ثم إن ...
لم يكمل كلامه، أطبق شفتيه، ينظر إليها كأب ينظر إلى طفلته، تصغره بعامين فقط، كأنما تصغره بمائة عام. لم تعرف الفقر ولا الجوع، لم ترقد على الرصيف في الشارع، لم تشتغل وهي طفلة في محل الميكانيكي، لم يضربها صاحب المحل بكعب حذائه على أسفل بطنها، لم تتلق الركلات والصفعات في قسم البوليس، لم تر أمها تموت من الحزن أو تنزف الدم من صدرها مع كل نفس، لم يختنق أبوها تحت الماء في السجن. - أنا أكبر منك يا بدور في العمر، أعرف قسوة الحياة، أنت إنسانة رقيقة أخاف عليك لو ...
توقف عند كلمة «لو»، أراد أن يقول، لو أنك حملت طفلنا دون زواج، ربما يقتلك أبوك اللواء أحمد الدامهيري، ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة مشرقة، اشتد الضوء في عينيه، أحاطها بذراعيه، همس في أذنها : لو أصبح لنا طفل جميل مثلك يا بدور؟
أغمضت عينيها فوق صدره وغابت في الحلم، أيكون لها طفلة أو طفل يشبه نسيما؟ هذا القوام الطويل الممشوق، هاتان العينان المشعتان بالضوء، هذه الروح المتوثبة الثائرة، هذا التحدي، هذه الصلابة؟
أفاقت على صوت صفارات البوليس، كان الفجر لم يطلع بعد، عربات البوكس المصفحة تجوب الشوارع، كعوب البنادق تدق الأبواب، كشافات الضوء تسقط على وجوه ضامرة شاحبة، عمال فقراء أو شباب من الطلاب، يتعقبهم رجال المباحث في المصانع أو المدارس والجامعات، صورهم داخل السجلات في وزارة الداخلية.
لم تعرف كيف أصبحت بدور في سريرها آمنة، أغمضت عينيها تحت الغطاء، سرى الدفء في جسدها، تسربت الأحداث الأخيرة إلى خيالها مع النوم، بدأت المظاهرة الكبيرة وهي تمشي في الحلم، المقلتان المشتعلتان بالنور، نجمان يلمعان في سماء مظلمة، يدها تزحف تحت الغطاء تتحسس جسدها، في ثنايا اللحم يتجسد الحلم، يتحول الخيال إلى حقيقة تلمسها بيدها، صوته في أذنها يسري مثل موجات الضوء: إن جاءنا ولد نسميه «زين» على اسم أبي. وهمست بدور في أذنه: إن جاءتنا بنت نسميها «زينة» على اسم جدتي زينة.
رأت طيف جدتها في الحلم يدخل غرفة نومها. كانت في الثامنة من عمرها، قبل أن تموت جدتها زينة، تناديها نانا زيزي، طويلة القامة ممشوقة، عيناها كبيرتان مملوءتان بالبريق، كانت تجلس إلى جوارها وهي راقدة في السرير، تحكي لها حكايتها الحزينة. كانت نانا زيزي تريد أن تكون كوكب الشرق، ترقص وتغني وتكتب الشعر، لكن أباها أخرجها من المدرسة، كانت في الرابعة عشرة من عمرها، ألبسوها فستان الزفاف الأبيض، سمعت الطبل والزمامير، ثم رأت نفسها داخل غرفة نوم مغلقة، مع رجل غريب غليظ الملامح، قصير القامة، ظهره محني، فوق شفته العليا شارب أسود كبير.
بينما كانت بدور في فراشها الدافئ تحلم بجدتها زينة، كانت عربة مصفحة تقف أمام الباب الخشبي المشقق في بدروم العمارة العالية، خمسة من رجال البوليس بالبنادق أحاطوا به كالدائرة، ضوء كشاف قوي يسقط فوق وجهه، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان غضبا بلون أسود أزرق، جسمه نحيف طويل صلب كالرمح، رأسه مرتفع فوق عضلات عنق لا يلين ولا يلتوي، ضربه أحد الجنود على رأسه بكعب البندقية، صفعه آخر على صدغه، إلا أن كيانه الواقف ظل منتصبا في مكانه، لا يتحرك، لا تنفض عضلة في وجهه، ولا يطرف له جفن.
بلغ الغضب بأحدهم أن بصق في وجهه، ثم سدد له ضربة قوية أسفل بطنه، في بؤرة الألم واللذة، في عمق الأحشاء الدفينة، حيث تكون بذرة الحياة والحب.
حين ساقوه إلى العربة البوكس خارج البدروم، كانت الدماء تنزف من أنفه وفمه، تسيل فوق الفانلة البيضاء الكاشفة عن ضلوعه، يغمرها شعر أسود، يكتسب بالتدريج لونا أحمر، يهبط اللون الأحمر إلى سرواله الأبيض من القطن المصري، رائحة القطن في أنفه مع رائحة الدم، ورائحة التراب، الأرض الخصبة السوداء تترعرع فوقها الشجيرات الخضراء بالنوارات البيضاء، كان طفلا في الثامنة من عمره، يغني مع أطفال القرية وهو يجري بين مساحات الخضرة التي تلمع بضوء أبيض:
Page inconnue