلا صورته، يتأملها طويلا وهو يلعب بإصبعه في أذنه أو أنفه، أو يهرش الشعر فوق صدره أو أسفل بطنه أو تحت إبطه.
يمشي زكريا الخرتيتي بحركة تشبه حركة الكتاب الكبار، يتكئ على قدمه اليسرى أكثر من اليمني، كأنما يعاني عرجة خفيفة، تنم عن الدلع التدلل التمختر في المشية. ترتفع كتفه اليمني قليلا عن الكتف اليسرى، تنخفض الألية اليسرى عن الألية اليمني قليلا، يمشي والسيجار في فمه مطفأ أو مشتعل قليلا. يطرق قليلا كأنما في تفكير عميق، ثم ترتفع عيناه نحو السقف كأنما في شرود طويل مثل الغارقين في الفكر العميق، إلا أنه سرعان ما يعتدل في مشيته أمام الرئيس أو الوزير، وينخلع السيجار عن شفتيه وتتلاشي التكشيرة العميقة والنظرة الشاردة. يصبح مستقيم الساقين والأليتين، منتبه الحواس الخمس؛ البصر والسمع والشم واللمس والتذوق، الحاسة السادسة أيضا تشتبه، والحاسة السابعة، وهي حاسة لا يملكها إلا من اقترب من أصحاب السلطة والمال والسلاح، مشتقة من حاسة الشم؛ يشم الكاتب الكبير متى يقبض عزرائيل الموت على رئيس التحرير ليجلس في مقعده.
كان زكريا الخرتيتي يتأهب ذلك اليوم لكتابة عموده عن يوم العيد، جلس طويلا ممسكا بالقلم بين أصابعه يفتش في رأسه عن فكرة، يتصفح الجرائد أمامه، يبحث عن عبارة أو فكرة وردت في عمود آخر يمكنه سرقتها بعد تحويرها وتلوينها، لإبعادها ما يمكن عن الأصل.
ماذا يكتب زكريا الخرتيتي عن عيد الأضحى المبارك؟
كان العيد في طفولته يوما سعيدا، يفرح بذبح الخروف مثل كل الأطفال، يصحو في الفجر على الصوت ينادي: جزار ... جزار ...
يجري يفتح له الباب، يمسك الجزار في يده سكينا كبيرا، جلبابه الأبيض الطويل مبقع بالدم، يشمر كميه، ينطق البسملة والشهادة والسكين فوق عنق الخروف: بسم الله الرحمن الرحيم أشهد أن لا إله إلا الله، ثم يضرب العنق بالسكين. تجحظ عينا الخروف المسكين، يرى في عينيه الذعر والحزن، دموع متجمدة تكسو عينيه، يرفس قليلا والدماء الغزيرة تندلع من عنقه المقطوع، رأسه ينتفض بعيدا عن جسده، كأنما يرقص. يهلل الأطفال فرحا بالعيد، يرتدون الملابس والأحذية الجديدة، يأكلون كبدة الخروف المشوية، يذهبون إلى المراجيح، يصطادون العصافير بالنبلة، يسيرون وراء الطفل الأعرج اليتيم يهللون: العبيط أهه العبيط أهه.
يتعثر الطفل الأعرج وهو يجري هاربا، يسقط على الأرض، يضحكون عليه ويصرخون من الفرح: العجل وقع هاتو السكين.
ينكفئ زكريا الخرتيتي يكتب: يا سلام يا قرائي الأعزاء على أيام زمان، كان العيد على أيامنا عيد بصحيح، كان الخير كثيرا، وكان الأطفال يفرحون بالعيد فرحا حقيقيا. يقرأ عموده لزوجته بدور وهي غارقة في الرواية تمط شفتيها بامتعاض، تقول لنفسها: لا يكتب هذا الكلام الفارغ إلا تلميذ ابتدائي، تلميذ بليد متبلد القلب ليس عنده رقة ولا إحساس.
منذ طفولتها تكره بدور الأعياد، خاصة عيد الأضحى، تظل عينا الخروف المذبوح في عينيها وهي نائمة. تطاردها المقلتان الحزينتان، تراهما داخل المرآة في الصباح قبل أن تذهب إلى المدرسة، وفي الليل قبل أن تنام. تراهما في عيني زينة بنت زينات، حين يقول الناس لها بنت زنى. حين يتلو الشيخ في الإذاعة بعض الآيات من الإنجيل والقرآن والتوراة، يقول: إن الله أنزل هذه الكتب الثلاثة هدى للعالمين، إنها كتب نزلت من السماء إلى المسلمين والمسيحيين واليهود، إنهم جميعا من أهل الكتاب سوف يذهبون إلى الجنة بعد الموت إن آمنوا بالنبي محمد والقرآن، وأن سيدنا عيسى المسيح ابن مريم لم يصلب ولم يقتله البشر، بل صعدت روحه إلى السماء بأمر الله.
تسرب إليها الشك العميق منذ الطفولة، مع الإيمان العميق المحفوف بالخوف. في المراهقة بدأت تقرأ، كان نسيم يسألها: هل قرأت القرآن والتوراة والإنجيل؟ كيف تؤمنين بكتب لم تقرئيها؟ هل قرأت كارل ماركس وفردريك إنجلز؟ هل قرأت أبا ذر الغفاري والغزالي وابن سينا وابن رشد؟ هل قرأت رابعة العدوية وابن خلدون والرومي ورباعيات عمر الخيام؟
يضحك نسيم ويقول لها: رباعيات الخيام ألذ من نبيذ عمر الخيام الأحمر.
أول مرة تعرف بدور طعم النبيذ الأحمر، كانت في التاسعة عشرة من عمرها، أول مرة تقرأ رباعيات عمر الخيام، كتبها منذ ألف عام.
توقفت عند أبيات قليلة من الشعر، أربعة أبيات فقط أضاءت ركنا مظلما من عقلها:
أخبرني يا رب، من ذا الذي لم يخالف قانونك؟
أخبرني يا رب، ماذا يكون هدف الحياة دون إثم؟
وإذا أنت يا رب تعاقبني بالشرعلى ما أنا فعلته منشر،
فما الفرق يا رب بينك وبيني؟
عمر الخيام
اخترقت هذه الأبيات الأربعة رأسها، بدأت توجه الأسئلة إلى الرب: لماذا يا رب خلقتني أنثى، في جسدها غشاء بكارة ورحم يحمل بذرة الإثم، وجعلت جسد الذكر حرا؟
حين قرأت بدور الصفحات الأولى من كتاب التوراة تعجبت تكون هذه هي كلمات الله؟ كلمات لا يمكن أن تدخل العقل؟
فتحت التوراة وقرأت: فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وصنع الرب الإله من الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت.
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل ثمر الجنة، لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا؟! فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر.
وقال الرب لآدم: هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغرتني. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، وبالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.
وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن.
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم أولاد وبنات: أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.
كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضا؛ إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا.
وقال الرب: بل يكون اسمك إبراهيم، لأنني أجعلك أبا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم. وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، ابن ثمانية يختن منكم كل ذكر من أجيالكم وليد بيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك، يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهد في لحمكم أبديا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن من لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي.
كانت بدور تقرأ كلام الله في كتاب التوراة، تقول لنفسها: ما هذا الكلام؟ كيف يكون عهد الله في اللحم؟ بقطع جزء من الجسد؟ كيف يمنح الله أرض كنعان أو فلسطين لجيش من الغزاة القتلة مقابل العهد في لحمهم؟! كيف يأمر المرأة بأن تشتاق لزوجها وهو يسود عليها، وبالوجع تلد أولادها، وكيف تزوج أبناء الله من بنات الناس؟ لماذا يكون كل نسل الله من الأولاد الذكور؟ كيف يلد الله في كتابه الأول التوراة، ثم لا يلد ولا يولد في كتابه الثالث القرآن؟
تفتح بدور كتاب الله الثاني الإنجيل، وتقرأ فيه كلاما يشبه كلامه في كتابه الأول مع اختلافات قليلة، الله هو نفسه الله الذي يفضل الذكور على الإناث. مريم العذراء ولدت المسيح من روح الله ذكرا وليس أنثى، هو المسيح ابن الله، يحذر الله في الإنجيل من المرأة الزانية.
هذا يقول ابن الله الذي له عينان كلهيب نار ورجلاه مثل النحاس النقي، أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك، وأن أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى، لكن أنك تسيب المرأة إيزابيل التي تقول إنها نبية حتى تعلم وتقوي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان، وأعطيتها زمانا لكي تتوب عن زناها ولم تتب. ها أنا ألقيها والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم، وأولادها أقتلهم بالموت. فستعرف الكنائس أني أنا هو الفاحص للكلى والقلوب، ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانا على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد كما تكسر آنية من خزف.
ثم جاء واحد من الملائكة السبعة الذين معهم الجامات السبع، وتكلم معي قائلا لي: هلم فأريك دينونة الزانية العظيمة الجالسة على الحياة الكثيرة التي زنى معها ملوك الأرض، وسكر سكان الأرض من خمر زناها، فمضى بي إلى برية، فرأيت امرأة جالسة على وحش قرمزي مملوء أسماء تجديف له سبعة رءوس وعشرة قرون. والمرأة كانت متسربلة بأرجوان وقرمز وتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ ومعها كأس من ذهب في يدها مملوءة رجاسات ونجاسات زناها وعلى جبهتها اسم مكتوب، بابل العظيمة أم الزواني ورجاسات الأرض، ورأيت المرأة سكرى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع.
الرءوس السبعة هي سبعة جبال عليها المرأة جالسة ، وسبعة ملوك سقطوا وواحد موجود والآخر لم يأت بعد.
ثم قال لي المياه التي رأيت حيث الزانية جالسة هي شعوب وجموع وألسنة وألسنة، وأما العشرة قرون التي رأيت على الوجه؛ فهؤلاء سيبغضون الزانية وسيجعلونها خربة وعريانة، ويأكلون لحمها ويحرقونها بالنار، وصرخ بشدة بصوت عظيم قائلا: سقطت سقطت بابل العظيمة، وصارت مسكنا لشياطين ومحرسا لكل روح نجس ومحرسا لكل طائر نجس وممقوت؛ لأنه من خمر غضب زناها قد شرب جميع الأمم وملوك الأرض زنوا معها. بقدر ما مجدت نفسها وتنعمت بقدر ذلك أعطوها عذابا وحزنا، لأنها تقول في قلبها: أنا جالسة ملكة ولست أرملة ولن أرى حزنا. من أجل ذلك في يوم واحد ستأتي ضرباتها موتا وحزنا وجوعا وتحترف بالنار، لأنه الرب الإله الذي يديها قوى، وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها.
والقدرة للرب إلهنا لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها.
ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا، وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو، وهو متسربل بثوب مغموس بدم، ويدعي اسمه كلمة الله. والأحباء الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض ونقيا، ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعضا من حديد، وهو يدوس معصرة خمر بسخط وغضب الله القادر على كل شيء، وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب.
تلهث بدور وهي تقرأ الآيات في كتاب الله الإنجيل، لا تعرف ما كل هذا العداء للمرأة الزانية التي شرب من خمر زناها ملوك الأرض، والحرب الدموية الطاحنة في السماء والأرض بين هؤلاء الملوك والمرأة الزانية العظيمة ضد الملك الجديد، ملك الملوك ورب الأرباب، الذي على فخذه وثوبه مكتوب اسمه.
تتوقف بدور عند آية من الإنجيل تحكي عن يأجوج ومأجوج.
ثم متى تحل الألف سنة يحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضلل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض يأجوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر، فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين والمدينة المحبوبة، فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش والنبي الكذاب سيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الآبدين.
ترتجف بدور من هول الحرب والنار وسفك الدماء في كتب الله الثلاثة. الكتاب الثالث القرآن ترد فيه الأسماء ذاتها يأجوج ومأجوج وإبليس والنار الحارقة لمن لا يعبدون الله. يخاطب الله الذكور الرجال في القرآن، لا يخاطب الله النساء يحذف الله أسماء النساء في القرآن. لا يذكر اسم حواء، ويقول عنها زوجة آدم، وامرأة العزيز التي أغوت سيدنا يوسف لا يذكر اسمها، ولا السيدة خديجة زوجة النبي محمد، لا يرد اسمها في القرآن على الإطلاق. فقط مريم العذراء أم سيدنا عيسى المسيح، ذكر الله اسمها وخصص لها سورة كاملة باسمها هي سورة مريم.
يحرضها نسيم على التمرد ضد الله، يقول لها: كيف تؤمنين بإله لا يخاطبك ولا يذكر اسمك، ويجعلك تابعة لزوجك، وفي كتبه الثلاثة لا تحظى النساء بما يحظى به الرجال الذكور؟
كانت بدور في التاسعة عشرة من عمرها، تتمزق بين حبها النسيم وإيمانها بالله والقرآن والإنجيل والتوراة، قبل أن تنام تفتح القرآن وتقرأ:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ،
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ،
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ... وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ،
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره .
توقفت بدور عند هذه الآية، كانت خالتها قد طلقت من زوجها ثلاث مرات، ثم أراد زوجها أن يردها إليه، فقال له المأذون، لا تحل لك زوجتك السابقة أو طليقتك حتى تتزوج رجلا آخر، يسمونه المحلل، ثم بعد ذلك يمكنك أن تتزوجها بعد أن يطلقها هذا الزوج المؤقت المحلل.
كان عمرها عشر سنوات حين رأت خالتها تبكي طوال الليل، تسمعها تخاطب الرب: يا رب فين العدل؟ ليه البهدلة دي يا رب؟ جوزي يطلقني على كيفه ثلاث مرات، في كل مرة يردني، بعدين يطلقني، بعد المرة الثالثة. عشان يردني لازم أنام مع راجل غريب يوم أو يومين أو نص ساعة، بعدين يطلقني عشان جوزي يردني له؟ أنا إيه يا رب؟ ممسحة يدوس عليها الرجالة المفروض تعاقب جوزي اللي بيطلقني على كيفه ثلاث مرات، مش تعاقبني أنا وتفرض علي إني أنام في فراش راجل غريب، اسمه المحلل، فين العدل يا رب؟
قرأت بدور أيضا في القرآن:
إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .
هذه العبارة ألا تشبه ما جاء في كتابه التوراة؟ ولماذا ستة أيام؟ ويخاطب الله رسوله في القرآن قائلا:
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين .
تقول بدور لنفسها: لماذا كل هؤلاء النساء للنبي رسول الله؟ المفترض أن يكون النبي أكثر عفة من الرجال الآخرين؟ المفترض أن يكون النبي مثالا أعلى للرجال في الإخلاص لرفيقة حياته، وقد أخلص النبي محمد لزوجته الأولى خديجة عشرين عاما، لم يعاشر امرأة أخرى حتى ماتت، فلماذا يتغير موقفه من الإخلاص الزوجي بعد وفاة السيدة خديجة؟
بعد أن كبرت بدور وتزوجت زكريا الخرتيتي، أدركت لماذا يقترف زوجها خياناته الجنسية، كيف يتسلل من فراشها إلى نساء أخريات، فإن ضبطته يشوح في وجهها بيده قائلا: ده حقي ربنا إداهولي، ويعني جوزك حيكون أحسن من النبي؟
منذ اكتشفت خيانته الأولى لم تعد بدور تطيق أن يلامسها زوجها بيده، فما بال أن ترقد تحته ليدخلها؟ كان منظر جسده العاري يبعث فيها شعورا بالغثيان، تتركه عاريا في السرير لتدخل إلى الحمام ، تتقيأ بصوت مكتوم، تخشى أن يسمعها. في أعماقها خوف دفين منذ الطفولة لا تعرف مصدره، في أعماقها نفور من زوجها وشك فيه، ومن كل ما يقوله لها. إن قال لها إنه خارج لحضور اجتماع أو مؤتمر، تدرك أنه ذاهب إلى ليلة حمراء مع إحدى النساء أو البنات. منذ ولدت تسمع النساء من حولها يرددن: يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغوربال.
تتقلب بدور في السرير مؤرقة. - كيف تستمر في الحياة مع زوج خائن؟ - كيف ترقد إلى جواره في سرير واحد.
هي كذبت عليه مرة واحدة، هو يكذب عليها كل يوم على مدى عشرين عاما، ثلاثين عاما، مائة عام.
هل عرف أنها كذبت عليه؟ أنها أحبت نسيم وهي في التاسعة عشرة من عمرها، سارت إلى جواره في المظاهرة الكبيرة، فتح عينيها على الظلم فوق الأرض وفي السماء، أزاح الغشاوة عن عقلها، منح جسدها اللذة المحرمة. قطفت معه الثمرة من فوق الشجرتين الآثمتين، شجرة المعرفة وشجرة الحياة، أصبحت مثل الله عارفة الخير والشر، الخير هو العدل والحرية كما قال لها نسيم، والشر هو الظلم والقيود.
لم تكسر بدور قيودها، تتقلب في فراشها مؤرقة، المقلتان في وجه المولودة كالقذى في عينيها، منذ أن انفتحت الجفون المغلقة، منذ أن أطلت عليها في تلك اللحظة الساقطة من الزمن الخارقة لقانون الطبيعة، حملقت فيها المقلتان بهذا الضوء الكاشف، رأت بدور نفسها الجبانة؛ قلبها النازف فرق الرصيف، كبدها المنزوع من صدرها المشقوق بالسكين.
لو لم تفتح جفونها تلك اللحظة لربما نسيتها، لربما أصبحت تنام كما ينام البشر، لربما واصلت حياتها ونجاحها في مهنة النقد الأدبي، لربما لم تطاردها بدرية بطلة الرواية وصديقها نعيم. هذان الشبحان الجاثمان فوق رأس السرير، تراهما بلحمهما ودمهما إلى جوارها في الفراش، إن غادرا الفراش تراهما فوق الجدار خيالا يمشي، يروح ويجيء، من أول الجدار حتى آخره، ثم يعود إلى أول الجدار، ويمضي إلى آخره. لا يغادر غرفة النوم إن نامت، لا يغادر غرفة مكتبها إن جلست أمامها الأوراق تكتب، تلوح أبيات عمر الخيام أمام عينيها. ما الفرق بين الله والإنسان إذا كان الله يقابل الشر بالشر، بل بشر أفظع وأكثر قسوة، يحرقها في النار إلى أبد الآبدين لمجرد لحظة واحدة عرفت فيها اللذة أو السعادة؟ يحرمها الله من طفلتها إلى أبد الآبدين لمجرد أن رجال البوليس قتلوا أباها قبل أن يوقع عقد الزواج؟ يؤرقها الشك في عدالة الله، وبالتالي في وجوده، تفقد الإيمان في النوم، يرهقها الأرق والحزن الدفين المكتوم في أحشائها، تطرد الشك، تعود إلى الإيمان حين تصحو. تدرك أن الإيمان يجلب السعادة مثل الخمر، مثل نبيذ عمر الخيام الأحمر.
في الدرج الأسفل لمكتبها كانت تخفي الزجاجة مع دوسيه الرواية، تشرب كأسا تطرد الحزن. بعد الكأس الثالثة يصبح عقلها مفتوحا على الأفق، تسمع أصوات الآلهة والشياطين يتجادلون، يكسر جسدها القيود، يحلق مع عقلها وروحها في الفضاء الواسع، تصبح طويلة القامة رشيقة الحركة مثل بدرية. تكتسب الشجاعة، تمسك القلم وتكتب فصلا جديدا في الرواية، حتى تسمع وقع القدمين فوق الصالة أو صوت المفتاح يدور في الباب، أو ترى خيال زوجها يمشي فوق الجدار، يكاد يشبه خيال الله حين كانت تراه في طفولتها، يمشي في السماء وراء السحابة، أو خيال إبليس الشيطان يتحرك فوق رأسها في السرير. تكاد إصبعه الصلبة كالمسمار تخرق بطن قدمها اليسرى، من ناحية اليمين كانت إصبع الله تخرق بطن قدمها اليمنى، مثل قضيب من الحديد.
حين يسمع منها الطبيب النفسي هذه الذكريات عن طفولتها يقول لها: أنت يا بدور تعرضت للاغتصاب حين كنت طفلة، لكنك تنكرين ذلك خوفا من الله. - لا لا يا دكتور، لا يمكن أبدا. لم يحدث أن لمسني رجل في الواقع والحقيقة، إنها أحلامي الآثمة يا دكتور. أيوة، أعترف أنني اقترفت كثيرا من الآثام، وأنا غارقة في النوم يا دكتور.
صوت الطبيب النفسي يسري في أذنها وهي تتقلب في الفراش، تمد يدها لتضغط على مفتاح النور، ينتفض جسدها حين ترى السرير العريض خاليا من جسد زوجها. الساعة الثالثة صباحا، خرج في الثامنة مساء إلى اجتماع مجلس التحرير في الجريدة. - أيستمر الاجتماع سبع ساعات؟
فوق الكوميدينو إلى جوار السرير رأت زجاجة دكناء اللون مكتوبا عليها بالحروف اللاتينية، فياجرا
VIAGRA ، نسي أن يخبئها في الدرج الأسفل لمكتبه، أصبح ينسى أشياء كثيرة، تضعف ذاكرته مع التقدم في العمر. يكبرها بعدة أعوام، ينسى هذه الحقيقة أيضا، يتصور أنها من عمره أو أكبر منه سنا.
في المرآة رأت بدور الشعرات البيض في رأسها، تجاعيد خفيفة حول العينين، حول الفم، فوق الفكين والعنق، تغيرت عضلاتها، تهدلت، أصبحت أكثر رخاوة، كم أصبح عمرها؟
يعجز عقلها عن إدراك مرور الزمن، تدس قدمها في البانتوفلي الناعم، من أجل نعومة الحياة تخلت بدور عن حياتها، عن أغلى ما في حياتها. خرجت بدور من غرفة النوم المعتمة، الراكدة الهواء، أنفاس زوجها ترقد في الأركان مع رائحة معجون الحلاقة والكولونيا الثمينة ذات الرائحة النفاذة، تبعث الرائحة في نفسها الغثيان وتتصوره عاريا بين ذراعي فتاة تصغره بخمسين عاما أو مائة عام، لا ينتصب قضيبه إلا مع البنات الغشيمات، أو مومسات يتصنعن الغشم.
تمشي بدور في النوم كما تمشي في اليقظة، تخرج من الغرفة المعتمة إلى الهواء والشمس، تمشي نحو زينة بنت زينات نحو الحقيقة، ليس نحو حلم أو خيال أو أسطورة، ترى نفسها تمشي نحوها، تجتاز الممر الطويل بين مقعدها وخشبة المسرح، ممر طويل يبدو لا نهائيا، يضربه الهواء البارد من كل جانب، وزهور ذبلت في الأحواض على الجانبين، وأشجار ماتت واقفة، أصبحت خضرتها أقل خضرة تشوبها الصفرة.
تتوقف بدور فجأة عن السير تنظر خلفها، ترى الخواء والظلمة وراء ظهرها، وبرودة الهواء والخوف. تستدير تنظر أمامها حيث الأضواء، وزينة بنت زينات تعزف وتغني وترقص على الإيقاع، ثم تلاشت الأضواء فجأة، تسمع الأصوات تدوي مثل الانفجارات أو طلقات الرصاص. تظلم الدنيا، تضيء وتظلم، تنقطع الكهرباء وهي لم تعد هناك، تبحث عنها في النوم وفي اليقظة، في الأزقة، فوق أرصفة الشوارع، تمسح الرصيف من الزلط والطوب، تفرش تحتها الغطاء، تلفها بالبطانية الصوف الزرقاء. تغطيها، تحميها من برد الشتاء، تتركها لتمضي في الظلمة، تسحب إصبعها السمينة من بين أصابعها الصغيرة، أصابعها الدقيقة الخمسة قابضة على إصبعها الكبيرة، لا تريد أن تترك هذه الإصبع وإن غابت في النوم، لا تريد أن تفتح جفونها لتراها وهي تبتعد وتبتعد وتبتعد، حتى تصبح نجمة في السماء البعيدة.
كيف انفصل جسدها عن الرصيف؟
كيف أصبح لها قدمان تسيران وتسيران بعيدا عنها في الليل مثل الخيال؟
تنكفئ بدور فوق الأوراق تكتب، تهمس بدرية في أذنها: أنت جبانة لا علاج لك من الجبن إلا الكتابة، لا علاج لك من الألم والحزن إلا الحروف على الورق، بالحبر الأسود أو الأزرق أو الأحمر، أريقي دمك فوق الورق يا بدور، شقي صدرك بالسكين وافتحي قلبك. لن يشفيك إلا السكين يشق صدرك. لا تحبسي الدموع في بطنك، أطلقيها إلى الخارج كما تطلقين صوتك وأنت تصرخين، أطلقي صرختك في وجه الله والشيطان، لا تخافي الموت ولا نار جهنم، تكفيك الجحيم فوق الأرض.
تترنح بدور وهي غارقة في النوم، ينقطع صوت بدرية قبل أن يختفي، تذوب بدرية في الليل كأنما لم تكن، يذوب معها الحبر فوق الأوراق، تتلاشى الحروف، تصبح الصفحات بيضاء بيضاء، يلتصق البياض بعينيها فلا ترى إلا السواد، الحزن يأتي والاكتئاب، تتكلم بدور بصوت عال في النوم؛ لأن لا أحد هناك، ولا هي نفسها هناك: أنا غير موجودة مثل الله.
تكلم بدور نفسها، تقول لنفسها: أنا ناقدة أدبية، لست روائية، أنا لا أجيد إلا مسح أحذية الآخرين. مهنة النقد الأدبي مثل تلميع الأحذية. اعترفت في لقاء صحفي أنني أشعر بالفخر حين أمسح حذاء زوجي، وكسبت الأصوات في انتخابات الجامعة، وخسرت صوت نفسي. فقدت قدرتي على الكتابة، وانكسر قلمي مع انكسار قلبي.
لم تكن بدور تكلم نفسها، كانت تكلم طبيبها النفسي. تخلط بين نفسها وبين طبيبها النفسي، تنتقل من سريرها إلى الأريكة في العيادة بخطوات بطيئة حذرة كما تمشي في النوم. تخشى السقوط فجأة إن أدركها الوعي، لا يتغير جسدها هنا أو هناك، جسدها المربع القصير السمين، تخلعه عنها في الكتابة، لتأخذ جسد بدرية الطويل الرشيق، بشرتها يتغير لونها حسب قوة الكهرباء، تتأمل دون رحمة صورتها في المرآة، تلمس دليل انحدارها، تتجسد نفسها أمام عينيها. لن ينقذها من نفسها إلا مزيد من السقوط في هوة الكتابة.
لكن الحبر لونه أبيض، لا تظهر الحروف فوق الصفحة البيضاء، يلتصق البياض بعينيها المفتوحتين حتى آخرهما، أصبحت بدور تنام بعينين مفتوحتين، مثل حيوان ليس له جفون. - يا دكتور هذا المرض المزمن هو حياتي، لن يشفيني إلا الموت أو الكتابة. - اكتبي يا بدور، ما يمنعك من الكتابة؟ - لم يخلقني الله لأكتب يا دكتور. - أتعودين إلى الإيمان بالله يا بدور؟ - الإيمان يحميني من الكتابة يا دكتور؛ لأن الله خلقني لأرقد تحت زوجي وأمسح حذاءه، لأدلك قدميه بالماء الدافئ، وأغسل جوربه النتن بالصابون المعطر، وأترك له جسدي يصب فيه ماءه العطن و... - أنت تقولين هذا الكلام منذ تزوجت يا بدور، كم سنة الآن؟ - مش عارفة يا دكتور يمكن ميت سنة. - عشرين سنة؟ - أكثر يا دكتور، وكل يوم أقول لنفسي ليه أنا عايشة معاه؟ مش قادرة آخذ قرار حاسم يا دكتور، صافي صديقتي أشجع مني، تخلصت من كل أزواجها وعايشة حرة، وبدرية أشجع مني ... - بدرية؟ - كانت معايا في المدرسة الابتدائية، كنا نقول عنها بنت زنى، ونكتب اسمها بالطباشير في المراحيض.
وتشد بدور جفونها وتصحو. تختلط الصور والأسماء في خيالها، لا تعرف الحقيقة من الخيال، جسدها ممدود فوف الأريكة، يتأملها الطبيب النفسي بإشفاق، فوق الأريكة ذاتها كان زوجها زكريا الخرتيتي ممدودا، يشكو للطبيب آثامه وأحزانه، وابنتهما مجيدة تمددت أيضا فوق هذه الأريكة، تفتح قلبها للطبيب النفسي، تتخفف من وطأة الإثم، وصافي صديقة بدور، والأمير ذاته، أحمد الدامهيري، الذي تمدد فوق الأريكة. حكى للطبيب لوعة الحب من طرف واحد، جحيم الرغبة في الانتقام، لم يذكر له اسمها زينة بنت زينات، خشي أن يبلغ الطبيب الأمر إلى البوليس.
كلهم جاءوا وتمددوا فوق الأريكة في عيادة الطبيب النفسي، أرادوا التخفف من الأسرار الدفينة الجاثمة فوق قلوبهم. ثقيلة كالجبال، ينفضونها عن صدورهم في أذن الطبيب النفسي، أذنه كبيرة مشرئبة من وراء الدخان، تشبه أذن الله في سمائه العليا، أو أذن القسيس المطلة من وراء الستار، تتلقى الاعترافات بالآثام من المؤمنين المذنبين المعذبين، والمؤمنات المذنبات المعذبات. - يا دكتور، انت عندك كل أسرار البلد، من القمة للقاعدة كل الناس من أكبرهم لأصغرهم، كل الأسرار عندك، كل القصص والروايات العجيبة فوق الأريكة. - ده عنوان جميل لرواية جديدة يا بدور. - أيوة، أيوة يا دكتور، لازم تكتب رواية بعنوان: فوق الأريكة. - أنا مجرد طبيب نفسي، أنا مش روائي، أنا أسمع كويس، لكن ما اعرفش أكتب جواب من صفحة واحدة أو صفحتين، الكتابة موهبة من عند الله، الكتابة نعمة من نعم الله يمنحها لمن يشاء من عباده. - الكتابة نقمة مش نعمة يا دكتور، الكتابة عذاب وألم ودموع ودم. الكتابة صبر طويل وشغل ليل نهار ونهار وليل، الكتابة مرض مزمن يا دكتور مالوش علاج غير الكتابة، قصدي الكتابة الحقيقية، كتابة الرواية، مش الكتابة في النقد الأدبي يا دكتور، النقد الأدبي ده مهنة طفيلية، زي الديدان الشريطية، تعيش على دم غيرها، على دم الرواية. - إنتي يا بدور أكبر أستاذة نقد أدبي في البلد. - كان لازم أقدم استقالتي من الجامعة، كل يوم أقول لازم آخذ قرار بالاستقالة من شغلي، كل يوم أقول لازم آخذ قرار انفصالي عن زوجي، كل يوم أصحى من النوم وأقول لنفسي، خلاص يا بدور كفاية، كفاية، لازم تأخذي قرار بالطلاق من الزوج ومن النقد الأدبي، لازم تحرري نفسك من الاثنين دول، اللي كاتمين على نفسك، الاثنين دول يا دكتور سبب فشلي في حياتي. - انتي يا بدور أنجح امرأة في البلد، اسمك نار على علم. - أنا فاشلة يا دكتور، أنا فشلت في أهم شيء في حياتي. - وإيه أهم شيء في حياتك يا بدور؟ - مش عارفة، عندي إحساس إني ضحيت بأعز شيء بحياتي من أجل أشياء تافهة. - تافهة زي إيه مثلا؟ - زي مثلا الكرسي في الجامعة، الاسم بالبنط العريض في الجريدة، الصورة داخل البرواز، شرف العيلة الكريمة، الزوج المحترم العظيم، الفيلا الكبيرة في جاردن سيتي، الأبهة والكلام الفارغ ده. - وأعز شيء في حياتك إيه؟ - بنتي يا دكتور. - بنتك مجيدة ما شاء الله كتاباتها في مجلة النهضة شيء جميل، شيء عظيم!
أطرقت بدور في صمت طويل، مترددة، حائرة، هل تحكي له سر حياتها الكبير؟ حكت له كل شيء إلا هذا السر الدفين، هل يحفظ السر؟ هل تملك شجاعة البوح؟ تريد أن تنفض عن قلبها هذا العبء الثقيل، أن تشفي نفسها من المرض المزمن الطويل، أن تمشي إلى زينة بنت زينات تحوطها بذراعيها، تأخذها في حضنها، تعترف لها أنها أمها. تطلب منها الصفح والغفران، تقول لها: اغفري لأمك المعذبة المحنطة بالخوف من الله وألسنة الناس، وألسنة اللهب في نار الجحيم، في الدنيا وبعد الموت. سامحي أمك التي تركتك فوق الرصيف، فوق فراش من الشراب، ظهرك مسند إلى الجدار، إلى السور المطل على النيل، لفتك بغطاء من الصوف، وغطاء أكبر من ظلام الليل، وقطرات الندى ونقيق الضفدع، أطلقت عليك اسم زينة، زينة الدنيا وراحت، راحت في ظلام الليل قبل طلوع الفجر.
تصحو بدور من النوم، تجد نفسها جالسة وراء مكتبها، أمامها الدوسيه الأصفر، مكتوب عليه «الرواية المسروقة».
كم مرة سرقت منها هذه الرواية؟
كم مرة استعادتها وكتبتها ثم سرقت منها؟
ربما هو زوجها زكريا الخرتيتي، لا يري للزوجة مكانا إلا تحت زوجها في الفراش، وإن ارتفع قدرها واشتهر اسمها، إن حملت لقب أستاذة، أو دكتورة أو وزيرة أو رئيسة وزراء أو رئيسة دولة، فإن مكانها الطبيعي الصحيح هو ذلك المكان في السرير أسفل زوجها، وليس فوقه بحال من الأحوال، إن صعدت لحظة فوقه فلا بد من إعادتها إلى مكانها.
