في غرفتها البعيدة كانت ابنتهما مجيدة الخرتيتي تغط في النوم، اخترق أذنيها صوتاهما العاليان يتشاجران. منذ طفولتها تسمعهما يتشاجران بصوت خافت مكتوم يرتفع شيئا فشيئا، تتخلله صفعات وركلات. لا تعرف من يصفع من، ومن يركل من؟ في الصباح تراهما جالسين إلى مائدة الفطور، يقرآن الصحف ويتحدثان مثل كل يوم، كأنما لم يحدث شيء في الليل، يتبادلان الكلام والابتسام، إبريق الشاي، السكرية، الملاحة، سلة الخبز المحمص في الفرن، صحن الزبدة أو العسل أو الجبنة البيضاء بزيت الزيتون.
تصفع مجيدة الخرتيتي الباب خلفها، تقود سيارتها إلى مكتبها في مجلة النهضة، تطلب فنجان القهوة، تطلب محمد الصحفي المغمور في صالة التحرير: يا محمد، فين المقال؟ - أنا كتبت مقال تاني عن زينة بنت زينات. - الرقابة لا يمكن أبدا أن تسمح بنشر المقال ده. - ليه يا أستاذة مجيدة؟ دي أكبر فنانة في البلد يا أستاذة. - أيوه، لكن الرقابة مانعة أي شيء عنها. - مش معقول، ده ظلم يا أستاذة. - طبعا ظلم، الدنيا مليانة مظاليم، لهم رب يحميهم. - ربنا مش بيحمي حد أستاذة، لو ربنا بيحمي المظلومين كان الظلم اختفى من زمان. - إيه الكلام ده؟ إنت كفرت والا إتجننت يا محمد؟ - أستغفر الله العظيم يا أستاذة من كل ذنب عظيم. - أيوه كده ارجع لعقلك. - لكن ده ظلم يا أستاذة، لا يمكن ربنا يرضى بالظلم. - ربنا راضي بالظلم يا محمد، وإلا ما كانش ثلاثة مليون طفل يعيشوا في الشوارع، وخمسين في المية من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، والآلاف والملايين البريئة تموت في الحرب في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والسودان، وو والظلم في كل أنحاء العالم يا محمد، ربنا راضي بالظلم! - سعادتك كفرت يا أستاذة؟ - أيوه كفرت، حاجة تكفر يا محمد، إذا كانت زينة بنت زينات حطوا اسمها في قائمة الموت، البنت الفنانة الغلبانة المستقيمة اللي عمرها ما أساءت لحد، هي صاحبتي وزميلتي من المدرسة الابتدائية، أخلاقها أحسن أخلاق في البلد، أنا عارفاها كويس. - لازم أكتب عنها يا أستاذة، المقال جاهز معايا . - أنشره في جريدة معارضة يا محمد، المجلة دي بتاعة الحكومة، والحكومة بتشتغل مع الأمير والجماعات إياها، والكل بيشتغل مع أمريكا وحلفاءها، إحنا الصحفيين كلنا كذابين عاوزين نعيش. أكبر كذابين أصحاب الأعمدة في الجريدة الكبرى إياها بتاعة الحكومة، وأولهم أبويا زكريا الخرتيتي.
كان صوتها يرتعد من خلال أسلاك التليفون، ترتعش السماعة في يدها البضة السمينة، تتقلص عضلات وجهها في نوبة عصبية حادة، يتقطع صوتها، يتحول إلى نشيح مكتوم مبحوح.
