تمر عينها الناقدة فوق عموده، تمط شفتيها في بوز طويل، يبادلها البوز ببوز أكثر طولا، يبادلها النقد بنقد أشد. - جوزك يا ستي ليس أشجع من طه حسين، ثم ماذا عن شجاعتك يا أستاذة؟ - أنا عمري ما تظاهرت بالشجاعة يا زكريا، أنا طول عمري جبانة.
ثم تكمل لنفسها بلا صوت: أكبر دليل على جبني إني اتجوزتك!
كان يراودها دائما السؤال، لماذا تزوجت زكريا الخرتيتي؟ اسمه مشتق من حيوان الخرتيت، رأسه تشبه الكمثرى، عيناه ضيقتان غائرتان كعيني الفأر .
تضرب بيدها فوق صدرها تسأل نفسها، ليه اتجوزت الراجل ده؟
تتذكر بدور أنها كانت تمر بأزمة نفسية، كتب لها الطبيب النفسي حبوبا منومة، وحبوبا مهدئة، وحبوبا ضد الاكتئاب دون جدوى.
يسألها الطبيب عن طفولتها: حصل لك حاجة في الطفولة يا بدور؟ - أبدا يا دكتور، كانت طفولتي سعيدة.
تتمدد فوق الأريكة الكبيرة في غرفة الطبيب، يربت على يدها البضة بحنان: حاولي تفتكري يا بدور.
دمعة حبيسة تلمع في عينيها، لمسة الحنان تجلب لها الدموع، تريد أن تمد يدها وتمسك بيده، أن تضع رأسها فوق صدره وتبكي. يرمقها بنظرة حادة نظرة الطبيب الجاد، لا يسمح الطبيب النفسي للمريضات أن يقعن في حبه، خاصة هذا النوع من النساء، ما إن يربت عليهن بحنان حتى يقعن في حبه. نساء محرومات من الحب والحنان، كالأرض الظمأى، تترقب من السماء قطرة ماء. - حاولي تفتكري أي حادث في طفولتك، يا بدور. - حادث مؤلم يا دكتور؟ - أيوه. - زي إيه؟ - حادث اغتصاب مثلا؟ - لأ ما حصلش أبدا أبدا.
تلتقط أذن الطبيب الرعشة الخفية في صوتها، السرعة الفائقة في الرد وإنكار الحدث، حمرة الدم الصاعدة إلى وجهها، أصابعها البضة ترتجف قليلا، رجفة غير مرئية إلا للعين المدربة. - كان راجل غريب أو من الأسرة؟ - تقصد مين يا دكتور؟ - يعني مش فاكرة؟ - فاكرة إيه؟ - كان عمرك كم سنة يا بدور؟
يدور الطبيب ويلف حول الموضوع بالأسئلة المختلفة. تدرب على هذه الطريقة للحصول على المعلومات من المريضات، تشبه طريقة البوليس والمباحث في استخراج الاعترافات من أفواه المساجين، يحقنها الطبيب بمخدر خفيف، أو يناولها كأسا من نبيذ عمر الخيام، أو الويسكي المخفف بالماء. يربت عليها بيده الرقيقة، يبتسم في وجهها بعينيه الخضراوين بلون الزرع، يهمس بصوت حنون: غمضي عينيك، حاولي تنامي يا بدور. - أنام؟ - قصدي تسترخي شوية يا أستاذه بدور، تنسي عقلك شوية، تفكي اللجام حول ذاكرتك.
Page inconnue