يكتب زكريا الخرتيتي في عموده بالجريدة عن تحرير المرأة. حصل على الجائزة الأولى في عيد المرأة العالمي، كرمه الناس في مصر، أصبح يحمل لقب رائد تحرير المرأة المصرية، التف حوله الصحفيون يسألون: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، فمن هي المرأة التي وراءك يا أستاذ خرتيتي؟ - أمي، إنها أمي التي شجعتني على قول الصدق واحترام المرأة.
يلتفون حول زوجته الأستاذة بدور يسألونها: وراء كل امرأة عظيمة رجل، فمن الرجل الذي وراءك يا أستاذة بدور؟ - زوجي هو الرجل الذي شجعني على الكتابة، لولا زوجي ما كتبت شيئا.
ثم تنزوي بدور في ركنها البعيد المظلم، تنكمش داخل جسدها القصير المربع، تصفع نفسها عدة صفعات، توجه لنفسها اللوم والتوبيخ والسباب. - يا كذابة يا جبانة، يا منافقة، هذا الكذب وهذا الجين وهذا النفاق عناصر ثلاثة هي أصل الداء، هي سبب الاكتئاب، هي مصدر الحزن والعقم، هي سبب عجزك عن الكتابة، عجزك عن مواجهة الحقيقة. هذا العجز، هذا العقم، لا شفاء لك منه، لا علاج له إلا الموت.
تصحو بدرية حين تنام بدور، تراها متكورة فوق السرير إلى جوار زوجها، منكمشة داخل جسدها مثل القنفد، تراودها أحلام المراهقة وهي تمشي في المظاهرات تهتف: «يسقط الظلم تحيا الحرية، يحيا الحب»، تستسلم للحب والحرية، تراودها فكرة الرواية، تحبل بها في الليل مثل الجنين، تلقي بها فوق الرصيف وتجري هاربة. تطاردها الأشباح والخيالات، إصبع إبليس الصلب مثل قضيب من الحديد، عين الله المفتوحة في السماء الساهرة لا تنام، عين زوجها نصف المفتوحة، نصف المغلقة الجفون. يتظاهر بالنوم وهو صاح، أو يتظاهر باليقظة وهو يغط بالنوم.
تهمس بدرية في أذنها: يا بدور ثمن الحرية غال. الكتابة لا تأتي من دون الحرية، اكسري قيودك يا بدور، اخرجي من سجنك، مدي يدك لتأكلي من الشجرة المحرمة، إن أكلت منها فلن تموتي، المعرفة تحيي ولا ميت، ستعيشين إلى الأبد.
صوت بدرية يشبه صوت الحية التي أغوت حواء، كلمة حواء تعني الحياة الحية، صوت الحياة الحية الذي أصبح يشبه صوت الموت القاتل. ترتعش بدور داخل الغيبوبة، تنفرج شفتاها المزمومتان عن هواء ساخن يشبه موجات ضوء متقطعة، حروفا مبتورة بالخوف: لكن الله يا بدرية قال لي: إن أكلت من هذه الشجرة تموتين. - هذا هو صوت الشيطان يا بدور ليس صوت الله، وإن كان هو صوت الله؛ فما الفرق بينه وبين صوت إبليس. أنا أكلت من الشجرة يا بدور وأكل معي كل المبدعين والمبدعات في كل مجالات المعرفة، من الفلسفة إلى الأدب والفن والعلم. قامت على أفكارهم كل ما تعيشه من تقدم، لم نأكل في حياتنا ألذ من هذه الشجرة. إنها لذة المعرفة، لذة الحياة، إنها الحياة الحقيقية الحية، ليس حياتك الزائفة الميتة. إن منعك الله من لذة الحياة الحية فهو ليس الله، إنه إبليس يا بدور، إصبع إبليس المدببة، سلبك حياتك، سرق منك الرواية يا بدور.
ترتعش بدور وهي نائمة، تحاول أن تحرك شفتيها وتقول شيئا. شفتاها ثقيلتان، مصنوعتان من الحجر، جسدها قطعة من الصخر ملتصق بالأرض، متكورة حول نفسها كالقنفذ، كالكرة من الرصاص تتدحرج من فوق السرير، تسقط فوق الأرض بصوت يشبه الانفجار أو طلقة رصاص.
يصحو زوجها من النوم على الصوت، تنحسر جفونه عن عينين جاحظتين مملوءتين بالذعر، زوجته بدور لم تعد هي زوجته بدور. جسدها الذي كان يجمعهما أصبح يفرقهما، كتاباتها التي كانت تجمعهما أصبحت تفرقهما، وهذه المرأة التي أصبحت تحتل جسدها. بدرية، هذه المرأة الشيطانة التي تدفعها نحو الرذيلة، وابنتها التي حصلت بها داخل الإثم، ابنة الزنى، زينة بنت زينات، ليس زنى واحدا بل عدد لا يحصى من الزنات. وهذه الرواية التي تكتبها في النوم، ملأى بالأشباح، خيالات تتراءى لها فوق الجدار، وتلك الإصبع التي تدغدغ بطن قدمها اليسرى، إصبع ابليس؟ وإصبع الله أيضا؟ ذلك القضيب الحديدي الذي يدغدغ بطن قدمها اليمنى، و«أنا» زوجها المؤمن بالله، زوجها الفاضل الذي أخلص لها ولم يعرف امرأة غيرها؛ «أنا» زكريا الخرتيتي، الحاصل على جائزة العلم والإيمان، وشهادة حسن السير والسلوك في المدرسة الابتدائية والثانوية والجامعة والأكاديمية العليا والمجلس الأعلى للأدب والثقافة، «أنا» زكريا الخرتيتي، صاحب العمود اليومي المقروء من ملايين النساء والرجال والشباب، صاحب الكأس الذهبية في عيد المرأة العالمي، «أنا» تكتب عني هذا الهراء؟ تصنع في صورة مزيفة منفرة، صورة رجل على شكل قضيب حديدي يدخل في أي ثقب، في أي جدار، في أي جسد، امرأة أو رجل أو طفل؟ حتى الطفل الأعرج ابن الشوارع ابن الزنى، لم يسلم من قلمها الجارح الجامح؟
كان زكريا الخرتيتي يقرأ روايتها وهي نائمة، رأته بدرية وهو يتسلل في الليل بينما زوجته غارقة في النوم. يسرق المفتاح من تحت وسادتها، يمشي على أطراف أصابعه إلى غرفة مكتبها، يفتح الدرج الأسفل، يشد الدوسيه الأصفر، يمد يده إلى لمبة النور، يقرأ الصفحات البيضاء الملطخة بحبر أسود، وأزرق وأحمر، وقطرات دم زرقاء وسوداء، وأنهر من الدموع الصفراء تجري بين السطور، وتحت السطور الخفية غير المقروءة، أو غير المكتوبة بعد، وأنهر من العرق السائل فوق الحروف، عرق حقيقي له رائحة العرق. يعرف رائحة عرق زوجته، رائحة مميزة، تميزها عن سائر النساء والرجال، رائحة خالية من العطر، أو الكولونيا، رائحة جسد منهك بالتعب، مرهق بالإثم والذنب والفجيعة، مطارد بالخوف والفضيحة، جسد قصير مربع مملوء بالشحم خال من العظم.
تهمس بدرية في أذنه وهو يقرأ: ولماذا تتعطر زوجتك لك وأنت تخونها كل ليلة؟ لماذا تتعطر لك وأنت تكره رائحة العطر؟ لا تجذبك إلا رائحة الجسد العطن، الجسد الذي لا يعرف الماء والصابون، الجسد الذي ينز بالعرق والتعب والأسى والحزن، جسد الخادمات المقهورات أو الجواري والسكرتيرات، يغمضن عيونهن وهن تحتك في الفراش لا تقوى الواحدة منهن على أن تفتح عينيها أو تثبتهما لحظة واحدة في عينيك، أو تتأفف من قبلاتك أو كلماتك البذيئة، أنت لا تشتهي إلا الكلمات البذيئة، تعودت أذناك منذ المدرسة الابتدائية البذاءة والاغتصاب.
يشوح زكريا الخرتيتي بيده في وجه بدرية، يطردها بعيدا عنه كما يطرد شبح إبليس. - اغربي عن وجهي أيتها الحية الرقطاء، التي أخرجت آدم من الجنة.
لكن بدرية ليست زوجته بدور. ليس لها جسد بدور لترقد تحته، يخضعها في السرير حين يعجز عن إخضاعها في الرواية، تفضح بدرية حقيقته المخفية في أحشائه، لا تعرف زوجته بدور حقيقته، لا يبوح لها بأسراره، لا يبوح لأحد بأسراره حتى لنفسه، حتى الطبيب النفسي، لم يعرف أسراره. كان يؤلف لنفسه أسرارا بريئة، أسرارا نظيفة، وذكريات طفولة لم تحدث إلا في خياله، يكتبها في عموده اليومي تحت اسم: العلم والإيمان ، وأمانة الكلمة، والصدق، والوفاء بالعهد، والإخلاص لله والوطن والرئيس.
يمسح زكريا الخرتيتي دموعه بكفه، يتصبب العرق غزيرا فوق أوراق الرواية. مع دموعه يختلط عرقه فوق أوراق الرواية مع قطرات دموعه، يختلط عرقه فوق الورق مع عرق زوجته، كما كان يختلط فوق السرير في لحظات اللذة المبتورة الموقنة، والألم غير المبتور. يهمس في أذن بدرية كأنما هي عشيقته الساذجة الغريرة، سكرتيرة المكتب وخادمة السرير. - زوجني يا حبيبتي لم تمنحني إلا التعاسة، أنا زوج تعيس لم يذق طعم اللذة في سرير الزوجية، زوجتي باردة يا حبيبتي، لا تهتز فيها شعرة.
يهمس في أذن الخادمة السكرتيرة بكلمات بذيئة. - يا بنت الزنى يا بنت القحبة، أنت أجمل بنات الدنيا والآخرة، أنت حورية الجنة، أنت العذراء البتول لا تفقد عذريتها الأبدية، وإن تمزق غشاؤها آلاف المرات، وإن اشتعل عود كبريتها ملايين المرات، أنت ملاذي وخلاصي من الحزن الدفين، أنت سعادتي وجنتي، خذيني بين ذراعيك، بين ساقيك، أذيقيني العسل في عسيلتك، ارفعيني إلى سماء الحب والإيمان، واهبطي بي إلى أرض الجسد المدنس، صبي في أذني كلمات الله والشيطان، تكلمي يا بنت الزنى، يا بنت الزانية، واملئي أذني بالبذاءة لأصل إلى قمة اللذة.
كان لبدرية أذن مرهفة، أذن مفتوحة لا تنام تشبه عين الله الساهرة ليل نهار، تلتقط الكلمات قبل أن تنطق بها الأفواه؛ ربما لأن بدرية لم يكن لها جسد. كانت روحا محلقة في الخيال مثل روح الله وروح الشيطان، وسائر الأرواح الخفية. كانت بدرية مجرد فكرة في رأس بدور النائمة، تتراءى لبدور في النوم، تتلاشى حين تطفئ لمبة النور، تتبدد الرواية تحت موجات الضوء الساطع، تتلاشى الشخصيات جميعا، إلا زينة بنت زينات، كانت الوحيدة التي تتألق تحت الأضواء، ربما لأنها الوحيدة التي تملك الجسد وأي جسد؟ جسدها كان يضم أرواح الآلهة والشياطين معا، تكاد تشبه الآلهة القديمة الكبرى، ربة الحياة والموت، ربة الفسق والفضيلة، العاهرة القديسة العذراء، تصاعدت فوق قوانين الأرض والسماء، ولم يعد لها إله إلا نفسها.
فوق خشبة المسرح كانت تقف بقامتها الطويلة الممشوقة، زينة بنت زينات، مقلتاها الكبيرتان متوهجتان، مملوءتان بالضوء، ترتفعان فوق الرءوس. القاعة مكتظة بالرجال والنساء والشباب والأطفال، أولاد وبنات العائلات، وأولاد وبنات الشوارع، تدور عيناها على الوجوه، تفتش عن وجه أمها زينات، تراها جالسة في الصفوف الخلفية مع الخادمات والأطفال اللقطاء، تهبط من فوق المنصة وتسير نحو أمها، تمسك يدها، وتسير بها إلى الصف الأمامي، تجلسها بجوار الوزراء والرؤساء، بجوار الأدباء والأديبات والحاصلين والحاصلات على جوائز الأدب والعلم والإيمان. تجلس أمها زينات في الصف الأول، يرتفع رأس أمها فوق الرءوس، من حولها فرقة مريم من أطفال الشوارع، البنات والأولاد، تقودهم أبلة مريم إلى خشبة المسرح، يقفون حول زينة بنت زينات، ترقص وتغني أغنيتها الجديدة، كتبت أبياتها في الليل قبل أن يطلع الفجر.
منذ طفولتها في الشارع كانت الموسيقى تسري في جسدها مع أبيات الشعر. في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس كانت تغني وترقص على الإيقاع، يرقص معها الأطفال البنات والأولاد، يولدون على الرصيف تحت قطرات الندى، تجففهم أشعة الشمس والهواء الطلق، لم يعرفوا الانحباس وراء الجدران الأربعة، تحت سلطة الأب والأم، لم يعرفوا نار الآخرة ولا جنة عدن، يدبون بأقدامهم الصغيرة الحافية وهي تعزف اللحن، تغني لهم في الليل حتى يغلبهم النوم، ينادونها ماما زينة بنت زينات. تسري كلمة ماما في أذنيها كالموسيقى، تنادي أمها ماما زينات، تأخذها أمها في حضنها طوال الليل. في الصباح تسير إلى المدرسة مع البنات، يكتبن اسمها فوق المراحيض، زينة بنت زنى، ترفع أبلة مريم أصابعها الطويلة الرشيقة لتراها كل البنات، تقول بصوتها العالي الذي يرد في الكون: أصابعها خلقت للموسيقى، زينة بنت زينات موهوبة، ليس لها مثيل بين البنات والأولاد.
تتوهج المقلتان الكبيرتان بالبريق، يغزوهما الضوء بسرعة اللهب، ترمقهما عيون البنات بإعجاب وحسد خاصة مجيدة الخرتيتي، صديقتها الوحيدة بين التلميذات، تنجذب نحوهما بقوة الإعجاب والحسد، وقوة أخرى مجهولة تكاد تشبه قوة الدم، ملامحها تشبهها في المرآة، وملامح أمها بدور الدامهيري مع الاختلاف.
ورثت مجيدة عن أمها قصير القامة المربعة، والأصابع البضة القصيرة الطرية ، تتلوى فوق البيانو كأنها من العجين، كأنما أصابع من اللحم دون عظام. ورثت مجيدة عن أبيها زكريا الخرتيتي الرغبة في المجد عن طريق الكتابة، دون رغبة في الكتابة.
العائلتان الكريمتان الخرتيتي والدامهيري لا تتخلفان عن مشاهدة الفنانة زينة بنت زينات. أصبحت زينة بنت زينات فنانة الجماهير المقهورة في القاهرة، المدينة الكبيرة الممدودة بين ضفتي النيل من الصحراء الشرقية إلى الصحراء الغربية، من الدلتا الخضراء إلى الصحارى الصفراء، تزحف الرمال إلى الخضرة لتأكلها، ترتفع الجدران من الطوب والأسمنت فوق المزارع والغيطان. تكتسح الشوارع الأسفلت الخضرة وسنابل القمح، تدوس حوافر البوليس والعجلات الكاوتش نوارات القطن البيضاء. يكف الأولاد والبنات عن الغناء: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل. تحولت شجيرات القطن إلى أعواد البرسيم تأكله البهائم، نمت العمارات بالحديد المسلح على ضفتي النيل، أصبح النهر كالتمساح الهزيل المريض، حبيسا بين الجدران والأعمدة والقضبان الحديد، بيوت وشقق مثل علب الصفيح في العمارات الحديثة، وكنائس وجوامع تتكاثر مثلما تتكاثر الأرانب، وأقواس النصر مكتوب عليها اسم الله والمسيح والرسول محمد، والسيد الرئيس، وحوار وأزقة مسدودة بصفائح القمامة، ومياه المجاري تجري كالأنهر بعد أن جفت مياه النهر، وبراز كلاب وقطط شاردة في الشوارع، وثلاثة ملايين طفل وطفلة يعيشون فوق الأرصفة دون أب.
تدب زينة بنت زينات بقدمها فوق خشبة المسرح، ترقص وتغني وتنشد الشعر، تشق الكون بقامتها الطويلة الصلبة، تمشي فوق الخط الفاصل بين السماء والأرض، تمشي عليه بقدميها لتكسر الحدود، لتفتح لنفسها طريقا لم يمش فيه أحد من قبل. النافذتان إلى روحها تفتحهما وتغلفهما بإرادتها، إرادة صلبة مثل قامتها الصلبة، هضمت الطوب والزلط، أصبحت أشد صلابة من الزلط.
المقلتان المتوهجتان في عينيها ليس لهما عمر، تبدو فتاة تحت العشرين عاما، أو امرأة فوق المائة عام. بريقهما ساحر خلاب للعيون، خادع للبصر والسمع واللمس والحواس الأخرى، يظنه الرجال دعوة للحب، وهو ليس إلا ضوء الشمس المنعكس في عينيها، يصفها أصحاب الأعمدة بأنها امرأة ملتهبة. نقاد الفن والأدب يقولون: إنها من ذوات الدم الساخن الفائر ، ترد عليهم بأغنية من أغانيها الساخرة؛ تقول: إنهم من ذوي الدم البارد الراكد في عروقهم المتجمدة. قال عنها رئيس النقد الأدبي: إنها أسوأ شيء في البلاد، استخدم كلمة «شيء» في وصفها وكلمة «أسوأ»، أراد بذلك أن يخرجها من جنس النساء وجنس الأدب معا.
في حضورها فوق خشبة المسرح ينسى الناس ما يكتبه النقاد عنها، يطغى حضورها على الكتب والمقالات والدراسات النقدية، يصبح لجمالها فضيلته الخاصة بها، تتحرك عيون الناس إليها بغير إرادتهم، أو بإرادتهم الخفية المكبوتة في الأحشاء، تتحرك عيونهم نحوها أو نحو المقلتين، العينين، النافذين المفتوحتين إلى السماء وقاع البحر، لا تنظر العيون إليهما فحسب، بل تدخل في أعماقهما، تكتشفهما، تبقى فيهما، لا تغادرهما وإن انطفأت الأنوار وغادروا المسرح.
كتبت بدرية في رسالة سرية إلى بدور أمها: هل أنت التي ولدت هذا الجمال يا بدور؟ كيف تلدين هذا الجمال وتعجزين عن وصفه في روايتك؟ أيكون رحمك أكثر إبداعا من قلمك؟! هذا الجمال لا يسحقنا باللذة فحسب، هذا الجمال يمتلئ بالألم والحيرة والاستسلام لذلك الضوء المتوهج في العينين، نشعر بالإحباط والضعف أمام قوة هذا الجمال أو السحر، لا نقوى على التخلي عنه، يشدنا بقوة المعرفة إلى ما لا نعرف، يبعث فينا المجهول بالقلق والتهديد إلى حد الرغبة في المقاومة والانتقام، ذلك الجمال المنسق في ما يشبه العظمة، إلى حد أن نفقد توازننا، أن نفقد عظمتنا الموهومة، وننسى من نكون. نحن آلهة الأدب والفن والثقافة، تفشل لغتنا القاصرة الموروثة عن تعريف هذا الجمال، مثل الحب، مثل الحياة، مثل الله، مثل الشيطان، وكل المجهولات في اللغة والحروف.
لم تكن زينة بنت زينات تأبه لهذه الكلمات المنمقة، لم تحصل زينة بنت زينات على شهادة عالية، لا تنتعل حذاء له كعب عال، لا ترتدي فوق وجهها حجاب العفة، ولا مساحيق التبرج والخلاعة، ولا أساور في يديها أو خلاخيل في قدميها، ولا تدهن شفتيها وجفونها بالأحمر أو الأخضر أو الأزرق.
لم تكن زينة بنت زينات تشعر بجمالها، لا تشعر بعظمتها أو موهبتها، كان كل هذا شيئا طبيعيا لديها، لا يستدعي الإحساس به، لا يستدعي التشدق به، مثل الحرية لا يتحدث عنها إلا من يفقدها، مثل الصحة؛ تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، مثل الحياة تاج على رءوس الأحياء لا يراه إلا الموتى.
في المدرسة كانت زينة بنت زينات ترتدي مريلة من الدمور الخشن الرخيص، الكولة معوجة، الحزام غير مربوط، شعرها منكوش، رباط حذائها مفكوك.
لم تكن زينة بنت زينات تنظر في المرآة، لم يكن في بيتها مرآة، لم يكن لها. تخرجها الناظرة من الطابور، تلسعها على أصابعها بالمسطرة، تعاقبها بالوقوف ساعة أو ساعتين وجهها للحائط ويداها مرفوعتان. لم تكن زينة بنت زينات فعلت شيئا، سوى أنها سبقت البنات في الجري في حصة الألعاب الرياضية كانت سيقان البنات قصيرة سمينة مدكوكة باللحم عاجزات عن الجري، أو أنها حصلت على أعلى الدرجات في حصة الموسيقى، أو في قراءة الشعر.
كانت أصابع البنات قصيرة بضة طرية، تتلوى فوق أصابع البيانو. أصابع بنات العائلات لم يكن لها عظم. تلتوي ألسنتهن حين ينطقن الشعر باللغة العربية، لم تكن اللغة العربية محترمة في بيوت العائلات الكريمة، لا يتكلم اللغة العربية في هذه البيوت الراقية إلا الخادمات والشوفير والطباخ والجنايني والبلانة وقارئة الفنجان، والعشيقات الشغالات من الطبقات الدنيا أو المومسات، لزوم اللذة السرية للذكور من العائلات الكريمة، ذات الأصل العريق.
مجيدة الخرتيتي تبكي في الليل تسأل الرب: لماذا خلقتني بهذه الأصابع القصيرة بهاتين المقلتين الصغيرتين الخاليتين من البريق؟ لماذا أعطيت الموهبة لبنت الزنى؟ هل تفضل يا رب بنات الزنى على بنات العائلات الكريمة؟
في حصة الموسيقى تقول أبلة مريم: الموهبة وحدها لا تكفي، الأصابع وحدها لا تكفي لإتقان في العزف. أنت يا مجيدة كسولة، تريدين كل شيء بسهولة، عندك كل شيء من نعم الله. ليس عندك دافع للإبداع، ليس عندك طموح، زينة بنت زينات تنام وتحلم بالموسيقى، لا تكف عن العزف والغناء، تتدرب ثلاث ساعات في اليوم، في المدرسة أو في بيتي. فتحت لها بيتي لأنها تحب الموسيقى والغناء، هذا الحب هو سرها ودافعها في الحياة، الحب الذي حرمت منه في الدنيا وجدته في الموسيقى، الموسيقى مثل الكتابة مثل أي فن آخر، لا تحب إلا من يحبها، ولا تخلص إلا لمن يخلص لها، زينة بنت زينات ليس في حياتها إلا هذا الحب، وأنت يا مجيدة ما حب حياتك؟ ما حلم طفولتك؟ ماذا تريدين أن تكوني؟
تفكر مجيدة الخرتيتي في السؤال، يراودها في الليل وهي نائمة: ماذا أريد أن أكون؟ ماذا أريد أن أكون؟
لا تعرف الجواب، كل ما تعرف أنها لا تحب اللغة ولا الحروف، تفضل الأرقام على الحروف. - واحد زائد واحدا يساوي اثنين، اثنين بالضبط، لا ثلاثة.
هذا شيء واضح بسيط، لكن اللغة معقدة، الكلمة الواحدة لها أكثر من معنى، ينقلب المعنى من النقيض إلى النقيض بجرة قلم أو نقطة فوق الحرف، أو شرطة أو شدة أو همزة أو لمزة، قد يصبح الشيء ونقيضه شيئا واحدا، قد تساوي اللحظة الواحدة آلاف اللحظات أو العمر كله.
لا تحب مجيدة هذا الغموض، هي تحب الأرقام المحددة الواضحة غير المراوغة غير الملتبسة، لكن أكثر ما تحبه مجيدة هو النوم أن تغيب في النوم عن الواقع والحقيقة، عن صوت أبيها وأمها يتشاجران، عن صوت الله يهددها بالحرق في نار جهنم، عن صوت إبليس يغويها بالإثم، قبل أن تبلغ العاشرة من عمرها اقترفت مجيدة كثيرا من الآثام، أحدها أنها كانت تكره أباها وأمها والمفترض أن تحبهما، وهي أيضا تبتلع قطرات ماء في شهر رمضان قبل مدفع الإفطار، لا تتوضأ أحيانا قبل الصلاة، أو تفلت من أمعائها ريح وهي تصلي فلا تقطع الصلاة لتتوضأ من جديد، وهي لا تغطي شعرها وهي تقف بين يدي الله، وتبول في فراشها أحيانا خوفا من السقوط من فوق الصراط المستقيم بعد أن تموت، ترى نفسها في الحلم تمشي فوق هذا الحبل الرفيع الممدود بين الجنة والنار، تتأرجح فوقه بجسمها القصير السمين، لم تتدرب في حياتها على السير فوق الحبال الرفيعة الممدودة في الهواء، قدماها الصغيرتان الناعمتان يدميهما الحبل المشدود ، مثل شفرة السكين، تمشي فوق الشفرة تترنح حتى تسقط في النار، ثم تصحو مبللة بالعرق والخزي.
أكبر إثم في حياتها ما بعد العاشرة من عمرها أنها أطاعت أباها زكريا الخرتيتي، ودخلت قسم الصحافة. كان أبوها منذ من طفولته يتطلع نحو أصحاب الأعمدة في جريدة أبو الهول الكبرى، يرى صورته داخل البرواز على رأس عموده الطويل الرفيع في الصفحة الأولى ناحية اليسار. كان يميل ناحية اليسار مثل إبليس، ثم تحول إلى اليمين بعد أن امتلك عمودا من العلم والإيمان بالله، رأسه في الصورة مثلث الشكل مدبب القمة يشبه هرم خوفو، عيناه تطلان من داخل البرواز شاردتين تحدقان في الأفق البعيد، تشبه عيون المفكرين الكبار، أفلاطون وأرسطو ونيوتن وفرويد وماركس وابن سينا وابن رشد. ملامحه رغم التحديق في الأفق البعيد لا تشبه ملامح المفكرين، لا تنم عن التفكير بحال من الأحوال، فقط انعكاس الضوء على الصلعة المصقولة أثناء التقاط الصورة، ظلال ودخان السيجار يخفي جزءا من الملامح ويظهر بعضها خاصة الأنف، يتغير شكل عظمة الأنف مع تغير الضوء المسلط على الوجه، وحركة الأرض حول الشمس.
أصبحت مجيدة الخوتيتي كاتبة مرموقة في مجلة النهضة تحصل على أعلى أجر، يساعدها أبوها وأمها في الكتابة، حصلت على جائزة الأدب في عيد الصحافة عن مقال كتبته بعنوان: «إنجازات سيدة مصر الأولى في عيد المرأة.»
كان مبنى المجلة يشبه الهرم الأبيض بين المباني المنخفضة السوداء من حوله، والمباني خلفه في الحي الفقير، يسمونه عشوائيات المدينة، يعيش فيه المهاجرون الجدد من الريف، الباحثون عن الرزق، والمهاجرون القدامى العاطلون عن العمل وأصحاب السوابق والقوادون وبنات الهوى، وبائعو الفسيخ والسردين والبولوبيف المستورد والمسابح والأحجبة والمباخر وإمساكية شهر رمضان.
كان رئيس التحرير أحد أعوان السيدة الأولى، نشرت صحيفة من صحف المعارضة حقائق عن اختلاسه بضعة ملايين من أموال المجلة، خرج الناس في مظاهرات يطالبون بتقديمه للمحاكمة، معظمهم من الشباب العاطل والشابات، فرقتهم عربات البوليس بخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وبضع رصاصات انطلقت. سالت دماء فوق الرصيف، ذابت الدماء في مياه المجاري بعد انفجار الماسورة. عاد الهدوء إلى المدينة بعد ساعات قليلة، نسي الناس القضية، وعادت صورة رئيس التحرير تتألق داخل البرواز فوق عموده الأسبوعي أو اليومي، صورة جديدة يظهر فيها أكثر شبابا، اختفت الصلعة تحت باروكة شعر أسود مستعار. التجاعيد راحت بعد عملية تجميل جراحية في نيويورك، عيناه أصبح فيهما نيولوك، يكسوهما بريق متأجج بالنشوة، شفتاه تبتسمان في زهو وانتصار.
مجيدة الخرتيتي كان لها مكتب كبير في الدور العلوي بجوار مكتب رئيس التحرير، فوق بابها لمبة حمراء، لا يدخل إليها أحد إلا عبر مدير المكتب والسكرتير الخاص، ما إن يسمع أحدهما صوتا لشاب أو شابة مغمورة تطلب مقابلة الأستاذة الكبيرة حتى يهتف: آه، الأستاذة في مؤتمر خارج القطر مع الهانم السيدة الأولى، الأستاذة في اجتماع هام مع السيد الوزير، الأستاذة مشغولة بكتابة عمودها، لا ترد على المكالمات ولا تقابل أحدا. أي والله، الأستاذة أغلقت على نفسها باب مكتبها بالمفتاح لتكتب مقالها، أي والله العظيم، إنها الآن تكتب ولا يمكن لأحد أن يقتحم عليها الكتابة، أي والله، فاليوم هو الخميس، هذا يوم مقدس عندها، يوم كتابة مقالها، أي والله، المطبعة متوقفة في انتظار مقال الأستاذة، هل يمكن الاتصال بها الأسبوع القادم؟ أرجو المعذرة.
لم تكن مجيدة الخرتيتي تكتب مقالها يوم الخميس، لا تذهب إلى مكتبها يوم الخميس، فهو اليوم الذي تذهب فيه إلى النادي لتلعب الجولف مع أبيها. كان ملعب الجولف هو المكان حيث يلتقي كبار الكتاب من أهل الصحافة والأدب والثقافة، معظمهم رجال والقليلات نساء. كاتبات وناقدات مرموقات أصبح الجولف هوايتهم الجديدة، أو الكروكية؛ تمشي الواحدة أو الواحد منهم تحت أشعة الشمس في الهواء الطلق، من خلفها أو من خلفه صبي شاحب الوجه بشرته محروقة بالشمس، مبقعة بدوائر بيضاء ونمش أسود، يشبه ولدا من أولاد الشوارع، يمشي من خلفها أو من خلفه يجر عربة محملة بالمضارب والكرات، تمسك الواحدة منهن المضرب بأصابع بضة سمينة أظفارها طويلة حمراء، أو بنفسجية، أو برتقالية حسب الموضة في ذلك الوقت. ينثني جسدها المربع فوق الكرة ، تضربها ضربة خفيفة مليئة بحنان الأنوثة، تطير الكرة الصغيرة مسافة متر أو مترين ثم تسقط فوق الحشيش الأخضر المحلوق بعناية، الناعم مثل وجه زكريا الخرتيتي بعد الحلاقة.
كان رئيس التحرير يلعب الجولف حين قال لها: اسمعي يا مجيدة، أريد منك مقالا عن إنجازات السيدة الأولى في عيد المرأة القادم، كانت المجلة تستعد لعدد خاص بمناسبة عيد المرأة العالمي، أو ربما كان عيد ميلاد الرئيس أو السيدة الأولى. ينتهز رئيس التحرير هذه المناسبات ليجدد الولاء والطاعة والإخلاص لأصحاب النعمة، يتسابق المحررون والمحررات لنيل الجائزة، يحلق خيالهم لخلق مشروعات لم تحدث وإنجازات لم تنجز، يتكدسون في صالة التحرير الكبيرة في الدور الأسفل، عددهم بالعشرات أو المئات، يتبادلون الجلوس في المكاتب القليلة تشبه الكراسي الموسيقية، يتنافسون للجلوس عليها، يقولون عنهم صغار المحررين والمحررات، قد يكون بعضهم في مراحل الشيخوخة، أو في منتصف العمر، يظلون تحت كادر العمال بالقطعة، أو تحت اسم التدريب دون مكافأة، ليس لهم وساطة في الجهات العليا ترفعهم من الصغار إلى الكبار، بقرار جمهوري أو قرار وزاري، مكتوب أو غير مكتوب.
كانت مجيدة الخرتيتي تستأجر واحدا من هؤلاء المحررين الصغار ليكتب لها المقالة، تدفع له مائة وستين جنيها في الشهر مقابل أربع مقالات، كل مقالة بأربعين جنيها، كانت هي تحصل على راتب شهري قدره ثمانية آلاف جنيه، تأخذ على المقالة الواحدة ألفين من الجنيهات، كل جنيه ينطح أخاه، بلغة الفقراء العاطلين من أهل الريف.
فوق مكتبها كانت أربعة خطوط ملونة، الأحمر خاص برئيس التحرير، الأخضر خاص بمدير مكتبها، الأبيض خاص بالسكرتير الخاص، الأسود خاص بصالة التحرير السفلية.
تمد مجيدة يدها البضة السمينة إلى التلفون الأسود، تسأل عن محررها الشاب الفقير كاتب المقال: تعال مكتبي حالا يا محمد.
لا تناديه يا أستاذ محمد كما تنادي المحررين الكبار، لا تسأله إن كان عنده وقت للصعود حالا إلى مكتبها، تعرف أنه سوف يصعد إليها حالا إن طلبته؛ فهو تحت الطلب في أي وقت، مقابل مائة وستين جنيها في الشهر، يطعم بها أطفاله وأمه المريضة، ويشتري لنفسه بعض الكتب أو الروايات الجديدة.