لم تكن المرة الأولى ينفجر صوتها بهذا الشكل، كان محمد الصحفي المغمور أقرب الناس إليها في المجلة. يكتب لها مقالاتها، تمنحه ثقتها، تحكي له بعض آلامها، تخفف من أحزانها بالحديث معه، تجمعهما صداقة ونوع خاص من الألفة. كان يمكن أن تقع في حبه لو كان من عائلة مساوية لعائلتها. لو لم يكن فقيرا ومغمورا، لو كان له كبرياء زينة بنت زينات، لو رفض أن يؤجر لها قلمه مقابل شيء من المال. منذ طفولتها تتطلع مجيدة الخرتيتي إلى زينة بنت زينات، تقارن نفسها بها، تود أن يكون لرأسها ذلك الشموخ، أن تكون قامتها طويلة ممشوقة مثلها، وأصابعها طويلة رشيقة مثل أصابعها، تجري على مفاتيح البيانو بسرعة الضوء، أن تكون مثلها بلا أب ينهرهما إن تأخرت، يصفعها إن أخطأت، أو دون أن تخطئ، لمجرد أن ينفس عن غضبه على أمها. كانت تكره أباها في أعماقها الدفينة، تسمع الناس يلوكون سيرته، يهمس زملائها في ما بينهم بفساد ذمته، غزواته مع البنات والغانيات، تكتم السر في أحشائها، تكتب في مفكرتها السرية: أشرس الرجال حيوانات أليفة في دور البغاء.
بعد أيام قليلة نشر محمد الصحفي المغمور مقالة عن زينة بنت زينات في جريدة الثورة المعارضة، جاءها صوت صديقة أمها صفاء الظبي يهتف عبر التليفون: مقال رائع يا مجيدة، لازم تقريه، وقولي لماما تقرأه. مين محمد أحمد؟ ده صحفي ممتاز، شجاع وعنده خبرة بالنقد الأدبي، تعرفيه يا مجيدة؟ - أيوه يا طنط صافي، ده زميلي في المجلة. - بلغيه تحياتي يا مجيدة، يستاهل كل خير وكل تشجيع، وزينة بنت زينات تستحق ميت مقال من دول مش مقال واحد، اكتبي عنها يا مجيدة في المجلة. لو كان عندي صفحة أو عمود في أي جورنال كنت كتبت عنها، لكن إنتي عارفة إني ممنوعة من الكتابة من يوم ما نشرت مقالي في جريدة المعارضة عن الست الهانم الأولى. - حاضر يا طنط صافي، لكن إنتي عارفة الرقابة مانعه النشر عن زينة. - رقابة إيه وزفت إيه، اكسري رقبة الرقابة يا مجيدة، ما تخافيش من الحكومة، دي حكومة فاسدة متعاونة مع الاستعمار، والناس خلاص روحها طلعت والثورة خلاص جايه، جايه، الثورة زمانها جايه. ثورة الجياع من الداخل، الغزو الأمريكي من الخارج، وقفز الجماعات إياها على الحكم، وثورة الجياع جايه جايه.
في الصفحة الأولى من جريدة الثورة المعارضة كانت صورة زينة بنت زينات منشورة داخل برواز، في الصفحة الداخلية الثالثة كان مقال الصحفي محمد أحمد عنها. تتوقف العيون عند الصورة قبل أن تقلب الصفحة، تتوقف طويلا أمام الوجه المشع ذي المقلتين المتوهجتين بضوء يشد إليهما البصر، يخطف القلب، حضورها الطاغي حتى في الصورة فوق الورق، عيناها تخرقان الورق بنظرتها الثابتة النافذة، لديها رغبة لا تشبع في النظر والرؤية والمعرفة. تجمع عيناها البراءة والتجربة في ابتسامة واحدة، تشع بالنضج والعقل والاتزان رغم الجنون، هالة الضوء ليست في عينيها فقط، بل الوجه كله مضيء، شعرها المرسل كأنما لا تمشطه، بشرتها الخالية من الألوان والمساحيق، عنقها الطويل الممدود إلى الرأس، ياقة ثوبها من القطن الأبيض معوجة، كأنما ارتدت ملابسها بسرعة، دون أن تلقي نظرة إلى المرآة.
