في الصباح وهو يرشف القهوة يتطلع زكريا الخرتيتي إلى الصور المنشورة في الصفحة الأولى، لم تكن أحلامه تصل إلى هؤلاء العظام في الصفحة الأولى. يقلب الصفحة بأطراف أصابعه القصيرة النحيفة، تتطلع عيناه الضيقتان الغائرتان إلى وجوه الصفحة الثانية، يرى وجه الأستاذ الكبير الدامهيري، تحول الدامهيري من رجل عسكري إلى مفكر كبير، يتحدث في الأدب والفن والثقافة، صورته تظهر داخل برواز مربع فوق خبر من أخباره، أو مقال صغير يكتبه إن شاء له أن يكتب، أو قصيدة ركيكة من قصائده في الغزل السياسي أو في حب الغواني.
ذات يوم وهو يقرأ الجريدة رأى صورة فتاة مستديرة الوجه، شعرها طويل ناعم ينسدل فوق كتفيها، عيناها ناعستان في نظرة الأنثى الحالمة بالحب. يدها البضة السمينة فوق المكتب، بين أناملها الرقيقة قلم قصير يشبه قلم الحواجب، اسمها مطبوع تحت الصورة: الناقدة الشابة الجديدة «بدور زكريا الخرتيتي».
كان الجرح العميق في أحشائها قد التأم. مسحت من ذاكرتها صورته، الوجه والقوام والمقلتين، الغرفة من البلاط في البدروم. عرفت أنه مات في السجن، مات ميتة طبيعية بإرادة الله، كما جاء في التقرير الطبي. لم يكن الوحيد الذي مات من الضرب في السجن، أو أصابته رصاصة وهو يمشي في المظاهرة، أو طاردته فرقة من البوليس وهو يهرب في الليل. كم كان عدد هؤلاء الذين داسوا صورة الملك؟ الذين هتفوا: «يسقط الاستعمار البريطاني»، «تحيا مصر حرة»؟ هؤلاء الذين فتحوا الطريق أمام الثورة، لكن ما إن جلس الرجال العسكر على العرش حتى غيروا التاريخ، أصبحوا هم الأبطال واندثرت أسماء الموتى والقتلى في العدم، جفت دماؤهم في الشوارع والسجون والمعتقلات، ضاعوا من ذاكرة الأمة والتاريخ، ومن الكتب المقررة للتربية الوطنية في مدارس الأطفال.
تزوجت بدور في حفل كبير حضره كبار رجالات الدولة، وأعلام الأدب والفن والصحافة. زكريا الخرتيتي يمشي مختالا داخل بدلة العريس، بدور ترتدي ثوب الزفاف الأبيض من الدانتيل الرقيق، نهداها الكبيران مضغوطان تحت السوتيان الحرير، صدرها يعلو ويهبط تحت الدقات القوية المتصاعدة، أنفاسها تلهث وهي جالسة ترمق وجه العريس من الجانب. رأسه مثلث، عيناه غائرتان تحت جبهة عريضة مثلثة، أنفه كبير حاد مقوس قليلا، جسمه غارق داخل الكرسي الكبير المذهب، جسم نحيف قصير، شعر رأسه أسود، بوادر صلعة تزحف تحت الشعر الخفيف في منتصف الرأس، قدماه صغيرتان داخل حذاء جلدي لامع، مدبب البوز يشبه ذقنه المثلث المدبب، في بوز طويل.
صديقتها صفاء الظبي تمسك يدها البضة الصغيرة في يدها، أناملها ترتعش، كفها مبللة بالعرق. - تشجعي يا بدور. - ربنا يستر يا صافي. - أيوه ربنا موجود.
كانت الطبول تدق والموسيقى تعزف، أغنية: «مبروك عليكي عريسك الخفة، يا عروسة يا زاينة الزفة.»
ترن كلمة زاينة في أذن بدور «زانية»؛ نقطة واحدة تنزلق من فوق حرف النون. تنفرج شفتاها عن تنهيدة أو ابتسامة، تفلت منها ضحكة قصيرة منقطعة تشبه النشيج المكتوم، ترمقها صافي بنظرة جانبية وتكتم الضحك.
في غرفة النوم قبل أن يخلع عنها ثوب الزفاف، وهو يهمس في أذنها: «أحبك»، أدركت أنه يكذب. هدأت أنفاسها قليلا وكفت الضربات تحت ضلوعها عن التصاعد. جاءها صوت بدرية من تحت الوسادة وهي راقدة تحته: «الكذب بالكذب، والعين بالعين، والسن بالسن يا بدور، كما قال الله في كتابه الكريم.»
كانت بدور تؤمن بالكتب السماوية، لكن بدرية كانت مثل صديقها نعيم، تدرك أن مستقبل الإنسانية في العلوم والفنون، أن الكون كائن متطور عبر ملايين السنين، أن الإنسان لم يخلق من الطين.
بعد انقطاع زينة بنت زينات عن المدرسة ظلت أبلة مريم تبحث عنها. صورتها لا تفارق ذاكرتها، مشيتها بين البنات طويلة وممشوقة مرفوعة الرأس، جلستها إلى كرسي البيانو بغير ظهر، ظهرها مستقيم العظام مشدود، أصابعها الطويلة النحيفة الصلبة تجري فوق البيانو بسرعة الضوء، عيناها قطعتان من الحجر البركاني الأزرق، شعلتان من نار سوداء زرقاء يتغير لونهما مع حركة الأرض حول الشمس، مع انتفاضة الغضب إن أغضبتها إحدى البنات، الابتسامة الطفولية المشرفة، أشعة الصبح تبدد الظلمة حين تبتسم أبلة مريم في وجهها. أبلة مريم كانت تعيش في شقة صغيرة من غرفتين في شارع صغير متفرع من شارع التحرير. فاطمة أمها المسلمة تزوجت من أبيها ميخائيل دون ورقة رسمية، لم يكن الشرع ولا القانون يبيحان المسلمة أن تتزوج من رجل غير مسلم، هربت فاطمة من عائلتها في الصعيد، وهرب ميخائيل من أهله البحيرة. التقيا في مدينة القاهرة في إحدى المظاهرات ضد النظام.
Page inconnue