يصعد محمد بقامته النحيلة ووجهه الشاحب الطويل إلى الدور العلوي، يركب المصعد الفاخر الخاص بكبار المحررين وكبيرات المحررات، ينزلق المصعد إلى أعلى بصوت ناعم خافت كالنسيم، يجتاز محمد بحذائه المغطى بالتراب الممرات الطويلة المفروشة بالسجاد العجمي، جدرانها مغطاة برسومات الفنانين، صور الوزراء والملوك والرؤساء، صورة رئيس التحرير تطل من البرواز الذهبي إلى جوار صورة المنفلوطي وطه حسين، وشكسبير وبرناردشو، يضم رئيس التحرير صورته مع هؤلاء، كأنما يصبح كاتبا عظيما لمجرد وضع صورته على الحائط مع العظماء.
توقف محمد يلهث أمام الباب، تعلوه رقعة ذهبية اللون لامعة محفور عليها الاسم «مجيدة الخرتيتي» بحروف تشبه أشعة الشمس، لا تأتي مجيدة إلى مكتبها إلا قليلا، أحيانا مرة واحدة في الشهر لتقبض راتبها، لكنها دائمة الحضور في اجتماعات الرئيس والسيدة الأولى، وحفلات الرئاسة، ومهرجانات رئيس التحرير في المناسبات الأدبية والفنية والثقافية.
قبل أن يدخل إلى مكتبها أوقفه مدير المكتب يسأله عن اسمه، وما غرض المقابلة؟ قال له: إن الأستاذة غير موجودة، في اجتماع هام مع رئيس التحرير. - الأستاذة طلبتني بالتلفون من دقيقة واحدة يا أستاذ، الأمر مهم ومستعجل خاص بالمقال بتاعها يا أستاذ. - آه، متأسف، هي لسه راجعة حالا من الاجتماع، اتفضل يا أستاذ محمد.
دخل محمد إلى المكتب الفاخر، يغوص كعب حذائه المتآكل في السجادة العجمية السمينة، لها ملمس اللحم الطري الناعم. خلف مكتبها الضخم كانت مجيدة الخرتيتي جالسة بجسمها القصير المربع، لا يكاد رأسها يطل من فوق البنورة الكبيرة اللامعة، فوق الحائط من خلفها تطل صورة رئيس الدولة والسيدة الأولى داخل برواز ذهبي كبير، أسنان الرئيس نصف مكشوفة في نصف ابتسامة، أو نصف تكشيرة عسكرية نصف حازمة. أسنان السيدة الأولى مكشوفة في ابتسامة أنثوية عريضة، من تحتهما صورة الوزير، من تحته صورة رئيس التحرير، يتناقص حجم برواز الصورة بالهبوط من أعلى إلى أسفل، يقل سمك الذهب في البرواز، أو يتحول الذهب إلى معدن آخر يشبه الفضة أو النحاس أو القصدير.
لم تطلب له مجيدة الخرتيتي فنجان قهوة، كانت ترشف قهوتها من فنجان حوافه مذهبة، إلى جواره كوب ماء كبير مليء بقطع الثلج، أزيز جهاز التكييف ناعم خافت يشبه حفيف هواء، بين شفتيها الحمراوين السمينتين سيجار أسود اللون فاخر النوع من هافانا يدخنه أبوها ورئيس التحرير، وكبار الأدباء والصحفيين من أصحاب الأعمدة اليومية والمقالات الأسبوعية، ما إن يحصل الواحد منهم على اللقب أو المنصب حتى يظهر السيجار الأسود بين شفتيه، والزبيبة السوداء فوق جبينه، والسبحة الصفراء بين يديه. وإن كان من المؤمنين بالمسيح والإنجيل تظهر الزبيبة دون أن يسجد بين يدي الله، والسبحة يحركها بين أصابعه دون أن يسبح بحمد الله، أو يتمتم بآيات من القرآن. يقول: إنه قبطي دينه المسيحية لكن ثقافته إسلامية، يذهب إلى الجامع دون وضوء يوم الجمعة ليصلي وراء الرئيس أو الوزير، يبسمل ويحوقل ويقرأ الشهادة والفاتحة دون أن يحرك شفتيه إلا قليلا، يسبل جفونه مع البسملة والبربشة والحوقلة والتمتمة دون صوت أو مجرد هواء ساخن يخرج من بين شفتيه المتوردتين.
من وراء مكتبها الفخم أطل رأسها الصغير، وجهها عريض مملوء باللحم متهدل الملامح، بشرتها بيضاء رمادية. هذا البياض الشاحب يميز كبار الكتاب من الرجال والنساء، الشباب والعجائز، اللون الرمادي للوجه والعينين واليدين، القلم أيضا بين أصابعهم لونه رمادي، كلماتهم في الأعمدة والمقالات رمادية اللون مصنوعة من مسحوق ترابي، من حروف منسحقة تحت مطرقة حديدية، رقيقة شفافة يشف من تحتها الورق الأبيض، يكتبون بالحبر الأبيض أو الحبر السري غير المرئي، كما يفعل السجناء داخل الزنازين، لا يعرف أحد ماذا يقولونه، وهل هم معارضون أم مؤيدون، يلقون كلماتهم بدخان سيجارهم، مثل الإله يختفون وراء السحب.
كانت ترتدي تاييرا أخضر من الحرير الطبيعي، حول عنقها إيشارب خفيف أحمر شفاف، معقود أسفل ذقنها المدبب على شكل وردة، يداها صغيرتان أصابعهما قصيرة بضة، أصابع طفلة صغيرة لولا النظرة العجوز الحزينة في عينيها، بشرة يديها بيضاء تعلوها بقع حمراء، أخفت يديها داخل جيوب التايير حين رأته يحملق فيهما. - عندي التهاب في الجلد يا محمد، نوع من الحساسية لرائحة ورق الصحف، مرض من أمراض مهنة الكتابة، إنت يا محمد صحفي ممتاز، يمكن قلمك أن يساهم في العدد الخاص بإنجازات السيدة الأولى والسيد الرئيس طبعا، إنت عارف البلد كلها لا يمكن تمشي إلا بتوجيهات سيادته، أطلب لك فنجان قهوة يا محمد؟ - لا شكرا يا أستاذة. - أنت واقف ليه؟ اقعد يا محمد. - شكرا يا أستاذة. - أطلب لك عصير لمون مثلج؟ - شكرا يا أستاذة، أنا في الحقيقة عندي قرحة في المعدة، ولا أشرب أي شيء خارج البيت. - قرحة إيه يا محمد؟ كلنا عندنا قرح في جميع الأعضاء وليس في المعدة فقط، هذا جزء من أمراض مهنتنا، إحنا الصحفيين والأدباء والأديبات ...
ضغطت بأسنانها على كلمة الأدباء والأديبات، وكأنما تدخل نفسها قسرا بهذا الضغط في زمرة الأدباء والأديبات، كان أبوها يحلم أن تكون ابنته مي زيادة الثانية. نشرت قصة قصيرة في بداية حياتها، لم يقرأها إلا أبوها وأمها.
دق جرس التلفون الأحمر فانشغلت طويلا بالمكالمة، أطلقت بين الحين والحين ضحكات ناعمة متقطعة وشهقات، مع الشهيق والزفير يهتز جسدها من وراء المكتب في نشوة، وهو واقف أمامها لم يقعد، لا يريد أن يقعد. يود لو استأذن وغادر المكتب، يود لو اعتذر لها عن كتابة مقالها، يود لو يضرب البنورة بقبضة يده فيكسرها، في أعماقه غضب مكبوت منذ الطفولة، تحول إلى قرحة في المعدة.
انتهت المكالمة والتفتت إليه، كأنما تكتشف وجوده.
قال لها بصوت خافت: أستأذن يا استاذة، عندي موعد مع الدكتور لإجراء أشعة على المعدة. - اقعد يا محمد، أنا عاوزة المقال بسرعة، عشان ينزل في عددنا الخاص عن الإنجازات، طبعا إنت عارف إن الإنجازات كثيرة في كل مجال. عليك إنك تختار منها ما تشاء بمطلق الحرية، عليك إنك تسلمني المقال قبل نهاية الأسبوع، ياللا شد حيلك واكتب حاجة حلوة زي عوايدك، قرحة المعدة إيه يا محمد، ده مرض نفسي ناتج عن قرحة بالعقل.
ضحكت مجيدة بصوت عال حاد يشبه صوت أبيها، حركت رأسها إلى الوراء وهي تقهقه كما يفعل أبوها مع صغار المحررين . - دي مجرد دعابة يا محمد، أنا باضحك معاك، أنا عارفة إن عقلك يوزن بلد.
بعد أن خرج محمد أطبقت الأستاذة مجيدة شفتيها في صمت طويل، سمعت صوتا في أعماقها يهمس: القرحة في عقلك أنت يا مجيدة وعقل أبوكي ورئيس التحرير والوزير والرئيس والسيدة الأولى.
نظرت إلى ساعتها وانتفضت واقفة: يا خبر؟ كنت حانسي ميعاد الدكتور!
بعد دقائق قليلة كانت الأستاذة مجيدة الخرتيتي تقود سيارتها المرسيدس البيضاء، في طريقها إلى الطبيب النفسي، حيث تتمدد فوق الأريكة.
فوق خشبة المسرح كان أحمد الدامهيري يرمقها وهي تعزف وتغني وترقص، زينة بنت زينات تتألق تحت الأضواء، كان جالسا في الصفوف الخلفية، يتخفى وراء نظارة سوداء وعمامة بيضاء كبيرة يلف بها رأسه، جبة من القطيفة وقفطان له حزام عريض ذهبي، من حوله حراس مسلحون متنكرون في ملابس مدنية، في جيب كل منهم مسدس كاتم للصوت. منذ سمعها لأول مرة لم يكف عن سماعها، يخترق صوتها المسافة بين عقله وقلبه في لحظة خاطفة، ينفذ من جسده إلى روحه في غمضة عين، تتلاشى الفواصل بين جسده وعقله وروحه وجسده، يصبح كيانا واحدا جالسا في مقعده شاخصا إليها مبحلقا فيها. يعود طفلا جنينا في بطن الأم، يصحو من نوم عميق، يفتح جفونه؛ الدنيا ليل مظلم، دقات قلبه تسري في أذنيه بصوت منتظم، إيقاع لحن يأتي من بعيد، من بعيد جدا، يفرك بأصابعه عينيه المتأرجحتين بين النوم واليقظة، لا يستطيع أن يحدد الصوت: صوت من؟ ومن أين يأتي؟
كم من الزمن يمضي، هي لحظة من الصمت الطويل، أو دقيقة، أو ساعة، أو سنة، أو العمر كله. لا يكاد يعرف، ثم يأتي الصوت من جديد، صوت مألوف لأذنيه، يشبه حركة القلب تحت الضلوع، دقات نبض قريب، يكاد يحسه في صدره يدق بالإيقاع ذاته من قمة رأسه حتى بطن قدميه، يتلاشى الصوت ويأتي ثم يختفي ثم يأتي، يتصاعد الإيقاع ويهبط، ثم يتصاعد دون توقف، دون بداية أو نهاية، يدغدغ أذنيه في نعومة صدر أمه، يسري في كيانه. كلما استمع إليه يصبح مألوفا، سمعه من قبل آلاف المرات، ملايين المرات منذ كان في الرحم، يعرف النغمة التي راحت والتي جاءت والتي ستأتي، وإن كان الصوت خافتا بعيدا بعيدا، كأنما يأتي من تحت الماء وهو متكور حول نفسه تحت الغطاء. إنه جنين داخل رحم أمه يحوطه الماء الدافئ، يسمع الأصوات تتحرك داخل الماء، دقات قلب أمه قريبة من أذنه الجنينية، يدق قلبها بإيقاع منتظم بطيء، أو إيقاع سريع مضطرب، مهما اضطربت الدقات يظل لها إيقاع الموسيقى، ورائحة شعر أمه، وصوتها يهمس: حبيبي أحمد.
القاعة الكبيرة مكتظة بالناس، رجال ونساء وشباب وأطفال، إلى جواره أم شابة تحمل في حضنها طفلها. كف الطفل عن البكاء حين بدأت زينة تغني، تسمرت عينا الطفل فوق وجهها، أذناه مرهفتان لصوتها، يتابعها بعينيه وهي تتحرك فوق خشبة المسرح عيناه لا تنفصلان عنها، أذناه ملتصقتان بصوتها، يهتز رأسه بالإيقاع ذاته، يسبح جسمه الصغير في حضن أمه كما كان يسبح داخل رحمها.
أثبت الطب أن الجنين في بطن أمه يسمع الأصوات داخل الرحم وفي العالم خارج الرحم، منذ أن يبلغ الجنين مائة وأربعين يوما يعرف صوت أمه حين تغني وحين تبكي، يسمع دقات قلبها وأنفاسها ونبض الدم في عروقها، يسمع الحوار بين أمه وأبيه دون أن يفهم الكلمات، لكنه يفرق بين صوت الموسيقى والصوت النشاز، تتدرب أذناه على سماع الأنغام، ألحان الحب والسعادة أو الصفعات والركلات والنشيج الحزين.
لم يعرف أحمد الدامهيري ماذا في زينة يجذبه؟ ماذا في صوتها يرج كيانه؟ ماذا في عينيها يثير فيه الذكريات؟ ذكريات قديمة دفيئة بعيدة ضاعت، سقطت في العدم. مع الزمن الماضي تعود إليه الذكريات من حيث لا يدري، يعود إليه صوت أمه تغني له قبل أن ينام، رائحة لبنها تسري في أنفه مع اللحن والموسيقى، يتسمر في مقعده لا يتحرك، يصبح جسده والمقعد شيئا واحدا، حين ينتهي العرض وتنطفئ الأنوار، وتخلو القاعة. يظل أحمد الدامهيري جالسا محملقا في الظلمة والفراغ.
أصبحت زينة بنت زينات طيفا يطارده ليل نهار، صوتها يسري في أذنيه وهو نائم يشبه صوت الله، أو صوت الشيطان. أصبح يؤمن أن الموسيقى تأتي من عند الشيطان وليس من عند الله. موسيقى صوتها تسلبه الاتزان، تسلبه الإيمان بالله، تجعله ريشة في مهب الرياح، يصبح جسده خفيفا كالريشة، جسد بغير لحم وعظم، جسم مصنوع من الروح، يطير به في سعادة الأرواح الحرة الطليقة من أسر الجسد، كأنما يموت وتصعد روحه إلى السماء، ثم يصحو ويصبح ضمن الأحياء يموت ويصحو، ويموت ويصحو دون توقف، دون انقطاع.
أعطتها أبلة مريم لقب موتسارت مصر، تقدمها في كل عرض قائلة: هذه زينة بنت زينات هي موتسارت الوطن، لكن موتسارت عاش في حضن أبيه الموسيقي الكبير، كان يدربه على العزف ثلاث ساعات في اليوم منذ بلغ الثانية من عمره. ما إن بلغ موتسارت الثامنة من عمره حتى كتب سيمفونيته الأولى، لم تكن فقط نتيجة الموهبة أو الجينات الموروثة، بل تدريب طويل طويل، بلغ عشرة آلاف ساعة ما بين الثانية والثامنة من عمره. العبقرية هي تدريب وصبر طويل، لكنها مع الموهبة الطبيعية تصبح شيئا خارقا لقوانين الطبيعة.
منذ رأتها في المدرسة الابتدائية أيقنت أبلة مريم أن هذه الطفلة موهوبة، كانت زينة تحفظ اللحن عن ظهر قلب فور سماعه لأول مرة، كانت تثق بنفسها إلى حد الغرور، كأنما هي ابنة الإله في السماء، وليست طفلة ولدت على الرصيف فوق تراب الأرض.
تغني زينة بنت زينات قصيدتها، تبدؤها بهذه الأبيات:
أنا جئت من الأرض، وإلى الأرض أعود.
أنا لم أهبط من الفضاء.
لست ابنة الآلهة أو الشياطين.
أنا زينة وأمي زينات.
أمي أعز عندي من السماء.
تبدو كلماتها بسيطة تلقائية، كالهواء يخرج من الصدر ويدخل، ليس لها قافية ولا وزن إلا إيقاع صوتها الطبيعي، يرن في القاعة الكبيرة غريبا إلى حد الألفة، مألوفا إلى حد الغرابة، مثل ضوء الشفق يولد من الظلمة، والشمس تسقط في خضم الليل.
يصحو أحمد الدامهيري من غيبوبة النشوة، ترتطم كلمة السماء بأذنه كاللحن النشاز، ينتبه عقله المغلوب بالسحر. - لماذا تتحدى هذه المرأة السماء؟ ما معنى أن تكون أمها الخادمة الفقيرة أعز عندها من الآلهة؟
إلا أن هذه الصحوة سرعان ما تروح، حين تبدأ زينة بنت زينات في العزف والغناء:
أنا لست موتسارت ولا أم كلثوم.
أنا بنت الأرض والشارع.
أنا بنت الخطأ والخطيئة.
أنا بنت الشرف والفضيلة.
تلقيت الضربات منذ الطفولة.
عرفت السقوط المرة بعد المرة بعد المرة.
لكني بعد كل مرة،
كنت أنهض وأغني من جديد.
وأعزف وأعزف وأعزف.
أنهض وأرقص وأرقص وأرقص.
أسقط وأنهض وأسقط وأنهض وأنهض، وأنهض.
ثم أكتب قصيدة حب بإيقاع جديد.
العيون في القاعة الكبيرة تحملق فيها، الآذان مشدودة إليها، بساطة الكلمات الخالية من الزينة، بساطة الوجه الخالي من المساحيق، وجه خاص بها لا يعرف التنازلات، لا ينشد إعجاب أحد، لا يسعى إلى أن تراه العيون، ومع ذلك يشد العيون إليه بقوة، بجاذبية خفية، كأنما العيون لا تسعى إلا إلى ما لا تراه، أو إلى ما لا يسعى أن تراه.
المقلتان الكبيرتان هما هذا الوجه الخالي من كل شيء إلا العينان، سوداوان زرقاوان مشتعلتان بالضوء، متوهجتان مثل قطعة من الشمس، نظرتها خارقة للحجب والأقنعة، نظرة تعري السطح وتنفذ إلى القاع، نظرة تنظر وترى، ترى ما لا تراه العيون.
يتململ أحمد الدامهيري في مقعده، يتحرك جسده القصير السمين، ينتقل من الألية اليمنى إلى اليسرى، يفرد ساقيه القصيرتين تحت المقعد أمامه، ترتطم قدمه بقدم الرجل الجالس أمامه، يستدير الرجل إليه ويهمس: أفندم سعادة الباشا، تحت أمرك. - لا شيء يا محمود، لا ترفع صوتك.
إنه الشوفير الجالس أمامه، سائق سيارته السوداء الطويلة، ذات الستائر الزرقاء، أو الزجاج الأزرق الفيميه، بكشف الخارج ولا يكشف الداخل. يرتخي جسد أحمد الدامهيري في السيارة الفاخرة فوق الأريكة الخلفية الوثيرة، تغوص أليتاه المرهقتان المترهلتان في الفراش الطري الناعم.
لم يكن المسرح أحد المسارح الفاخرة التابعة للدولة، لم يكن هو المسرح الكبير أو الصغير في دار الأوبرا الأنيقة. كان مسرحا فقيرا في الحي العشوائي القديم، جدرانه خيمة من قماش سميك رخيص يشبه الدمور أو الجبردين، مقاعده من الخشب أو الخيزران أو الجريد المجدول، مستقيمة الظهر تؤلم الظهور غير المستقيمة، تدمي الظهور المترهلة التي تعودت الجلوس في المقاعد الطرية، يستمر العرض ساعتين أو ثلاثا أو أكثر. كلما توقفت زينة بنت زينات عن العزف والغناء ارتفع الهتاف في الصالة الواسعة: أعيدي يا زينة أعيدي، أعيدي.
كان الشوفير محمود السائق الخاص واحدا من حرس الأمير، يحمل مسدسا مرخصا من إدارة الأمن. يمشي وراء الأمير إن مشي، يجلس في المقعد أمامه إن جلس في الحفلات العامة. من خلف الأمير يجلس الحارس الخاص أو البودي جارد، هكذا يتحصن جسد الأمير من الأمام والخلف، عن يساره الحارس الثالث، عن يمينه الحارس الرابع، أربعة أجساد طويلة عريضة ضخمة تحوط الأمير، بجسده القصير الصغير، كالأعمدة الأربعة، أو جدران أربعة عالية من حول ضريح منخفض لشيخ مات منذ ألف عام، أو قسيس مدفون تحت محراب قديم. ينادونه فضيلة الشيخ أو سعادة الأمير أو سعادة الباشا.
كان لقب الباشا قد سقط بسقوط الملك بعد الثورة، لكنه عاد من جديد مع الانفتاح، والشركات الأجنبية والعمامة والزبيبة والسبحة، ومكبرات الصوت فوق الجوامع، وأجراس الكنائس والمدارس، وصفارات البوليس في الشوارع، وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وتكاثر المواليد اللقطاء فوق الأرصفة وفي العشوائيات، وقوائم الموت وفتاوى المشايخ بتكفير المفكرين والمفكرات، والحرائق في دور السينما والمسارح والكنائس، والنسوة وراء النعش في الجنازات يولولن ويلطمن الخدود، والفتيات المراهقات يغطين رءوسهن بالحجاب، ويكشفن عن بطونهن وأردافهن داخل الجينز الأمريكي الحديث، ومحلات الهامبرجر والكولا والديسكو، والليالي الحمراء على شاطئ النيل، والسحابة السوداء تغطي المدينة في النهار وفي الليل.
يطرب أحمد الدامهيري حين يناديه السائق بلقب سعادة الباشا، يتذكر طفولته حين كان في الثامنة من العمر، أبوه فضيلة الشيخ الدامهيري، وعمه اللواء الكبير في الجيش، يفخر في المدرسة بين التلاميذ، يكتب اسمه الثلاثي فوق السبورة بالطباشير: أحمد محمد الدامهيري.
أبوه وجده وأبو جده تربوا جميعا في الأزهر في بيوت الله، أو داخل مدرسة الجيش والبوليس. تلمع النجوم الذهبية والنياشين فوق صدورهم وأكتافهم العريضة المحشوة بالقش أو القطن، تلتف العمامة الكبيرة حول رءوسهم الصغيرة، والحزام من القطيفة حول الجبة تحت القفطان. بين أصابعهم يقبضون على حبات السبحة، أو العصا لمن عصا لها رأس الثعبان، أو الهراوات أو البنادق والمسدسات، حسب موقع الواحد منهم في سلم الوظائف العليا بالدولة والدين.
استدار السائق محمود وأطبق شفتيه، يعرف مثل غيره من الحرس أن سعادة الباشا لن يغادر مقعده، قبل أن تنتهي زينة بنت زينات من العزف والغناء والرقص: أي والله الرقص، أبغض الفنون إلى الله والرسول، كما أفتى فضيلة الشيخ رئيس القسم الثقافي في المجموعة، الرقص يعني تحريك الجسد بما يثير الشهوات. يلي الرقص في البغض الغناء؛ لأن صوت المرأة مثل جسدها العاري، إحدى العورات الواجب إخفاؤها بالحجاب، بالحرب باليد أو باللسان، أو بالقلب وهذا أضعف الإيمان.
يتذكر السائق حديثا نبويا يقول: من رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان. - أيمكن أن يكون سعادة الباشا الأمير ضعيف الإيمان؟!
يزحف هذا السؤال داخل رأسه الثابت فوق عنقه، لا يملك الجرأة على تحريك رأسه ناحية اليمين أو اليسار؛ لأن رأس الأمير خلفه مباشرة.
يفضل السائق أن يجلس خلف سيده وليس أمامه، لكن رئيس الجناح العسكري هو الذي يحدد أين يجلس كل من الحراس. أكثرهم خبرة كان يجلس في الصفوف الخلفية خلف الأمير؛ لحماية ظهره إن انطلق الرصاص، وكان الرصاص ينطلق غالبا في الظهر، نادرا ما كانت تأتي الطعنات من الأمام. وإن أتت من الأمام؛ فإن رأس السائق محمود تصدها عن رأس الأمير دون شك.
يطرد السائق السؤال من رأسه، دون أن يحرك رأسه. قد يدرك الأمير ما يدور في عقل السائق الباطن؛ لأن الأمير على صلة دائمة بالله، والله يعلم ما في العقول وما في الصدور وما في البطون. لكن السؤال يلح ويسري في عروق السائق مع الدم، من قمة الرأس حتى بطن قدميه، يدرك عن يقين أن سيده الأمير قد وقع في شرك هذه الغانية، هذه الزانية بنت الزانية: إن كيدهن شديد، كما قال الله سبحانه وتعالى عن النسوة. هذه العاهرة لوثت سمعة الأمير الطاهرة، لا يوسخ الرجل الصالح المؤمن إلا المرأة. النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان، كما سمع من أبيه وجده، لو كان الأمر بيده لأخرج المسدس من جيبه وأطلق عليها الرصاص، لكن الأمر بيد الأمير، والأمير رجل مثلنا نحن الرجال في نهاية الأمر، إن هاج ذكره فقد ثلثي عقله.
كان رئيس القسم الثقافي في المجموعة غير راض عن سلوك الأمير، يحذره من حضور الاجتماعات العامة في مجال السياسة والدين. فما بال حضور الحفلات في المسرح والأوبرا؟!
لكن الأمير كان في مرتبة أعلى من مسئول الثقافة؛ فهو مسئول الجناح العسكري، تحت سيطرته قوة السلاح والمال، لا يملك مسئول الثقافة إلا كلمات في الهواء أو فوق الورق، ما عدا كلمة الله، دون الكلمات الأخرى. كانت كلمة الله تتبع الجناح العسكري وليس القسم الثقافي؛ لأن شعار الجمعية المصحف والسيف. يعلق كل رجل منهم مصحفا صغيرا من الذهب فوق صدره، وفي جيبه الخلفي فوق الألية اليمنى مسدس أسود اللون؛ حل المسدس محل السيف مع تطور السلاح العسكري على يد الكفرة. في يده اليسرى تتلاعب حبات السبحة الصفراء، فوف جبينه الزبيبة السوداء، واللحية الكثيفة مع الشنب الغزير الشعر تخفي وجهه كالنقاب الأسود، تطل منه المقلتان الصغيرتان السوداوان، تدوران داخل الفراغ، داخل الثقبين بغير قاع.
تحول شعار المجموعة من المصحف والسيف إلى شريعة الله والمسدس. يحتاج الدين دائما إلى قوة عسكرية تحميه، لم ينهض في التاريخ دين من الأديان دون القوة الحربية، تحتاج القوة العسكرية دائما إلى إله أو دين يحميها. يتمشى الأمير بين جنوده منفوشا كالديك الرومي، يقول عنهم: جند الله، وهو مندوب الله، اختاره الله لهذه المهمة المقدسة؛ أن يرفع كلمة الله فوق كلمة البشر، أن ينقذ أحكام الله وشريعته باللطف، أو بالعنف إن لزم الأمر.
ورث أحمد الدامهيري إيمانه بالله عن أبيه فضيلة الشيخ، وورث عن عمه اللواء العسكري الإيمان بالسلاح والبوليس، وورث عنهما أيضا القامة القصيرة والخوف من الفئران والصراصير، والضعف أمام الشهوات والنزوات، والجواري والإماء ومن ملكت اليمين.
امتلك الأمير بيمينه ما يشاء من النساء العفيفات المحصنات والغواني العاهرات، العذراء البكر الغريرة، والثيب فاقدة العذرية الخبيرة بالرجال وألاعيب الجنس، الأرملة والمطلقة بينونة صغرى أو كبرى، الناضجة نضج الثمرة الساقطة من الشجرة، والمراهقة والطفلة التي لم تبلغ الحيض. وإن أعجبته امرأة متزوجة تخلى عنها زوجها طواعية لوجه الله لتهب نفسها للأمير؛ فالله قد أحل للأمير ما يشتهي من النسوة. الأمير يرتفع عن الرجال درجة، كما يرتفع الرجال عن النساء درجة. خلق الله البشر درجات، أعلاهم درجة النبي أو الرسول، يليه الأمير، يحق للأمير أن يملك من النساء ما يشاء.
تهب بدور الدامهيري من نومها مذعورة، ترى ابن عمها أحمد الدامهيري جالسا في مقعده، متسمرا في المقعد الخشبي شاخصا إلى الأمام، محملقا في دائرة الضوء المتحركة فوق خشبة المسرح. تعرفه منذ الطفولة، إن أراد أن يملك دمية من لعبها يملكها، إن لم يملكها يسرقها، إن لم يسرقها يحطمها. ذات يوم أعجبته عروس من عرائسها الصغيرة، عيناها كبيرتان لونهما أزرق، خرزتان زرقاوان لامعتان في وجهها الأبيض المستدير، اشتغلت لها أمها ثوبا رقيقا من الدانتلا، وقميصا داخليا من الحرير، وسروالا ورديا شفافا يشف بطنها الأبيض الناعم، تسميه أمها الكيلوت. أدخلت أمها قدمي العروسة الصغيرتين في حذاء من القطيفة الخضراء، كانت بدور تخفي عروستها في دولابها تحت الملابس، تخبئها بعيدا عن عيون الأطفال خاصة عيني أحمد الدامهيري. كان طفلا مثلها في الثامنة من العمر، يلعب معها تحت السرير لعبة العريس والعروسة، يرقبها حين تخفي عروستها داخل الدولاب، وحين تخرجها خلسة من تحت الملابس، تدير الزنبرك في جنبها الأيسر ثلاث دورات، تنبعث الموسيقى الراقصة من بطنها، تبدأ الدمية في تحريك ذراعيها وساقيها على الإيقاع، ترقص وتغني: اتمختري يا حلوة يا زينة يا عروسة يا زاينة الزفة ...
تتبختر العروسة ويهتز جسدها مع اللحن، تتشقلب في الهواء، تفتح ذراعيها وساقيها في قفزات متتالية مع ارتعاشة الزنبرك في جنبها.
في إحدى هذه القفزات وهي فاتحة ساقيها في الهواء لمح الطفل أحمد الدامهيري الكيلوت الوردي الشفاف، اخترقت عيناه القماش الخفيف في استطلاع. لم تصل عيناه إلى شيء إلا بطن العروسة البيضاء الناعمة، هبطت عيناه إلى العانة الصغيرة؛ لونها أبيض وردي بلون البطن، ثم هبطت عيناه أسفل العانة، إلى الشق بين الفخذين. لم يكن هناك شيء، ولا فتحة ولا أي شيء، اصطدمت عيناه بجسد العروسة المسدود، ليس فيه الشق الذي يراه في جسد بدور أو أجساد البنات من عائلة أمه وأبيه.
ما إن خرجت بدور من غرفتها، حتى انقض الطفل أحمد الدامهيري على عروستها، شدها بأصابعه القصيرة البضة التي تشبه أصابع بدور وبنات العائلتين، وأخذها معه تحت السرير. خلع عنها الثوب الرقيق من الدانتيلا، تمزق الكيلوت الوردي الشفاف بين يديه وهو يشده أسفل ساقيها، بحثت عيناه وأصابعه عن الشق بين الفخذين دون جدوى، كانت العروسة مسدودة في وجهه، مسدودة تماما لا يستطيع النفاذ إليها، كالطريق المغلق أمامه لا يقوى على اختراقه.
بلغ به الغضب مداه؛ تصور أن العروسة تعانده، تتحداه بفخذيها المسدودتين. ألقى بها فوق الأرض من شدة الغضب، خلع عنها ذراعيها وساقيها والزنبرك في جنبها، جمع أشلاءها داخل ورقة من ورق الجرائد، دفنها في حفرة بالحديقة الخلفية دون أن تراه بدور، أو غيرها من الأطفال البنات أو الأولاد.
في القاعة الكبيرة كانت بدور تجلس في الصفوف الأولى مع كبار الأدباء والنقاد، من طبقة المثقفين والمثقفات. إلى جوارها تجلس صافي صديقة عمرها ثم مجيدة ابنتها وزوجها، وأصحاب الأعمدة في الجرائد، وأصحاب المقالات في المجلات ونجوم الشاشة والإعلام، وقيادات الأحزاب والجماعات والجمعيات. كان القانون بعد الهزيمة الكبرى والانفتاح على أمريكا، قد أباح تكوين الجماعات الدينية؛ لضرب أعداء الرأسمالية والسوق الحرة تحت اسم حرية التجارة وحرية العقيدة والديموقراطية. وانتشرت المساجد والكنائس لنشر كلمة الله في المدن والقرى، في الأزقة والحواري. في سفح جبل المقطم حيث المقابر، تحولت المقابر إلى بيوت الله يسكنها الفقراء المهاجرون من الريف، يتنافس الأحياء والأموات على المقبرة، ينهزم الموتى في المعركة، ليس للموتى حزب سياسي يدافع عن حقوقهم، ولا جماعة دينية تتحدث باسمهم ، ليس لهم أعضاء في مجلس الشعب أو الشورى.
ينكمش الموتى تحت الأرض خزيا من ضعفهم. تصعد فوق أجسادهم جدران من الإسمنت، ومنارات جوامع تثبت فوقها مكبرات الصوت، الميكروفونات تنطلق منها أصوات تشبه الانفجارات قبل شروق الشمس وبعد غروبها، طوال النهار والليل. - الله أكبر، الله أكبر، الصلاة خير من النوم، حي على الفلاح، حي على الصلاة، لا إله الا الله محمد رسول الله، يا عباد الله لا تيأسوا من رحمة الله، اصبروا على الشقاء والضراء، لا تتطلعوا إلى متاع الدنيا والشهوات، الحياة الدنيا زائلة فانية، الآخرة هي الأبقى، جنة الخلد تنتظركم، ووجه ربكم الكريم.