جاء المقال في نصف صفحة بتوقيع محمد أحمد: زينة بنت زينات فنانة من نوع غير عادي. تبدو عبقريتها في أبسط حركة، مجرد أن تدخل إلى قاعة الحفل أو فوق خشبة المسرح، يلغي حضورها حضور الأشياء الأخرى، لا تشبع العيون من التطلع إليها، حيوية روحها ترفع روحنا إلى السماء، صوتها عبقري يتحول في الأذن إلى شيء حسي، نلمسه نحسه، نذوقه مثل النبيذ الأحمر. صوتها يلغي المسافات بين القلوب، ألحانها تفتح في عقولنا أجزاء مظلمة، ضوء المعرفة تنتشي له أجسادنا، ليس فقط نشوة الكشف عن المجهول، بل هو في حد ذاته نشوة.
زينة بنت زينات خلقت بإرادتها ظروف حياتها، لا تعترف بشيء خارج إرادتها. الظروف القاسية لا تغلبها، هي تصنع الظروف، وليست الظروف التي تصنعها، تقول عن نفسها: أنا ابنة الشارع، أفخر بأمي زينات الخادمة، حملتني من فوق الرصيف، أرضعتني الكبرياء والثقة بالنفس. أبلة مريم أمي الثانية، حوطتني بالموسيقى والشعر والغناء، ملأت قلبي بالفرح والإيقاع والاتزان. - لماذا دفعتني زينة بنت زينات لأكتب عنها؟ جمالها، ذكاؤها، صوتها، إيقاعها، أغانيها، حديثها. كل ذلك السحر الذي لا نعرف اسمه بعد؛ ربما لأنها طبيعية تملك إعجاز الطبيعة، لأنها تتحرك في رشاقة، في اتساق مع حركة الأرض حول الشمس، مع ثورات العبيد في التاريخ؛ لأنها جاءت من قاع المدينة وصعدت إلى قبة السماء، لأنها حولت أصعب مأساة إلى انتصار مفعم بالبهجة والثراء، لأنها تعزف النغمة الصحيحة في اللحظة الصحيحة في هذا الزمن الرديء، لأنها تخلع الأقنعة عن الوجوه المحجبة، تفضح الكذب والزيف، تكشف العورات والتناقضات. - ألهذا وضعوا اسمها في قائمة الموت، وأرادوا لها الفناء؟ لكن زينة بنت زينات لا يصيبها الرصاص؛ لأن جسدها مصنوع من مادة غير اللحم والعظم، مادة شفافة رقيقة تشبه الروح، لا يخترقها الرصاص، لا تموت وإن ماتت، بل تتألق أكثر وأكثر في السماء؛ لأن الفن الجميل الصادق يتحدى الموت. الفنانون والفنانات لا يموتون، لقد امتدت أياديهم إلى شجرة الحياة بعد أن أكلوا من شجرة المعرفة، ذاقوا طعم الثمرة المحرمة وأصبحوا خالدين كالآلهة.
كانت أم كلثوم كوكب الشرق ذات نكتة لاذعة، كانت قادرة على إضحاك أعتى الرجال، الرؤساء والوزراء والأمراء. كانت فكاهاتها تضحك من حولها بمن فيهم الرجل الذي تتهكم عليه، كانت تتهكم على نفسها أيضا، وقد غفر لها الضحك كل نكاتها اللاذعة، لأن الضحك يجعل الروح تشف، وتعلو إلى العفو والغفران لكل الآثام.
زينة بنت زينات ليست كوكبا واحدا، هي كواكب ونجوم متعددة، حين سمعتها تضحك انزاح عن قلبي حزن دفين منذ الطفولة، ترن ضحكتها في الجو ، تنتشي لها الأجساد والعقول، تنتشل الأرواح من الركود. تبدو مثل طلسم السعادة أو الحب، معروفة مجهولة في آن واحد، طبيعية وغير طبيعية تماما.
Page inconnue