بعد انتهاء العرض ارتفعت الأيادي بالتصفيق، الصفوف الأمامية والخلفية، المؤمنون بالله وغير المؤمنين، العاشقون للموسيقى والشعر والغناء والرقص وغير العاشقين. كانت جماعة الأمير من هذه القلة الأخيرة، يرون أن صوت الموسيقى يطرد الله من قلوب المؤمنين. كانت الفتوى قد أصدرها الأمير بتحريم هذه الفنون الضالة التي هي من وحي الشيطان. مع ذلك ارتفعت أيديهم بالتصفيق، كانت عيونهم تلحظ حركة الأمير وهو جالس في مقعده، إن ارتفعت يداه بالتصفيق ارتفعت أيديهم، إن تململ في مقعده وانتقل مركز ثقله عن ألية إلى ألية فعلوا مثله، إن تنهد بصوت غير مسموع تنهدوا، إن زمجر بصوت خافت زمجروا، إن امتدت يده نحو المسدس في جيبه امتدت أياديهم إلى جيوبهم، حتى سائقه محمود الجالس أمامه؛ كان يلحظه بجانب عينه اليسرى، أذنه اليسرى مشرئبة مرهفة تلتقط أنفاس الأمير، إن أسرعت أنفاسه وإن أبطأت، مع دقات قلبه تحت ضلوعه، وحركة الدم في عروقه من قمة الرأس إلى بطن القدمين.
كان السائق الخاص أقرب الأعوان إلى الأمير، وهو أكثرهم معرفة بأسرار الأمير وحياته الخاصة، فهو الذي يقوده بالسيارة إلى حيث يريد بالنهار أو الليل. يأخذه إلى الجامع يوم الجمعة لأداء الصلاة الجماعية، يوم السبت يأخذه إلى مقر الجماعة لحضور المجلس التنفيذي، يوم الأحد يحمله بالسيارة إلى النادي ليلعب الجولف مع أفراد العائلتين الكريمين، أو يرافق أفراد أسرته في رحلة إلى الهرم أو الفيوم أو شاطئ البحر البعيد غرب الإسكندرية، بعيدا عن البحر الملوث بمجاري المدينة، هناك في الفيلا الأنيقة على الساحل الشمالي، مارينا، أو مارابيا، أو بدر، والهدى والمدينة المنورة، على الطريق الصحراوي ما بين الإسكندرية ومرسي مطروح. كان الأمير يتجرد من ملابسه ليسبح في المياه الزرقاء بلون السماء تحت أشعة الشمس الذهبية. ترمقه زوجته الجالسة تحت خيمتها السوداء بعينين سوداوين مملوءتين بالحسد. يفتح زوجها الأمير ذراعيه وساقيه لمياه البحر المنعشة، يبلبط ويتمرغ في أشعة الشمس ويتراقص تحت الماء، وزوجته جالسة في مقعدها يتصبب جسدها عرقا، يخرج من أنفها وفمها وعينيها لعاب أو دخان سائل يشبه الدموع. على مسافة غير بعيدة من وراء السور، على الشاطئ المخصص للخدم والطباخين والسائقين والجناينية، ومعسكر الشباب المؤمن الصيفي من الخيام، كان السائق محمود يتمشى فوق الرمال مرتديا مايوه متعدد الألوان، أحمر وأخضر وأزرق وأصفر وبنفسجيا. المايوه الإسلامي الذي لا يكشف عن فخذي الرجل، يهبط المايوه الذكوري ليغطي الركبتين، لكن العضو الذكري المبجل سعادة القضيب يبرز منتصبا تحت قماش المايوه الملون المطاط، لا يعيب الرجل أن يكون له قضيب متمرد لا يعرف التقوى أو خشية الله، لا يعيب الذكور أن يسبحوا في البحر بالمايوه، أما النساء فإن وجوههن عورة فما بال والفخذين أو الساقين أو حتى الذراعين. أفتي الأمير أن صوت المرأة عورة أما جسدها؛ فكل جزء فيه عورة حتى الرأس مركز العقل والتفكير.
كان الشوفير محمود يدلك شعر صدره الأسود بيديه تحت أشعة الشمس، ثم يلقي بنفسه في مياه البحر، يفتح ذراعيه وساقيه للهواء والماء كما يفعل سيده الأمير يبلبط ويتمرغ ويتراقص تحت الماء. يحمد الله لأنه خلقه ذكرا وليس أنثي مثل زوجة الأمير وغيرها من النسوة المتصببات عرقا تحت الشماسي. خلقه الله سائقا فقيرا وليس أميرا ثريا مثل سيده الأمير، لكن الله خلقه ذكرا وليس أنثي والحمد لله. يقول لنفسه أو يخاطب الله، وهو يرمق الزوجة الجالسة تحت الخيمة السوداء تنفث الدخان من عينيها وأذنيها. - أشكرك يا رب على النعمة، الفقر ليس عيبا يا رب؛ فأنت صاحب الأرزاق، تخلق الغني وتخلق الفقير، تخلق الصالح وتخلق الفاسد، لكن النسوة أسوأ المخلوقات. النسوة حليفات الشيطان كما سمع من أبيه وجده، النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان. يعرف السائق عن حياة الأمير أكثر مما تعرف زوجته، يضاعف له الأمير المكافأة ليكتم الأسرار. يعرف السائق عناوين بيوت البغاء والغواني، وأين تسكن عشيقات الأمير من الإماء والجواري ومن ملكت اليمين، يحفظ عناوينهن وأرقام التلفونات في نوتة صغيرة، يكتب أسماءهن بخط متعرج يشبه خطوط الأطفال في المدرسة الأولية. لم يدخل السائق مدرسة في حياته، علمه الأمير شيئا من القراءة والكتابة، دربه على قيادة السيارة وقراءة أرقام العداد بالحروف الأجنبية، دربه على قراءة القرآن وحمل السلاح وإصابة الهدف في معسكر التدريب، وتدوين أرقام النسوة في النوتة، وجدول الضرب والطرح والجمع، لعمل حسابات المصاريف والبنزين والمكافآت والهدايا السرية. كان السائق محمود أقرب شخص إلى الأمير، أقرب إليه من زوجته، يمكنه الاستغناء عن الزوجة أو استبدالها بزوجة أخرى، لكن السائق لم يكن له بديل. كان كاتم الأسرار، الحارس الخاص الأمين، يلازمه ليل نهار، يكاد يدخل معه إلى المرحاض لولا الحرج، يقف أمام الباب المغلق منتصبا منتبها حتى يقضي الأمير حاجته. كان الأمير يبول مثل بقية خلق الله، يسمع الشوفير صوت خرطوم بول الأمير يضرب سلطانية المرحاض من السيراميك الفاخر المستورد من أوروبا، من بلاد الكفرة الأجانب. يطرد السائق محمود هذه الأفكار التي يهمس بها إبليس في أذنه، لكنه يبتهج حين يسمع صوت بول الأمير، يشبه صوت بوله هو السائق الفقير، يتساوى الأمير مع البشر حين يبول، إنه الله لا يفرق بين العبد الفقير والأمير، سبحانه في السماوات العليا، الإله العادل.
بعد انتهاء العرض دس الأمير في يد سائقه ورقة صغيرة مطوية، يحفظ السائق المهمة عن ظهر قلب، يلتقط الإشارة بطرف عين، ينهض من مقعده ويسير نحو خشبة المسرح، يشق طريقه نحو زينة بنت زينات، من حولها يتجمع المعجبون والمعجبات رجالا ونساء وشبابا، يصافحونها يدا بيد، توقع باسمها على ديوان شعرها الجديد، أو إحدى أغانيها الأخيرة، أو الموسيقى التي تؤلفها للأغاني. يتجمع من حولها أطفال الشوارع أولادا وبنات، تمنحهم فرقة مريم حق الدخول إلى المسرح دون تذاكر. يحمل كل منهم كارنيها صغيرا، يحمل صورته واسمه، ليس في الكارنيه خانة لاسم الأب المجهول. يمكن الطفل أو الطفلة أن تكتب اسم الأم، يحظى اسم الأم بالشرف الكامل في فرقة مريم مثل اسم الأب. ليس في الكارنيه خانة للديانة، لا تفرق فرقه مريم بين دين ودين، كان رجال البوليس يطاردون الأطفال في الشوارع ينزعون منهم الكارنيهات، يلقون بها في مياه المجاري. يأخذون الأطفال داخل العربات المصفحة إلى السجن أو التخشيبة، يتلقون الضربات والصفعات والركلات بكعب الحذاء، يملئون آذانهم الصغيرة المرهفة بأبشع أنواع السباب، من أول: يا أولاد الزنى إلى أولاد القحبة والشرموطة. يرقد الأطفال على الأرض في غرفة واحدة مع كبار القتلة وتجار المخدرات والقوادين والحشاشين. يعتدي الذكور الكبار على الأطفال، يتم الاغتصاب في الليل داخل الصمت. تذوب صرخات الطفلة أو الطفل في الشخير الذكوري الغليظ، من الأنوف المسدودة والأفواه المفتوحة، والعيون المغلقة إلا عين الله الساهرة التي لا تنام، مفتوحة كالفنجان، تري وتشهد ما يحدث للأطفال، دون أن تتدخل في ما لا يعنيها. يخرج الأطفال من السجون إلى الشوارع، لا ينظرون إلى مائدة الله في السماء، ينظرون إلى الأرض، ينبشون صفائح القمامة مع القطط الشاردة والكلاب، تضمهم زينة بنت زينات إلى حضنها، تسجل أسماءهم في فرقة مريم، يدب الأطفال بأقدامهم الصغيرة الحافية على الإيقاع، تسري الموسيقى في أجسادهم دافئة كالدم في عروقهم، كاللبن في ثدي الأم. تهتز أرواحهم مع أجسامهم باللحن، يغنون ويرقصون ويقفزون فرحا في الهواء، تنطح رءوسهم قبة السماء، يهبطون إلى الأرض ثم يحلقون في الفضاء، يصعدون ويهبطون ويصعدون ويهبطون، يدورون حول زينة بنت زينات وهي ترقص وتغني، يدورون ويدورون دون توقف، كما تدور الأرض حول الشمس.
مد السائق محمود ذراعه الطويلة نحو زينة. كانت الورقة مطوية في يده، سلم إليها الورقة واختفى بين الصفوف، وضعت زينة بنت زينات الورقة في جيبها دون أن تفتحها، كانت منهمكة بالحديث مع الناس المحيطين بها، كانت تضحك وتلقي برأسها إلى الوراء، ترن ضحكتها بصوت يشبه الموسيقى، تضحك بكل قوتها على الضحك، مثلما تغني بكل قوتها على الغناء، مثلما تعزف بكل قوتها على العزف، مثلما تنشد الشعر بكل قوتها على إنشاد الشعر، تفعل كل شيء بكل كيانها، بكل ما فيها من جسد وروح وعقل. يرن صوتها في الكون لا يشبه أي صوت، لم يسمع أحد ضحكة مثل ضحكتها، ضحكة امرأة امتلكت نفسها، لم تعد مملوكة لأحد، امرأة أفلتت من قبضة القضاء والقدر، من قبضة السماء والأرض، من قبضة الزمان والمكان. ترن ضحكتها غريبة غير مألوفة، مثل حلم السعادة غير المفهومة، مثل حلم الحب المستحيل، مثل لغز الحياة الحية الآثمة الشريفة.
يرتج جسد أحمد الدامهيري في مقعده حين يسمعها تضحك، تنتشله ضحكتها من حزن دفين في جسده منذ الطفولة، من ألم عميق يسكن روحه منذ كان في المدرسة الابتدائية، منذ كان التلاميذ يضربونه على قفاه في المراحيض، يكتبون اسمه فوق الجدران بالطباشير. «أحمد الدامهيري أبو زمارة.»
صوتها وهي تضحك يسري في أذنيه دافئا مثل لبن أمه، يرفع روحه وجسده إلى السماء، يمسك قطعة من الشمس في يديه، ينسى الألم والحزن، يكاد يضحك معها بصوت عال. كان قد نسى الضحك، حتى سمعها تضحك، انتقلت إليه عدوى السعادة، سمع نفسه يضحك كأنما لأول مرة في حياته، إلا أن صوته لم يطلع.
في لحظة من لحظات اليأس الأسود كتب إليها رسالة أخرى، كم رسالة كتب؟ كم مرة تقدم نحوها السائق محمود مادا ذراعه الطويلة بالورقة المطوية؟ عشرين مرة، ثلاثين مرة، خمسين، مائة، ألفا؟
لم تكن زينة بنت زينات تفتح هذه الرسائل، إن فتحتها تقرأها بنظرة واحدة، من السطر الأول حتى الأخير، ثم تلقي بالرسالة في سلة المهملات. هي تعرف هذا النوع من الرجال، يظن الواحد منهم أنه قادر على امتلاكها، أنها واحدة من الغواني أو الإماء والجواري، ما إن يشير إليها حتى تأتي إليه، رجال يملكون كل شيء في الدنيا والآخرة، وهي لا تريد أن تملك شيئا إلا صوتها إلا أغانيها وألحانها، تريد أن تعزف وتغني وترقص حتى تموت واقفة على خشبة المسرح.
لم تكن زينة بنت زينات ذات جمال باهر، لا ليس الجمال ما جذب العيون إليها، بل شيء آخر غير الجمال، غير معروف، شيء يشع من حولها على شكل موجات من الضوء. لا، ليس الضوء، بل موجات من الوجود، كان لها وجود يتميز عن أي وجود، ذلك الوجود الذي يشغل المكان والزمان فلا نحس وجودا آخر.
يرى أحمد الدامهيري وجودها في عيون الآخرين، تنعكس صورتها في عيونهم فلا يرون غيرها. يكتسب المكان بحضورها نوعا من الوجود الحي، يتحول المكان إلى كائن حي. تسري في المكان موجات حية أو حيوية ما، تشبه الكهرباء أو المغناطيس، جاذبية ما تسري من عينيها وصوتها إلى كل ما حولها فتعم المكان، خشبة المسرح لا تعود خشبة، بل حياة في حد ذاتها، في تلامسها بقدميها وهما تدبان فوق الخشبة مع الإيقاع.
لم تكن زينة بنت زينات ترتدي ملابس الحفلات، لا ثوبا يلمع ولا جواهر تشع، بل ثوبا أبيض من القطن المصري الناعم. حذاؤها من الجلد الخفيف ليس له كعب، لا ينم مظهرها عن شيء غير عادي، مظهر عادي تماما وخارق للعادة بسبب عاديته البسيطة؛ بساطة الشمس حين تطلع وحين تغيب، لا تكف عيناه عن التطلع إليها، الحملقة فيها. يريد أن يعرف سرها، أن يهتك لغزها، يفكك أوصالها ومفاصلها كما فعل مع الدمية العروسة وهو طفل.
تبدو النساء من حولها كالعرائس، كالدمى، مصنوعة من الشمع أو الصلصال، مدهونة بالجير الأبيض والأحمر والأخضر وكل الألوان، مرصعة بالخواتم والأساور والعقود والسلاسل الذهبية. تتشابه النساء في الحركة والشكل والصوت مثل العرائس المتحركة، خيوطهن في أيدي غيرهن، تمسكهن من العنق، أو الذراع أو الساق وتحركهن في أي اتجاه.
في هدوء الليل وهو غارق في النوم يبتلع أحمد الدامهيري شهوته السوداء، الباردة كالثلج الأبيض. يتخيل زينة معه في الفراش عارية مستسلمة تحت جسده، متأوهة باللذة والألم، ثم تبكي تحت زمارته كغيرها من النسوة.
لا تستبد به الرغبة الآثمة فيها إلا حين يسجد بين يدي الله بعد أن يتناول طعام العشاء، ويدخن شيئا مما يذهب الحزن والاكتئاب، أو يبتلع حبة من حبوب السعادة، التي كتبها له الطبيب النفسي. بينما هو ساجد فوق سجادة الصلاة، تزحف إليه الرغبة الآثمة مثل ثعبان، مثل الحية التي أغوت آدم وحواء. تزحف على بطنها لتلامس بطنه الممتلئ بالطعام، بالدم الهارب من رأسه بعد الأكل، الدم الهابط عبر العنق والصدر إلى أسفل البطن، يزحف الدم ساخنا تحت شعر العانة الأسود، الذي كان غزيرا في الشباب، كان يحلقه بالموسى، ثم أصبح يتساقط مع الزمن. ينتفخ العضو الصغير تحت الشعر، ينتصب برأسه المدبب يتشمم الأنثى، تفرغ خلايا عقله من الدم، يصبح رأسه خاويا باردا، وجسده ساخنا ملتهبا بالإثم، يلصق جبينه بالأرض، يدعو الله أن يبعد عنه الشيطان والغواية، يسمع في أعماقه صوتا يشبه فحيح إبليس. - اذهب إليها يا رجل، إنها امرأة مثل غيرها من النسوان، ناقصة عقل ودين، ضعيفة أمام شهوتها. إن أثارها رجل تبددت قواها. أباح الله لك من النساء ما تشاء، فأنت الأمير، مندوب الله فوق الأرض، اذهب إليها الليلة، أفرغ في جسدها غدة الشيطان، لتتفرغ أنت في الغد لأعمالك الجليلة. سوف تفتتح غدا المؤتمر الدولي للحوار بين الأديان، سوف تلقي خطبة ضد الكفرة الذين لا يؤمنون بالله والكتب السماوية الثلاثة، القرآن والإنجيل والتوراة، أرسلها الله هدى ونورا للعالمين. اذهب يا رجل إليها، لا تتردد، لا تخف، فالله معك في كل خطوة، الله ينصرك يا أمير، ولا ناصر إلا الله. الله هو الحب والجمال، الله جميل يحب الجمال، الموسيقى الجميلة، الصوت الجميل نعمة من نعم الله، لماذا تحرم الموسيقى والرقص والغناء يا رجل؟ لماذا تنساق وراء ذلك الشيخ الأعمى الذي لا يرى الجمال لأنه أعمى، الذي يقول: إن التماثيل حرام، وإن الذي يسمع الموسيقى قبل النوم لن يشم رائحة الجنة، وإن صوت المرأة الجميل يصرف ذهن الرجل عن عبادة الله. إن وجهها الجميل إن لم يختف وراء الحجاب يطرد الله من قلب الرجل المؤمن. المشكلة إذن في قلب الرجل المؤمن وليس في وجه المرأة، المشكلة إذن في عقل الرجل المؤمن وليس في صوت المرأة. ارفع رأسك يا رجل من فوق الأرض واذهب إليها، إنها امرأة مؤمنة مسلمة، ليست مثل تلك المرأة القبطية اللعوب التي أغرت شابا من المسلمين فترك الله والرسول من أجلها. هذه المرأة اللعوب التي فجرت الفتنة بين المسلمين والأقباط في الإسكندرية، هؤلاء النسوة سبب خراب البلد، سبب الفقر والحرائق والفتن الطائفية، إن كيدهن عظيم كما قال الله في كتابه الكريم. يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين، إن كيد الله أكبر من كيدهن يا رجل. سوف يحميك الله من كيد أي امرأة، الله ينصرك على أعدائك، يسدد خطاك. لا تيأس من رحمة الله، تشجع يا رجل واذهب إليها، خذ معك حارسك الخاص، ومسدسك في جيبك، لا تخرج من البيت دون حارس ومسدس، فالله يقول اسع يا عبد وأنا أسعى معك، واحرس نفسك يا عبد وأنا أحرسك، والله لا يغير شيئا في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
همس في أذنه الشيطان: وما فائدة الله إن لم يفعل شيئا إلا بعد أن تفعله، يا أحمد يا دامهيري؟
طرد أحمد الدامهيري الشيطان القابع عن يساره. كان الشيطان يقبع إلى جوار أذنه اليسرى وهو ساجد بين يدي الله، يحاوره ويراوغه دون منطق ولا عقل. إن كان الله يحرسه فما جدوى المسدس والحرس؟ إذا كان القرآن والإنجيل والتوراة من عند الله فلماذا تقع هذه المذابح بين النصارى واليهود والمسلمين؟ وإن وإن ...
يشوح أحمد الدامهيري بيده في وجه الشيطان، يرفع جسده عن سجادة الصلاة، يدخل إلى دورة المياه، ينظر إلى وجهه في المرآة فوق الحوض. كلما أمعن النظر إلى وجهه تناقصت ثقته بنفسه، لا يحب هذا الوجه خاصة الأنف والذقن، الشفتان المنفرجتان في بلاهة، أيمكن أن يقبلها بهاتين الشفتين؟! أسنانه كبيرة صفراء، تفوح من فمه رائحة الفسيخ والبسطرمة بالثوم. يدعك أسنانه بالمعجون الجديد، له نكهة النعناع، يتمضمض ويغرغر حلقه بالسائل الأزرق القاتل لجراثيم الفم، يغسل جسده تحت ماء الدش الدافئ، يدلك صدره الأملس دون شعر. تهبط يده إلى بطنه يدلك عضلاته، تهبط أكثر إلى الفأر الصغير المنكمش بين فخذيه.
تلمحه زوجته وهي تمر أمام الحمام. كان يترك الباب مفتوحا، لا يغلق الباب عليه وإن جلس فوق المرحاض، يمشي أمامها عاريا، يتجشأ أمامها بصوت عال، يلعب بإصبعه في أنفه، يهرش ما بين فخذيه. كان الحياء يتناقص مع تزايد السنين داخل بيت الزوجية، حتى راح الحياء في العدم ومعه الشهوة. لم تعد تهتز في جسده شعرة إن لامس زوجته، إن تعرت أمامه كما ولدتها أمها، أصبح ثديها كبيرا متهدلا فوق بطنها يشبه ثدي أمه.
سرت رائحة الكولونيا الفاخرة إلى أنف زوجته من خلال باب الحمام المفتوح، أدركت أنه في طريقه إلى سهرة حمراء مع امرأة جديدة، وليس إلى اجتماع المجلس التنفيذي في مقر الجماعة. كان يشفق على زوجته من قول الحقيقة، يؤمن بالآية الكريمة أو المبدأ العظيم: أظهروا محاسنكم والله أعلم بالسرائر، والله أدري بالنيات.
كانت بدور الدامهيري تتقلب في فراشها مؤرقة، تطاردها في الحلم أشباح الرواية، خاصة بدرية بطلة القصة، وهي امرأة عنيدة قوية الشكيمة. لا إله لها ولا رئيس ولا زوج، أقسمت ألا تقرب رجلا بعد حبها الأول، نعيم، قتلوه في السجن بعد المظاهرة الكبيرة، قبل طلوع الفجر بعد أن أودع فيها بذرة الحياة. لم تكن بدرية امرأة من لحم ودم، كانت خيالا يمشي فوق الجدار، يخترق الجدار والباب المغلق والنافذة الموصدة، كانت روحا تحلق عاليا في السماء وتهبط إلى بطن الأرض حين تشاء. تكشف الحجب، تنفذ من السطح إلى ما يغوص في القلوب والصدور والأحشاء، عينها مفتوحة لا تنام، تقرأ الغيب مثل عين الله.
أدركت بدرية أن أحمد الدامهيري في طريقه إلى زينة بنت زينات، ينوي اغتصابها بأي شكل، أو قتلها إن قاومت وعاندت وتكبرت. كانت بدرية تعرف سجل حياته منذ الطفولة، وكيف تسرب الإيمان إليه بعد الشك، كيف يتأرجح بين الشك واليقين، بين اليسار واليمين، بين الله والشيطان، كيف كان ماركسيا ملحدا ثم أصبح إسلاميا ممسوسا بالإيمان، كيف أصبح عضوا في حزب الجماعة الدينية السرية كما كان عضوا في الخلية الشيوعية تحت الأرض، كيف نمت الزبيبة فوق جبينه والسبحة بين أصابعه، كم من الأموال اختلسها، كم من النساء اغتصبهن، كم من الأرواح أزهقها وقتلها. كانت بدرية تعرف أنه يحتمي بالله والرسول، يلوح بالمصحف والسلاح في وجه من يخالفه، تسمعه يبكي ويئن فوق أريكة الطبيب النفسي، تسري إليها خفقات قلبه المتصاعدة تحت ضلوعه حين تقع عيناه على زينة بنت زينات.
تهمس بدرية في أذن بدور النائمة: أحمد، ابن عمك سيقتل ابنتك زينة. انتبهي يا بدور، انهضي من الفراش، اقتليه قبل أن يقتلها.
تتقلب بدور في السرير العريض مؤرقة، ترى زوجها إلى جوارها يغط في النوم، صوت شخيره متواصل منتظم، يشبه صوت الزمن يحرك عقارب الساعة، يشبه عين الله تدور مع دوران الأرض، وعين إبليس الساهرة. وجهه شاحب مثل أصحاب الأعمدة في الجريدة، رمادي بلون الدخان الخارج من فتحتي أنفه، ينفخ السيجار شامخا برأسه إلى السماء، يعاتب الله الذي حرمه من الموهبة. الله جعل موهبته أقل من مواهب الآخرين خاصة محمود الفقي، زوجته تقرأ عمود محمود الفقي قبل أن تقرأ عموده. تقول عنه كاتب موهوب، ترمقه بطرف عينها وهي تتمشى في النادي، جسمه طويل ممشوق، يمسك المضرب بأصابع قوية صلبة، مثل كلماته في عموده، مثل عضلات قضيبه، يضرب الكرة بقوة أربعين حصانا، لتطير في السماء ثم تسقط بعيدا جدا لا تكاد العين تراها، تصفق له زوجته بدور وتقول له: برافو يا محمود، برافو يا محمود.
تناديه باسمه محمود دون حرج، يناديها بدور دون لقب، يقرأ عليها عموده قبل أن ينشره، تقرأ عليه بعض صفحات روايتها السرية، تخفيها عن زوجها كأنما وصيتها السرية بعد الموت. مات أبوه بسرطان الخصية المتسرب من رأس القضيب. في المأتم جلس إلى جوار أمه يستمع إلى ترتيل القرآن، كان في الثامنة من عمره، أمه ترتدي ثوب الحداد الأسود على أبيه، تنشج ببكاء مكتوم، ارتبط الموت في طفولته بقراءة القرآن وكثرة الزوار والصحون الكثيرة المليئة بالطعام. يتشمم رائحة البخار المتصاعد من اللحم المشوي، تسري في أذنيه التلاوة بصوت ناعم منغم مع رائحة الشواء الشهي، تصحو شهوته للأكل مثلما تصحو أيام الصيام في رمضان، حين ينتظر مدفع الإفطار ليلتهم الطعام، يشعر بالإثم إن اختلس رشفة ماء قبل انطلاق المدفع، أو خرجت من أمعائه ريح وهو يركع بين يدي الله.
كانت وصية أبيه فضيحة، فجيعة أكثر من موته. كانت له زوجة أخرى في الخفاء، أنجبت منه ولدين اثنين، شاركه الولدان في ميراث أبيه، وشاركت أمهما أمه في البيت والعقار. خلعت أمه الحداد والخمار، ارتدت ثوبا ملونا، وضعت في شعرها وردة حمراء، أطلقت زغردة ممدودة في الأفق فرحا بموت أبيه. كان يحب أباه وهو طفل، يتناقص حبه لأبيه كلما كبر وعرفه أكثر، لم تظهر حقيقة أبيه إلا بعد أن مات وأصبح مثل أمه يكره أباه، يفرح بموته. مع ذلك أصبح نسخة طبق الأصل عنه في الشكل والجوهر، في السلوك العلني والسري، في النشاط الحزبي والجنسي.
كان زكريا الخرتيتي يغط في النوم حين تسللت بدور من جواره، سارت على أطراف أصابعها إلى غرفة مكتبها. أحداث الرواية تدور في رأسها، تسري في جسدها رعشة، تشبه حمى الملاريا، تتقلص عضلات وجهها مثل مريض نفسي يتلقى جلسة كهربية، أو محكوم عليه بالإعدام داخل الكرسي الكهربائي. يتجمد القلم في يدها، لا يتحرك قلمها فوق الورق، عقلها واقف، منذ تزوجت زكريا الخرتيتي توقف عقلها عن العمل. تزوجت رجلا لا تحبه، كانت تحب رجلا آخر مقتولا، غير موجود إلا في الخيال أو الحلم، الحب لا يكون إلا في الخيال، يأتي الحب على شكل أجزاء في الحلم، أو صفحات في رواية من هذه الصفحات المتفرقة، من هذه الأجزاء المبعثرة يصنع خيالها رجلا آخر، يملأ الفراغات بين الأجزاء حروفا فوق السطح أو بين السطور أو تحت السطور، يتشكل الحب الذي تريده فوق الورق، ترتسم ملامح الرجل بالحبر، ملامح مجهولة لا تعرفها، كلما قلت معرفتها بالرجل زاد حبها له.
كان زوجها زكريا الخرتيتي يطبع على وجهها قبلة، تحية الصباح كل يوم. يتناولان الفطور إلى مائدة واحدة كل يوم وكذلك الغداء والعشاء، يقول لها بأدب الطبقة العليا الخالي من الأدب: من فضلك ناوليني الخبز.
تمد له يدها بصحن الخبز المحمص في الفرن، يبتسم لها ويقول: شكرا.
تبادله الابتسام، وتقول له بأدب الزوجات من العائلات الكريمة: لا شكر على واجب.
يرمقها بنظرة مؤدبة ناعمة تشبه الحب، تبادله النظرة بنظرة مشابهة وحركة رأس مشابهة، تشبه رءوس العرائس، المشدودة بخيوط غير مرئية من أعلى المسرح.
تثقل رأسها بالنوم وهي جالسة ممسكة بالقلم، يغلبها النوم وهي تكتب الرواية. تحب النوم أكثر من الكتابة، في أعماقها تكره الكتابة كما تكره زوجها، لا تستطيع أن تبوح بالسر لأحد. حصلت على جائزة الدولة في الكتابة، أصبحت تحمل لقب الكاتبة الكبيرة مثل زوجها الكاتب الكبير، وابنتها مجيدة الخرتيتي الكاتبة الكبيرة، حصلت على جائزة الأم المثالية في عيد الأم، والزوجة المثالية في عيد الزواج، ورفيقة السيدة الأولى في العيد العالمي للنساء. يسقط رأسها ثقيلا فوق المكتب، يحدث صوتا مسموعا مثل قطعة حجر تسقط، جسدها يرتعش في اهتزازات متتالية، تمد يدها إلى الزر في الحائط تقطع تيار الكهرباء، تهمس بصوت متحشرج متقطع الأنفاس: أرجوك يا دكتور، كفاية، مش عاوزة جلسات كهربة، عقلي صاح من الكهربة يا دكتور. ذاكرتي ضاعت مش فاكرة حاجة خالص في حياتي. - هو ده المطلوب يا بدور، لازم تنسي، النسيان هو هدف العلاج. - النسيان خطير يا دكتور، الرواية طارت من دماغي، مش فاكرة حاجة منها خالص، لا يمكن أكتب الرواية إذا ضاعت الذاكرة. - صحتك يا بدور أهم من الرواية، في ستين داهية الرواية يا بدور. - الرواية أهم من حياتي يا دكتور، في ستين داهية حياتي. - في ستين داهية كل حاجة إلا صحتك يا بدور.
يأتيها صوت الطبيب وهي غارقة في النوم، أو مستغرقة في الكتابة. تدرك أنه الألم، ليس إلا الألم ما يدفعها إلى الكتابة، وهو الألم ذاته الذي يمنعها من الكتابة.
تشد جفونها، تفتح عينيها، ترى زوجها يغط إلى جوارها في النوم، شخيره متواصل منتظم مثل دقات الساعة، تمد ذراعها من تحت الغطاء تضرب الساعة ضربة قوية، وتلقي بها من فوق الكوميدينو إلى الأرض. يفتح زوجها عينيه على الصوت، يصحو من النوم، ويصرخ في وجهها: تكسري الساعة ليه كده؟ - لأني مش قادرة أكسر راسك.
هذه العبارة الأخيرة لا تخرج من فمها صوتا مسموعا، بل حروفا صامتة من الحبر الأسود فوق الصفحة البيضاء، تطل بدرية بعينيها الغاضبتين من بين الأوراق، تحت الغضب نظرة ازدراء، لا تفهم بدرية هذه المرأة التي اسمها بدور الدامهيري. هذا الخوف الذي يقبع في أحشائها منذ الطفولة، هذا الرعب الذي تعيش به في شبابها وكهولتها، لا شيء يشل عقلها إلا الرعب، لا شيء يعجزها عن الكتابة إلا الرعب، ما الذي يرعبها إلى هذا الحد؟ أهو الله أم الشيطان؟ أم زوجها، مندوبهما على الأرض؟
منذ المدرسة الابتدائية كانت بدرية أكثر شجاعة من بدور، لا تتردد في النطق بما يدور في عقلها: لماذا خلق الله الأقباط والمسلمين؟ لماذا يعترف الأقباط بآثامهم للقسيس إذا كان الله يعرف ما في الصدور والنفوس؟ لماذا تقف النساء خلف الرجال في الكنيسة ويفرض عليهن الصمت؟ لماذا يصلي المسلمون خمس مرات في اليوم؟ لماذا لا تكون ثلاثا أو أربعا؟ لماذا يتزوج الرجل أربع زوجات والمرأة زوجا واحدا؟ لماذا يحظى الرجال في الجنة بالحوريات من الإناث؟ ولا تحظى النساء بالحوريين من الرجال أو الحور الذكور؟ لماذا يكون لاسم الأب الشرف، ويكون لاسم الأم العار؟
قرأت بدرية في القرآن آية تقول: الجنة تحت أقدام الأمهات. «كيف تكون الجنة تحت أقدام الأمهات وأسماؤهن تجلب العار لأطفالهن؟»
كانت بدرية أكثر ذكاء من بدور، تكتب بلغة أجمل من لغتها، تحفظ أبيات الشعر أسرع منها، تحل مسائل الحساب بأكثر كفاءة، لكن بدور كانت تحصل على جائزة التفوق، وهي لا تحصل على شيء. تغضب بدرية من المدرس، تجادله بصوت عال، تثبت له بالدليل أن درجاتها أعلى من بدور. ينفد صبر المدرس، يقول لبدرية: إن جبتي الديب من ذيله أعطيكي الجائزة، إن جبتي تراب الجنة أعطيك الجائزة.
كان يصرفها عنه، مدركا عجزها عن فعل هذه المعجزات.
في اليوم التالي أحضرت له بدرية علبة من البلاستيك، وقالت له: ده تراب الجنة.
فتح المدرس العلبة، رأى التراب داخلها. - منين جيتي التراب ده يا بنت؟ - بعد ما أمي مشيت علي الأرض لميت التراب بإيدي، وحطيته في العلبة. - مين قال إن ده تراب الجنة؟ - انت يا محمد أفندي، قلت لنا في الحصة اللي فاتت إن الله قال: إن الجنة تحت أقدام الأمهات.
رغم هذا الذكاء لم تأخذ بدرية الجائزة، اتهمها المدرس بالسخرية من كلمات الله، وكانت الجوائز في المدارس مثل جوائز الدولة في الأدب والعلم، لا تعطى بسبب الذكاء أو الكفاءة، بل بسبب صلات الرحم والقرابة.
سمعت زينة بنت زينات هذه القصة من أبلة مريم. كانت أبلة مريم تحكيها للتلميذات، تقول لهن: إن الكفاءة في الأساس وليس العائلات، إن اسم الأم يجلب الشرف للأطفال البنات والأولاد؛ لأن الجنة تحت أقدام الأمهات؛ الله يرمز إلى العدل والجمال والحب والحرية، لا فرق بين ولد وبنت أو مسلم وقبطي أو غني وفقير. الصدق فضيلة والكذب رذيلة، لا أحد يكذب على شخص دون أن يكذب على نفسه، لا أحد يقتل شخصا آخر دون أن يقتل جزءا من نفسه.
كانت زينة بنت زينات تذهب إلى بيت أبلة مريم، تتدرب كل يوم ثلاث ساعات على العزف والغناء والرقص. تتناول طعام العشاء مع أبلة مريم قبل أن تعود إلى بيت أمها زينات، تملأ أبلة مريم حقيبتها بقطع الحلوى، وكتب الموسيقى، ودواوين الشعر، وقصص وروايات، تقول لها: اسمعي يا زينة، أنت موهوبة، وكمان عندك صبر على التدريب الطويل. العبقرية هي صبر طويل يا ابنتي، أنت محظوظة؛ لأنك عرفت الألم، وعرفت السعادة. لا يعرف السعادة إلا من عرف الألم، افخري بأمك واسمك زينة بنت زينات، اسم الأم أكثر شرفا من اسم الأب؛ لأن الأب يتخلى عن أطفاله من أجل نزوة جنسية، لكن الأم لا تتخلى أبدا عن أطفالها، إلا إذا كانت مريضة نفسيا أو فقدت عقلها.
يرتعش القلم بين أصابع بدور، تتوقف عن الكتابة، هل هي مريضة نفسيا؟ هل فقدت عقلها؟ كيف تركت مولودتها فوق الرصيف وعادت لتنام في فراشها؟ أيكون الخوف من العار أشد قوة من غريزة الأمومة؟ أيهما أكثر أمومة، الأم التي تخنق طفلها خوفا من الفضيحة أم الأم التي تتركه فوق الرصيف حيا؟ وماذا تقول عنها زينة بنت زينات إن اعترفت لها أنها أمها؟ وماذا يقول الناس؟
تتلفت بدور حولها في حيرة، صوت بدرية يخاطبها في أعماقها: اذهبي إليها، اعترفي لها، خذيها في حضنك وضميها، اذرفي الدموع فوق صدرها وقولي لها: سامحيني يا ابنتي، سامحيني. سوف تسامحك زينة بنت زينات؛ لأن قلبها كبير، سيصبح لها بدل الأم الواحدة اثنتان، مع الأم الثالثة أبلة مريم.
تطرد بدور بيدها ذلك الشبح، تطرد صوت بدرية وصورتها، يأتيها نشيجها المتحشرج في صدرها: الموت أهون من الفضيحة يا بدرية، وما جدوى الاعتراف بالحقيقة بعد كل هذه السنين؟ لم تعد زينة بنت زينات في حاجة إلى هذا الاعتراف، زينة بنت حياتها وسعادتها دون حاجة إليك يا بدوره. أنت يا بدور في حاجة إليها الآن، تنشدين تعويض فشلك في الكتابة، فشلك في حياتك كلها، تحاولين علاج نفسك من الحزن والاكتئاب دون جدوى، دون جدوى. كان يجب أن تفعلي ذلك منذ زمن بعيد، راح الوقت وضاع الأوان، لن تعيدي عقارب الزمن إلى الوراء.
يأتيها صوت بدرية تقول: لا شيء اسمه بعد الأوان يا بدور، عقارب الزمن يمكن أن تعود إلى الوراء، اقرئي قليلا في علم الكون الجديد، سيعود الزمن إلى الوراء مع تغير حركة الكواكب، والأرض حول الشمس. ستعودين إلى الشباب يا بدور، لن يكون هذا مستحيلا في المستقبل، لم يخلق الكون في ستة أيام ولا المرأة أتت من ضلع آدم، بل جاء آدم من رحم امرأة. أصبح العقل هو المستقبل وليس الخزعبلات.
في طريقه إلى زينة كان أحمد الدامهيري يعاني القلق والاضطراب، النشوة والشهوة، الترقب والحذر، الخوف، التوقع، الإقدام، الإدبار، السعي نحو الجنة وحور العين، الرغبة في الفرار من الغيب والنار، يتحسس آلة القتل الحديدية في جيبه الخلفي، فوق الألية اليمني، ملمس الحديد الصلب يمنحه بعض الثقة والشجاعة. تمتد يده تلامس قطعة اللحم الصغيرة الطرية أسفل العانة، تزول الثقة والشجاعة، منذ طفولته لم تمنحه هذه القطعة الصغيرة من اللحم إلا الهوان، تخذله دائما في اللحظات الهامة، حين يتأجج قلبه بالرغبة في الحب، حين تشتعل روحه بالشهوة في المرأة، يتراجع جسده مرتخيا متخاذلا، لا تنتصب الآلة الذكورية أسفل بطنه إلا مع امرأة لا يحبها، مع امرأة لا يحترمها، امرأة لا يحلم بها، امرأة من الجواري الغواني أو المومسات، ترقد تحته مستسلمة، تسلم له جسدها مثل قطعة من اللحم، دون عقل. يخاف في أعماقه من عقل المرأة، تقدم له لحمها مقابل مبلغ من المال يدفعه، أو سيارة يشتريها لها، أو شقة يسلمها مفتاحها، يدها تمتد له بعد أن تمنحه نفسها، يدخل بها وهي تحته في الفراش كما يدخل أي ثقب مفتوح دون جهد، دون قلق، دون خوف من العواقب في الدنيا أو الآخرة. لكن هذه المرأة يخافها، زينة بنت زينات، كلما نظر في عينيها اشتد خوفه منها، كلما اشتد خوفه منها اشتدت رغبته فيها، هاتان العينان الواسعتان المفتوحتان على الأفق، تشوبهما حمرة دم لا ينزف، المقلتان الزرقاوان الكبيرتان السوداوان لا يشوبهما شيء، تطلان من بورة غامضة في روحها، أو بئر عميقة سحيقة في جسدها داخل مركز المخ.
يحدثه صوت خافت في أحشائه وهو جالس على الأريكة الوثيرة داخل السيارة الطويلة السوداء، يقودها السائق محمود نحو بيتها في الحي العشوائي البعيد، ترمقه عينا السائق الضيقتان الصغيرتان الغائرتان في عظام الوجه العريض، من خلال المرآة الأمامية للسيارة. يحول بصره بعيدا عنه، يغمض جفونه ويسترخي جسده قليلا، يستمع إلى الهمس في أعماقه، يشبه صوت الله يحدثه في النوم: أنت يا أحمد الدامهيري لا تشبع ولا تقنع، أنا منحتك كل شيء في الدنيا والآخرة، لك في الجنة قصر كبير محجوز لك ولمن تشاء من الحوريات، ولك في الدنيا كل زينات الدنيا، مال وبنون ومناصب ونساء وقصور وخدم وحرس وحشم و... - نعم يا رب عندي كل ذلك، أشكرك يا رب على نعمك الكثيرة لكن ... - لكن ماذا يا أحمد يا دامهيري؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟ - أريدها يا رب، هذه المرأة، زينة بنت زينات، أريد هاتين المقلتين الكبيرتين المشتعلتين بالوهج الأزرق الأسود، بالتحدي الأسود الأزرق، بالرغبة في أن تخرق قانونك يا رب وقانون الطبيعة، وقانون الامتلاك والسوق الحرة. هذه المرأة تسلبني حريتي في امتلاكها، شيء فيها يا رب بعيد عن الامتلاك، بعيد عن إرادتك يا رب؟ كيف خلقتها يا رب بهذا الجمال الغريب الخارق لقوانين الطبيعة، وخارق لقانونك أيضا يا رب؟ إنها تفقدني الصواب، لا أعرف الفضيلة من الرذيلة، لا أفرق بين الحق والباطل يا رب.
هذه الأنوثة القوية يا رب تكاد تشبه الذكورة متناقضة مراوغة، تغريني بامتلاك ما أعجز عن امتلاكه، كل محاولة مني لامتلاكها لا تفعل إلا النقيض، تكشف عجزي يا رب عن امتلاكها، تكشف فشلي أمام نفسي. لماذا خلقتها يا رب بهذا الشكل؟ امرأة لا يمكن أن تمتلك وإن منحتها كل ما تملك؟ أرسل إليها يا رب رسائل كثيرة، لم ترد على رسالة واحدة. اعترفت لها بالحب، الحب الخالص لوجهك الكريم يا رب، حب الروح للروح، قلت لها: سأعطيك نفسي وكل ما أملك، لم ترد على رسالة واحدة يا رب. ماذا أفعل يا رب العالمين؟ أنت تشهد عذابي، عينك الساهرة التي لا تنام تراني وأنا مؤرق في سريري، وأنا أتمدد فوق أريكة الطبيب النفسي، وأنا أبكي وأكتم الأنين طوال الليل.
يتطلع أحمد الدامهيري إلى الرب في السماء، تخترق عيناه زجاج السيارة الفيمية، يكشف الخارج ولا يكشف الداخل، يرى أحمد الدامهيري الرب في السماء، متخفيا وراء السحابة السوداء، لكن العين المطلة من السماء لا تنفذ من خلال الزجاج الفيمية. نوع من الزجاج المستورد من بلاد الكفرة، لا ينفذ منه الرصاص، لا تخترقه عيون الأعداء ولا عيون الأصدقاء، محصن ضد كل العيون المتلصصة من وراء الأقنعة، في الأرض أو في السماء، حتى عين الله لا تخترقه؛ لأنه مصنوع بأيدي الكفرة ، بأيدي الشيطان، لا يتحدى إرادة الله إلا الشيطان.
يسترخي جسده في الأريكة الطرية، متصورا أن عين الله لا تراه. إنها لا تنفذ من خلال الزجاج المضاد للرصاص، لكنه سرعان ما يتذكر أنه يخدع نفسه؛ لأن عين الله أقوى من الرصاص، وأقوى من الكفرة، يمكن أن تنفذ في الحديد، الله قادر على كل شيء، يقول للشيء كن فيكون، لماذا لا يأمر هذه المرأة بالخضوع له وهو الأمير الذي اختاره الله دون الآخرين؟ لماذا لا يكون الله معه في هذه المهمة كما كان معه في كل المهمات السابقة مع النسوة الأخريات؟
تلوح له زينة بنت زينات وهي تعزف وترقص وتغني، صوتها، صورتها تطارده، تستولي على عقله، الذي يهمس: هذه المرأة حررت نفسها من امتلاك الآخرين لها إلى حد النقيض، أصبحت هي المالكة لهم.
أغمض عينيه مستسلما للنوم، مستسلما لامتلاكها له، يشعر بلذة غريبة في الاستسلام لشيء أقوى منه، يريد أن يستريح من العناء والعبء، عناء المقاومة، عبء قيادة الآخرين، عبء الحاكم والأمير. يرى نفسه بين ذراعيها، يهمس في أذنها بلا صوت، أنفاسه تلهث. - اصعدي فوقي، خذيني واملكيني يا معبودتي.
ينتفض جسده فاتحا جفونه. تفلت كلمة معبودتي مع أنفاسه الساخنة، لا يسمعها بأذنيه، يحسها مثل الغصة في حلقه، مثل يد كبيرة ضخمة تسد أنفه وفمه، يد غير بشرية لم يرها من قبل، يد الله تخنقه، تزهق روحه، صوت الله يرج كيانه: يا كافر يا مشرك، ألا تعرف أني أغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك بي، أغفر لك كل جرائمك واختلاساتك للأموال، واغتصابك للنساء والأطفال، لكن لا أغفر لك أن تشرك بي معبودا آخر، فما بال معبودة أنثى؟
يكاد يهتف أحمد الدامهيري بالسائق محمود ويقول له: ارجع بي إلى البيت، لا تأخذني إليها.
لكن صوته لا يطلع، يتقلب فوق أريكة السيارة من ألية إلى ألية: هذه المرأة تستحق القتل، وجودها يهدد وجودي، يهد إيماني بالله الواحد الأحد لا شريك له، يجب ألا أذهب إليها، يجب أن أقضي على وجودها. نعم هذا هو الهدف الوحيد من ذهابي إليها، أن أقضي عليها قبل أن تقضي علي وعلى كل الرجال المؤمنين. هذه هي مهمتي المقدسة للقضاء عليها قبل أن تقضي على دين الله.
ابتسم لنفسه في راحة لهذه المهنة السامية النبيلة، كانت السيارة تشق الطريق نحو بيتها في الحي العشوائي البعيد، عند الحدود الفاصلة بين الوطن واللاوطن، بين العقل والجنون، بين الله وإبليس. اجتازت السيارة شوارع متربة، وحواري وأزقة مسدودة بالقمامة والمجاري، وأطفالا يلعبون بالطين مع القطط والكلاب، ومقابر يسكنها الأحياء، وموتى يسيرون بوجوه شاحبة حزينة، والطبول تدق في حفلات الزفاف، مع العود والرق، والصاجات في أيدي الراقصات تقرقع، يتمايلن بأجسادهن الغضة داخل بدلة الرقص، تكشف البطن والفخذين، تتصاعد أصواتهن في الغناء والرقص، يهتز الترتر فوق أثدائهن المرتجة، مع ارتجاجات البطن والردفين، تنطلق الرصاصات في الجو، احتفالا بالعريس والعروسة، تتصاعد الأبخرة من المباخر، والشبة لها ملامح إبليس في النار، يتصاعد الدعاء من فوق المنارات: الله أكبر الله أكبر، احفظي يا أرض ما عليك، اخرق يا رب عين الحسود. تنطلق الزغاريد من أفواه النسوة، تشبه صراخهن في المآتم والعويل الممدود في الجنازات.
التف الأطفال حول السيارة السوداء الشبح، بأردافهم العارية. أمسك طفل قضيبه الصغير وأطلق على السيارة خرطوما طويلا رفيعا من البول، قذفت واحدة من البنات بكرة من الطين فوق زجاج السيارة الخلفي، انطلق سرب من الأطفال والقطط والكلاب وراء السيارة يصرخون ويهللون، يقذفونها بالقمامة ومياه المجاري: فين بيت زينة بنت زينات يا عيال؟
هذا هو صوت السائق محمود، يطل برأسه من النافذة.
يرد عليه الأطفال في نفس واحد، أو واحدا وراء الآخر: زينة بنت زينات في المسرح، عندها حفلة كبيرة أوي أوي، في عيد ميلاد أمها زينات، إحنا كلنا كنا هناك، إنت مين؟ ومين اللي راكب وراك ده؟ باين عليه وزير كبير أوي أوي، باين عليه حرامي كبير أوي أوي. ويقهقه الأطفال، يتراقصون ويغنون ويهللون: العبيط أهوه العبيط أهوه. - اخرس يا ولد اخرسي يا بنت، ده سعادة الأمير الباشا يا أولاد الزنى، يا أولاد القحبة، يا أولاد الشرموطة، يا ...
ينطلق السباب من فم السائق يلعن أمهاتهم الزانيات القحاب. يشق بالسيارة أجسادهم التي تسد الزقاق، يكاد يدهسهم تحت العجلات دون جدوى. إنهم أطفال شوارع، داستهم عجلات وعجلات ونهضوا من تحتها ونهضوا، اغتصبهم الكبار والعجائز، داسوا أرواحهم، نهضوا من تحتهم ونهضوا، سقطوا ونهضوا، أصبحت عظامهم من حديد، أجسادهم حديد، أرواحهم مثل كل الأطفال رقيقة كالخيال المحلق في الفضاء، أقل شيء يبكيهم وأقل شيء يضحكهم مثل كل الأطفال، مثل كل الأطفال.
كانت الليلة عيد ميلاد أمها زينات، ارتفعت الزينات فوق البيوت والمقابر، تألقت اللمبات بالأضواء المحيطة بالمسرح، امتلأت القاعة الكبيرة بالرجال والنساء والأطفال، ترتفع الأيادي بالتصفيق والتهليل: أعيدي يا زينة يا بنت زينات، أعيدي.
كم مرة يقولون لها أعيدي أعيدي، لا تكف عن الإعادة، لا تكف عن العزف والغناء والرقص، وهم لا يكفون عن التصفيق والتهليل، وهي واقفة على خشبة المسرح، تستريح بضع لحظات. عيناها شاخصتان نحو الوجوه في القاعة، رجال بالبدلات الأنيقة والنياشين فوق الصدور، نساء بالمساحيق والألوان والجواهر، المقلتان في عينيها كبيرتان سوداوان بلون الليل، حول كل مقلة دائرة زرقاء، خضراء بلون الزرع، متوجة بضوء الشمس، مقلتان قادرتان على النظر والرؤية، تنزعان الأقنعة عن الوجوه، تخلعان الأوسمة والنياشين عن الصدور، لا تتركان نقابا فوق أي شيء حتى تخلعاه، عينان قادرتان على تعرية كل الأشياء، لا تسهابان، ربما لهذا السبب كانت العيون تنجذب إليهما، يشيع حضورها كهربة في الجو، صوتها المرح الشجي، أغانيها المليئة بالفرح والحزن، يجذبهم حديثها حين تجلس معهم وتتحدث، تبدد مللهم وحزنهم الدفين، يضحكون معها حين تسخر من كل شيء، لسانها مع الموسيقى والإيقاع لاذع يكشف الزيف، يفضح التناقض، يهتك الأسرار والستائر، لا أحد يتنبأ بما يمكن أن تقول، وبما يمكن أن تفعل، لكنهم ينشدون حضورها؛ لأن الكون في غيابها يسقط في الصمت والظلمة، رغم كثرة الأضواء والأصوات.
رآها جالسة مع بعض النساء والرجال بعد انتهاء الحفل. تقدم أحمد الدامهيري نحوهم بخطوة حذرة مترددة، جلس بينهم يستمع إليها، يركز بصره فيها، يثبت عينيه في عينيها دون جدوى، لم تكن زينة بنت زينات تراه، كان وجهه يذوب في الوجوه الأخرى دون ملامح مميزة، دون شيء يجذب العين إليه، تدور مقلتاها على الوجوه دون أن تتوقف عنده، أبدا لم تتوقف عيناها عنده أبدا، تمران بوجهه مرورا سريعا عابرا كأنما غير موجود، أراد أن يلفت انتباهها، تذكر عبارة قرأها في كتاب تقول: تكلم حتى أراك، بدأ كلامه كعادته باسم الله: بسم الله ... - إن تكلم أحد باسم الله أشعر أنه يقصد شيئا آخر.
كان هذا هو صوتها، انطلق منها طبيعيا بسيطا حين سمعته يقول باسم الله.
دب الصمت في المكان، أطبق أحمد الدامهيري شفتيه، بدا عليه الحرج، وشيء من الغضب، ثم ألهمه الله أن يواصل الكلام: لك حق يا سيدتي، هناك بعض الناس يستخدمون اسم الله لمقاصد لا علاقة لها بالله، لكني لست واحدا من هؤلاء.
كان سائقه الحارس الخاص واقفا غير بعيد عنه، أراد أن يعرف سيده للحاضرين. - هو سعادة الباشا الأمير أحمد الدامهيري. - نعم نعم نعرفه، إنه نار على علم، صورته منشورة في كل مكان.
كانت هذه بعض أصوات الحاضرين، انطلقت ضحكة مكتومة من أحد الشباب، تمتمت إحدى النساء بكلمات غير مفهومة، وابتسامة ساخرة. كانت زينة بنت زينات تعرفه، التقته مرة أو أكثر في بيت صديقتها مجيدة الخرتيتي، كان يهز رأسه بالتحية حين يلقاها، ترد له التحية بهزة من رأسها، تلقائية بسيطة، كما تفعل مع أي أحد يلقي عليها التحية، يرمقها وهي تمشي بقامتها الطويلة وخطوتها الرشيقة، يحدق فيها ويحدق، لا يحول بصره بعيدا عنها، هذا الجسم المصنوع من شيء غير اللحم والعظم، هذا الضوء الكاسح لكل ما عداه، يغمره الضوء وهو واقف، يحملق في ظهرها، حتى تختفي فإذا كل شيء ينطفئ.
تعود صورتها إليه في الليل، تقتحم نومه، توقظه دون هوادة بشيء من الوقاحة، المقلتان الكبيرتان المتوهجتان بالحياة فيهما وقاحة الجمال الساحر، السحر المكتفي بذاته ولذاته لا يتوقف عند أحد، يمضي في طريقه اللانهائي حتى الأفق، يقول لنفسه: طبيعة الجمال الساحر مثل طبيعة الله الخالق، لا تقبل التبادل، أو المساواة بالآخرين من البشر، إنه العدل الإلهي القائم على الظلم واللا مساواة يا أحمد يا دامهيري.
قبل أن يغلبه النوم يسمع صوتها ينشد فوق خشبة المسرح:
لأني أحب الرقص والغناء.
لأني أمتلك الموسيقى والشعر.
لهذا لا يطربني المدح أو الثناء.
ولا تؤلمني قصائد الهجاء.
يهمس لنفسه وهو يتقلب بالأرق: أي غرور وكبرياء، يشبه كبرياء إبليس حين يتحدى إرادة الله.
يتخيلها تنزف الدم بعد أن ينطلق الرصاص في صدرها، بعد أن تخترق الطلقة جدار قلبها، تنفذ إلى روحها، وتصعد روحها إلى السماء حيث تتلقى العقاب، حين تعلو إرادة الله فوق إرادتها، يشعر بالهزيمة أمامها فيستنجد بقوة الله. لا يمكن أن يخذله الله أمام امرأة، أمام أنثى، فما بال هذه الوقحة، المتحدية، المتكبرة، التي تقترف المعاصي الكبيرة كل يوم، تحلل ما حرم الله، تثير الفتنة بين الرجال، تخرج الله من قلوبهم بالرقص والغناء والشعر والموسيقي؟ يركبها شيطان الفن من قمة رأسها حتى بطن قدميها، سوف تنزف هذه المرأة الدماء حتى آخر قطرة، سوف تنال عذاب القبر قبل عذاب الآخرة، سوف تعلق من شعرها في القبر، في جهنم تعلق من عنقها ليكتوي نصفها الأسفل بنار الجحيم، ثم يحترق نصفها الأعلى والعينان والمقلتان، المقلتان اللتان تعذبانه ليل نهار.
يسبح به خياله في الظلمة، ينتفض جسده باللذة وهو يراها تتعذب، تنتشي روحه وهو يرى دمها يسيح على الأرض، كما كان ينتشي إله التوراة بالدم السائل من غرلة الذكر المبتور بالسكين. يهدأ قلبه ويستكين لمشاهد القتل والعنف، كان أحمد الدامهيري يصطاد العصافير بالنبلة وهو طفل، تسقط العصفورة، تنزف الدماء، تبرق عيناه بالسعادة، يجري نحوها يمسكها بأصابعه القصيرة البضة، يفصل رأسها عن عنقها، يمزق أوصالها، يبعثر أشلاءها في الهواء، يتأمل ريشها الناعم الصغير بتطاير، يطير يطير في الأفق، حتى يختفي من الوجود.
منذ الطفولة دربه أبوه على العنف، ليصبح رجلا مكتمل الرجولة. أمه مثل أبيه، كانت تقول له: أنت رجل من صلب أبيك، وجدك، وجد جدك.
ترمقه أمه بزهو، تحمد الله أن جعلها تلد الذكر ، ليس الذكر كالأنثى كما قال الله في كتابه الكريم، للرجال على النساء درجة، الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا من أموالهم، وبما فضل الله بعضهم على بعض، الله يفضل الرجل على المرأة. هذه حكمته وإرادته؛ لأن المرأة ناقصة عقل ودين، مخلوقة من ضلع عوجاء، إن حاولت إصلاحها انكسرت، ضلع معوجة غير قابلة للإصلاح، نقصان في الطبيعة غير قابل للعلاج.
نالت أمه جائزة الأم المثالية في عيد الأم، كلما أحست المرأة بنقصانها زاد إيمانها بالله، وفازت بجائزة الدولة. كلما انتشي الرجل وتلذذ برائحة الدم أصبح مثل الإله في التوراة، إن تشمم رائحة الدم المراق أزال عنه الغضب، لا يروق مزاجه إلا برؤية قطعة اللحم يستأصلها السكين أو الموسى، وإن كانت غرلة صغيرة تتدلى أسفل بطن الذكر الذي عمره ثمانية أيام. أقام الله عهده مع بني إسرائيل، أن يقطعوا بالموسى الغرلة من فوق رأس القضيب، مقابل أرض الله الموعودة، أرض كنعان وفلسطين. ما إن رأت أم موسى الغضب في عيني الله حتى أمسكت الموسى وأراقت الدم. هدأ الإله انبسطت أساريره، مثلما تنبسط أساريره حين تسري إلى أنفه رائحة اللحم المشوي من فوق المحرقة.
يغمض أحمد الدامهيري جفونه محلقا في الخيال، فاتحا منخريه لرائحة الشواء، كأنما هو مندوب الله فوق الأرض. قلبه عامر بالإيمان والولاء لأوامر الله، كما جاءت في كتبه السماوية الثلاثة: وقال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع إلى مصر، انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك وضعها قدام فرعون. وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله، فأخذت صفورة صوانة وقطع غرلة ابنها ومست رجليه، فقالت: إنك عريس دم لي، فأنفك عنه، حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان.
ثم قال الرب لموسى قل لهارون: خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين، على أنهارهم وعلى سواقيهم وعلى آجامهم، وعلى كل مجتمعات مياههم لتصير دما، فيكون دم في كل أرض مصر، في الأخشاب وفي الأحجار، ففعل هكذا موسى وهارون كما أمر الرب. رفع العصا وضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأمام عيون عبيده، فتحول كل الماء الذي في النهر دما.
فقال الرب لموسى: قل لهارون مد يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر.
ثم قال الرب لموسى: قل لهارون مد عصاك واضرب تراب الأرض ليصير بعوضا في جميع أرض مصر، ففعلا كذلك. مد هارون يده بعصاه وضرب تراب الأرض، فصار البعوض على الناس وعلى البهائم، كل تراب الأرض صار بعوضا في جميع تراب الأرض، وكان البعوض على الناس والبهائم، فقال العرافون لفرعون: هذا إصبع الله.
أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان، فتمتلئ بيوت المصريين ذبانا، وأيضا الأرض التي هم عليها ... لكي تعلم أني أنا الرب في الأرض ... ففعل الرب هكذا، فدخلت ذبان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده، وفي كل أرض مصر خربت الأرض من الذبان.
غدا يفعل الرب هذا الأمر في الأرض، ففعل الرب هذا الأمر في الغد فماتت جميع مواشي المصريين، وأما مواشي بني إسرائيل فلم تمت منها واحدة.
ليصير غبارا على كل أرض مصر، فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة بثورا في كل أرض مصر.
لو كنت أمد يدي وأضربك وشعبك بالوباء لكنت تباد من الأرض، ولكن لأجل هذا أقمتك لكي أريك قوتي ولكي يخبر باسمي في كل الأرض ... ها أنا غدا مثل الآن أمطر بردا عظيما جدا لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها إلى الآن ... جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل ولا يجمعون في البيوت ينزل عليهم البرد فيموتون.
فمد موسى عصاه نحو السماء، فأعطى الرب رعودا وبردا وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بردا على أرض مصر، فكان برد متواصل ونار في وسط البرد. شيء عظيم جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة. فضرب البرد في كل أرض مصر ... إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل فلم يكن فيها برد.
ثم قال الرب لموسى: مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد، ليصعد على أرض مصر، ويأكل عشب الأرض كل ما تركه البرد.
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر حتى يلمس الظلام، فمد موسى يده نحو السماء فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ... لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، لكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم.
وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحي، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا، ولكن جميع بني إسرائيل لا يسن كلب لسانه إليهم، لا إلى الناس ولا إلى البهائم، لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين وإسرائيل.
فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين. أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر.
فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة. وكان صراخ عظيم في مصر، لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت.
حينئذ رنم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب، وقالوا، أرنم للرب فإنه قد تعظم ... الرب قوتي ونشيدي ... الرب رجل الحرب.
ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلا: أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تضع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك، إله غيور، أفتدي ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي.
لا تصنعوا معي آلهة من فضة ولا تصنعوا لكم آلهة من ذهب، ولا مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح سلامتك غنمك وبقرك.
يصحو أحمد الدامهيري في منتصف الليل، يقرأ كتب الله الثلاثة، يبدأ بالتوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن. يتململ ضميره داخل صدره، يكره صورة الرب وصوته، رجل حرب وقتل وخراب، ودم مراق في كل الأرض، يقتص من ذنوب الآباء في الأبناء في الأطفال الأبرياء. جسده يرتعد بالخوف، يظن أن الله سوف يسحقه كما سحق فرعون وعبيده، سوف يهجم عليه في سريره القمل والبق والبعوض والجراد والضفادع، والصراصير والخنافس. منذ طفولته يخاف هذه الحشرات، لا يستطيع أن ينام في غرفة واحدة مع بعوضة أو صرصار، كان يسمع أمه تصرخ حين ترى صرصارا يجري فوق الأرض، أو جرادة تدخل من النافذة وتحلق حول رأسها، تطلق صرخة حادة فينتفض جسده من فوق السرير ويسقط إلى الأرض، تحمله فوق صدرها تهدهده، تهدئ روعه: ما تخافش يا حبيبي، أنا معاك يا حبيبي، مش عارفة رينا بعث لنا كل الصراصير دي منين؟ كل الناموس ده ليه؟ مع إني رشيت البيت كله بالفليت والديدي تي والتوكس؟
يسقط أحمد الدامهيري في النوم، يرى أهل مصر ينتصرون على الله في معركة الجراد والصراصير والبعوض: لم يكن الرب قد اكتشف المساحيق القاتلة للحشرات، لكن أهل مصر كانت لهم حضارة عريقة قديمة، بنوا الأهرامات والمسلات، اكتشفوا علوم الطب والفلك والهندسة، اشتغل بنو إسرائيل في بيوتنا نحن المصريين خدما وعبيدا، هذا الكتاب التوراة كله أكاذيب.
سمع أبوه يقول وهو طفل: تم تحوير التوراة يا ابني، اختلط فيها كلام الله بكلام البشر، لكن القرآن هو كلام الله مائة في المائة، ليس فيه تحوير ولا تزوير. دولة إسرائيل قامت على الكذب والخداع والقتل، وإراقة الدماء، الشعب في فلسطين يتعرض للإبادة يا ابني. دولة من القتلة، هي التي تستحق الإبادة وليس نحن المصريين، كان يمكن أن نلقي بإسرائيل في عرض البحر لولا قوة الاستعمار الأجنبي التي تساندها يا ابني؟ - هل قوة الاستعمار أقوى من قوة ربنا يا أبي؟ - لا يا ابني، ربنا فوق الجميع لكن ربنا غضبان علينا يا ابني. - غضبان ليه ربنا علينا يا بابا؟
يصحو أحمد الدامهيري من النوم ناسيا أحلامه، وأسئلة الطفولة. ينسى وجه أمه ووجه أبيه، لا يبقى في ذاكرته إلا وجهها، زينة بنت زينات، إن أطل وجهها من فرجة بين السحب تتلاشى كل الوجوه الأخرى بما فيها وجه الرب. تنقشع السحابة السوداء الجاثمة فوق المدينة، كأنما وجهها قطعة من الشمس، عيناها نجمتان تلمعان في الأفق، تبعثان في جسده النشاط، في روحه البهجة والأمل. يقفز من السرير بحركة سريعة، يضع نفسه تحت مياه الدش الغزيرة، يدلك صدره وبطنه، تندفع شحنات من الدم الدافئ إلى قلبه، يحس الدقات المتسارعة تحت ضلوعه يحسها تحت كفه، يردد مع النبض اسمها، زينة بنت زينات، زينة بنت زينات. يرتدي البدلة الأنيقة الجديدة، يحلق الشعر فوق وجهه، الشاربين واللحية.
ما علاقة الشعر فوق الجسد بالإيمان في القلب؟ يهمس له إبليس.
يحلق شعر العانة أيضا، يرش قطرات الكولونيا تحت إبطيه المحلوقين، يتمضمض بالسائل القاتل لجراثيم الفم، يضع تحت لسانه قرصا من النعناع وحبة قرنفل. تنعش الرائحة الطيبة روحه، تزيل عنه التردد واليأس، يملأ صدره برائحة القرنفل والنعناع، يتخيلها بين ذراعيه، بين شفتيه تتشتم رائحة أنفاسه الزكية، يقبض بأسنانه على شفتها السفلى، يحوط خصرها النحيف بيديه، يهبط إلى ردفيها المشدودين في صلابة، الردفان المتمردان القويان، ردفا جواد جامح، لا يمكن لأحد أن يركبه أو يمتطيه. تجمع بين صلابة الذكورة ورقة الأنوثة، ترقص مثل حصان خرج عن الطوق، ليس لها صاحب ولا لجام، ترتج الأرض تحت قدميها، يتخلخل الهواء من حولها، يسري صوتها وهي تغني خافتا ناعما مثل همس القلب، غاضبا عاليا مثل هدير الأمواج، تجمع التناقص داخل كيانها في انسجام غريب، في توازن يشبه انعدام الوزن، في عشق اللذات يتساوى مع إنكار الذات.
كان في طريقه إلى بيتها، هو الذي يقود سيارته، يريد أن يكون معها وحده دون سائق، دون حرس. هبط عليه الظلام وهو في منتصف الطريق ، الشمس غربت مبكرة، نسمة باردة تسللت إلى جسده من تحت الملابس. ارتعشت أحشاؤه بخوف غامض، قشعريرة لذة مقبلة، يعيش الخوف مع اللذة في أعماقه، ضوء القمر يتسلل من وراء السحابة، يرتبط في خياله بالحب وأحلام الليل. أوقف السيارة مترددا بين الإقدام أو العودة، ينطوي الإقدام على أمل باللذة المكبوتة منذ الطفولة، توحي العودة إلى بيته بالأمان والطمأنينة. تحركت السيارة إلى الأمام باندفاعة أشد، بإرادة أقوي نحو السعادة، أن يذوب كيانه في شيء آخر أكبر منه، في روح أكبر من روحه، في جسد أرقى من جسده، أن يذرف الدموع بين ذراعيها، دموع الفرح بالفناء في قمة اللذة، ودموع الحزن لأنه لم يعرف في حياته إلا التعاسة.
فتح بابها ودخل على أطراف أصابعه، يخشى أن يحدث صوتا يوقظه من النشوة. ضوء خافت ينبعث من غرفة النوم وموسيقى حالمة. كل شيء معد للسقوط في بئر اللذة بغير قاع، باب الغرفة نصف مفتوح، رفوف المكتبة من الأرض إلى السقف، أغلفة الكتب دكناء اللون، تكسب عمل الحب نوعا من الوقار. كانت تجلس أمام البيانو تعزف، رفعها من فوق الكرسي بذراعيه الاثنتين، رفعها حتى لامست شفتاه شفتيها، ثم هبط بها وأجلسها فوق السرير، خلع عنها ثوبها الأبيض من القطن، أطل على عري النهدين فوق صدرها، ليس لهما سمرة بشرتها ولا بياض الجلد، بل لون آخر شفاف، يشف من تحته لحم شفاف يشبه الروح. تمنعت كما تعودت أن تتمنع في أحلامه، كالحصن المنيع تتمنع. لم يسبقه أحد إلى هذه القلعة المحصنة، لم يمتلك هذا الجسد مخلوق من قبل، يدخل معها المعركة دون صوت، داخل الصمت الكامل إلا من لهاث أنفاسه المحمومة، يكافح ضد الوقوع في الإثم على أمل الوقوع فيه، تمتد يده إلى مركز الشهوة في ثنايا اللحم، يثبتها فوق السرير دون حراك، كالمروض يثبت الثور الهائج بحركة واحدة، بنظرة قوية خارقة، إلا أن الثور يقفز في لحظة خاطفة، ويغرز أسنانه في لحم كتفه العارية.
هب أحمد الدامهيري من النوم مبللا بالعرق، يحس الألم في كتفه اليسرى ، لسعته بعوضة عنيدة كانت تزن حول رأسه قبل أن ينام، أراد أن يقتلها دون جدوى، كانت أسرع منه في الحركة، تطير قبل أن تصل إليها الملطشة، تختفي في مكان خفي لا يعرف أين. يرشها بالمبيد الحشري دون أن تموت، هذه المبيدات الحشرية أصبحت ضعيفة المفعول، سلالات البعوض الجديدة اكتسبت قوة خارقة للطبيعة، تتحدى إرادة الله مثل الأجيال الجديدة من البنات الفاجرات. في اجتماع المجموعة تحت الأرض صدر القرار، ينفذ أمر الله دون سؤال. أصبحت قائمة الموت تشمل اسم زينة بنت زينات مع الأسماء الأخرى الخارجة عن دائرة الدين المهددة لنظام الدولة، شعراء وشاعرات أنشدوا قصائد ضد النظام، تدعو إلى الحب والعدل والحرية، شباب وشابات من الطلاب والعمال، ساروا في المظاهرات يطالبون بالقضاء على الفساد والرشوة والاستعمار الجديد. يهتفون ضد الفقر وضد الحرب والتجارة بالدين، قائمة الموت تضم أسماء جديدة مع تزايد البطالة، وامتداد مساحات العشوائيات، انتشار المخدرات وجرائم الاغتصاب، ثلاثة ملايين طفل يعيشون في الشوارع، تنكر الأب لابنه أو ابنته بعد الاعتداء على البنت الصغيرة الراقدة على الرصيف.
بدور الدامهيري ترشف قهوتها السوداء كعادتها قبل أن تتأهب للكتابة، أخذت حماما دافئا، غسلت شعرها ورأسها من رواسب النقد الأدبي، غسلت أسنانها بمعجون مطهر منعش. الكتابة عند بدور الدامهيري لها طقوس تشبه طقوس الحب أو الصلاة بين يدي الله، تتطلع بدور نحو السماء بعينين نصف مفتوحتين تتلقى الوحي والإلهام، تمص شفتيها، تتلذذ مذاق القهوة السوداء، تسري مرارتها في أحشائها قوية حادة منعشة، تطرد بقايا الحزن والاكتئاب المزمن. أمامها فوق مكتبها أوراق الرواية، تعلوها بقع حبر أسود وأزرق، وقطرات دموع صفراء ودم أحمر، أصبح لونه بنيا داكنا يقترب من السواد، رائحة عرق بين الحروف، تحت السطور، تعب وإرهاق، حزن دفين، خوف أعمق من الحزن يمنعها من الكتابة، لا تعرف الفرق بين الصدق والكذب، الحقيقة والخيال، تحملق في الفواصل الذائبة بين الأشياء، الإيمان يذوب في الكفر والإلحاد، القبح والوقاحة يذوبان في الجمال والأدب، الأمانة والشرف هما السرقة والخيانة والعار.
تطل الوجوه من بين الأوراق . لا تعرف بدور وجه زوجها من أبيها، لا فرق بين جدها وعمها وابن عمها، تذوب وجوه الرجال في وجه رجل واحد. له وجهان؛ شيطان وإله، تذوب وجوه النساء في وجه امرأة واحدة قاتلة رقيقة، سارقة شريفة، مؤمنة ملحدة، مخلصة خائنة، تلف رأسها بحجاب، تعري بطنها تحت حزام البنطلون الضيق، مشدود حول ردفيها الضامرين، لهما صلابة ردفي النمر، تهزهما وهي تمشي بخطوتها الواسعة السريعة، تبدو خطوتها بين نساء العائلات بدائية غير مهذبة، صوتها الطبيعي بين أصواتهن المكبوتة يرن عاليا خاليا من الأدب، تهمس في أذنها وهي ترمق أوراق روايتها بسخرية: أنت أقل من أن تكوني روائية، أنت طاهرة عذراء بريئة عاجزة عن الإبداع. لن تكتبي الرواية يا بدور إلى أن تعرفي الشر حتى الموت، إلى أن تنهلي من متاع الدنيا حتى الثمالة، حتى الاستغناء عن الدنيا والآخرة، الاستغناء عن الثواب والعقاب، عن الجنة والنار، الاستغناء عن الشرف والفضيلة، أو العار والرذيلة، كلها شيء واحد، حين تنزعين القناع عن وجهك، حين ترين نفسك عارية أمام نفسك، حين تدركين أن الوحدة خير من جليس السوء، الطلاق يا بدور هو الانطلاق والتحرر من الزواج الفاسد.
حين يسود الظلم تصبح الوحدة هي المصير الراقي، هي الصدر الحاني مثل صدر الأم، الشهوة والعفة متلازمتان كالليل والنهار، لا يشغل بال العفيفات مثلك يا بدور إلا الشهوة، ولا تحلم الشهوانيات إلا بالعفة. - تركت طفلتك المولودة فوق الرصيف من أجل ماذا؟ زكريا الخرتيتي؟ زوجك المريض بقضيبه المبتور؟ يغتصب به البنات الصغيرات والأولاد اليتامى والمساكين؟ المريض بعموده المنشور غير المقروء؟ كم سنة تشاركين زوجك في السرير؟ ترقدين تحته كالنعجة العرجاء وتحلمين بكتابة الرواية؟ أتحلمين بكتابة رواية دون ثمن دون أن تدفعي ثمن الإبداع؟ الثمن ضروري للحرية، والشجاعة. بالثمن يا بدور نغير حياتنا إلى الأفضل، ترتفع أرواحنا وتصفو. الكاتبة الروائية يا بدور ليس لها رجل جدير بها، لا تجد صدرا تضع عليه رأسها المتعب إلا صدرها، لا تجد شريكا لحياتها إلا قلمها، أما الناقدة الأدبية مثلك فهي تحظى بكل متع الدنيا والآخرة، بما فيها زوجك الكاتب الكبير، وشرف عائلتك الرفيع، وجائزة الدولة الكبرى، وقصر في الجنة وفوق الأرض. الكاتبة الروائية يا بدور لا تعرف السعادة، وإن عرفتها فهي تنبع من ذاتها، من كتاباتها. الكاتبة الروائية ليس لها وطن ولا أسرة ولا دين ولا مدينة ولا قبيلة، وطنها هو الشارع، هو الطريق المفتوح دون الجدران الأربعة، حياتها هي رحلة إلى المجهول، أنت مدفوعة إلى الكتابة بالوراثة كما ورثت دينك، بالرغبة في الجائزة وليس الرغبة في الكتابة، لهذا تهرب منك الرواية، تتزلق من بين أصابعك كالسمكة في البحر، الرواية يا بدور مثل الأسماك الحية في البحور، تسبح ضد التبار، ليست مثل الأسماك الميتة تطفو مع التيار. المرأة الفاضلة مثلك يا بدور هي المرأة الميتة السابحة مع التيار، وتريدين بعد كل ذلك كتابة الرواية؟
تشوح بدور بيدها البضة الناعمة في وجه بدرية، تطرد عنها شبحها الأسود المرعب، ترفع يدها بالقلم لتخرق عينها، لتكتم صوتها، لكن بدرية ليس لها عين ولا لسان، هي روح هائمة في الجو، تظهر في الليل فوق الجدار الخيال، تطل مثل إصبع إبليس من بين أوراق الرواية، مثل إصبع الله. حقيقية مثل وجود الله وإبليس، هي الحقيقة الكبرى في حياتها، لا يتسرب إليها الشك، يمكن أن تتشكك بدور في وجود إبليس أو وجود الله، لكن بدرية هي الحقيقة الوحيدة في حياتها، هي الصدق، كل ما عداها كاذب تافه غير مهم غير ضروري غير حقيقي.
ترتعش أصابعها وهي تمسك القلم، يتحرك في اهتزازات فوق الصفحة البيضاء، يرسم حروفا متعرجة تشبه كتابة الأطفال، يدور في رأسها السؤال: لماذا يبقى أصدق ما في حياتنا في الخفاء؟ وإن خرج إلى النور يسرقه أقرب الناس إلينا؟
رفعت رأسها من فوق المكتب، رأت زوجها زكريا الخرتيتي واقفا أمامها، داخل منامته الحريرية البيضاء، يهرش الشعر الخفيف الأشيب فوق صدره وأسفل بطنه، يفرك عينيه متثائبا يفتح فمه على آخره، يتمطى ويتثاءب بصوت عال، تفوح من فمه رائحة السمك الميت. قبل أن يسألها أي شيء انفجرت فيه بالسؤال: لماذا تسبح مع السمك الميت يا زكريا؟
في غرفتها البعيدة كانت ابنتهما مجيدة الخرتيتي تغط في النوم، اخترق أذنيها صوتاهما العاليان يتشاجران. منذ طفولتها تسمعهما يتشاجران بصوت خافت مكتوم يرتفع شيئا فشيئا، تتخلله صفعات وركلات. لا تعرف من يصفع من، ومن يركل من؟ في الصباح تراهما جالسين إلى مائدة الفطور، يقرآن الصحف ويتحدثان مثل كل يوم، كأنما لم يحدث شيء في الليل، يتبادلان الكلام والابتسام، إبريق الشاي، السكرية، الملاحة، سلة الخبز المحمص في الفرن، صحن الزبدة أو العسل أو الجبنة البيضاء بزيت الزيتون.
تصفع مجيدة الخرتيتي الباب خلفها، تقود سيارتها إلى مكتبها في مجلة النهضة، تطلب فنجان القهوة، تطلب محمد الصحفي المغمور في صالة التحرير: يا محمد، فين المقال؟ - أنا كتبت مقال تاني عن زينة بنت زينات. - الرقابة لا يمكن أبدا أن تسمح بنشر المقال ده. - ليه يا أستاذة مجيدة؟ دي أكبر فنانة في البلد يا أستاذة. - أيوه، لكن الرقابة مانعة أي شيء عنها. - مش معقول، ده ظلم يا أستاذة. - طبعا ظلم، الدنيا مليانة مظاليم، لهم رب يحميهم. - ربنا مش بيحمي حد أستاذة، لو ربنا بيحمي المظلومين كان الظلم اختفى من زمان. - إيه الكلام ده؟ إنت كفرت والا إتجننت يا محمد؟ - أستغفر الله العظيم يا أستاذة من كل ذنب عظيم. - أيوه كده ارجع لعقلك. - لكن ده ظلم يا أستاذة، لا يمكن ربنا يرضى بالظلم. - ربنا راضي بالظلم يا محمد، وإلا ما كانش ثلاثة مليون طفل يعيشوا في الشوارع، وخمسين في المية من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، والآلاف والملايين البريئة تموت في الحرب في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والسودان، وو والظلم في كل أنحاء العالم يا محمد، ربنا راضي بالظلم! - سعادتك كفرت يا أستاذة؟ - أيوه كفرت، حاجة تكفر يا محمد، إذا كانت زينة بنت زينات حطوا اسمها في قائمة الموت، البنت الفنانة الغلبانة المستقيمة اللي عمرها ما أساءت لحد، هي صاحبتي وزميلتي من المدرسة الابتدائية، أخلاقها أحسن أخلاق في البلد، أنا عارفاها كويس. - لازم أكتب عنها يا أستاذة، المقال جاهز معايا . - أنشره في جريدة معارضة يا محمد، المجلة دي بتاعة الحكومة، والحكومة بتشتغل مع الأمير والجماعات إياها، والكل بيشتغل مع أمريكا وحلفاءها، إحنا الصحفيين كلنا كذابين عاوزين نعيش. أكبر كذابين أصحاب الأعمدة في الجريدة الكبرى إياها بتاعة الحكومة، وأولهم أبويا زكريا الخرتيتي.
كان صوتها يرتعد من خلال أسلاك التليفون، ترتعش السماعة في يدها البضة السمينة، تتقلص عضلات وجهها في نوبة عصبية حادة، يتقطع صوتها، يتحول إلى نشيح مكتوم مبحوح.
لم تكن المرة الأولى ينفجر صوتها بهذا الشكل، كان محمد الصحفي المغمور أقرب الناس إليها في المجلة. يكتب لها مقالاتها، تمنحه ثقتها، تحكي له بعض آلامها، تخفف من أحزانها بالحديث معه، تجمعهما صداقة ونوع خاص من الألفة. كان يمكن أن تقع في حبه لو كان من عائلة مساوية لعائلتها. لو لم يكن فقيرا ومغمورا، لو كان له كبرياء زينة بنت زينات، لو رفض أن يؤجر لها قلمه مقابل شيء من المال. منذ طفولتها تتطلع مجيدة الخرتيتي إلى زينة بنت زينات، تقارن نفسها بها، تود أن يكون لرأسها ذلك الشموخ، أن تكون قامتها طويلة ممشوقة مثلها، وأصابعها طويلة رشيقة مثل أصابعها، تجري على مفاتيح البيانو بسرعة الضوء، أن تكون مثلها بلا أب ينهرهما إن تأخرت، يصفعها إن أخطأت، أو دون أن تخطئ، لمجرد أن ينفس عن غضبه على أمها. كانت تكره أباها في أعماقها الدفينة، تسمع الناس يلوكون سيرته، يهمس زملائها في ما بينهم بفساد ذمته، غزواته مع البنات والغانيات، تكتم السر في أحشائها، تكتب في مفكرتها السرية: أشرس الرجال حيوانات أليفة في دور البغاء.
بعد أيام قليلة نشر محمد الصحفي المغمور مقالة عن زينة بنت زينات في جريدة الثورة المعارضة، جاءها صوت صديقة أمها صفاء الظبي يهتف عبر التليفون: مقال رائع يا مجيدة، لازم تقريه، وقولي لماما تقرأه. مين محمد أحمد؟ ده صحفي ممتاز، شجاع وعنده خبرة بالنقد الأدبي، تعرفيه يا مجيدة؟ - أيوه يا طنط صافي، ده زميلي في المجلة. - بلغيه تحياتي يا مجيدة، يستاهل كل خير وكل تشجيع، وزينة بنت زينات تستحق ميت مقال من دول مش مقال واحد، اكتبي عنها يا مجيدة في المجلة. لو كان عندي صفحة أو عمود في أي جورنال كنت كتبت عنها، لكن إنتي عارفة إني ممنوعة من الكتابة من يوم ما نشرت مقالي في جريدة المعارضة عن الست الهانم الأولى. - حاضر يا طنط صافي، لكن إنتي عارفة الرقابة مانعه النشر عن زينة. - رقابة إيه وزفت إيه، اكسري رقبة الرقابة يا مجيدة، ما تخافيش من الحكومة، دي حكومة فاسدة متعاونة مع الاستعمار، والناس خلاص روحها طلعت والثورة خلاص جايه، جايه، الثورة زمانها جايه. ثورة الجياع من الداخل، الغزو الأمريكي من الخارج، وقفز الجماعات إياها على الحكم، وثورة الجياع جايه جايه.
في الصفحة الأولى من جريدة الثورة المعارضة كانت صورة زينة بنت زينات منشورة داخل برواز، في الصفحة الداخلية الثالثة كان مقال الصحفي محمد أحمد عنها. تتوقف العيون عند الصورة قبل أن تقلب الصفحة، تتوقف طويلا أمام الوجه المشع ذي المقلتين المتوهجتين بضوء يشد إليهما البصر، يخطف القلب، حضورها الطاغي حتى في الصورة فوق الورق، عيناها تخرقان الورق بنظرتها الثابتة النافذة، لديها رغبة لا تشبع في النظر والرؤية والمعرفة. تجمع عيناها البراءة والتجربة في ابتسامة واحدة، تشع بالنضج والعقل والاتزان رغم الجنون، هالة الضوء ليست في عينيها فقط، بل الوجه كله مضيء، شعرها المرسل كأنما لا تمشطه، بشرتها الخالية من الألوان والمساحيق، عنقها الطويل الممدود إلى الرأس، ياقة ثوبها من القطن الأبيض معوجة، كأنما ارتدت ملابسها بسرعة، دون أن تلقي نظرة إلى المرآة.
جاء المقال في نصف صفحة بتوقيع محمد أحمد: زينة بنت زينات فنانة من نوع غير عادي. تبدو عبقريتها في أبسط حركة، مجرد أن تدخل إلى قاعة الحفل أو فوق خشبة المسرح، يلغي حضورها حضور الأشياء الأخرى، لا تشبع العيون من التطلع إليها، حيوية روحها ترفع روحنا إلى السماء، صوتها عبقري يتحول في الأذن إلى شيء حسي، نلمسه نحسه، نذوقه مثل النبيذ الأحمر. صوتها يلغي المسافات بين القلوب، ألحانها تفتح في عقولنا أجزاء مظلمة، ضوء المعرفة تنتشي له أجسادنا، ليس فقط نشوة الكشف عن المجهول، بل هو في حد ذاته نشوة.
زينة بنت زينات خلقت بإرادتها ظروف حياتها، لا تعترف بشيء خارج إرادتها. الظروف القاسية لا تغلبها، هي تصنع الظروف، وليست الظروف التي تصنعها، تقول عن نفسها: أنا ابنة الشارع، أفخر بأمي زينات الخادمة، حملتني من فوق الرصيف، أرضعتني الكبرياء والثقة بالنفس. أبلة مريم أمي الثانية، حوطتني بالموسيقى والشعر والغناء، ملأت قلبي بالفرح والإيقاع والاتزان. - لماذا دفعتني زينة بنت زينات لأكتب عنها؟ جمالها، ذكاؤها، صوتها، إيقاعها، أغانيها، حديثها. كل ذلك السحر الذي لا نعرف اسمه بعد؛ ربما لأنها طبيعية تملك إعجاز الطبيعة، لأنها تتحرك في رشاقة، في اتساق مع حركة الأرض حول الشمس، مع ثورات العبيد في التاريخ؛ لأنها جاءت من قاع المدينة وصعدت إلى قبة السماء، لأنها حولت أصعب مأساة إلى انتصار مفعم بالبهجة والثراء، لأنها تعزف النغمة الصحيحة في اللحظة الصحيحة في هذا الزمن الرديء، لأنها تخلع الأقنعة عن الوجوه المحجبة، تفضح الكذب والزيف، تكشف العورات والتناقضات. - ألهذا وضعوا اسمها في قائمة الموت، وأرادوا لها الفناء؟ لكن زينة بنت زينات لا يصيبها الرصاص؛ لأن جسدها مصنوع من مادة غير اللحم والعظم، مادة شفافة رقيقة تشبه الروح، لا يخترقها الرصاص، لا تموت وإن ماتت، بل تتألق أكثر وأكثر في السماء؛ لأن الفن الجميل الصادق يتحدى الموت. الفنانون والفنانات لا يموتون، لقد امتدت أياديهم إلى شجرة الحياة بعد أن أكلوا من شجرة المعرفة، ذاقوا طعم الثمرة المحرمة وأصبحوا خالدين كالآلهة.
كانت أم كلثوم كوكب الشرق ذات نكتة لاذعة، كانت قادرة على إضحاك أعتى الرجال، الرؤساء والوزراء والأمراء. كانت فكاهاتها تضحك من حولها بمن فيهم الرجل الذي تتهكم عليه، كانت تتهكم على نفسها أيضا، وقد غفر لها الضحك كل نكاتها اللاذعة، لأن الضحك يجعل الروح تشف، وتعلو إلى العفو والغفران لكل الآثام.
زينة بنت زينات ليست كوكبا واحدا، هي كواكب ونجوم متعددة، حين سمعتها تضحك انزاح عن قلبي حزن دفين منذ الطفولة، ترن ضحكتها في الجو ، تنتشي لها الأجساد والعقول، تنتشل الأرواح من الركود. تبدو مثل طلسم السعادة أو الحب، معروفة مجهولة في آن واحد، طبيعية وغير طبيعية تماما.
حين ترقص زينة بنت زينات يرقص معها الناس، الرجال والنساء والشباب والأطفال، يرقص معها الكون، الشجر والشمس والقمر ونجوم السماء، لا تملك زينة بنت زينات شيئا إلا فنها، لا تخاف على شيء، لا ترغب في شيء، لا تطمع في شيء. هي إنسانة حرة، حررت نفسها بإرادتها، عاشت حياة صعبة أصعب من الموت، ولم تعد تخاف الموت.
بقلم محمد أحمد
كان الصحفي محمد أحمد يعيش في غرفة في البدروم أسفل إحدى العمارات، اسمه مغمور لا يعرفه أحد. بدأ اسمه يجري على ألسنة الناس، هنأه أصدقاؤه وجيرانه على المقال، نهضت أمه من فراش المرض وعانقته. كان أبوه عامل نسيج، مات في السجن بعد أن سار في إحدى المظاهرات وابنه محمد في الثامنة من العمر. يتفادى محمد السير في المظاهرات، لم يكن له راتب أو إيراد، يعمل في المجلة في صالة التحرير دون أجر تحت اسم التدريب، تدفع له مجيدة الخرتيتي راتبا صغيرا ليكتب لها المقالات، يشتري الدواء والطعام لأمه، يدفع بدل إيجار الغرفة في البدروم، يشتري لنفسه قميصا جديدا أو كتابا أو حذاء. يحلم في النوم أنه تحرر من الفقر والمهانة، أن قلمه أصبح ملكا له، لا تملكه مجيدة الخرتيتي، حتى نشر هذا المقال عن زينة بنت زينات، كأنما انتقل إليه من خلال السطور شيء من كبريائها، شيء من كرامتها، حين رآها فوق خشبة المسرح اهتزت روحه، عاد إليه صوت أبيه في طفولته يقول: الموت أهون من الذل، ارفع رأسك يا ابني ولا تخجل من الفقر، لا تنهزم أمام مشقة الحياة، الذين لم ينهزموا هم الذين استمروا في المحاولة، الكفاح هو الحرية وإن دخلنا السجون.
أيقظ شموخها في ذاكرته شموخ أبيه، انقطع عن الذهاب إلى صالة التحرير في مجلة النهضة، لم يعد يكتب لمجيدة الخرتيتي مقالاتها، داوم على الكتابة في جريدة الثورة المعارضة، لمع اسمه وأقبل الناس على قراءة مقالاته، بعد فترة غير طويلة أصبح مسئولا عن صفحة الفن في الجريدة.
إلى مائدة الفطور في الصباح يجلس زكريا الخرتيتي في مقعده المعتاد، يده اليمنى تمسك أذن فنجان القهوة، يده اليسرى تمسك الجورنال، يتأمل صورته الجديدة داخل البرواز فوق عموده اليومي، طويل رفيع يمتد من أعلى الصفحة حتي أسفلها، ينتهي بتوقيعه على شكل شخبطة غير مقروءة، وعنوان بريده الإلكتروني على شكل حروف اسمه آت ياهوو دوت كوم. كان عموده على يسار الصفحة أيام كان في الحزب اليساري، أصبح عموده في الوسط حين حصل على جائزة الدولة الرسمية، انتقل عموده إلى يمين الصفحة بعد تصاعد قوى السوق الحرة ورجال الدين والأعمال، أصبح له جامع يحمل اسمه، وجمعية خيرية للرفق بالحيوان ورعاية الأيتام، وشركة عالمية للنشر والطباعة، وقناة فضائية لعرض الأفلام والأحاديث في مجال العلم والإيمان، وحوار الأديان.
أمامه تجلس زوجته بدور الدامهيري في مقعدها المعتاد، ترشف من فنجان الشاي، تمر بنظرها سريعا فوق عموده دون أن تقرأه. تشعر بالملل حين تقرأ عموده، تعرف كلماته المكتوبة وغير المكتوبة، الظاهرة فوق السطر، والمختفية بين السطور، كم سنة مرت وهي تقرأ عموده كل يوم؟ عشرون؟ ثلاثون؟ مائة سنة؟ لم تكد تعرف اليوم ولا التاريخ، منذ ليلة الزفاف، عرفت شكل عموده وقضيبه، لا تكاد تنظر إليه حتى تشعر بالغثيان، تمد يدها لتمسك المقص، لتقطع عموده من الصفحة، تعلقه بدبوس فوق الجدار إلى جوار الأعمدة الأخرى، عمود محمود الفقي وعمود رئيس التحرير، وكبار الكتاب، وصورة رئيس الدولة والسيدة الأولى.
يغار زوجها من عمود محمود الفقي، يرمقها وهي تقرأ عموده قبل أن تقرأ عموده هو، كيف تقرأ عمود محمود قبل عمود زوجها؟ محمود الفقي رجل غريب عنها، لا تجمعه بها إلا زمالة العمل، ليس الزمالة مثل الزواج. قد يكون لها زملاء كثيرون، لكن زوجها واحد أحد لا شريك له مثل الله سبحانه وتعالى، إن جمعت المرأة بين زوجين يقبض عليها رجال البوليس وتوضع في السجن، داخل زنزانة مغلقة بالقضبان الحديدية، تحمل لقب عاهرة زانية ساقطة.
كان يقرأ عليها عموده كالمعتاد، تسري اللذة في أحشائه حين يقرأ كلماته المطبوعة في الجريدة، صوته يسري في أذنيها المغلقتين بسدادتين من القطن، جفونها نصف مفتوحة، غارقة في نوم عميق أشبه بالغيبوبة. - تمر بلادنا بمرحلة خطيرة. مدينة القاهرة أيها القراء الأعزاء لم تعد هي المدينة التي عرفناها، كل يوم نسمع عن أحداث يقولون عنها مؤسفة وهي أحداث خطيرة، تنبئ بانفجار وشيك، ثورة الجياع والرعاع من أولاد الشوارع، ثورة النساء المقلدات لنساء الغرب يعارضن القيم الأخلاقية التي درجنا عليها، وتقاليدنا العريقة، وأحكام الله في ديننا الحنيف. لقد أعطى الله للرجال حق الجمع بين أربع زوجات حسب الآية القرآنية الكريمة: مثنى وثلاث ورباع. هذا قانون الله، ليس للبشر أن يخرجوا على قانون الله. وقال الله في كتابه الكريم، وانسبوهم إلى آبائهم، مما يؤكد أن نسب الطفل للأب هو أمر الله، لا يخرج على أمر الله إلا الكافرون والمرتدون عن الإسلام. هذه الجمعية النسوية الجديدة التي تطالب بإعطاء اسم الأم للطفل غير المعروف الأب، إنما هي جمعية خارجة على دائرة الدين، هذه الجمعية مأجورة من الغرب لهدم الإسلام أيها القراء الأعزاء. هذه الجمعية تدعو إلى انحلال الأخلاق، إلى الحرية الجنسية للنساء كما تفعل النساء في الغرب، حيث تتفشى أمراض الإيدز والسيلان والأطفال غير الشرعيين والشيوعية والبغاء والإلحاد.
الإسلام أيها القراء الأعزاء هو دين الله الحق، الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فيه من الكمال مما يفرض علينا الالتزام به في كل مكان وزمان، لا يجوز لنا نحن البشر تغيير أي حكم جاء في القرآن أو سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى في كتابه الكريم:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، القرآن فيه تبيان لكل شيء. علينا أيها القراء الأعزاء التمسك بديننا والثبات على عقيدتنا، وهي: الإيمان بالله واليوم الآخر، والرسل والأنبياء، والكتب السماوية الثلاثة والصلاة والصوم والحج إلى بيت الله. هذه هي المبادئ الرئيسية التي تحمي نسيج المجتمع وتمنع انحرافه وتكبح جماحه، وتكون الفرملة لأي تجاوز، فلا تطغى الغرائز والشهوات وإغراءات إبليس الشيطان على كلمة الله وأحكام القرآن والأخلاق.
وأنا أطالب بحل هذه الجمعية النسوية الخطيرة. إنها مجموعة من النساء المشبوهات، تشجع الردة عن الإسلام، تهدد النظام العام السائد في الدولة. الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للدستور، هذه الشريعة لا تبيح الحرية الجنسية للنساء، فالأخلاق الكريمة والفضيلة مقدمة على الحرية.
توقيع زكريا الخرتيتي
انتهى زكريا الخرتيتي من قراءة عموده الطويل، كانت زوجته بدور تبربش بجفونها نصف المغلقة، ترمقه من تحت الجفون بنصف عين، تريد أن تصرخ في وجهه: يا فاسق يا فاجر، يا مغتصب البنات والأطفال، هل أنت الذي يدافع عن الأخلاق؟
كانت بدور تمسك أذن فنجان الشاي بيدها اليسرى. في يدها اليمني كانت سكينة الجبنة البيضاء، تقطع بها خيارة خضراء، تمتد السكينة في يدها نحو عمود زوجها في الجريدة، تريد أن تقطعه. تتراجع السكينة قليلا إلى الوراء، تتقدم نحو الأمام خطوة أو خطوتين، تريد الدخول في صدر زوجها، يغطيه شعر خفيف أشيب، لونه أبيض بحكم الشيخوخة. تحت المنامة الحريرية الغالية الثمن بحكم ارتفاع المكانة، تهبط السكينة شيئا فشيئا من صدره إلى بطنه، تحت شعر العانة الأشيب المتساقط، يكاد بوز السكينة يلمس رأس قضيبه الصغير المنكمش أسفل البطن، ترتجف السكينة في يدها البضة السمينة، أصابعها القصيرة ترتعش، تريد أن تقطع عموده وقضيبه في آن واحد، يبدو الاثنان شيئا واحدا، يشبه الإصبع الضبابي المطل من وراء السحابة في السماء، إصبع الشيطان أو إصبع الله، كان يتراءى لها في أحلامها وهي طفلة في الثامنة من عمرها، يزحف من وراء الضباب إليها وهي راقدة في سريرها، يزحف فوق عنقها وبطنها، من قمة رأسها إلى بطن قدمها اليسرى، يزحف مثل مسمار صلب، عرفت أنه إصبع الشيطان؛ لأنه يأتي من ناحية اليسار، أما إصبع الله فكان يأتيها من ناحية اليمين. تتراجع السكينة في يدها المرتجفة، تتردد بين الإقدام والنكوص، يسقط فنجان الشاي من بين أصابعها، ينكسر فوق الأرض بصوت مسموع، يرفع زوجها عينيه عن الجورنال، يرمقها بنظرة غاضبة: هذا الفنجان الثمين من النوع النادر، دفعت ثمنه مائة وعشرين جنيها.
يرمق أصابعها القصيرة السمينة المرتعشة، عاجزة عن الإمساك بالقلم، عاجزة عن كتابة أي مقال له قيمة، تحلم بكتابة رواية. تنام معظم الوقت، لا تفعل شيئا إلا الذهاب إلى الطبيب النفسي وابتلاع حبوب الفاليوم.
تحرك بدور جسمها الثقيل من فوق المقعد، تنهض واقفة على قدميها الحافيتين، تمشي فوق الأرض كأنما تمشي في النوم. تدخل قطعة من الفنجان المكسور في بطن قدمها اليسرى، تمد قدمها اليمنى لتدخل فيها قطعة أخرى من الفنجان المكسور، تستشعر الألم اللذيذ مع لذة غامضة مؤلمة، تحملق في دمها السائل فوق البلاط الأبيض، شيء في حمرة الدم يوقظها من النوم، يعيدها إلى الحقيقة، حقيقة الدم النازف من اللحم. تدوس بقدميها الاثنين الإبر المدببة على الأرض، تشبه المسامير، تمشي وتمشي فوق المسامير، تستشعر اللذة مع الألم، اللذة مع الألم، تذوب اللذة في الألم، يذوب الخيال في الحقيقة، يذوب الحاضر في الماضي السحيق، في المستقبل والغيب البعيد، يتراءى لها وجه نسيم يمشي إلى جوارها في المظاهرة الكبيرة، المقلتان الكبيرتان المتوهجتان بالضوء، يحوطها بذراعيه ويهمس في أذنها: سيكون لنا طفلة نسميها زينة الدنيا، أو طفل نسميه زين العالمين، يغير الدنيا والآخرة، وينتهي الظلم والفقر والمرض.
ينحني جسمها القصير السمين فوق بقع الدم على البلاط، يمر الوقت وهي منحنية على الأرض، تحملق في دمها المسكوب. تلامس بطرف إصبعها قطرة الدم، تحس اللسعة فوق إصبعها، لسان من اللهب الأحمر، عيناها مشدودتان إليه لا تتحركان بعيدا عنه، يموج بالحركة والحياة، تغير لونه مع حركة الأرض حول الشمس، أصبح وهجا أزرق أسود في ظلمة الليل، يشبه عيون قطط صغيرة تحملق، عيون أطفال وليدة في العراء تتطلع، عارية من الغطاء إلا السماء، طفلة مولودة فوق الرصيف، مقلتاها كبيرتان زرقاوان سوداوان، ثابتتان في عينيها الليل والنهار، والنهار والليل. كان يمكن أن تتركها وتمضي قبل أن تفتح جفونها، قبل أن ترى عينيها، لكن جفونها انفتحت فجأة، أطلت منها المقلتان الكبيرتان المتوهجتان، نفذت نظرتها كالسهم إلى قلبها تحت الضلوع، شقت اللحم والعظم إلى فلذة الكبد، إلى ثنايا الروح، أصبحت هي الروح، لها حرارة الدم.
ركبت بدور الدامهيري سيارتها، أرادت أن تذهب إلى طبيبها النفسي. أصبح هو صديقها الوحيد، تدفع له في نصف الساعة مائة وخمسين جنيها، الدقيقة الواحدة منها خمسة جنيهات، إن بقيت معه عشر دقائق دفعت له خمسين جنيها. إن احتواها بين ذراعيه وطالت المدة إلى ساعة أو ساعة ونصف، تدفع له مبلغا أكبر؛ لأنه يبذل جهدا أكبر بجسده وقلبه، ليس فقط بلسانه أو الحديث معها، دقيقة الكلام بخمسة جنيهات، دقيقة الحب العذري بسبعة ونصف، دقيقة الحب غير العذري بعشرة، لم يكن الطبيب النفسي يشعر بالحرج حين تضع في يده رزمة الجنيهات. - إنها مهنتي يا بدور مثل مهنتك في النقد الأدبي، هل تشعرين بالحرج حين تتسلمين راتبك كل شهر؟ هل تشعرين بالحرج حين يدفعون لك للمقال الواحد خمسمائة جنيه؟ إنني أخفف عن الناس آلامهم، آلام الجسد والقلب والعقل والروح. وما الفرق بين آلام الجسد وآلام الروح يا بدور، ولماذا يكون الحب الروحاني أسمى من الحب الجسدي؟ إنها مهنتي أحصل منها على رزقي الذي حلله الله لي. - كما حلل لك أربع زوجات يا دكتور. - لا يا بدور، لست من هؤلاء الرجال، لي زوجة واحدة أحبها وأخلص لها، أنا لا أخون زوجتي بهذه الأفعال في العيادة، إنها جزء من المهنة. - لا أفهمك يا دكتور. - أي عمل يتعلق بالمهنة يدخل ضمن بنود شرف المهنة، وجميع المهن شريفة ما دمت لا تضرين الآخرين، حين أحتويك بين ذراعي فأنا لا أضر أحدا، في الوقت نفسه أنا أخفف عنك أحزانك وأعالجك من الحزن. - ما الفرق بين مهنة البغاء ومهنة الطب النفسي؟ - لا شيء، أنا أحترم المومسات أكثر من الزوجات والأزواج الذين يكذبون بعضهم على بعض، الكذب هو العار الوحيد في رأيي، زوجتي تعرف كل شيء عني، وأنا أعرف كل شيء عنها. - ألا تؤمن بالله يا دكتور؟ - الله عندي هو الصدق، وليس أي شيء آخر. - ألا تؤمن بالمصير الذي كتبه الله فوق جبيننا؟
رفع الطبيب كفه ومسح جبينه وضحك : إن كان هناك شيء مكتوب على جبيني، فأنا قادر على أن أمسحه بيدي وأكتب ما أشاء. - أستغفر الله العظيم يا دكتور، هذا كفر. - هل أصبحت عضوا في مجموعة ابن عمك أحمد الدامهيري؟ - لا يا دكتور، لا يمكن أن أفكر مثله، لكني في حاجة إلى الله. - لماذا تحتاجين إلى الله؟ - لأنه يساعدني ضد من يضطهدني، ضد من يظلمني. - من يظلمك يا أستاذة بدور؟ - كل من له سلطة علي، من عميد الكلية في الجامعة إلى زوجي في البيت. - وماذا يفعل الله لهم؟ - لا شيء يا دكتور، لكن ... لكن ... - لكن إيه يا دكتورة بدور؟ - لكن ربنا في الآخرة سيحرقهم في النار. - لا لا يا بدور، أظن أن حالتك النفسية تتأخر ولا تتقدم. كنت أحسن حالا من شهر واحد، أنت في حاجة إلى جلسات كهربية جديدة. - لا لا يا دكتور، إلا الجلسات الكهربية، أنا مستعدة لكل شيء بما فيه الكفر، وبلاش الكهربا على دماغي يا دكتور. - تعرفي مشكلتك إيه يا بدور؟ - إيه يا دكتور؟ - حياتك كانت سهلة، أبوكي وأمك حرموكي من التحدي. - أيوه كان كل شيء عندي، أبويا وأمي حرموني من الحرمان. - حرام عليهم، ربنا لا يمكن يسامحهم. - يعني آمنت بربنا يا دكتور؟ - زلة لسان، يا بدور، خلاص الوقت خلص، لا مؤاخذة، لازم أقفل العيادة وأرجع بيتي لمراتي وعيالي.
السحابة السوداء تزحف فوق المدينة من الشمال والجنوب، يصبح النهار مثل الليل، كانت بدور الدامهيري راقدة في سريرها، شعاع خافت من الضوء يسري فوق جفونها المغلقة، يزحف فوق وجهها وعنقها، يدخل من تحت قميص النوم إلى بطنها العالية، تنتفض صاحية لا تعرف الوقت، تسمع صوت الرعد، تنادي الدادا، تدخل زينات إلى غرفة نومها حاملة الصينية الفضية، فوقها إبريق الشاي من الفضة، ملعقة السكر من الفضة، تشم بدور نكهة الشاي، مع قضمة من كعكة العيد الناعمة، تذوب في فمها مرشوشة بالسكر، وقطعة من الزبد مع العسل. - صوت الرعد ده يا زينات أو مدافع العيد؟ - لا يا ست بدور ده صوت المظاهرات.
هبت بدور الدامهيري واقفة على قدميها الصغيرتين المدكوكتين باللحم، دستهما في البانتوفلي الأزرق تعلوه كرة من الفرو الأبيض، سارت تترنح إلى النافذة، من خلفها تمشي زينات، في قدميها حذاء أبيض من الكاوتش، مدت يدها السمراء النحيلة إلى النافذة تفتحها، اندفع الصوت مع الريح قويا يهز الجدران، آلاف الناس، ملايين الناس، نساء ورجال وشباب وأطفال، يسيرون صفوفا صفوفا، حاملين اللافتات، يتصاعد هتافهم يرج السماء، يسقط النظام، يسقط الملك والإنجليزي.
تغمض بدور عينيها، جسدها يرتعش، تعود إليها الذكرى: حلم لم يحدث إلا في الخيال؟ حقيقة حدثت في حياة امرأة أخرى غيري؟
كانت بدور في التاسعة عشرة من عمرها تمشي نحو الحب والحرية بخطوات قوية ثابتة، تجسدت الحرية والحب في شخص واحد، كان يمشي إلى جوارها في المظاهرات، كان اسمه «نسيم»، كان اسمه «نعيم»، أو ربما اسم آخر، تغيرت الأسماء مع مرور السنين وتغيرت الهتافات: يسقط الملك والإنجليز، يسقط الأمريكان والرئيس، الجلاء بالدماء، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، تحيا مصر حرة.
الهتاف يتصاعد من بعيد، يقترب منها أكثر وأكثر، أصوات الآلاف في الشوارع ترتفع:
غلو العيش والزيت الحار،
والجاز ولع نار.
غلو السكر غلو الزيت،
لما بعنا البيت.
يتعالى الهتاف، يشبه هدير الشلال يرتفع وينخفض، ثم يرتفع، تسقط أجساد على الأرض، ثم تنهض، تسقط ثم تنهض، وهي تمشي بينهم، تدوس على قدميها بقوة، تمشي داخل نهر من البشر يذوب في البحر، محمولة فوق موجة عالية، لا تشعر بملمس الأرض، يعتصرها ضغط الجموع حيث تقترب من المركز. يذوب جسدها حتى يتلاشى ثم تولد من جديد، هي جزء من الكل، الكل جزء منها، صوتها يذوب في الأصوات، ترجها لذة حية عنيفة تشبه الجنس، تمشي وتمشي دون أن تشعر بالتعب، لم يعد جسمها سمينا ولا قصيرا، أصبحت ممشوقة القامة، رشيقة الخطوة، ترقص بخفة على الإيقاع، ثم دب الصمت بصوت يشبه الرعد. أصبحت الشوارع خالية من الناس، سيارات البوليس تجري هنا وهناك، وقفت في مكانها ثابتة، تسند ظهرها إلى الجدار، أمامها تراه واقفا، ذراعه ممدودة نحوها، ذراع طويلة قوية، تمتد من صدر عريض داخل الفانلة البيضاء من القطن، يزحف نحوها سائل أحمر بلون الدم، تمد يدها لتمسك يده، لكن المسافة بينهما تتسع وتتسع، يبتسم لها من بعيد قبل أن يختفي، تراه من ظهره يمشي، ظهره مرفوع مشدود العضلات، الأطفال يقبلون نحوه من الشوارع والأزقة، يدورون حوله على شكل الدائرة يغنون: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل ياللا ده مالوهش مثيل، قطن ما شاء الله ...
أفاقت بدور على صوت زينات تقدم لها فنجان الشاي. - اشربي الشاي يا ست بدور قبل ما يبرد. - ما ليش نفس يا دادا، نفسي مسدودة. - مال لونك مخطوف كده يا ست بدور؟ - عندي برد من امبارح. - لازم مشيتي في المظاهرة، خطر عليكي يا ست بدور. - أوعي تقولي لبابا أو ماما. - ينقطع لساني لو قلت يا ست بدور. - إوعي تقولي لهم يا دادا! - لا يمكن أقول يا ست بدور، إنتي غالية عندي أوي، لكن المظاهرات خطر عليكي يا ست بدور، البوليس قبض امبارح الفجر على ابني نسيم، أخدوه بالفانلة واللباس، أخدوا شباب كثير، كلهم من الناس الفقرا اللي مالهومش ضهر ولا واسطة كبيرة، ضربوهم بالرصاص.
تبتلع زينات دموعها: يا ترى إنت عايش يا ابني أو ميت؟ يا ترى بيعذبوك زي ما باسمع من الناس؟ لو ربنا موجود كان العذاب ده يحصل يا ست زينات؟ أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، سامحني يا رب، شوف عذابي يا رب وإرحم إبني من العذاب.
تمسح زينات عينيها بكم جلبابها الواسع، تحوطها بدور بذراعيها، تبكي فوق صدرها، تمسح كل منهما دموع الأخرى. - عاوزه أموت يا دادة زينات. - بعيد الشر عنك يا ست بدور. - الموت أرحم من العيشة دي يا دادا. - ده إنتي لسه صغيرة يا ست بدور، يدوب عندك تسعتاشر سنة، وربنا أعطاكم خير كثير، بكره تتخرجي من الجامعة وتبقي أستاذة كبيرة، الدكتورة بدور الدامهيري على سن ورمح. - الدنيا مظلمة في عيني يا دادا، خايفه ... - خايفه من إيه يا ست بدور؟ - خايفه بابا وماما يعرفوا اللي حصل. - إيه اللي حصل يا ست بدور؟ - ما فيش حاجة يا دادا، ما فيش حاجة حصلت. - لما ما فيش حاجة حصلت خايفه من إيه؟ - خايفه يعرفوا إني مشيت في المظاهرة. - كل الناس مشوا في المظاهرة يا ست بدور. - مشيت مع واحد زميلي في المظاهرة. - مشيتوا سوا في المظاهرة يا ست بدور وماله؟ جرى إيه؟ المشي في المظاهرة مش عيب، بالعكس ده شرف يا ست بدور، أنا مشيت في مظاهرات كتيرة مع العمال والفلاحين. - أيوه يا دادا زينات لكن بعد المظاهرة رحت مع زميلي. - رحتم فين يا ست بدور؟ - بيته. - بيته؟ - أيوه يا دادا؟ - وحصل حاجة في بيته يا ست بدور؟ - أيوه يا دادا.
تبكي بدور فوق صدر الدادا وهي تحكي لها، ينتفض جسدها في اهتزازات عنيفة، تهدهدها زينات كالأم، تأخذها في حضنها، تربت رأسها وشعرها: قوليلي يا بنتي إيه اللي حصل؟ - إوعي تقولي لحد؟ إوعي تقولي لبابا وماما! - ينقطع لساني لو قلت يا ست بدور، ده إنني غالية عندي زي ابني نسيم، يا ترى عايش أو ميت يا ابني يا حبيبي.
كان اليوم جمعة وقت الظهيرة، بعد سنين كثيرة، الأبواق والميكروفونات كلها مفتوحة مثل فوهات الجحيم، الشمس رغم احتجابها وراء السحابة السوداء تشع لهيبا وسهلا وعرقا، امرأة تختفى وراء نقاب أسود، تصب على العالم فحيحها ولهاثها، كانت تمشي فوق الأسفلت السائل، تدوسه بكعب حذائها المدبب، تصنع خرما في الطين اللزج، تخشى الانزلاق فوق اللزوجة، تخشى السقوط فوق الأرض الهشة، إن سقطت فسوف تنهال فوقها السكاكين، ويهلل العيال خلفها: العجل وقع هاتوا السكين.
والعالم من حولها يزعق في الميكروفونات: الله أكبر، الله أكبر ...
حتى القطط الشاردة أصبحت تموء بكلمة الله أكبر، تتلقى من الصباح إلى المساء كل ما يخرج من فوهات الأبواق، تتمسح بالأرض ساجدة فوق بطنها في خشوع مع الجموع.
يراودها السؤال وهي تمشي: أيكون العالم كله مجنونا برجاله ونسائه وقططه، وأنا الوحيدة العاقلة؟
فوق الجدار العالي كانت الحروف محفورة: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
كانت هذه الحكمة هي ملاذها الوحيد. إذا كان الضلال مشيئة الله فهي حسب مبدأ العدالة بريئة.
كانت الشوارع مزدحمة بالناس، يرتدون الملابس الجديدة، صودف أن جاء عيد الأضحى مع عيد الميلاد، عيد مولد المسيح عيسى ابن مريم، وعيد التضحية بالكبش ليذبح بدلا من إسماعيل أو إسحق، أبوهما النبي إبراهيم، يلبي رغبة سارة زوجته أم إسحق، يلقي بهاجر زوجته الأخرى أم إسماعيل في العراء، يتلقى الأمر بذبح ابنه إسماعيل طاعة لله حسب ما جاء بالقرآن، أو ذبح ابنه إسحق حسب ما جاء في التوراة، لا يعرف أحد من من الابنين يذبح؟ الأب إبراهيم أيضا لا يعرف أو ربما يعرف؛ لأن القرآن لم يكن نزل بعد في عصر النبي إبراهيم، وإلا كان عليه أن يذبح ابنيه الاثنين، تنفيذا لأمر الله في كتابية الكريمين، التوراة والقرآن، أرسلهما الله مع كتابه الثالث الإنجيل، هدى ونورا للعالمين.
كان الصباح مظلما ملبدا بالغيوم، والسحابة السوداء تزحف كعادتها فوق سماء القاهرة، تتنافس أجراس الكنائس في دويها مع مكبرات الصوت فوق الجوامع، يفرقع أولاد العائلات بمب العيد، يزهون بملابسهم الجديدة أمام أطفال الشوارع، يدبون بأحذيتهم الجلدية المتينة على الأسفلت، يسخرون من الطفل اليتيم الأعرج، يقذفونه بالطوب، يجري هاربا منهم، يطاردونه حتى يسقط على الأرض، يتراقصون ويهللون: العجل وقع هاتوا السكين.
صودف أن فتاة محجبة مسلمة كانت تمشي، اصطدم بها في الزحام فتى قبطي، اعتذر لها ومضي في طريقه، لكن رجلا مسلما أوقفه وصفعه على وجهه، رد الفتى الصفعة بصفعة مماثلة، بدأ العراك وحدثت المذبحة، حرقت كنيسة الحي ومات شباب من الأقباط والمسلمين.
تلقى البوليس أمرا بعدم التدخل، حتى يبيد الفريقان أحدهما الآخر، ثم جاءت العربات المصفحة، والمطافئ، حوطت الكنيسة والجامع، اعتقلت رجالا ونساء وشبابا وبعض أطفال الشوارع، تكدسوا داخل العربات البوكس مثل قطع السردين، انطلقت بهم مع الصفارات إلى حيث لا يعلم أحد.
قبل أن تخرج في الصباح أعدت بدور الدامهيري حقيبتها، لونها أزرق رمادي، تجرها على عجلات، وضعت في الحقيبة ما تحتاج إليه في رحلتها الطويلة، قبل ذلك جلست بجوار الحقيبة الفارغة على طرف السرير تفكر، ماذا تأخذ معها؟ عيناها تدوران من حولها، تتأمل غرفة النوم، دولاب الملابس الكبير من الخشب الزان منقوش برسوم وزخارف، ستائر حريرية شفافة فوق النافذة لونها أزرق فاتح سماوي، السرير العريض رقدت فيه إلى جوار زوجها منذ ليلة الزفاف الليلة وراء الليلة، السنة وراء السنة، ثلاثين، أربعين، مائة عام، أكثر من مائة عام مرت منذ الولادة حتى الموت. كم مرة ولدت وماتت، ثم ولدت وماتت؟! فوق الشماعة بجوار الدولاب ترى البيجاما الحريرية الرمادية، خلعها زوجها في الصباح قبل أن يخرج إلى مكتبه في الجريدة. اتخذت البيجاما شكل جسده، مترهلة مثل عضلاته، تتثنى وتهتز قليلا مع حركة الأرض والهواء، السروال يتدلى مفتوحا أعلى الفخذين أسفل البطن، الأزرار مفكوكة تطل منها قطعة اللحم، مترنحة منكمشة بحجم الفأر الصغير.
عيناها تتسعان في ذهول، عقلها عاجز عن الفهم، هذه القطعة الصغيرة من اللحم قامت عليها الدنيا والآخرة، تأسست فوقها الدول والأديان، حملها التاريخ فوق رأسه وسار بها منذ الأزل وإلى الأبد، هذه القطعة من اللحم أدخلت النساء سجن العبودية، أهانت الرجال وأذلتهم، جعلت الشيخ العجوز يغتصب طفلة صغيرة، والمؤمن الصالح يفقد ثلثي عقله إن هاجت، هذه القطعة من اللحم، حرمت ثلاثة ملايين طفل في بلد واحد من حقوق الإنسان. ولدوا في الشوارع، عاشوا في الشوارع، وماتوا في الشوارع. هذا الفأر الصغير المنكمش بين الفخذين حكم على ملايين البنات بالموت قبل الأوان، سلب منهن الفرح والبهجة، سرق منهن الابتسامة والأمل وحلم الطفولة، هذا الفأر الصغير يتوهم الحياة بعد الموت، يبلع حبوب الفياغرا تحت سحابات الظلمة، والوهم بالبعث في حياة أخرى.
فوق السروال الحريري بقعة لونها أصفر، لها رائحة البول أو قطرة الدم، باقية ربما منذ استئصال الخصية، أو ذلك السائل الأصفر الباهت اللون، المشبع بالحوينات المنوية، أطلق عليه الذكور اسم ماء الحياة، له رائحة الموت أو حامض أوكسيد الكبريتيك، تلك الرائحة المنفرة النفاذة، تعجز أنوف النساء عن شمها من شدة الحب أو السعادة الموهومة.
كانت بدور الدامهيري تتلقى الحب والرائحة أملا في الحرية، يتلاقى الحب والحرية داخل جسدها في مركز واحد، في بؤرة واحدة تعلو فيها اللذة والألم إلى القمة، تعيش وتموت في لحظة واحدة خاطفة، ثم تنقشع الغشاوة، تشد جفونها لتفتح عينيها على الحزن والحقيقة.
الحقيبة المفتوحة إلى جوارها، تضع فيها ثوبها القديم من القطن الأبيض، كانت ترتديه يوم سارت في المظاهرة الكبيرة، فوقه من الخلف بقعة دم قديمة بعد لحظة الحب السريعة، لحظة واحدة سريعة تساوي العمر، لحظة واحدة حقيقية نسفت الحقيقة، حملتها إلى الموت، مبقعة بالدم فوق الثوب من الخلف، من الأمام بقعة أخرى فوق صدرها، حين مد لها ذراعه مبللة بالدم، يسري اللون الأحمر فوق فانلته البيضاء، مدت ذراعها وأمسكت طفلتها المولودة فوق الرصيف، وضعتها في الحقيبة إلى جوار ثوبها القطني، مدت ذراعها وأمسكت الدوسيه الأصفر في الدرج، وضعت الرواية الطويلة في الحقيبة، رزمة من الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، لا تعرف عددها، مبللة بالعرق والتعب والأرق، وقطرات دموع جفت، وتجمدت على شكل حروف سوداء متعرجة، تشبه حروف الأطفال في المدرسة الابتدائية، قشعريرة تسري من الأوراق إلى أصابعها، إلى ذراعيها، إلى جسدها كله، رائحة الحبر في أنفها تشبه رائحة الموت، رائحة فراش الزوجية. - هل يحس الإنسان بالموت قبل أن يموت؟
تطل بدرية من بين الأوراق تسألها، عيناها ثابتتان في عينيها. كانت بدرية تتحدث معها طوال الوقت، على مدى سنين العمر، صوتها يملأ البيت، وجودها يملأ الكون، يؤنسها، يخفف عنها الوحدة والصمت، تتخاصمان وتتصالحان، تتخاصمان وتتصالحان، لا غنى لإحداهما عن الأخرى، والصمت في كل أنحاء البيت، لمحت بدور بعض السطور المكتوبة في الرواية بخط بدرية، حروفها الكبيرة المستقيمة تشبه خطوط الأستاذات الكبيرات. - الحزن حين يأتي لا تعرفه، لا نتوقعه يا بدور. لا نحس به حزنا، بل وجعا في الصدر، تحت الضلوع، وألما دفينا تحت عظام الرأس، نلوم أنفسنا على إثم لم نفعله، كلمات لم نكتبها، حروف لم ننطقها، خفقة قلب لم ندركها، الحزن أشد من الموت، بعد أن تعود من أي مأتم، وإن كان مأتم الأب أو الأم، أو من هو أعز منهما، تصحو في اليوم التالي لنشرب الشاي، نتناول فطورنا كالمعتاد، نقرأ الصحف والأخبار والمجلات، نذهب إلى المكتب أو العمل، نعود إلى البيت، تعود إلينا الأحلام في الليل، نمارس الجنس كالمعتاد، كما نمارس السير على القدمين كالمعتاد، كالمعتاد.
لكن الحزن شيء آخر، الحزن قطيعة مع الحياة، تتوقف عجلة الحياة اليومية، يتغير طعم الأكل في الفم، يستقر الطعام في المعدة مثل قطعة من الحجر، يتغير طعم الماء ورائحة الهواء، تتغير ملامحنا في المرآة، لا نتعرف على وجوهنا كالمعتاد، الحزن لا يأتي دفعة واحدة، بل يأتي في موجات، في شحنات متقطعة. الحزن اكتشاف مفاجئ للموت، زهد مفاجئ في الحياة، مفاصل الركبتين تصبح مخلخلة، العينان تصيبهما زغللة، طقوس الحياة اليومية تصبح هي العبث، ترتج خلايا المخ داخل الجسد، موجات الحزن تشبه موجات الضوء الخاطف، يصبح الجسد خفيفا متحررا من الثقل، يحلق في الفضاء من شدة السعادة، ثم يثقل ويثقل بالحزن مثل قطعة من الحجر.
كانت بدور الدامهيري جالسة على طرف السرير، بجوارها حقيبتها المفتوحة، تتقلص عضلات وجهها بحركة غير مرئية، تحس الغصة في حلقها، يجف ريقها دون إحساس بالظمأ أو رغبة في الماء، تحس الاختناق كأنما الهواء في الغرفة معدوم، تجتاحها رغبة في التنهد، في البكاء، في الصراخ، دون قدرة على الصراخ أو البكاء، الجفاف في حلقها وفي عينيها تحت الجفون، الصمت والخواء في جسدها داخل الأحشاء، يمتد بها الوقت وهي جالسة دون حراك، تبحلق في الفراغ، تسقط في النوم وهي جالسة مفتوحة العينين، تدخل في الليل من حلم إلى حلم، لا تصحو ولا تنهض ولا تبكي؛ لأن الدموع ماتت من الحزن، غدة الدموع تجمدت في الموت، جف ماؤها حتى القاع، حبال صوتها جفت وتقطعت، لم تعد تنطق ولا تصرخ، خلايا عقلها توقفت، أصبح الطريق أمامها مفتوحا إلى الجنون، إلى رحلة طويلة داخل الظلام، قبل أن تولد، حين كانت جنينا في الرحم، يحوطها الماء، ماء أسود كثيف غير قابل للاختراق واتسعت عيناها في ذهول، كانت ترى الضوء، كانت ترى دهشتها في المرآة، دهشة العين العارية ترى نفسها، دهشة الميت يرى موته بعينيه، كان الحزن قد راح وسقط في العدم، وأضاء ركن في عقلها كان مظلما.
لم تعد بدور الدامهيري تخشى الفراق أو الطلاق أو الموت، يمكن أن تحمل حقيبتها وتمضي وحدها في الطريق اللانهائي المجهول. سحبت بدور نفسها من حدقة الكون وعين الله الساهرة لا تنام، لم يكن انسحاب اليأس والفراغ، بل الامتلاء بثراء الوحدة الجديدة الباهرة، كانت الوحدة في نظرها عقابا تتفاداه، ألما تخشاه، وليس متعة تنتظرها، وكانت تسأل بدرية قبل أن تمضي: هل بالوحدة خرجت من العالم أم دخلت فيه بعمق؟
وهمست بدرية بصوت خافت وهي تراها تجر الحقيبة من خلفها: الوحدة ليست في حد ذاتها متعة، لكنها قد تخلق متعا جديدة، ربما تكتبين رواية جديدة، أو تعيشين حبا أكبر من حبك الأول اليتيم، ربما تكتبين بضمير المتكلم، أنا، ولا تتخفين وراء امرأة أخرى وتقولين هي، ربما تنسلخين عن مهنة النقد الأدبي، وتكفين عن مسح أحذية الآخرين، ومنها حذاء زوجك، ربما تمسحين حذاءك أنت، وترين نفسك الحقيقية فوق الورق، ربما تطردين من رأسك ما سمعت من نقاد الأدب، أن الكتابة بضمير الأنا أقل قيمة من الكتابة بضمير الغائب، هي أو هو، أو هم أو هن. إن كتابات النساء يضعفها الحديث عن الذات، نقاد الأدب يا بدور فقدوا الذات والحقيقة، ومن يفقد ذاته يفقد الآخرين.
فتحت بدور الدامهيري الباب، خرجت تجر من خلفها الحقيبة دون أن تلقي نظرة واحدة إلى الخلف، دون كلمة وداع واحدة لحياتها الماضية، رآها زوجها من ظهرها تسير إلى الباب، كان ظهرها مشدودا مرفوعا، سقطت انحناءة ظهرها في العدم، الماضي لن يعود، لن يتحرك الزمن إلى الوراء، وإن تغيرت قوانين الطبيعة وحركة الكواكب، وإن عاد الزمن إلى الوراء، كما يقول بعض العلماء، فلن تعود بدور إلى الوراء، لن تعود، وإن تدخل القضاء أو القدر فسوف تمنعه، سوف تمسح من فوق جبينها ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تولد.
كان زوجها، زكريا الخرتيتي ، واقفا في الصالة وهي تفتح الباب وتخرج، سقط الضوء على وجهه في لحظة خاطفة كالصفعة، ثم انغلق الباب من خلفها دون صوت، دون غضب، دون حزن ولا ندم، دون شيء على الإطلاق، كأنما الزمن الطويل الذي جمعهما في فراش واحد لم يكن زمنا، كأنما مائة عام هي لحظة خاطفة عابرة، كأنما أصبحت بدور الدامهيري امرأة أخرى، مولودة لتوها هذه اللحظة، هذه اللحظة التي فتحت فيها الباب وخرجت، انفتحت عيناها لأول مرة، أدركت أن الخوف مثل الإيمان الموروث أعمى، إن فتحنا عيوننا تلاشى وتبدد، مثل قطرة ماء تذوب في البحر.
بقي زوجها واقفا في الظلمة، محملقا في ظهر الباب المغلق، داخل منامته الحريرية الرمادية، كانت بيضاء ثم بهتت مع الزمن، مقلتاه الصغيرتان الغائرتان كان لونهما أسود، أصبحتا بلون الملاءة البيضاء، أو انسحبتا تحت الجفون هربا من المواجهة، سعيا إلى النوم من جديد، لكن الصفعة المفاجئة بددت بقايا النوم، استيقظ معه الذكر الآخر القابع تحت المنامة، تحت السروال المتهدل، بدأ صوته يسري في أذنه كالهسيس أو همس الريح البعيد: أنت يا رجل أخطأت في حق هذه المرأة، راوغت وكذبت وتلاعبت حتى أصبح الباب مغلقا في وجهك، نحن الرجال لا نتراجع عن الخطأ حتى تجبرنا المرأة على ذلك، وبعد فوات الأوان، نحن لا نشتهي المرأة التي نملكها، تتطلع عيوننا إلى ما لا نملك، لا نعرف قيمة المرأة حتى نفقدها، هناك شيء معطوب في الرجال، أو ربما في قانون الزواج، قانون وضع اليد والسيطرة، ما إن يسيطر الرجل على المرأة حتى يحدث العطب، إنه تاريخ مكتوب قبل أن نولد، كتبه الآلهة والرسل والملوك والفراعنة، نحفظه عن ظهر قلب منذ الولادة حتى الموت، نرضعه مع لبن الأم، ولبن الأب؛ لأن لبن الأب يتسلل إلى ثدي الأم، متنكرا بلون أبيض بريء، براءة الذئب من دم الحمل.
شوح زكريا الخرتيتي بيده طاردا الصوت، كان لا يزال واقفا في الصالة محملقا في ظهر الباب، يستعيد صورتها بعد أن مضت، يتذكرها في أول لقاء، رغم مرور السنين يظل اللقاء الأول محفورا في الذاكرة، مرت به أحداث وأحداث، لكن هذه اللحظة الأولى بقيت، كأنما في الزمن الحقيقي، كأنما العمر لا يحسب بالسنين، كأنما الزمن غير موجود إلا هذه اللحظة، كان يسمعها تقول وهي تكتب: «لحظة واحدة من العمر قد تساوي العمر كله.» كان يضحك عليها، امرأة جاهلة بمقاييس الزمن، امرأة ناقصة العقل والدين كما سمع من أبيه وجده والمدرسين، كما قرأ في كتب التاريخ والدين، في أول لقاء قال لها: أنا مختلف عن أبي وجدي وكل الرجال، أنا لا أؤمن بالآلهة الذكور.
لكن الله وإبليس كانا قد تسللا إليه مع لبن الأم، أصبحا راسخين في أعماقه كالأسمنت المسلح، هما معا، لا يوجد الكون دون إله وشيطان، لا يشغلهما شيء إلا النساء، مثل كل الذكور.
سار حافيا يترنح، أسرع الخطو قليلا ليدخل دورة المياه، أصبح البول أسرع منه مع الزمن، يتسرب منه قبل أن يجلس فوق المرحاض، تفوح رائحة نفاذة، أشد نفورا مما كانت، يبعد أنفه عن الرائحة، لم يكن ينفر من رائحة عرقه وبوله، لم يكن ينفر من التجاعيد حول عينيه في المرآة، كان يرى تجاعيد زوجته ولا يرى تجاعيده، يشم رائحة بولها وعرقها ولا يشم رائحة جسده، كانت زوجته مرئية بعينيه المفتوحتين، كان يحدق فيها ويراها دون أن تطرف له عين، لكنه كان عاجزا عن رؤية نفسه، كان أعمى فيما يخص الذات، عيناه مثل عيون الآلهة لا ترى إلا العبيد فوق الأرض، لا ترتد عيناه لتحدقا في ذاته العليا؛ لأنها فوق الرؤية، فوق السمع والبصر واللمس والشم وسائر حواس البشر الحسية.
جلس زكريا الخرتيتي في مقعده المعتاد إلى مائدة الفطور، يرشف القهوة ويقرأ عموده في الجريدة، كان العمود موجودا لكن أقصر مما كان، اسمه الكبير أصبح مكتوبا بالبنط الصغير، لم تظهر صورته داخل البرواز فوق رأس العمود.
اهتزت الأرض من تحت قدميه، اهتزت السماء، كأنما سقطت الأعمدة التي تحمل السماء معلقة في الهواء، كما جاء في كتب الله: أيمكن أن تتهاوى الأعمدة وتسقط السماء من فوق الأرض؟ أيمكن أن تقوم القيامة وينهض الموتى من القبور، ويموت الأحياء في الشوارع والبيوت؟ أيمكن أن تسقط الحكومة ويتهاوى العرش من تحت أليتي فرعون؟ أيمكن أن يأتي حاكم جديد أو إله جديد يرتدي بدل الكرافاتة حول عنقه عمامة وزبيبة سوداء فوق جبينه، وسبحة صفراء بين أصابعه، يحمل السيف بيده اليمنى بدل المسدس، وفي يده اليسرى يحمل كتاب الله بدل الدستور؟ هل أصبحت مصر مثل أفغانستان يحكمها الطالبان؟
هب زكريا الخرتيتي من النوم، فرك عينه بيديه، رأى عموده في الجريدة كما كان، طويلا رشيقا على يمين الصفحة، صورته داخل البرواز بحجمها القديم، كل شيء كما كان، والسماء مرفوعة فوق أعمدتها في الهواء.
لكن المقعد أمامه كان خاليا، أين راحت زوجته بدور؟ ربما هي في الحمام، أو في غرفة مكتبها تكتب الرواية، أو ربما ذهبت إلى الجامعة، أو إلى صديقتها صافي، أو إلى ابنتها مجيدة. فوق غلاف مجلة النهضة رأى صورة ابنته مجيدة الخرتيتي تلف رأسها بحجاب أبيض، عنوان مقالها داخل الترويسة مع كبار الصحفيين: «المرأة في الإسلام» بقلم الكاتبة الكبيرة مجيدة الخرتيتي.
أصبحت ابنته كاتبة إسلامية، صدر قرار من الرئاسة بمنحها مقعدا بالتعيين في المجلس الأعلى المنتخب للصحافة. كان التعيين والانتخاب في المجالس العليا شيئا واحدا، يصدران بقرار الواحد الأحد غير المكتوب، أو المكتوب بالحبر السري مثل قائمة الموت، وقائمة الصالحين من أصحاب الجنة، والكافرين من أتباع الشيطان الرجيم، وحواء والحية الرقطاء. الأسماء في قائمة الموت كانت منشورة، بالبنط الأسود الصغير، في صفحة الحوادث والجرائم، أربعة وأربعون اسما من الخارجين على الدين والنظام العام، أربع نساء وأربعون رجلا، مثل الأربعين حراميا، يحللون الحرام، ويحرمون الحلال، يستحقون الموت حسب أمر الله والأمير.
وقع بصره على اسم زينة بنت زينات، تحت الاسم صورة لها وهي طفلة تجوب الشوارع، شعرها كثيف أسود منكوش، نافر في رأسها كالأسلاك، تحتضن العود كأنما تحتضن إبليس، تغني وترقص، فمها مفتوح على آخره حتى اللهاة داخل الحلق، قدماها حافيتان تدب بهما على الأرض، وجهها طويل نحيف شاحب يشبه وجوه الموتى، أو وجوه المشبوهات في دور البغاء والبغي.
أشاح بوجهه بعيدا عن صورتها، المقلتان الكبيرتان في عينيها متوهجتان بنار سوداء زرقاء، ترتجف أحشاؤه حين تثبت المقلتان في عينيه، يطردهما بيده ورأسه وذراعيه وساقيه. يريد أن يفقأ هاتين العينين، أن يسحق هذا الجسد النحيف بين يديه، أن يغرز أظفاره في اللحم حتى العظم، في ذاكرته كابوس يشبه الحلم، حادث أليم وقع خارج الوعي، نفذ الألم تحت الضلوع، تحت جدار صدره وبطنه، أسفل البطن، إلى غدة الشيطان تحت شعر العانة، في صلاته كل يوم يطلب من الله المغفرة، في زيارته للحرمين الشريفين طاف حول الكعبة، قبل الحجر الأسود بشفتيه، رجم إبليس بيديه، عاد من الحج مغسولا من الآثام، نظيفا مولودا من جديد، يغفر الله كل الذنوب إلا أن يشرك به، وهو من المؤمنين الموحدين، ليس من المشركين الكفار، الذين يقولون إن المسيح هو الله، ابن الله، ينامون على صوت الموسيقى والرقص واللهو، ليس على صوت تراتيل القرآن الكريم.
أسفل صفحة الحوادث والجرائم كان خبر صغير، مع صورة لصحفي اسمه محمد أحمد، شعره منكوش يشبه المجانين، فوق خده الأيسر ضربة سكين مثل المجرمين، عيناه نصف مغلقتين، غائب عن الوعي.
تم تحويل الصحفي محمد أحمد إلى النيابة، بتهمة ازدراء الأديان والخروج على النظام العام وشريعة الله. هذا الصحفي المغمور يسعى نحو الشهرة عن طريق المعارضة، له صلات مشبوهة بالغرب، يتردد كثيرا على دور اللهو والرقص والغناء، نشر مقالا في جريدة الثورة المعارضة، جريدة غير شرعية، لم تحصل على تصريح من المجلس الأعلى بالدولة، صدر القرار من المجلس الأعلى بالبرلمان بإغلاقها، ومصادرة أعدادها الأخيرة، وتحويل أموالها إلى الجمعية الإسلامية للخير والبر والتقوى، وإطعام المساكين واليتامى، وإقامة موائد الرحمن في شهر رمضان.
في غرفة تحت الأرض كان الشاب محمد جالسا، على كرسي خشبي صغير ليس له ظهر، مرتديا الفانلة واللباس، الجرح العميق فوق خده الأيسر ينزف دما أحمر، من حوله عدد من الرجال، يحملون كرابيج تتلوى في أيديهم كالثعابين، عيونهم شاخصة نحو رئيسهم، يحمل لقب المحقق أو القاضي أو الأمير، بدرجة وزير أو نائب محكمة أو رئيس، يدوي صوته قويا ضخما فخما، يتناقض مع جسمه القصير السمين، أصابعه البضة الناعمة تمسك المقال المقصوص من الجورنال: اسمك الثلاثي؟ - محمد محمد أحمد. - مسلم؟ - أيوه. - موحد بالله؟ - أيوه. - المقال ده بقلمك؟ - أيوه.
يحملق المحقق في وجه الشاب، لا يرى الدماء النازفة من خده الأيسر، عيناه الضيقتان الغائرتان مرفوعتان نحو وجه الله في السقف، في السماء من خلال السقف، مقلتاه صغيرتان تتذبذبان داخل بياض كبير، نظرتهما باردة خاوية مفرغة من المعنى، مقلتان من مادة تشبه الزجاج، البلاستيك، مثل الجلد المشدود في الكرابيج، ضوء كهربي قوي من أربع لمبات، مسلط في عيني الشاب الجالس فوق الكرسي الخشبي دون ظهر، عضلات ظهره مشدودة يقاوم الانحناء، يشد جفونه يقاوم الغيبوبة، يحاول تثبيت عينيه في عيني المحقق.
استمر التحقيق طول النهار وجزءا من الليل، دون فترة راحة إلا دقائق يذهب فيها المحقق إلى المرحاض، أو يشرب ماء، أو يأكل وجبة الغداء والعشاء. الشاب لم يتحرك من مقعده، يحبس البول في المثانة، يحبس الدم داخل الجرح، السؤال وراء السؤال يدق فوق رأسه بصوت المطرقة الحديدية: ألم تقرأ الفتوى التي قالت: إن الموسيقى والرقص والغناء من أعمال الشيطان؟ كيف تدافع في مقالك عن امرأة ساقطة من بنات الشوارع، بنت زنى؟ - زينة بنت زينات فنانة كبيرة، الناس تحبها، تذهب إلى حفلاتها، تشعر بالسعادة حين تسمعها. الفن الجميل من عند الله، لأن الله هو الجمال. - أنت لا تعرف الله لتتكلم عنه، أنت تضلل الناس، تقول: إن بناء المدارس والجامعات أهم من بناء المساجد والكنائس، هل قلت ذلك؟ - نعم. - أليس هذا تضليلا للناس وإبعادهم عن الإسلام؟ - الإسلام بني على العقل، كل ما يبني العقل والمعرفة يدخل في الإسلام. - أنت قلت: إن غسل الميت عادة قديمة لا علاقة لها بالأديان، هل قلت ذلك؟ - نعم. - أنت ضد النظافة؟ ألا تعرف أن النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان؟! - النظافة تحتاج إلى ماء جار في الصنابير وصابون. أغلب الناس الأحياء ليس عندهم ماء ولا صابون، كيف نغسل أجساد الموتى، والأحياء لا يستحمون؟ ثم إن جسد الميت يأكله الدود والتراب، فما فائدة الغسل؟ - أنت تجادلني؟ ألا تعرف أن مقالك مثير للجدل؛ أي: مثير للفتنة. - الجدل يؤدي إلى المعرفة والفهم، وليس إلى الفتنة. - أنت تعارض حجاب المرأة، وتقول: إنه ليس في الدين ولا علاقة له بالأخلاق، ألا تخالف أمر الله؟ ألا تعرف أن وجه المرأة عورة، أن مفاتن المرأة تسبب الفتنة. - المرأة ليست سبب الفتنة، هناك أسباب أخرى للفتن بين الناس، منها الدين والظلم والفساد والكذب. - هذا كلام كفر، كيف تقول هذا الكلام؟ أنت تستحق الموت. - قبل أن أموت أريد أن أعبر عن رأيي، نحن نرث الدين عن الأب والجد، سلوكنا الأخلاقي يعتمد على الوعي والضمير وليس على الدين. هناك قساوسة ومشايخ يغتصبون الأطفال ويختلسون الأموال، هناك نساء ورجال لا يؤمنون بأي دين، لكن أخلاقهم مستقيمة، يدافعون عن الحق، يموتون من أجل الدفاع عن العدل والحرية. الموسيقى ترفع الروح، توقظ الضمير، الموسيقى لا تسبب الفتن ولا الحروب، الأديان تسبب الفتن الطائفية والمذابح، لا علاقة بين العدل والدين. يمكن أن يكون هناك عدل في عالم ليس فيه دين، لا علاقة بين الأخلاق والدين، يمكن أن يتحلى الناس بالأخلاق دون أن يكون لهم دين، بل إن الدين له مكيالان أو أكثر للقيم والأخلاق، مكيال للرجال ومكيال للنساء، مكيال للحاكم المالك، ومكيال للعبيد المحكومين المملوكين، الأجراء، الفقراء، أنا تعبان تعبان، مرهق، أريحوني من عذابكم. الجحيم هنا فوق أرضكم وليس بعد الموت، الموت راحة منكم، لا جحيم في الموت أو بعده! - أتريد أن أكتب هذا الكفر في التحقيق؟ - نعم. - هذه وثيقة أخرى ضدك مع المقال، أنت تسعى إلى الموت؟ - نعم، الموت أفضل من هذه الحياة التي يقتل فيها الإنسان لأنه يكتب رأيه في مقال، لأنه يحب الموسيقى والشعر والجمال، لأنه يكشف الظلم والنفاق والفساد المستتر تحت اسم الله، أنا أعرف أنكم سوف تغتالونني في السر أو في العلن. وضعتم اسمي في قائمة الموت، من أنتم كي تحكموا على الناس بالموت أو بالحياة ؟ من أنتم؟ مجموعات من المأجورين للقوى الحاكمة في الداخل والخارج، تدربتم على القتل في أدغال أفغانستان، تتلقون الأموال والسلاح، تتبادلون النساء والجواري ومن ملكت يمينكم، تطلقون الشوارب واللحى الطويلة، تغطي وجوهكم بالشعر وتفرغ رءوسكم من العقل. - اخرس يا ولد! - سأقول كل ما أريد قبل أن أموت، أنتم بلا ضمير ولا أخلاق ولا دين، أنتم ... عصر الظلام والانحطاط ...
انطلقت الرصاصات في صدره قبل أن يكمل كلامه. سبع رصاصات متتالية، استقرت ثلاث في الصدر، اخترقت واحدة القلب، نفذت رصاصة من الجبهة إلى مؤخرة الرأس، تبعثرت أجزاء مخه على الأرض، داسوها بكعوب الأحذية والبنادق، أرادوا إبادة عقله في عالم قائم على إلغاء العقل.
في اليوم التالي خرجت المظاهرات تهتف باسمه، يحملون صورته فوق الرءوس مع اللافتات والشعارات، الرجال والنساء والشباب والأطفال، عمال وتلاميذ وموظفون في الدولة من الدرجات الدنيا، بنات وأولاد ولدوا فوق الرصيف، زملاء محمد أحمد في جريدة المعارضة، فنانون وفنانات مغمورات، فرقة مريم للموسيقى والغناء، مفكرون ومفكرات وردت أسماؤهم في قوائم الموتى، زوجات مطلقات، عشيقات مهجورات، بنات اغتصبهن الرجال الكبار، يحملن أطفالهن فوق صدورهن، فلاحات وبائعات الجرجير والفجل، خادمات وسكرتيرات وبائعات الهوى، عجائز يسيرون بالعكازات، أطفال يعرجون، وقطط وكلاب شاردة عرجاء، تموء وتعوي وتهتف مع الناس، يتصاعد الهتاف يرج السماء والأرض:
كفاية دين عاوزين تموين.
كفاية طقوس عاوزين غموس.
كفاية صيام وصلا عاوزين ميه وهوا.
كفاية مسابح عاوزين مخابز.
كفاية كنايس ومساجد عاوزين مدارس.
انطلقت صفارات البوليس والعسكر بالبنادق والهراوات، وخراطيم الماء والغازات المسيلة للدموع. أجساد الناس تمشي متلاحمة تصد الدروع، كلهم جسد واحد يمشي لا يخترقه الرصاص، مكبرات الصوت تدوي مع الأجراس والصفارات ودقات الطبول.
سارت عجلات العربات المصفحة فوق أجساد الأطفال والقطط، نهض الأطفال من تحت العجلات، يصدون الرصاص بصدور عارية، نهضت القطط معهم تقاتل، سقطت ثم نهضت، سقطت ثم نهضت، للقطط سبعة أرواح فما بال الإنسان؟ فما بال هؤلاء الأطفال، عاشوا وماتوا وعاشوا مائة مرة، ألف مرة أصبحت الحياة عندهم كالموت، والموت كالحياة؟
كانت زينة بنت زينات تمشي بينهم، تعزف على العود وتغني، يرقد العود في حضنها كالطفل في حضن الأم، تجري أصابعها الطويلة على أوتاره بسرعة الضوء، كما كانت تجري على مفاتيح البيانو، العود أقرب إليها من البيانو، تحمله فوق صدرها، تهدهده في الليل قبل أن تنام، تخبئه تحت ضلوعها من عيون اللصوص والبوليس، يرقد في حضنها طول الليل، تلفه داخل جراب من الجلد، يحميه من البرد والحر، والتراب والحصى وقطع الزلط. يتجمع الأطفال من حولها، تدربهم على العزف، يجمعهم الرصيف وحب الغناء والموسيقى، يتبادلون العود، يعزفون بالبديهة دون ورقة ولا نوتة، يغنون للقطن حين تنفتح النوارات البيضاء، يغنون للقمح حين تلمع السنابل الذهبية تحت الشمس، ينامون فوق الأرض دون أهل، تعوضهم الموسيقي عن الأهل، تخفف عنهم الألم والحزن، ترفع روحهم إلى السماء، تلتئم الجروح في أجسادهم، يهدأ الوجع في صدورهم، ينامون على صوت الموسيقى، وصوت زينة بنت زينات، تغني لهم حتى يغلبهم النوم، في الحلم ينشدون معا أغاني الثورة:
يسقط الظلم، تحيا الحرية.
بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي.
نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل.
القمح الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك وتزيده.
فوق خشبة المسرح كانت واقفة تحت الأضواء، قبل أن تنطلق الرصاصات، المقلتان الكبيرتان قطعتان من الحجر البركاني الأزرق، شعلتان من نار سوداء زرقاء، يتغير لونها مع حركة الأرض حول الشمس، سوداوان زرقاوان بلون الأرض والبحر، يحوطهما بياض ناصع شفاف بلون الأمواج تحت الشمس، أو قمم الجبال الشاهقة وراء البحار.
مقلتان متوهجتان كبيرتان، أكبر من عمرها بمائة عام، عرفت الحياة والموت، عرفت الله والشيطان، لم تعد تخافهما. يشرق وجهها بابتسامة طفولية، تبدد الظلمة مثل أشعة الصبح، تحتضن العود فوق صدرها، أصابعها الطويلة الصلبة تجري فوق الأوتار بسرعة الكهرباء، أصابع قوية مدببة كالمسامير. لا يمكن لأحد أن يغتصبها، تغرزها في أي عنق، أصابع حديدية داست الصخر، هضمت الزلط، تدق اللحن مع الإيقاع، ترقص وتغني مع الأطفال أنشودة الأم الأولى، حين كانت طفلة:
حلم حياتي أن أبني لأمي بيتا
من الطوب الأحمر،
ليس من طين معجون،
تملكه لا يطردها منه مخلوق،
له سقف يحميها لهيب الحر
وبرد الشتاء،
حمام فيه ماء
ولمبة كهرباء.
تمسح أمها زينات وجهها بمنديل أبيض، تحبس دموعها في قاع عينيها، إلى جوارها تجلس مجيدة الخرتيتي، تنشج بصوت مكتوم، تهمس في أذنها صافي صديقة أمها: سمعتي طلقات رصاص؟ - ده صوت التصفيق يا طنط صافي. - ده رصاص يا مجيدة. - لا يا طنط، زينة واقفة تغني اسمعيها.
صوت التصفيق يطغى على صوت الرصاص، زينة بنت زينات واقفة فوق خشبة المسرح بجسمها الطويل الممشوق، تحتضن العود، تلتقي عيناها عيني أمها زينات، تغني لها أغنية الأم المثالية حين كانت فتاة في المدرسة:
أنا جئت من الأرض وإلى الأرض أعود.
أنا لم أهبط من الفضاء أو النجوم.
لست ابنة الآلهة ولا الشياطين.
أنا زينة وأمي هي زينات.
أمي أعز عندي من السماء.
أنا عرفت السقوط وعرفت النهوض.
أسقط وأنهض، وأسقط وأنهض.
أموت وأحيا وأموت.
واقفة محتضنة العود.
كانت ترتدي ثوبها الأبيض من القطن، خيوط حمراء بلون الدم تزحف من صدرها تحت الضلوع، صوتها يرتفع وهي تغني وترقص على الإيقاع، التصفيق يدوي بصوت الرعد، والأنفاس تلهث: أعيدي، أعيدي، أعيدي ... نريد أغنية حلم حياتي. أعيديها يا زينة.
تبدأ في الغناء من جديد: حلم حياتي أن أبني لأمي بيتا.
يغني معها الناس، الرجال والنساء والشباب والأطفال، القاعة كلها تغني وترقص معها على الإيقاع. - نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل.
كانت الدماء تنزف من صدرها وهي واقفة تعزف وغني، الناس من حولها يرقصون ويغنون، حملوها فوق رءوسهم، وساروا بها وهم ينشدون: تحيا زينة بنت زينات يا يعيش، يا يعيش، تحيا زينة بنت زينات يا يعيش، يا يعيش، تحيا الحرية، تحيا الحرية، يحيا الحب، يحيا الحب، تحيا الموسيقى. تحيا الموسيقى، يحيا الجمال والعدل والفضيلة، يحيا الحب والفن والجمال والعدل والفضيلة، تحيا زينة بنت زينات.
كانت بدور الدامهيري تمشي حين سمعت الأصوات، مئات، آلاف، ملايين، يسيرون يهتفون، ينشدون الأغاني.
كانت بدور تمشي جارة الحقيبة ذات العجلات، السحابة السوداء تغطي السماء، تحجب الشمس والقمر، لا تعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، تمشي وتمشي في الطريق الطويل اللانهائي، تورمت قدماها من المشي. جلست فوق دكة خشبية على شاطئ النيل، خلعت حذاءها الجلدي الضيق بكعبه العالي الرفيع، خلعت المشد الإلاستيك الضاغط على صدرها، خلعت الدبابيس من شعرها، الأساور الذهبية من يديها، الخواتم ذات الفصوص والجعارين من أصابعها، فكت قيودها من قمة الرأس حتى بطن القدمين، تحرر اللحم والعظم من الأسر، انفك اللجام المربوط حولها، تركت جسدها يسبح فوق الدكة الطويلة كالسفينة، همس في أعماقها صوت: لست زوجة ولا أرملة ولن أرى حزنا، مثل بابل الزانية في الإنجيل.
من تحت الدكة رقدت حقيبتها ذات العجلات، داخلها الرواية يضمها الدوسيه الأصفر، وثوبها القطني القديم لونه أبيض، تعلوه بقع دم جفت، ودموع وقطرات عرق لم تجف، من خلال جفونها نصف المغلقة رأت خيالا يمشي في الظلام، امرأة عجوز ترتدي ثوب الحداد، تسير بظهر محني، قدماها في حذاء أبيض من الكاوتش أصبح بلون التراب، في يدها كيس بلاستيك أسود، وجهها شاحب أسمر، أنفاسها تلهث. جلست فوق الرصيف، فتحت الكيس، تجمع من حولها سرب من أطفال الشوارع، بنات، وأولاد، وقطط صغيرة مولودة، يتشممون بقايا الخبز داخل الكيس، قطع لحم وعظم وأرز، كل ما يفيض عن بيوت العائلات، كل ما يلقى في القمامة مع الفضلات، كانت زينات تجمعه في الكيس كل يوم، تمشي به إلى شاطئ النيل. إن لم يكن هناك كيس بلاستيك تلف بقايا الخبز في ورقة من أوراق الصحف، تتعرف على الصور المنشورة في الجريدة، فوق كل عمود صورة داخل برواز، عيونهم مخرومة بشوكة من أشواك السمك المأكول، أو بقطعة عظم خالية من اللحم. في الصفحة الأولى صورة الرئيس والسيدة الأولى، وجهاهما ملطخان بصلصة الطماطم، تفوح منها رائحة البصل والثوم والبسطرمة، في الصفحة الثانية صورة زكريا الخرتيتي؛ كانت تناديه سيدي، أنفه مبتور بضربة سكين، عموده الطويل مبلل بحساء الدجاج، ساح حبره على الورق، عامت حروفه فوق سائل أسود، يشبه الزئبق أو الزفت.
تجلس زينات فوق الرصيف من حولها القطط والكلاب الشاردة والأطفال، تلمع عيونهم بالفرح، وهم يلتهمون الفضلات، ينهشون بأسنانهم القوية بقايا اللحم على العظم، يقرقشون العظام والخبز المقدد، تنادي أحد الأطفال باسم ابنها نسيم، عيناه تلمعان بالبريق، مقلتان كبيرتان متوهجتان بضوء الشمس. كانت تضع أمامه كوب اللبن، حلبته من الجاموسة، مع البيضة المقلية بالسمن البلدي. يشتد البريق في عينيه وهو يتشمم الصحن، كان في الثامنة من عمره، يذهب إلى المدرسة، يمشي في المظاهرات يهتف مع الناس: يسقط الظلم تحيا الحرية.
كانوا ينادونها يا أمي، يحملون اسمها زينات. كان اسم الأم يجلب العار للأطفال، في القانون والشرع، لكن القطط الصغيرة تموء باسمها، زينات، عيونهن تلمع بالبريق في ابتسامات طفولية، طفلة تشبه القطة الصغيرة، عيناها مستديرتان واسعتان، مملوءتان بالدهشة والفرح، ينادونها زينة بنت زينات، المقلتان السوداوان بلون الفحم داخل بياض بلون الثلج، تحوطهما دائرة زرقاء تشتعل باللهب، تصحو من النوم تغني مع العصافير، ومع الأطفال من حولها: أمي زمانها جايه، أمي زمانها جايه، جايه ومعاها هديه، أمي زمانها جايه، زمانها جايه ومعاها هديه ...
كانت أمها قد تركتها فوق الرصيف، سحبت يدها من يدها وهي تهمس في أذنها: أنا جايه يا بنتي أنا جايه، أنا جايه، أنا جايه، جايه، ماما زمانها جايه، ماما زمانها جايه يا زينة، ماما جايه جايه ...
فتحت بدور عينيها، شدت جفونها وصحت من النوم، رأت دادا زينات جالسة إلى جوارها فوق الدقة الخشبية، تغني لطفلتها: ماما زمانها جايه، جايه ومعاها هديه.
يذوب صوت غنائها مع الأصوات الآتية من بعيد. آلاف الأصوات، ملايين الأصوات، تغني أغنية الأم، يتصاعد الغناء والهتاف، يرج الأرض والسماء: ده صوت الرعد يا دادا زينات؟ - لا يا ست بدور، دي المظاهرات، قومي قومي من السرير، كل الناس قامت، نعيم ونسيم وبدرية ومحمد ومجيدة وصافي ومريم وزينة وكل الناس، حتى القطط المولودة يا ست بدور ماشية في المظاهرة تهتف وتقول: يحيا العدل. - هي القطط بتعرف تتكلم يا ماما زينات؟ - أيوه يا بنتي، الدنيا اتغيرت والقطط المغمضة فتحت عيونها ونطقت.
نهضت بدور تشد عضلات جسمها، مدت يدها تحت الدكة تبحث عن الحقيبة، تتحسس بطن الحقيبة، ناعمة من الجلد الثمين المتين، كانت منتفخة بأوراق الرواية، مئات الأوراق المكتوبة بالدم والدموع والعرق والتعب. مئات الليالي سهرت فوق الأوراق تكتب، كان بطن الحقيبة مرتفعا بالرواية، تحمل الأوراق داخل بطنها وصدرها، وضعتها تحت الدكة الخشبية قبل أن يغلبها النوم، يدها تتحسس بطن الحقيبة، تضغط عليها بكفها، تغوص يداها حتى القاع، يتلامس جلد البطن مع جلد الظهر دون شيء بينهما. فراغ أسود مفزع كالموت داخل الحقيبة، تدس يديها داخل الفراغ حتى تفقد الوعي، تحاول الصراخ، تفتح فمها لتصرخ: الرواية انسرقت، روايتي يا ناس سرقوها وأنا نايمة.
صوتها يخرج مبحوحا مشروخا كأنما في الحلم. يتجمع حولها الناس يسألون: مين سرقها يا ست هانم؟ - مش عارفة، كانت في الشنطة، سرقوا الرواية من جوه الشنطة وأنا نايمة! - مين يا ستي سرقها؟ - مش عارفة، يمكن البوليس مش عارفة، يمكن الحرامية. - قصدك البوليس هم الحرامية؟ - يمكن حد تاني غير البوليس وغير الحرامية. - حد تاني مين؟ عارفة اسمه؟ عارفه شكله؟ - مش عارفة يا ناس، مش عارفة، روايتي راحت يا ناس، شقا عمري كله راح يا ناس.
تتلفت بدور الدامهيري حولها في ذهول، تغيب الشمس ويهبط الليل وهي تتلفت حولها، تمسح الأرض والسماء بعينيها المفتوحتين في الظلام، تزحف فوق الرصيف تبحث، تمد يدها تبحث تحت الدكك الخشبية على شاطئ النيل، تتحسس الحجر والزلط، تنخل التراب بيديها، يتسرب من بين أصابعها كالماء يتسرب من ثقوب الغربال، لا يبقى شيء في يديها، تتعثر قدماها وهي تمشي في شيء ملفوف داخل ورقة من أوراق الصحف. تفتح الجريدة لا تجد شيئا، إلا عمود زوجها الطويل الرفيع، يتلوى تحت يدها مثل ثعبان يغطيه الطين وبراز الكلاب الشاردة، وضعت نظارتها وقرأت عموده بصعوبة في الضوء الغارب: تقدمت بعض النسوة من الأمهات النائبات عن مليونين من الأطفال غير الشرعيين، بمشروع قانون جديد لمجلس الشعب والشورى، يسمح للطفل ابن الزنى غير المعروف الأب أن يحمل اسم أمه، أن تحذف كلمة ابن الزنى من قاموس اللغة، أن يكون لاسم الأم الشرف كاملا مثل اسم الأب، هذا المشروع أيها القراء الأعزاء تم رفضه بالكامل في المجلسين الموقرين، رفضه جميع الأعضاء الرجال والنساء؛ لأنه يشجع على الفساد والحرية الجنسية للنساء، وقد تم تقديم هؤلاء النسوة إلى المحاكمة بتهمة الخروج على الدين الحنيف وتهديد النظام العام للدولة، لكن من أجل الرأفة بهؤلاء الأطفال المساكين، وقد زاد عددهم عن مليوني طفل وطفلة، تقدمت اللجنة العليا بالحكومة، لرعاية الأمومة والطفولة، بمشروع آخر لمجلسي الشعب والشورى، يسمح للطفل ابن الزنى أن يحمل اسم أي رجل، يكون بمثابة الأب الوهمي للطفل، من أجل الحفاظ على حقوق الطفل البريء، وقد حظي هذا المشروع بموافقة الأزهر الشريف، والحكومة، لكن أعضاء المجلسين الموقرين يدرسون المشروع من كافة النواحي التشريعية، فهو مشروع شائك محفوف بالمخاطر والمنزلقات الأخلاقية.
وكانت اللجنة قد سبق لها التقدم بمشروع من ثلاثة بنود: (1)
تقديم الرجال للمحاكمة في حالة ثبوت الخيانة الزوجية. (2)
لا يحق للزوج معاشرة زوجته جنسيا بالقوة والعنف في أي وقت. (3)
يحق للأم أن تعطي اسمها لطفلها غير المعروف الأب.
لكن الأزهر الشريف رفض هذا المشروع ببنوده الثلاثة، فهو مشروع يتنافى مع القيم الأصيلة لمجتمعنا الإسلامي وخصوصيتنا الثقافية وتقاليدنا التي نشأنا عليها، بل يتنافى مع العلم والإيمان؛ لأن العلم يؤكد أن العدل ليس مطلقا، بل إنه نسبي، يخضع لظروف المكان والزمان، ولا شيء يكون كاملا ومطلقا إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى. توقيع، زكريا الخرتيتي، البريد الإلكتروني، زززككككرياااااادوط. كوم كوم.
لم تكن بدور الدامهيري قد ماتت بعد، كانت تعيش أيامها الأخيرة مع دادا زينات في غرفتها بالبدروم، بدأت تكتب رواية جديدة، لكن مشقة العيش لم تساعدها على الكتابة، لم تتعود بدور النوم في سرير خشبي غير مريح، لا تستطيع الجلوس على الأرض الأسفلت، لا تستطيع النوم في غرفة تجري فيها الصراصير، تطن في أذنيها أصوات الذباب والبعوض، تلوح لها غرفة نومها في جاردن سيتي كالجنة المفقودة.
صباح ذات يوم وهي تفتح الجريدة، قرأت خبرا داخل برواز بالبنط العريض: الكاتب الكبير زكريا الخرتيتي صدرت له رواية جديدة، موجودة في الأسواق، وفي مكتبة الجريدة الكبرى بشارع التحرير، احجز نسختك من الآن.
نهضت بدور الدامهيري من النوم، أخذت تجري في الشارع، تتوقف قليلا لتأخذ نفسا، ثم تجري وتجري، رأت الرواية تحمل اسم زوجها، روايتها التي كتبتها بالدم والعرق وسهر الليالي، هي روايتها التي كتبتها، كل كلمة، كل حرف، كل نقطة، كل شرطة، كل همزة، كل شدة، كل فتحة وكل كسرة، هي روايتها، منشورة في كل مكان باسم الكاتب الكبير زكريا الخرتيتي.
تمددت بدور الدامهيري فوق الرصيف، أصبح جسدها ممدودا فوق الأسفلت، تحت لهيب الشمس وصقيع البرد، جفونها نصف مغلقة نصف مفتوحة، صدرها لا يعلو ولا يهبط، لا شيء فيها يتحرك إلا ثوبها القطني الأبيض الخفيف، يحركه الهواء، ترفعه الريح عن جسدها الراقد فوق الرصيف، من حولها أطفال الشوارع يغنون: ماما زمانها جايه، جايه ومعاها هديه ...
Page inconnue